غنى بيجاد (تمرد عاشق الجزء الثاني 2) – الفصل السابع
البارت السابع
البارت السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
“لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”
نتشارك الأنفاس،
نتقاسم خيوط الشمس،
ونهيم من انسجام روحنا.
تذوبين فيَّ وأذوب فيك،
وندع الشوق يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
❈-❈-❈
حملها أوس سريعًا ودلف بها إلى غرفته.
قام بتبديل ثيابه سريعًا، ثم اتصل بجنى ابنة عمه:
– جنى، تعاليلي فورًا بس متخليش حد ياخد باله.
هبت واقفة بعدما كانت تتحدث مع والدتها وركضت للخارج، ثم همست له:
– في إيه يا أوس؟
اتجه بنظره لأخته وجسده يرتعش خوفًا عليها:
– رُبى أُغمي عليها ومش عارف أتصرف وهي بهدوم البيت… وماما مش موجودة لسه مرجعتش…
تحركت سريعًا مردفة لوالدتها:
– مامي، هروح أشوف رُبى عايزة إيه.
ثم خرجت بسرعة.
وجدت والدها يقف مع عمها وعز، فاتجهت سريعًا لفيلا عمها، لكن التقطتها عين عز:
– جنى! صاح بها عز بصوت مرتفع، مما أدى لانتباه جواد وصهيب.
تسمرت مكانها وظلت توليه ظهرها.
نظر صهيب وتحدث:
– بتجري كده ليه يا حبيبتي؟
استدارت تفرك بيديها ولم تعلم بماذا تجاوبهما.
اقترب عز منها عندما شعر بوجود خطب ما حينما وجدها تسرع بخروجها دون ارتداء الحجاب.
نظر إليها بعمق حيث كانت نظراته ثاقبة، ثم أردف:
– رايحة فين وبشعرك كده؟
تلعثمت بالكلام وأردفت:
– كنت رايحة أشوف رُبى… قالتها دون النظر له.
شعر بدقات عنيفة داخل قفصه الصدري، نطق أخيرًا بصوت كاد أن يخرج متزنًا، وقطب جبينه متسائلاً:
– رايحة كده بشعرك؟ ولاد عمك هناك دلوقتي… ولسه شايف جاسر… وكمان أوس جاي من فترة.
ظلت تفرك يديها وتهرب بنظراتها حتى لا تلتقي بعينيه:
– ماهو… ماهو…
حدّق فيها بعمق وترقّب، ثم قال:
– هو إيه؟ مالِك بتهتي ليه؟
أخيرًا رفعت نظرها إليه:
– يوه يا عز يعني أخلص من جاسر تطلعلي إنت… طيب هو ظابط إنت إيه؟
رفع حاجبه بسخرية وأردف:
– اعتبريني ضابط إيقاع ياختي… بتوهي ليه؟ رايحة فين يا بت بشعرك دا؟
قاطعهم اتصال أوس. نظرت للهاتف ثم لأخيها الذي شك بأمرها.
جذب الفون سريعًا ناظرًا إليه، ارتفع ضغط دمه عندما وجده أوس. فتح الخط سريعًا:
– إيه يا جنى ساعة لما تيجي… بقولك رُبى هتموت، عايزة أروح المستشفى ولازم حد يغيرلها… آخدها إزاي بالترنج دا؟
بدأ يخفف ضرواة ذراعيه من حولها ببطء عندما ارتجف قلبه بعدما استمع لحديث أوس الذي أثار نيران صدره:
– مالها رُبى يا أوس؟ قالها بقلب مرتجف قبل لسانه.
أرجع أوس خصلاته للخلف:
– جنى قالتلك…
صرخ بصوته مما جعل جواد يتجه بنظره إليه:
– بقولك مالها رُبى؟
انتفض جواد بجلسته واتجه سريعًا يخطو مهرولًا لمنزله.
لم يرَ أمامه سوى تلك الليلة المشؤومة وخطف ابنته، لم يشعر بما يدور حوله ويتمنى أن يصل إليها خلال خطوة واحدة.
دلف سريعًا ومازال يسرع.
قابله جاسر الذي يحمل كوب قهوته خارجًا لحديقة المنزل، ولكن جحظت عيناه من مظهر والده.
وقف أمامه وحاول الحديث:
– بابا مالك بتجري كده ليه؟
ابتلع ريقه الجاف قائلًا بلهجة خوف وهو يتحرك:
– اختك فين يا جاسر؟
تصنم جاسر بوقفته:
– قصدك مين؟
صُعق من سؤاله. ابتلع غصة بحلقه عندما تذكر غِنى ورغم ذلك وقف وسأله:
– إنت عندك كام أخت يلا؟
حدجه بنظرة نارية ثم تحرك سريعًا عندما وجد عز وصهيب يهرولون اتجاهه.
دلف إلى غرفتها يبحث عنها بقلب أب مفطور خوفًا من فقدان ابنته.
ذُهل عندما لم يجدها بغرفتها.
تحرك سريعًا ينادي على الخدم بالمنزل.
استمع أوس إلى صياح والده وسؤاله عن أخته، خرج سريعًا إلى والده:
– بابا رُبى عندي في الأوضة…
أسرع بخطوات مهرولة إليه.
اعتصرت الذكريات قلبه الذي مازال ينبض بالألم الذي لم تستطع السنين إخماده.
دلف للغرفة ودقات قلبه تتقاذف بعنف داخل قفصه الصدري، فيما انسحبت أنفاسه عندما وجدها على فراش أخيها بتلك الهيئة التي أدت إلى شحوب يوازي شحوب الأموات.
أسرع إليها:
– أختك مالها يا أوس؟
قالها عندما حملها سريعًا خارجًا من غرفة أوس. قابلته جنى بإسدالها، ثم أردفت:
– عمو لبسها دا…
وصل صهيب الذي نظر بحزن لرُبى التي يحملها والدها وهي لا حول لها ولا قوة.
حاول صهيب الحديث إليه ولكن كأنه فاقد السمع والنظر.
وجد عز ينتظره أمام السيارة.
جلس جواد في المقعد الخلفي محتضنًا رُبى، فيما استدار عز إلى مقعد القيادة وانطلق بها بسرعة جنونية، والحزن والألم كالنار التي تتآكل صدره من مظهرها الذي يعتبر كالأموات.
ضم إليها بقوة كأنه سيفقدها، مسد على خصلاتها مقبلًا رأسها:
– مالكِ يا قلبي؟ إيه اللي حصل؟
ثم نظر إلى الذي يجلس خلف القيادة ولا يتحدث وكأنه يعلم بما أصابها ولكن ليس الوقت للحديث إليه.
وصل المشفى خلال دقائق.
أسرع المسعفون إليها.
قابلته غزل التي تستعد للرحيل.
وقفت أمام جواد وعز بجسد مرتعش:
– فيه إيه؟ إنتوا بتعملوا إيه هنا دلوقتي؟
تركهما عز الذي أسرع خلف المسعفين بينما نظرات جواد خلف ابنته التي لم تلاحظها غزل.
حاوطها بذراعيه وتحرك بها حيث غرفة الكشف:
– تعالي حبيبتي متخافيش… دي رُبى أُغمي عليها وجايين نشوف…
لم يكد ينهي حديثه حتى شهقت بزعر ونظرت إلى دلوف عز خلف المسعفين.
أسرعت خلفهما.
خرج عز للكشف على رُبى.
وقف أمام الغرفة يشعر ببرودة قوية تجتاح جسده خوفًا عليها، لم يستطع كبت دموعه من مظهرها المبكي لقلبه.
وصل جواد إليه وحاوط جسده عندما وجده بتلك الهيئة الحزينة عندما دلفت غزل خلف ابنته.
– هتبقى كويسة يا عز… تلاقيها بس ما أكلتش النهاردة أو منمتش ودا أرق مش أكتر…
كانت تلك الكلمات التي حاول أن يطمئن بها نفسه قبل عز.
بصعوبة نظر لوجه عمه أخيرًا ودموعه تتسابق كلماته:
– عايز أطمن عليها لو سمحت يا عمي… شوف طنط غزل… ليه اتأخروا كده؟
وصل صهيب وجاسر وأوس وجنى عند خروج غزل من الغرفة.
أسرع جواد إليها:
– البنت مالها؟
خرجت رُبى إلى إحدى الغرف الخاصة بالمشفى على الفراش المتحرك.
تحرك عز وجنى خلفها حتى وصلت لغرفتها.
جلست غزل تضع رأسها بين راحتيها وتشعر بالدوار يحتل كيانها.
دلف جواد للطبيب المسؤول عن حالتها بعدما وجد حالة غزل:
– البنت مالها يا دكتور؟
أشار الطبيب له بالجلوس:
– اهدى يا حضرة اللواء… البنت كويسة… شكله تعب نفسي هو اللي وصلها للمرحلة دي.
ثم صمت للحظات وتحدث مردفًا:
– أنا مرضتش أقول للدكتورة غزل حاجة بس هي أكيد لاحظت… البنت عندها نسبة بسيطة من نقص الأكسجين، ودا بسبب ألم بصدرها أو قلبها ودا من خلال الفحص المبدئي…
ثم أكمل مستطردًا:
– إحنا هنخليها الليلة تحت الملاحظة، عايز أتأكد من حاجة.
قطب جواد جبينه:
– مش فاهم حاجة، ممكن تفهمني أكتر؟
نظر الطبيب إليه وأردف بهدوء:
– لحد دلوقتي اللي أقدر أقوله مرض نفسي… شوف إيه اللي زعلها الفترة اللي فاتت دي.
ضيق عيناه وتحدث:
– والزعل يوصل لكده؟
– وأكتر يا حضرة اللواء… معظم الأمراض بتيجي من الزعل، ما تنساش إنها صغيرة وقوتها على التحمل ضعيفة… ورغم كده هقولك أنا لسه هعمل فحوصات علشان أتأكد من كذا حاجة.
قاطعه جواد بصوت مرتجف:
– حضرتك شاكك في إيه بالضبط؟
وقف الطبيب وجلس أمامه وتحدث بطريقة عملية:
– تحول لون البشرة دا قلقني شوية بس… عايز أشوف فيها حاجة في القلب أو الرئة… دا اللي قلقني، غير كده كله تمام.
نصب جواد عوده ووقف متجهًا للخارج وهو يكاد يتنفس بصعوبة.
شعر بوخز قوي بقلبه على ما أصاب طفلته.
اتجه لغرفتها وحديث الطبيب يساوره:
– شوف إيه اللي زعلها…
وجد عز يجلس يضع رأسه بين يديه بالخارج والجميع بالداخل.
نظر إليه ثم تحرك لغاليته وجدها مغروزة بالإبر والمحاليل.
غزل تجلس بجوارها من ناحية، والناحية الأخرى جنى وأوس، وصهيب يقف أمام النافذة ينتظر جواد للاطمئنان عليها.
اتجه جواد إليها، وقف أوس تاركًا المساحة لأبيه.
قبل جبينها وتحدث بصوت حزين:
– ألف سلامة عليكي يا روح أبوكي.
فتحت عيونها تنظر حولها:
– أنا فين… أوس؟ قالتها بصوت مؤلم يكاد يُسمع.
مسدت غزل على خصلاتها:
– إنتِ في المستشفى يا حبيبتي… كده يا رُبى تخبي على مامي إنك تعبانة…
استدارت لوالدها الذي ينظر لها ولا يتحدث، ثم أردف لأوس:
– نادي على عز من بره يا أوس…
اقترب صهيب يقبّل جبهتها:
– حمد الله على سلامتك يا عمو…
بينما جاسر، جلس بجوار والده:
– كده يا رُبى تخوفينا عليكي…
كل هذا وجواد صامت لم يتحدث.
دلف أوس ثم عز.
اتجهت بنظرها إليه كأنها لم تشعر بمن حولها، فقط نظراتها له.
انسدلت عبراتها عندما تقابلت النظرات بينهما.
وقف أمام الفراش وتحدث بصوت حزين:
– ألف سلامة عليكي يا رُبى…
استدارت بنظرها إلى الجانب الآخر ولم تجبه.
هنا أغمض جواد عينيه عندما أيقن سبب ما وصلت إليه ابنته.
– كله يطلع بره علشان رُبى ترتاح…
ثم رفع نظره لصهيب الذي شك بالموضوع:
– خد الولاد وروح يا صهيب، وأنا وغزل هنفضل مع رُبى.
خرجت الكلمات من فمه غاضبة.
نظر صهيب لعز الذي نظر للأرض ثم اتجه بنظره لجواد:
– تعالى يا جواد عايز أتكلم معاك الأول.
مسح جواد على وجهه وتحدث بضعف:
– مش وقته يا صهيب… حقيقي تعبان…
رفع نظره إليه:
– روح إنت علشان جنى وكمان نهى دلوقتي قلقانة… وسيف زمانه رجع هيقلق لما يلاقيش حد مننا.
أومأ صهيب له ثم تحدث:
– شوية يا جواد نطمن على البنت وبعد كده هنمشي.
ظل واقفًا ينظر إليها وهي تتهرب من نظراته.
خرج من غرفتها ينظر إليه بمقت، كان يقف بجوار والده وجاسر.
خطا بعض الخطوات ثم اتجه بنظره إليه:
– تعالى عايزك.
أغمض عيناه وسحب نفسًا عميقًا وكأنه يملي صدره قبل صدامه بعمه.
زفر جواد بضيق ثم وضع كفه على شعره وأرجعه للخلف بحركة تنم عن مدى غضبه.
وقف ينتظره بحديقة المشفى وهو يشعل سيجارته.
شعر بوجوده خلفه، استدار ينظر بمقلتيه بتمعن وترقب، ثم أشار بسبابته:
– سؤال واحد وبس وعايز إجابته… إيه اللي وصل رُبى للمرحلة دي؟
اهتزت نظراته أمام عمه فلم تسعفه الكلمات.
جلس جواد ينتظر حديثه.
ظل صامتًا لبعض اللحظات كأن الكلمات هربت ولم يعرف الحديث.
ثم أغمض عيناه وسحب نفسًا عندما حدثه جواد:
– هنفضل طول الليل مستنين… عايز أروح أطمن على بنت عمك يا بشمهندس.
أخيرًا تحدث بصوت متهدج حزين:
– آسف يا عمي… أنا مش هقدر أكمل مع رُبى… لسه صغيرة وأنا محتاج اللي تقويني ونرسم أحلامنا مع بعض.
خرجت الكلمات كالسهم الذي نفذ إلى صدر جواد ليخترقه بل يحرقه.
ابتلع جواد غضبه ورسم ابتسامة سمجة على ملامح وجهه على غير عادته في تلك المواقف.
ثم رفع يديه وأشار كعلامة يعيد الكلمات مرة أخرى.
رد بصوت جاهد أن يكون متزنًا، نعم فهو يختنق من شعوره بفقدانها.
استطاع التقاط أنفاسه ثم أخذ شهيقًا عميقًا وزفره ببطء ورد قائلًا:
– إيه اللي مش مفهوم من كلامي يا عمو؟ لما قعدت مع نفسي شوفت إننا ما ننفعش لبعض… والحمد لله إحنا لسه في البداية.
– قولت إيه لرُبى؟ قالها بهدوء مريب رغم احتراق صدره.
اتجه ينظر داخل مقلتيه بقوة:
– روّحت قولت إيه لبنت عمك يا حضرة المهندس علشان يوصلها لكده؟ ماهو مش معقول بنت جواد الألفي هتبكي على واحد ندل إلا إذا وجعها أوي بالكلام.
شعر هنا بأنين روحه، شعور يحتل كيانه، كيف سيقص لعمه ما قاله لها.
ورغم ذلك تحدث بجبروت:
– هو أنا ندل لما أفكر في حياتي الخاصة وأشوف سعادتي مع اللي يسعدني يا عمي؟
لكمه جواد بصدره بقوة:
– أيوه لما تعشم بنات الناس وترجع تخل بوعدك يبقى ندل… لما تحسس عمك إنك ادّيت وعدك وراجل وانت بتلعب عليه تبقى ندل يا ابن أخويا… لما تلعب بعقل بنت صغيرة وتعشمها بحبك وتخليها تبني أحلام على رمال وهمية وبعد كده تنهار وتكرّهها في الرجالة تبقى ندل.
ولاَّه عز ظهره وأغمض عيناه قهرًا وألمًا من حديث عمه ثم أردف:
– ليه يا عمي ده كله علشان حبيت واحدة غير بنتك بجد… طلعتني ندل؟
ساد صمت مقتول بينهما.
ثم فجأة صفعه جواد بقوة ورفع سبابته أمامه:
– أشوفك جنب بنتي هنسفك سمعتني يا عز؟
ألمح طيفك في بيتي هموّتك… إنت في يوم كنت ابني مش ابن أخويا بس النهاردة أكدتلي إنك بذرة شيطاني.
ودلوقتي امشي من وشي مش عايز أشوفك مرة تانية.
❈-❈-❈
بالأعلى جلست غزل بجوارها تمسّد على خصلاتها، وبمقابلتها جنى وأوس وجاسر، بينما صهيب توقف أمام النافذة ينظر للخارج وقلبه يئن ألمًا.
حمحم أوس متسائلًا:
– ماما شكلك تعبان، ممكن تروحي ترتاحي وأنا هفضل مع بابا هنا؟
هزت رأسها رافضة حديثه:
– أنا مش تعبانة ولا حاجة يا حبيبي… قوموا روحوا.
اتجهت بنظرها إلى جنى وأشارت عليها:
– وجنى كمان شكلها تعبانة.
نهضت جنى متجهة إليها:
– لا يا انطي أنا كويسة… بس رُبى صعبانة عليا أوي.
اتجهت لأوس وجاسر ثم نادت على صهيب:
– صهيب خد الولاد وروحوا، لازم رُبى تفضل تحت الملاحظة أربعة وعشرين ساعة.
تحرك متجهًا إليها:
– أنا هفضل معاكم يا غزل، مستحيل أسيبكم هنا وأمشي.
اتجه لجاسر وأوس:
– إنتوا ارجعوا على البيت وخدوا جنى معاكم، زمان عز رجع.
ضيقت غزل عينيها وتساءلت:
– عز هيرجع من غير ما ييجي يطمن على رُبى؟
جلس صهيب بجوارها يمسّد على خصلات رُبى:
– بعدين هيجي يطمن بعدين يا غزل، المهم هي تكون كويسة.
توقف أوس يبسط يديه لجنى الصامتة:
– يلا يا جنجونة نروح والصبح يبقى نيجي تاني.
ردت غزل قائلة:
– حبيبي أختك كويسة، مالوش لازمة جيتكم، وعمك صهيب معانا.
أمسكت بكف أوس وتحركت للخارج.
اتجهت غزل بأنظارها لجاسر:
– قوم روح مع أخوك يا حبيبي، قاعد كده ليه؟
تحرك بالمقعد ينظر لأخته ثم اتجه بنظره إلى عمه:
– إيه اللي حصل بين عز ورُبى يا عمو؟
ذهلت غزل من حديث جاسر ولم تكف عيناها عما تفيض به من خوف.
اتجهت بنظرها لصهيب وبللت حلقها محاولة الحديث:
– هو فيه حاجة حصلت بين الولاد يا صهيب؟
دلف جواد ووجهه عبارة عن لوحة من الألم والحزن بآن واحد.
جلس على أقرب مقعد وهو يكاد يسحب أنفاسًا لتنظيم دقات قلبه.
نهضت غزل متجهة إليه تحتضن وجهه:
– جواد مالك؟ وشك مخطوف ليه كده؟!
أشار بيديه إليها:
– أنا كويس حبيبتي، يمكن عشان طلعت السلم مش ركبت الأسانسير.
سلط عيناه على صهيب الذي هرب بنظراته بجميع أركان الغرفة، فاتجه لابنه:
– قوم روح مع عمك يا جاسر، قعدتكم مالهاش لازمة.
أجابه صهيب سريعًا:
– لما أقعد فوق دماغك يبقى اطردني.
قالها وتحرك سريعًا للخارج.
أشارت غزل لابنها بالتحرك خلف عمه، ثم استدارت تضم زوجها وتربت على أكتافه:
– عز مزعل رُبى، صهيب مالوش دخل يا جواد صح ولا إيه؟
ربت على كفيها وتنهد بوجع:
– إيه اللي بتقوليه ده، معقول يا غزل أنا بالتفاهة دي؟
رفعت ذقنه ونظرت لمقلتيه:
– إيه اللي حصل بين عز ورُبى يا جواد؟
مسح على وجهه وأشار لبنته الغافية:
– بعدين يا غزل، المهم نطمن على البنت.
❈-❈-❈
بعد عدة ساعات رجع جاسر إلى المنزل.
كانت تجلس بجوار مليكة وجواد حازم.
رأته فأشارت لعمتها:
– جاسر جه أهو.
توقفت مليكة متجهة إليه سريعًا:
– حبيبي أختك عاملة إيه؟
نظر لتلك التي تجلس ولم تعره اهتمامًا، فأردف:
– كويسة يا عمتو.
دنا جواد وقلبه يزداد دقاته متسائلاً:
– أنا كنت رايح بس خالو قال إنهم راجعين… مرجعوش ليه؟
ربت جاسر على كتفه مطمئنًا:
– هتخلص المحلول وهيرجعوا. بعد إذنكم أنا تعبان وعايز أرتاح.
قالها وتحرك إلى الداخل.
❈-❈-❈
بعد مرور عدة أيام، عادت رُبى إلى المنزل… لكنها كانت تلازم غرفتها. لم يخبر جواد غزل بما صار، وسافر جواد أسبوعًا كاملًا خارج القاهرة لضرورة عمله.
❈-❈-❈
في المساء كان يجلس في الحديقة أمام غرفتها علّها تخرج كسابق عهدها. تذكّر ذاك اليوم الذي قلب سعادته إلى تعاسة وحزن.
عاد من النادي فوجد عمته تجلس مع والدته وتتحدث:
– بقولك يا نهى فيه موضوع عايزاكي تساعديني فيه.
ابتسمت نهى وأردفت بيقين:
– لو بإيدي حاجة يا مليكة أكيد مش هتأخر.
– إيه رأيك في رُبى بنت جواد لجواد؟
جحظت عيناها وأردفت بسعادة:
– بتهزري مش كده؟ عايزة تقوليلي إن جواد بيحب رُبى؟
هزت مليكة رأسها بابتسامة:
– بيحبها أوي يا نهى. عايزة أفاتح غزل بس زي ما إنتِ شايفة، غزل بتيجي متأخر وكمان جواد على طول مش موجود وسفرياته الكتيرة… فقولت آخد رأيك.
ضحكت نهى بصخب وتحدثت بسعادة:
– الولاد كبروا يا مليكة وهيكبرونا معاهم. وعلى فكرة جواد اختياره ممتاز، رُبى بنت جميلة ونفسها عزيزة جدًا… من الآخر ولاد جواد كويسين متفكريش كتير.
تنهدت مليكة بارتياح وتحدثت:
– طيب فارق العمر بينهم ممكن جواد يرفض بسببه. جواد بيقولي لو مجوّزتش رُبى مش هتجوز حد تاني. جواد بيحبها أوي يا نهى فوق ما تتخيلي.
تحدثت نهى بتهكم:
– شكلك نسيتي يا مليكة مين جواد وغزل ولا إيه. دا مصر كلها عرفت قصة العشق المستحيل بينهم بسبب فارق السن. نسيتي ولا إيه؟ ثم أكملت:
– دا غزل كانت بتقوله يا بابا. هتيجي تتكلمي في سبع سنين بينهم؟ دا مش فارق سن أصلًا يا بنتي.
ربتت مليكة بحب على يد نهى:
– ربنا يطمنك يا نهى زي ما ريحتي قلبي. خلاص هستنى حازم لما يرجع ونروح نتقدملها.
كان يقف بالخارج يستمع لحديثهما الذي شق قلبه لنصفين… شعر بانسحاب روحه من جسده، خرج بهدوء للحديقة علّه يجد بعض الهواء الذي شعر بانسحابه من حوله… أصبحت الأرض تميد به وأصبح قاب قوسين أو أدنى من فقدان وعيه. وشعور بضعف الدنيا احتل كيانه عندما تذكر حديث مليكة عنها.
جلس على أقرب مقعد يلتقط أنفاسه… ونيران بصدره تحترقه بالكامل.
وصل جاسر حيث جلوسه:
– ماله الغزال مش رايق النهاردة ليه؟ بقالي كتير بناديلك ما بتردش غير شايف حمام السباحة فاضي.
ظل ينظر بشرود وكأنه لم يستمع لحديثه، ورغم شعوره بآلام تنخر بجسده بالكامل، رفع نظره لجاسر وتحدث بصوت مكتوم:
– جواد بيحب رُبى أختك.
جلس جاسر بجواره مضيقًا عينيه ثم أردف:
– مين اللي عرفك؟ أنا لسه عارف بالصدفة من يومين.
استدار ينظر إليه وتكاد مقلتاه تخرجان من محجريهما وقلبه أوشك أن يتوقف من فرط الألم:
– عرفت بالصدفة إزاي؟ شوفتهم مع بعض ولا إيه؟
أجابه جاسر بهدوء رغم استشفافه لحالته:
– كان بيسبح وكنت عايز تليفونه، طلبته منه ولما فتحه شوفت صورة رُبى وكان كاتب عليها:
“ولم يكن القلب ينبض إلا بوجودك… وإذا رحلتي رحل نبضي.”
قالها جاسر وهو ينظر بشرود بجميع الأنحاء عندما شعر بالحزن عليه لأنه شعر بوجود مشاعر لديه لأخته.
تسلل الرعب لقلب عز من كلمات جاسر. هب واقفًا متجهًا لسيارته. حاول جاسر الحديث معه لكنه قاد سيارته بسرعة جنونية والحزن والغضب يعمي بصره وبصيرته. شعور الغيرة احتل كيانه، وشعر بنيران تغلي بأوردته. تساقطت دموعه بغزارة عندما عجز عن البوح بما يشعر به.
❈-❈-❈
بعد مرور عدة أيام، كان يجلس بالحديقة يشعل سيجارة. وقفت جاحظة عيناها مما ترى، هرولت إليه سريعًا ثم سحبتها من يديه بقوة وألقتها:
– إيه اللي بتعمله دا يا عز؟ اتجننت؟
رمقها بنظرة نارية ثم تحدث بغضب لأول مرة لها:
– إزاي تتجرأي وتمدي إيدك وتاخدي حاجة مني بالطريقة دي؟
ارتجف جسدها كله من نظراته وحديثه الشرس، ارتعشت شفتيها وتحدثت بحزن:
– الكلام دا ليا أنا يا عز؟
ولاها ظهره وابتلع غصته التي تلهب حلقه:
– أومال في حد تاني معانا؟ إياكي تسمحي لنفسك تاني إنك تمدي إيدك وتاخدي حاجة مني. وبعد كده تناديلي زي ما بتنادي لجاسر وجواد وأوس.
استدار ينظر لمقلتيها بقوة حتى يقضي على شعور الرأفة به:
– إنتِ لسه عيلة، مش مسموحلك تتخطي حدودك مع أي حد مهما كان.
فرت دمعة من عينيها تسيل فوق وجنتيها، وضعت كفها المرتعش عليها وأزالتها، ثم تحدثت بما أحرقه بالكامل:
– وأيه كمان يا حبيب قلبي؟ قول وموتني بكلامك.
انتفض جسده من كلماتها وأخفى عيناه الحزينتين بنظارته الشمسية السوداء وابتسم بسخرية وأكمل ما قضى عليها بالكامل:
– لا ما أنا نسيت أقولك يا رُبى… مش أنا اكتشفت إني كنت بعيّل. ودلوقتي فكرت صح وحبيت واحدة بمستوى تفكيري وبينا سنتين بس، يعني تفهمني من نظرة، مش عيلة لسه في ثانوي وكمان بينا ست سنين كتير عليها لما تفهمني. طيب دي أتجوزها أعلمها ولا…
ثم نظر لها بسخرية:
– روحي اكبري شوية وبعد كده شوفي حد قدك حبيه لو فعلًا تعرفي يعني إيه حب.
هنا رعشة أصابت جسدها بالكامل ولكن رعشة موت… ليت ربها يستجيب لها ويزهق روحها بالحال كما زهقها هو بجبروته. تحركت لمنزلها دون حديث، كالتائه المشتت الذي لا يشعر بما حوله حتى شعرت بجفاف دموعها، فلم تبكِ ولم تتحدث. دلفت لغرفتها وسقطت بجسدها على الفراش كطفل صغير يحاوط نفسه. آهة حارقة خرجت من أعماق قلبها.
والأصعب عليها عدم بكائها، كأن الشعور والإحساس اختفى ولم تعرف عنهما شيئًا. أغمضت عينيها وذهبت في سبات عميق تمنّت بعده ألا تفيق أبدًا منه عندما شعرت بوخزات داخل قفصها الصدري. ورغم شعورها بالألم إلا إنها غفت بالكامل.
فاق من ذكريات أيامه الأليمة. كاد يموت عندما منعها عمه عليه. يشعر بوخزات أليمة بصدره. أيعقل أن نظرة عيناها تعطيه رغبة في العيش والحياة؟ يتنفس لأنها تتنفس بجواره.
إلى هنا لم يشعر بنفسه إلا وهو يذهب إلى منزل عمه.
❈-❈-❈
بالإسكندرية، يجلس ريان بجوار عمر:
– العيال دي منحوسة آه والله، كل ما نحدد على كتب الكتاب تحصل مصيبة.
ألقى ما بيديه على المنضدة:
– جواد هيرجع النهاردة من فرنسا… وكمان إلياس كلمني وهيرجع أخيرًا.
ضيّق عمر عيناه:
– أخيرًا وحشنا والله الباشمهندس… قالك إيه أخبار الشغل في إنجلترا ولا إيه؟ أيام الشقاوة وحشتني يا ريو.
قهقه ريان عليه ثم وضع يديه على المنضدة أمامه ونظر لعمر وأردف:
– إلياس مش بتاع الحاجات دي يا لا، دا واحد ماشي في حاله… رغم بس الغربان اللي حواليه. كنت شفته ما زال الشيخ إلياس بتاع المواعظ.
فعل عمر مثله وتحدث رافعًا حاجبه:
– أكيد لازم يخرج عن المألوف مش صاحب ريان المنشاوي.
ثم نقر بقلمه على المنضدة وتحدث بشقاوة:
– الولد عمر دا نحس طالع لأبوه… ارجع لتلاتين سنة لورا كدا وشوف إنت اتجوزت إزاي يا ريو باشا.
قهقه ريان عليه وتحدث بفخر:
– تنكر بنات إسكندرية كانت هتموت عليّا…
لم يدعه يكمل حديثه وصاح بصوت صاخب:
– يا نغم… أين أنتِ… يا أم عمر أحضرينا فورًا.
هب واقفًا واضعًا يديه يكمم فمه:
– يخرب بيتك وإنت فصيل يالا… لسة واطي زي ما أنت.
دلفت نغم بقهوتهما:
– في إيه يا عمر… بتنادي فيه حاجة؟
دلّك خصلاته ورفع جانب وجهه يضحك بسخرية على ريان الذي تغيرت ملامحه.
رمقه ريان بنظرات ساخطة وأردف:
– عمر بس بيستظرف يا حبي… شوفي بنته هتتجوز ومفكر نفسه لسه دمه خفيف.
اتجهت نغم تجلس بجوار ريان:
– ما هو عمر دمه خفيف… تنكر يا ريان ولا إيه؟
صفق عمر بيديه وضحك بصوت صاخب:
– يا سلام أهو دا الكلام يا أم عمر يا حبيبتي إنتِ.
– حبك بورص يا حمار… قالها ريان بعيون غاضبة.
وزعت نغم نظراتها بينهما:
– مالكم في إيه وبعدين أنا عايزة أشتكي لعمر منك يا ريان.
ضيّق عمر عيناه وتحدث باهتمام:
– قولي يا نغم عامل فيكي إيه وأنا آخد حقك منه.
استشاط ريان من داخله من طريقة نغم التي استفزته من حديثها مع عمر:
– نغم قومي جهزي نفسك علشان هننزل القاهرة نقعد يومين هناك ونرجع على حفلة خطوبة عمر وسيلا.
زفرت بضيق ثم قالت:
– لما أشكي لعمر ولا علشان أنا وحيدة ماليش حد تتحكم فيا؟
هنا خرج ريان عن صمته وعصبيته التي حاول أن يتمسك بها:
– تِشْتكيني يا نغم؟ تِشْتكي جوزك؟ يااه لدرجة دي حاسة نفسك وحيدة وجوزك مفتري رايحة تشتكي منه؟
نظر عمر إليهما بقلة حيلة:
– فيه إيه يا جماعة ممكن تهدوا… إحنا كنا بنهزر.
قاطعتهم دخول بيجاد:
– عمو عمر وحشتني فينك؟
بادله عمر سلامه:
– بيجو حبيبي وحشني يا لا فينك وإيه أخبار مزز الطيران؟
قهقه بيجاد عليه ثم تحدث:
– بيسلموا عليك.
لكمه عمر وحاول أن يغير من أجواء الحديث التي صارت منذ فترة قليلة.
اتجه بيجاد لوالده الصامت الذي يظهر الحزن والألم بعينيه:
– بابا ممكن أتكلم معاك شوية؟ فيه موضوع مهم وضروري ما ينفعش يتأجل أكتر من كدا.
وقف عمر مستأذنًا:
– طيب أنا يادوب أعدي على ماسة زمانها خلصت المرسم…
ثم نظر لريان بمغزى:
– روحوا غيروا جو في القاهرة شوية… سيلا بتشتكي منها وعايزة تنقل إسكندرية تاني… مش عارفة تتأقلم هناك، بتقول زحمة ومفيش بحر.
وقف ريان ليودعه:
– فعلاً القاهرة زحمة جدًا… مفيش أحسن من جو إسكندرية… رغم إنها زحمة برضو بس مش زي القاهرة…
ثم أكمل مستطردًا:
– معرفش ليه سيلا مُصرة تروح تشتغل في الجامعة… ما الشركات هنا وبعدين دي مهندسة يعني… شغلها متاح.
زفر عمر بحزن:
– سيلا طيبة أوي يا ريان ما بحبش أضغط عليها، عايزها تاخد قراراتها وتشوف نتيجة قرارها.
أومأ ريان برأسه وتحرك معه للخارج.
ركب عمر سيارته ثم أردف بهدوء:
– ما تزعلش نغم يا ريان… شكل الموضوع كبير اللي يخليها توصل إنها تكلمني… نغم عمرها ما كلّمتني على مشكلة بينكم.
نزل ريان بجسده ينظر له من نافذة السيارة:
– زعلانة علشان الولاد هيسافروا… بس لازم يسافروا يا عمر. روح إنت علشان ما تتأخرش على بنتك… وبعدين هتوصيني على حب حياتي يا لا.
دلف حيث وجود بيجاد ينتظره أمام المسبح. جلس أمامه ونظر بعمق وأردف:
– فيه إيه؟ وإيه الموضوع الضروري دا؟
أخرج بيجاد هاتفه ووضعه أمام والده وتساءل:
– شوف الصورة دي كدا.
دقق النظر ريان بها ثم ضيّق عيناه وتساءل:
– مش فاهم؟
ضجر بيجاد من والده فيبدو أنه يفكر بشيء آخر:
– بص الصورة كويس يا بابا…
ابتسم له ريان:
– البنت جميلة أوي… إيه أخيراً هفرح بيك؟
رفع بيجاد حاجبه بسخرية وأردف بإحباط:
– وبعدين يا بابا… هو دا اللي فهمته من كلامي؟
وصلت نغم وهي تفرك يديها وتنظر لريان بحزن:
– ريان ممكن نتكلم شوية؟
ثم ذهبت بنظرها لتلك الصورة التي ينظر إليها كلاهما. أمسكت الهاتف وتساءلت:
– مين دي… قريبة غزل؟
هب بيجاد واقفًا وابتسم وظل يقبّل والدته:
– مامتي الحلوة اللي جابت المفيد.
ضيّقت عيناها وهي تنظر لكلاهما:
– ماله الولد دا؟
اتجه بيجاد لوالده وأردف بيقين:
– دي غنى جواد الألفي.
جحظت عينا كل من نغم وريان وأردفا بنفس الصوت:
– مين؟
❈-❈-❈
بالقاهرة
وصل إلى منزل عمه جسدًا بلا روح، بلا ملامح تدل على أنه ما زال على قيد الحياة.
قابله جاسر، فضمه بحزن على حالته المزرية؛ ذقنه النابتة، شعره غير المرتب، حتى ثيابه غير المهندمة.
نظر إليه جاسر بقلة حيلة وأردف:
– نفسي أعرف إيه اللي حصل خلاك توصل للمرحلة دي…
ضمّه بحب أخوي وهمس له:
– حبيبي والله اللي بتفكر فيه دا مستحيل يحصل لسبب بسيط… إنها بتحبك إنت.
نظر له بنظرات مرتجفة:
– مش عايز أفرق العيلة اللي أبهاتنا بتعملها من سنين يا جاسر… مش هقدر أخلي جواد يكرهني أو عمتو مليكة تكره عمو جواد… الموضوع صعب فوق ما تتخيل.
مسح دموعه وأردف:
– خليني أشوفها بس يا جاسر حتى لو من بعيد.
تنهد جاسر بوجع على صديق عمره. وصل أوس إليهما ثم جذبه للداخل وأمسك يديه:
– تعالى معايا هخليك تشوفها يا عز…
ثم لكمه لكمة خفيفة في صدره:
– تحب أختي يا لا ومعرفش… كده تخون ثقتي فيك؟
لم يكن يستمع إليه، فقط… دقاته العنيفة كادت تصل للجميع كلما اقترب من غرفتها.
خرجت غزل من غرفة ابنتها بعد أن أعطتها بعض الأدوية.
وقف عز أمامها يترجاها بعينيه:
– لو سمحتي يا طنط غزل والله خمس دقايق بس…
نظر إليها كالغريق الذي وجد ضالته لينقذه من ظلام قلبه. نظراته المترجية الحزينة أصابتها بالآلام، ولكن ماذا تفعل بعدما حرمه جواد من دخول بيته وعرفت من جاسر بما صار؟
وقف يحاول أن يتنفس نفسًا طويلًا يشحن رئتيه بأكسجين الأمل عندما وجدها مترددة بين الموافقة أو الرفض.
انتظر ردها طويلًا. كان قلبه يتمزق لأشلاء عندما منعه عمه من رؤيتها. لم يعلم أنه سيشعر بهذا الشعور المميت… حقًا حينها تمنى الموت ولا أن يبتعد عنها. ولكن كيف بعد ما صار بينهما؟
خرجت غزل عن صمتها وما زالت تقف أمام غرفة ابنتها:
– عز هتدخل تشوفها وتطلع على طول… لو عمك جه أو شم خبر بإنك جيت هنا بلاش أقولك إيه اللي ممكن يحصل.
تبسم لها وهز رأسه سريعًا مقبّلًا يديها:
– شكرًا طنط غزل… شكرًا.
دلف سريعًا إلى غرفتها. حاولت غزل إيقافه حتى ترتدي ابنتها حجابها ولكنه دلف سريعًا وأغلق الباب خلفه.
خطا إليها بخطوات متعثرة. كانت تغط في نوم عميق، خصلاتها متمردة حول وجهها وعلى وسادتها.
جلس أمام فراشها على منكبيه ورفع يديه ممسّدًا على خصلاتها، وانسدلت عبراته رغمًا عنه.
شعرت بوجوده عندما استنشقت رائحته. ورغم ذلك ظلت مغمضة العينين عندما شعرت بارتجاف قلبها من قربه… ولكن كيف يغيب عنه ذاك؟
ظل يمسد على خصلاتها ويهمس بكلماته الحزينة:
– عارف إني خذلتك… وعارف مهما أعمل مستحيل تسامحيني.
اقترب وهمس بجوار أذنيها:
– رُبى نفسي أموت وأرتاح.
فتحت عينيها سريعًا وتساقطت دموعها وشهقت شهقات مرتفعة ثم تحدثت من بين بكائها:
– إمشي يا عز لو سمحت… إمشي أنا مسمحاك يا بني عمي والله مسمحاك.
هنا أصابته رغبة عارمة في إحراق قلبه الذي فعل بها هذا. أراد أن يخرجه خارج جسده ويقدمه لها كي تمزقه كما مزق قلبها بسكين بارد.
– ربي ممكن تسمعيني حبيبي؟
أغمضت عينيها فهمسه لها يكاد يزهق روحها كلما تذكرت حديثه:
– معدتش حبيبتك يا آبيه… عيلة بقى متعرفش تحب.
وضع جبهته فوق خاصتها وأردف ببكاء:
– ربي أنا بتمنى أموت ولا أبعد عنك… صدقيني مكنتش أعرف بعدك صعب أوي كده.
دلفت والدتها إليهما:
– كفاية كده يا عز لو سمحت… جواد لو جه ولقاك هيولع فيا.
دلف جواد وهو يستمع لحديثها.
تسمر عندما وجده، أسرع إليه يجذبه من ملابسه بقوة:
– إيه اللي جابك هنا يا لا… أنا مش حرمت البيت دا عليك… إمشي أطلع برة.
وقفت غزل بينهما وحاولت تهدئة زوجها:
– جواد اهدى لو سمحت…
قالتها عندما وجدت ارتجاف جسد ابنتها من هيئة والدها وهو يجذب عز للخارج.
دفع غزل وتحدث بغضب:
– إنتِ لسه حسابك بعدين…
– اطلع برة يا ابن صهيب.
قالها جواد بصوت صارخ مع دخول صهيب الذي وقف كالصنم مما استمع من حديث أخيه.
نظر صهيب لعز:
– أمشي دلوقتي يا عز.
– بابا…
أردف بها عز. صرخ صهيب على غير عادته:
– قلت أمشي حالًا.
وقف جواد والحزن يتملكه. ولكن ماذا يفعل؟ وكيف يواجه ما يؤلم روحه بابنته؟
رفع نظره لابنته التي تختبئ بأحضان والدتها ولكن نظراتها عليه وحده.
اتجه بنظره لعز وبدأ يفكر في حديثه منذ أيام… أيعقل هذه حالة شخص وجد حبه مع شخص آخر؟
قبض على يديه بعنف عندما شعر بمدى غبائه. ظل ينظر له بصمت، حينها علم أن هناك ما يخفيه عليه.
نظر جواد للجميع:
– كله يخرج برة.
ظل عز واقفًا ينظر لتلك التي تبكي بأحضان والدتها.
تحرك جواد إليها مقبّلًا جبهتها:
– حبيبة بابي… عايزة تتكلمي مع عز؟
ثم رفع يديها مقبّلًا:
– آسف يا قلبي… كفاية عياط دموعك بتدبحني يا رُبي.
وضعت رأسها بأحضان والدها:
– عايزة أنام بحضنك بس يا بابي لو سمحت… مش عايزة أشوف حد ولا أتكلم.
اقترب صهيب منه عندما وجد حالتها. ربت على كتفه ثم أردف له:
– جواد هستناك برة.
أومأ جواد برأسه دون حديث.
جذب صهيب عز من يديه:
– تعالى سيب بنت عمك ترتاح وبكرة هتشوفها وعد مني.
قالها وهو يضم وجهه بين راحتيه.
هز عز رأسه برفض:
– أنا طيارتي الساعة ستة الصبح يا بابا… لازم أتكلم معها قبل ما أمشي.
– سيبه يا صهيب…
أردف بها جواد الذي ضم ابنته لأحضانه.
رفع كف غزل التي تجلس تبكي بصمت على حالتهما، تذكرت ماضيها وحدثت حالها:
– ماذا فعلت لكي تصفعني هذه الحياة بقوة؟
ملس جواد على خديها:
– حبيبي سيبينا لوحدنا شوية… رُبى عايزة تنام.
ثم همس لها:
– تفتكري هتنام وهو موجود؟ روحي وأنا هسبهم شوية وجاي وراكي.
قبّلت يديه:
– ربنا يخليك لينا يا جواد.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
ذهب للمشفى الخيري.
دلف لغرفة استشاري الأورام:
– دكتور طارق حمد الله على سلامتك… لسه عارف حالًا إنك رجعت من السفر.
جلس طارق وبمقابلته جلس جواد:
– أهلا بحضرتك يا حضرة الظابط… وحشتني والله.
ابتسم جواد:
– حضرة الضابط إيه… فيه بينا الكلام دا؟
ناظره طارق:
– وصلت لحد فين بالترقية؟ كنت دايمًا أسمع عن إنجازاتك العظيمة.
ابتسم جواد وتحدث بهدوء:
– دلوقتي لواء… الحمد لله وصلت في وقت قياسي كله من فضل ربي.
ضيق طارق ما بين حاجبيه:
– إنت تستاهل أكتر من كده والله… ربنا يبارك لك. عندك كام ولد دلوقتي؟ وطالبتك النجيبة بسمع إنها بقت من أشهر الأطباء بالقاهرة.
– غزل طول عمرها شاطرة وذكية وحضرتك عارف دا… وبعدين شغفها زاد للطب جدًا بعد عدة ظروف مرينا بيها… الحمد لله على كل حال. ربنا يوفقها ونشوفها أكبر استشارية في مصر إن شاء الله.
أمَّن جواد على حديثه. تناول قهوته ثم نظر للدكتور:
– يعني كل الأجهزة الطبية متاحة؟ مش محتاجين حاجة؟
ابتسم له طارق:
– والله يا جواد كل حاجة موجودة ربنا يزيدكم يا رب… لو كنت عرفتني على المشروع العظيم دا كنت شاركت لو بجزء بسيط فيه.
وضع جواد فنجانه الخاص:
– والله إحنا بنبني مبنى تاني في الصعيد بس مش للأمراض المستعصية… دا هيكون بالمجان للكشوفات والعمليات المتاحة.
أومأ برأسه:
– تمام إن شاء الله… هكلم الدكتورة تهاني وأشوف لو هتدخل هي كمان.
قاطع حديثهما اتصال هاتفي:
– بعد إذنك دي بنتي لو مردتش هتفضل تزن اتصالات.
ضحك جواد ورفع يديه:
– لا هتقولي… عارف البنات دول طباعهم صعبة.
– أيوة حبيبتي… أنا في المستشفى الخيري… خلاص عدي عليا.
وضع هاتفه ونظر متأسفًا:
– آسف يا جواد.
هز رأسه وتحدث:
– مفيش حاجة يا دكتور… بتعتذر على إيه؟
– دي يا سيدي غنى بنتي الوحيدة وكل طلباتها أوامر… مستحيل أرفض لها طلب.
– غنى…
رددها جواد بقلبه قبل لسانه.
ناظره سريعًا:
– بنتك اسمها غنى؟
أومأ برأسه وأكمل حديثه:
– غنى وهي غنى عن كل حاجة.
ترقرقت عيناه على ذكر محبوبته وتحدث:
– غنى عن الحب وحرب الحياة… ربنا يبارك لك فيها.
بعد فترة من حديثهما الذي كان الحاضر الغائب بعد ذكره لقرة عينيه الغائبة، قطع شروده دلوفها:
– بابابي أنا جيت.
هنا ارتفعت دقات قلبه كدقة عاشق غاب حبيبه ثم رجع بعد فترة… أغمض عيناه وسحب نفسًا قبل أن يستدير للتي خطفت قلبه من صوتها الذي يشبه صوت والدتها.
❈-❈-❈
بفيلا صهيب
وقف بغضب أمام ابنه الأصغر فارس:
– كنت فين لحد دلوقتي؟
نظر للأسفل وتحدث بخجل:
– آسف يا بابا… سهرت مع صحابي ونسيت نفسي.
اقترب منه بعدما اشتم رائحة سجائره:
– إنت بتشرب سجاير؟
هز رأسه بلا وبدأ يتلعثم بالكلمات:
– أنا… أنا لا أبدًا… دا هو بس…
رفع صهيب يديه وصفعه بقوة:
– اطلع أوضتك وبعدين نتحاسب.
نظر لنهى وتسائل:
– الولد دا ممنوع من الخروج فهمتي؟ كفاية اللي غايب بقاله كام يوم معرفش عنه حاجة… يخربيت الحب وسنينه.
أنا رايح لحازم المقموص دا كمان.
❈-❈-❈
بفيلا ريان
تجلس أمام التلفاز تشاهد بعض البرامج الإخبارية… دلف ريان إليها وهو ينظر بخبث:
– حبيبي اللي قاعد وبيسمع تطورات البلد.
رفعت حاجبها بسخرية:
– لا والله لسه فاكر… أنسى يا بن المنشاوي مهما تقول مش هصالحك.
قهقه عليها واقترب يلامس ثغرها مقبّلا إياه:
– يهون عليكي أستاذك تزعليه؟
استدارت للجانب الآخر:
– متحاولش يا ريان مهما تعمل.
لامس وجنتيها بخديه وأردف بصوت متهدج ممزوج بمشاعره التي لم تتغير على مدى مرور السنوات:
– وحياة نغمتي ما أقدر أزعلها… يارب أموت لو زعلتها.
وضعت يديها على شفتيه:
– إسكت… بتقول إيه… ربنا ما يحرمني منك.
اقترب مقبّلًا خديها ولامسه بأصبعه:
– ولا يحرمني منك حبيبي.
لامست كلماته أوتار قلبها الذي سرى به تيار كهربي نابع من عشقها الذي ألهب جميع حواسها بهيئته الجذابة لقلبها المسكين. ثم تذكرت ما فعله وتحدثت:
– زعلانة برضو.
رجع بجسده للخلف وهو يحاوطها بنظرته:
– طيب اللي زعلان من حبيبه يلبس اللون اللي حبيبه بيحبه ويقعد يستناه.
هبت واقفة وتحدثت بغضب مصطنع:
– أولًا أنا مش مستنياك، ثانيًا بقى أنا بحب اللون دا… وعن إذنك.
جذبها بقوة حتى أصبحت فوق ساقيه، ثم رفع خصلاتها مقبّلًا عنقها:
– اللي زعلان من حبيبه هو هيصالحه… إيه رأيك؟ بس حبيبه يذاكر كويس علشان تعبت من كتر النظري يا حبيبي.
– لا والله نظري؟ أومال لو عملي هتعمل إيه… دا إحنا عندنا فريق كورة.
ضحك بصوت مرتفع ثم فجأة التقط شفتيها حتى تلاشت أنفاسهما:
– لسه الكوتش والجماهير يا قلبي بس دول عايزين عملي ونظري يعني فيزيا مع فلسفة.
وضعت يديها على وجهها:
– ريان اتجننت إنت… مش عايز تعقل… دا انت عندك خمسة وخمسين سنة.
حملها متجهًا للفراش بعدما صرخ بوجهها:
– نعم يا ختي بتقولي كام؟ طيب هعرفك الخمسة والخمسين دول إيه.
❈-❈-❈
في فيلا عمر المصري
– يعني إيه يا مرام مش فاهم؟
ربتت على يديه:
– لو سمحت يا عمر ممكن تهدى علشان نعرف نتكلم.
مسح على وجهه بعنف:
– أهدى؟… ودي حاجة ممكن أهدى فيها؟
ثم تحرك مغادرًا… وتسائل:
– هي فين؟
– يا عمر استنى… لازم نفكر… الموضوع دا لازم نفكر علشان ما نخصرش البنت.
توجه إليها سريعًا وطالعها بغضب:
– مش عايز أقولك معرفتيش تربي بناتك يا مرام… ماسة خلاص عيارها فلت ولازم تتربى… مسمعتيش بيجاد بيقول إيه؟
❈-❈-❈
بفيلا الألفي
تجلس بغرفتها تطالع ألبوم صورها هي وأبنائها… تبتسم بذكرياتها الجميلة بطفولتهما… ثم فجأة توقفت وبدأت دموعها تتساقط بغزارة عندما وقعت عيناها على تلك الصورة التي سقطت أمامها بالصدفة بعدما جمع جواد كل الصور المتعلقة بها وأخفاها.
قاطعها رنين هاتفها:
– دكتورة غزل فيه حالة متعثرة جدًا وطالبين حضرتك بالعيادة.
– تمام يا نورة أنا جاية حالًا.
❈-❈-❈
عودة إلى المستشفى الخيري
دلفت إلى المكتب بخطوات متمهلة بعدما أشار والدها لجواد:
– غِنى تعالي أعرفك على صديق بابا من عشرين سنة.
استدار ينظر لها ولكنه وقف ينظر إليها كأنه يرى غزل أمامه بصغرها.
أشار عليها وتحدث بصوت مهزوز بعض الشيء:
– دي بنتك؟
اقتربت منه تبسط يديها أمامه:
– أيوة بنته… اسمي غِنى.
رجفة بجسده بالكامل وبدأ يردد بعجز لسانه، ولكن روحه ماذا؟
مستحيل… أيعقل أن يكون الشبه بتلك الصورة؟ أم أصابني الجنون؟
ارجع خصلاته للخلف بهدوء على عكس حالته التي يشعر بها.
بسط يديه… لأول مرة يشعر بهذا الشوق الذي يغمره… هل هذا شوق الأبوة؟ أم ماذا يصير بي؟!!
يا الله أزل ألم قلبي.
ظلت تنظر له بهدوء على عكس شخصيتها المجنونة ثم أردفت بصوتها:
– بابي مين صاحبك دا أول مرة أشوفه.
قالتها وهي ترمقه بنظرات إعجاب، أدى إلى توسع مقلتيه وهو يهز رأسه ويردف كالمجنون:
– لا… مستحيل… مش معقول… نفس الصوت.
ابتسمت ظنًا من انبهاره بها:
– أنا يا سيدي اسمي غِنى بس حضرتك ما قولتش اسمك إيه.
قهقه طارق عليها:
– شوف يا جواد… زي ما قولتلك… مجنونة… أهي دي يا سيدي بنتي المجنونة غِنى.
يا الله… ما هذا الشعور الذي انقض على قلبي حتى شعرني بالحنين إلى ابنتي الغائبة؟
– اسمك جواد؟… حلو الاسم أوي يا عمو… أول مرة أسمع الاسم الحلو دا.
مطت شفتيها عندما تذكرت بيجاد ولا تعلم لماذا تذكرته هنا.
جلست أمامه وأشارت إليه أن يجلس.
ولكن حالته تائه… مشتت… غائب عن الحضور إلا سواها وحدها.
ابتسم لها بحب لا يعلم لماذا تمنى أن يضمها لصدره ويستنشق رائحتها.
– تعرف يا بابي…
دون شعور منه أجابها:
– نعم يا روحي.
جحظت عيناها من رده السريع فيما قطب طارق عيناه متسائلًا:
– آه صحيح يا جواد ما قولتليش عندك كام ولد؟
استدار بصعوبة ينظر لطارق… لم يستطع رفع نظره من عليها:
– عندي جاسر وأوس وياسين ورُبى… ثم توجه بنظره لها: وكان عندي…
هنا قاطع حديثه هاتفه الذي قام بالرنين.
انسدلت دمعة وبدأت يديه ترتعش.
في تلك اللحظة دلفت الممرضة سريعًا:
– دكتور طارق… المريضة في غرفة عشرين حالتها خطرة ودخلت في تشنجات.
هب واقفًا يعتذر من جواد:
– آسف يا جواد شوية وراجعلك.
ثم قبل رأس غِنى وأردف:
– حبيبة بابي شوية وراجع.
أومأت برأسها وهي تطالع ذاك المتخبط.
– تعرف اسمك فكرني بواحد برضو اسمه حلو…
يناظرها ولا يستمع إليها… يحفر ملامحها بذاكرته.
طرقت بأصابعها لعينيه.
رفع نظره لعيناها… نعم إنها غزل.
– بقول لحضرتك… فيه واحد كمان اسمه حلو عجبني بالقاهرة… اسمه بيجاد.
يعني جواد وبيجاد… أسماء رائعة.
حاوطها بنظراته الصقرية… شفتاها… عيناها… ملامح وجهها البريئة… كان في غياب عن حديثها إلا من ملامحها فقط أمامه.
أعاد الرنين مرة أخرى.
ما زال جسده يرتعش ولا يستطيع السيطرة على نفسه. حاول أن يمسك هاتفه فسقط من يديه.
هبت واقفة سريعًا واتجهت إليه. أمسكت هاتفه وجلست على ذراع مقعده واضعة الهاتف على أذنه:
– رد… أنا همسك لك الفون… شكلك تعبان.
لم يشعر إلا بقربها ورائحتها التي عبأت رئتيه.
على الجهة الأخرى تحدث ريان:
– جواد فينك… إحنا في القاهرة… عايزك ضروري.
– تمام يا ريان، قالها باهتزاز.
لم يُنهِ حديثه حتى اتصلت غزل، فتح الخط سريعًا:
– أيوة حبيبي… أنا جاي يا غزل حالًا.
أجابته:
– جود، مالك حبيبي… صوتك ماله؟
– كويس… استنيني هعدي عليكي في العيادة… “غزل”.
أردف بها ومازال يطالع التي تجلس بجواره ولم يفصلها عنه سوى أنفاسهما:
– غزل… وحشتيني أوي أوي.
قالها مغمضًا عينيه عندما شعر بانسحاب الهواء من حوله.
رفع يديه حتى يأخذ هاتفه… لامست يديها الناعمة كنعومة الأطفال.
رفع نظره وتقابلت النظرات… هو باشتياق أبوي، أما هي فشعور مختلف يغزوها لا تعرف ماهيته، لكنها فسرته لشيء آخر.
ابتسمت بعيونها الجميلة وتسائلت عندما وجدت تخبطه، ظنًا من عقلها الصغير الذي صوّر إعجابه بها. حاولت الحديث معه:
– مراتك اسمها غزل؟
وقف ولم يجبها… كفى ما صار له وما يشعر به.
❈-❈-❈
أمام الجامعة
خرج من كليته ينتظرها أمام الجامعة.
أسرعت إليه:
– واقف من زمان؟
هز رأسه برفض:
– لسه واصل… عاملة إيه وأخبار السكشن؟
– كويس.
قطب حاجبه بدهشة:
– إيه هو اللي كويس… يا بنتي الهندسة دي متعة.
أسبلت أهدابها متحاشية النظر إليه كي لا تتقابل بعينيه التي تقع صريعة له:
– ياسمينا، الأرض فيها كم حبة رمل؟
رفعت نظرها للأعلى، قاطبة جبينها ثم تسائلت:
– مش فاهمة… تقصد إيه؟
رفع حاجبه للأعلى وأشار بعينيه للأرض:
– هتفضلي تبصي على الأرض كده؟
ابتسمت بخجل.
تنهد بعشق لها، ثم أشار لسيارته:
– طيب يالا… زمانهم مستنينا… باباكي كلمني خمسين مرة… قلتله إحنا جاين أهو… وطبعًا حضرة البشمهندس ريان بيحسسني إني خاطفك.
تهدجت نبرتها وخرج صوتها متقطع:
– ما هو إنت خطفتني يا بشمهندس… عندك شك في كده؟
بسط يديه إليها… عندما شعر بأن قلبه على وشك الخروج من مكانه من كلماتها البسيطة التي اخترقته.
❈-❈-❈
بمكتبه بقسم الشرطة
طرقت طرقات خفيفة على باب المكتب، بعد معرفة العسكري بشخصيتها.
ادخلت رأسها مردفة:
– عندك قهوة يا حضرة الضابط ولا أرجع بيتنا؟
رفع نظره إليها ومنع ابتسامة كادت تشق ثغره.
دنت وتوقفت أمامه:
– جسورة أنا أسفة، معرفش قلتلك كده إزاي… والله آسفة، أسفة… ووعد مش هقولك كده تاني… خلاص بقى متبقاش بارد.
ابتسم أخيرًا على طفولتها ونهض من مقعده، متجهًا يستند بظهره بمقابلتها على المكتب ثم أردف:
– خلاص… عشان أقبل أسفك عندي شرط.
مطت شفتيها للأمام ثم قالت:
– انتهازي… بس أمري لله لازم أقبل.
– اقعدي، قالها وهو يحاوطها بنظراته.
جلست دون حديث.
– عايز كل التفاصيل، وكمان إزاي اتجرأ ووقف معاكي، وكمان ليه عمو رفض يقابله وكمان…
نهضت سريعًا تضع كفيها على فمه وابتسمت:
– إيه كم الـ “كمان” اللي عندك دي؟ خلاص… دا مجرد كلام مع ماما وراحت قالت لبابا، وبابا زعل… دي كل الحكاية.
رفع حاجبه ينظر لكفيها على فمه.
أنزلت كفيها سريعًا ثم حمحمت:
– بتكلم جد على فكرة… شوفها لو مش عجبتك يبقى خلاص… أنا وعدت البِت.
ضغط على ذراعها ينظر إليها بغضب:
– برضو هنرجع للكلام اللي يزعل أهو… اتلمي يا جنى بلاش تستفزي هدوئي.
تصنعت الحزن وتحدثت بشفتين مرتعشتين:
– وحياتي يا جاسر مش تكسفني قدامها… مجرد قهوة بس… وبعد كده اعمل اللي يعجبك.
مسح على وجهه بعنف كاد أن يقتلع جلد وجهه:
– تعرفي أنا بضعف قدامك عشان كده بتستغلي ضعفي مش كده؟
– طيب والله العظيم إنت حبيبي يا جاسر، بحبك أوي أوي أوي.
وضع يديه فوق فمها:
– يخربيتك اسكتي هتشحتي عليا.
دلف جواد حازم… ضيق عيناه متسائلًا:
– وأنا بقول القسم منوّر ليه؟ أهو اتاري عندنا الصغنن.
أفلتت ضحكة ناعمة وأردفت:
– شكرًا يا بيه جواد… وحشتوني فقولت أعدي أمسي على إخواتي.
جلس جواد حازم وهو يضحك بسخرية:
– على أساس كل واحد مننا في محافظة يا جنى؟
استدارت لجاسر ثم غمزت له:
– إيه يا جسورة هتيجي ولا أرجع بخفي حنين؟
❈-❈-❈
وصل جواد لعيادتها وجدها تنتظره.
نزل سريعًا يضمها بقوة كأنها كانت غائبة لعدة سنوات.
طوقت خصره وأردفت:
– مالك حبيبي فيه إيه… نغم كلمتني وقالت هيروحوا عندنا.
– غزل ضمني أوي… مش عايز أشوف حد… خديني بيت المزرعة مش عايز حد غيرك.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (غنى بيجاد (تمرد عاشق الجزء الثاني 2)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.