رواية كارثة الحي الشعبي الفصل السابع والثلاثون 37 – بقلم فاطمة محمد

رواية كارثة الحي الشعبي – الفصل السابع والثلاثون

الفصل السابع والثلاثون

الفصل السابع والثلاثون

أنظر جيدًا.

كارثة الحي الشعبي.

فاطمة محمد.

السابع والثلاثون:

-متقلقوش يا جماعة المولد دلوقتي هيشتغل..

هكذا تحدث “بسام” يطمئن الجميع، فمن المفترض أن يعمل المولد خلال ثواني وبشكل تلقائي عقب انقطاع التيار الكهربائي..

لوت “فاطمة” شفتيها تردد مع ذاتها:

-كمان عندهم مولد وهيشتغل..يا عيني علينا..

أخرج سليم بتلك اللحظة هاتفه واشعل الكشاف كي يستطع الرؤية وكذلك فعل مروان وبعض من المعازيم..

دنا “إياس” من سليم، مردفًا بدهشة:

-هو المولد مشتغلش ليه؟؟ المفروض كان يشتغل..

لم يدري بما يجاوبة واكتفى بالربت على كتفيه يحثه على القدوم معه كي يروا سبب هذا العطل في مثل هذا اليوم..

-تعالى معايا نشوف في ايه..

وقبل أن يتحرك أعتذر للحاضرين، مغمغم بأسف:

-احنا اسفين يا جماعة إن شاء الله حاجة بسيطة والنور هيجي علطول….

ثم تحرك معه وغابوا قليلًا وبتلك الاثناء بدأ البعض بالانصراف مستخدمين هواتفهم للاضاءة…

ابتلعت “دلال” ريقها وهي تستند على كتف جابر، مرددة بحسرة وغيظ من تلك المدعوة “فاطمة” على يقين تام بأن عيناها هي السبب وراء ما يحدث:

-منك لله يا فاطمة الهي تنشكي في لسانك وفي عينك اللي بوظت الليلة دي….

على الجانب الآخر ورغم ضيق الكثير من هذا الانقطاع إلا أنه اسعد آخرين مثل “عابد” الذي غزت البسمة ثغرة وانتهز تلك الأجواء والتفت يده حول خصر “وئام” مقتربًا منها بطريقة متزايدة يزيف خوفه و رهبته من الظلام، مغمغم بخفوت وخوف مبالغ به:

-لا..ظلمة لا..مبحبهاش…بخاف منها…احضنيني…احضنيني…

دُهشت من كلماته وشعرت بانفاسه تلفح بشرتها، مزدردة ريقها تخبره بخفوض و ذهول:

-احضنك إيه، خرج موبايلك..ونور ولا اعمل حاجة..هو لما احضنك مش هتخاف يعني !!!

أكد على الفور بطريقة انطلقت مرحة من ثغره:

-اكيد…وبعدين موبايل إيه وأنتِ واقفة جمبي ده حتى يبقى عيب عليا..وسمعتي تبوظ…

مع قوله الأخيرة مال عليها يخبرها:

-بقولك ايه الدنيا ظلمه..وابويا راضي وامي راضية وانا راضي..فـ ارضي أنتِ كمان وهاتي بوسة..

هنا وأدركت ما يدور بخلده، فلكزته بعفوية على جسده دون أن تدري مكان تسديدها، مغمغمة:

-اه وماله عشان بدل ما تبقى انطي دلال بس، يبقى المعازيم كلهم وفضيحتنا تبقى بجلاجل..

ابتعد عنها وأطلق سراح خصرها، هاتفًا بسخرية وتلك النبرة الهامسة:

-تصدقي انك مش وش نعمة، وبعدين إيه فضيحتنا بجلاجل دي، ده أنتِ مراتي..اجيبلك ورقة واكتب عليها مراتي واحطها على قورتي عشان كل ما تشوفيني تفتكري أنك مراتي….

في ذات الوقت كان “أشرف” قد أخرج هاتفه وأضاء الكشاف مصوبًا إياه بعين “وعد” مباشرة متعمدًا هذا، متلفظًا ببسمة مشاغبة لم تراها هي لتسليط الضوء عليها مسببة ازعاجها:

-منورة..

رفعت يد واحدة تعيق اقتحام الضوء مقلتيها ويدها الاخرى تحرك يده الممسكة بالهاتف تبعده عنها، مرددة بسخرية:

-لا مينفعش كدة دخل الموبايل في عيني واخلص علطول انت لسة هتعميني..واصلا انا اللي المفروض اقولك منور…ده النور بقاله كام شهر مبيقطعش…

-قصدك ايه يعني وضحي؟!

ابتسمت له بغلاظة وهي تمد يدها ترغب في مصافحته..حدق بيدها الممتدة ولم يتردد بمبادلتها السلام بطريقة ذكورية، قائلة:

-قصدي انك منور يا ابو اشف…

-أبو اشف !! ده يخربيت أشرف نفسه يا شيخة.

على الطرف الآخر كانت “داليدا” تهتف بصوت خافض وهي تتشبث بذراع “نضال” أثناء محاولته إخراج الهاتف:

-طلع موبايلك نور بيه يا نضال..

توقف عما يفعله وتلك الكلمة الأخيرة يتردد صداها على أذنيه، معقبًا بمرح:

-قولي نضال كدة تاني؟

قطبت حاجبيها وردت:

-والله هقولها بس اشوفك الأول…الدنيا كحل مش شايفة غير الناس اللي بتمشي وأخوك اللي هيعمي وعد..او وعد هتقتله أيهما أقرب..

لم يجيب عليها..حل صمت مريب ولولا ذراعيه التي تتمسك به حتى الآن لكانت ظنته تحرك و رحل من جوارها..

رمشت بأهدابها وهي تتساءل بحذر:

-نضال انت مبتردش ليه؟؟

بتلك اللحظة شعرت بحركته واحتفاظه بسكونه ويده الأخرى تتسلل مدركة طريق وجهها يحاوطه بكفيه، طابعًا قبلة سريعة لم تدم الا ثواني فقط معدودة على شفتيها جعلت عيناها تجحظ وتقف كالصنم مستمعة لاعتذاره عقب ابتعاده:

-كان بودي اقولك اني آسف بس أنا مش آسف ولو مكنتش عملتها كان ممكن انجلط..اموت.. يرضيكي يحصل في جوزك حبيبك كدة…..

ومن صدمتها وحنقها خرج صوتها عاليًا، تعقب على فعلته المتهورة، فقد خُيل إليها عودة الانوار و رؤية الجميع لهم وهو يقبلها دون خجل:

-أنت سافل و

كادت تكمل لولا يده التي كممت فمها، مغمغم:

-بس بس يخربيتك…وايه سافل دي؟ دي بوسة..لو مش عايزاها هاتيها..اقولك والله لترجع..

انتهى منحنى مرة اخرى طابعًا واحدة أخرى سريعة مبتعدًا على الفور..مخرجًا هاتفه تلك المرة مشعلًا اضاءته يتأمل ملامحها الخجولة و وجهها الاحمر عقب قبلتهم الاولى بهذا الظلام…

عاد إياس وسليم معتذرين لمن تبقى، يخبروهم بأن العطل يحتاج لمختص بهذا الأمر كما أن المولد ايضًا يحتاج إلى صيانة لذلك لم يعمل عقب هذا الانقطاع..مما ترتب عليه مغادرة الجميع…

من ضمنهم فاطمة التي دنت منها دلال، تخبرها من بين اسنانها:

-يلا يا فاطمة يا حبيبتي روحي مع أختك…الليلة انفضت…

-يوووه واروح معاها ليه، ما أنا ببات عندكم !

مصمصت دلال شفتيها تجيب:

-معلش روحي انهاردة المشرحة مش ناقصة قتلة…

وبالفعل غادرت وكذلك خالد رفقة إبنه.. ولم يتبقى سوى عائلة الحلواني..عائلة سلطان…وعائلة مهرة وإبراهيم.. الذين اقترحوا عليهم بالمجئ والمكوث معهم تلك الليلة…مما أشعل أشرف ونضال بعد استماعهم لهذا العرض واحتمالية نوم زوجاتهم بمنزل آخر يتواجد به هذا الغليظ المدعو “مؤنس”…ولم ينقذهم سوى دلال التي سبقتهم ضاربة على صدرها:

-يا ندامة طب ده حتى عيب علينا…ده احنا بقينا أهل ونسايب..هما يجو يقعدوا عندنا لحد ما تجيبوا حد ويصلح العطل ده…

نال عرضها استحسان كلا من أشرف ونضال وعابد فهكذا سيقضون وقتًا أطول مع زوجاتهم وسيتيح لهم الحديث لساعات عدة وجهًا لوجه…

رغب رجال العائلة بالرفض والاعتذار لولا إصرار دلال على هذا الحل و وقف جوارها كل من سلطان وأولادها…

مستجيبين لطلبهم، مقررين ذهاب سليم واياس وأيهم ومحمود لجلب كهربائي متمكن…

كذلك رحل إبراهيم ومهرة عقب مباركتها الأخيرة لأخيها وأبناء اعمامها….. وأصرت وعد قبل ذهابها إلى منزل سلطان على جلب قطها من الاعلى وصعدت معها فجر تنير لها الطريق..

*****************************

دخلوا منزل سلطان، وعلى الفور صاحت دلال مهللة بحرارة وهي تنزع ذلك الشال من الفرو، دافعة إياه أعلى الأريكة:

-طب أقسم بالله البيت نور…واحلى حاجة حصلت عشان نكمل الليلة سوا…انا هخش اعملكم شاي..وانتوا..

حركت رأسها مع هتافها الأخير تنظر لكل من أشرف و وعد، داليدا ونضال، عابد و وئام، مضيفة بلهجة شبه آمرة على مضض محاولة تخطي غيرتها على ابنها:

-اقعدوا برة واتكلموا شوية عقبال ما اعمل الشاي..

رمق مروان ابنته وئام وهتف برفض:

-ويطلعوا برة ليه ما يقعدوا معانا…وبعدين برة سقعة هيتلجوا..

لكزته علياء مدركة ما تفعله دلال راغبة في أن يقضي كلا منهم بعض الوقت مع بعضهم كي يتحدثون براحة، مؤيدة كلماتها:

-هيقعدوا هنا معانا يعملوا إيه سيبهم.. وبعدين يتلجوا إيه هو احنا في تركيا..يلا يلا اطلعوا…

هز قدميه بعنف وكم رغب بالخروج والجلوس رفقتهم لكن ما منع تلك الفكرة هو وقوع عينيه على جابر ملتقطًا تلك النظرة تجاه ابنته “ثراء” التي تجلس بجواره من الجهة الأخرى على الأريكة…

غادرت دلال كما فارق أبنائها مكانهم ذاهبين للحديقة وكل منهم بصحبته زوجته، بينما أطال مروان النظر إلى جابر فلازال يتابع ابنته ومن شدة تركيزه معها لم ينتبه بأن مروان قد لاحظ هذا..

-في حاجة يا حبيبي؟؟ شايفك متنح؟ يعني لو فيه حاجة قول عشان نتنح معاك..

تململ “جابر” وشعر بالإحراج الطفيف فكل ما يشعر به بتلك اللحظة هو الظلم و اتهامه بشيء لم يفعله أو حتى فكر بفعله مرة أخرى..

أنقذه سلطان من هذا الموقف، قائلًا:

-جابر قوم غير هدومك يلا..

ثم تابع يحدق بالجميع مرحب بهم:

-والله يا جماعة نورتوا أم أشرف مكدبتش..

***************************

توقفت “وعد” عن التحرك أو خطي خطوة واحدة إضافية، جالسة على العشب الأخضر، واضعة القط الصغير جوارها، نازعة ذلك الكعب من قدميها وهي تتأوه وتتحدث مع ذلك الذي يتابع ما تفعله وكيف دفعت بالحذاء جوارها بلامبالاة:

-اهو الكعب ده تاني اسوء حاجة عملتها النهاردة..ده انا رجلي وجعاني بشكل يا جدع…اه ياااااني..

ارتفع حاجبيه وجلس هو الآخر بجوارها، يتساءل بفضول:

-وايه هي أول اسوء حاجة؟ ابهريني.

حافظت على ملامحها وردت ببساطة شديدة:

-أنت طبعًا وجوازي منك يا خاين انت يا ابو عين زايغة ميملهاش غير التراب.

اتسعت عيناه تزامنًا مع ارتفاع حاجبيه اكثر، مشيرًا نحو نفسه بصدمة:

-أنا !!! وبتقوليها عادي كدة في وشي..وايه خاين وكل الكلام الاهبل ده؟

أنتِ مجنونة يا بنتي، ولا ملبوسة !

-لا موجوعة وحياتك..قولي أنت اللي عزمت زينة؟

أغمض عيناه بنفاذ صبر ثم التفت لها بكامل جسده…تردد بانتشال يدها و وضعها بين راحة يديه..لكن زال هذا التردد وحسم أمره ملتقطًا يدها..

ارتعش جسدها و رغبت بجذب يدها فهتف هو معلقًا على برودة يدها، مشددًا من القبض عليها يرفض محاولتها:

-ايدك متلجة..متشديهاش سبيها هدفيهالك عقبال ما نخلص كلام وارد على سؤالك اللي قرفتيني بيه..رغم اني جاوبتك..

انعقد لسانها وكتمت أنفاسها وعيناها تجوب على ملامحه القريبة والتي تتأملها بحرية شديدة دون حسبان أو خوف…

تبسم وجهه على ما يراه من رد فعل كان يتوقعها ما أن تتلامس ايديهم، يوضح لها بحنو لائمه كثيرًا:

-اول حاجة انا مش عارف أنتِ عرفتي منين اسمها لاني مفتكرش اني قولتهولك قبل كدة..ومش عايز أعرف..لانه مش مهم زينة كانت خطيبتي..مش هكدب واقولك مكنتش بحبها..لا هقولك كنت بحبها واوي كمان..مكنتش متخيل أو شايف حياتي من غيرها..بس مش كل حاجة الواحد بيفتكرها بتبقى صح، وده انا عرفته جديد…

نهشت الغيرة قلبها نهشًا دون رحمة أو شفقة، رغبت في الانتفاض والصراخ بوجهه عما يعترف به بكل وقاحة، لولا كلماته الإضافية الذي تابعها بذات الحنو:

-يعني أنا كنت فاكر نفسي مش هعرف اعيش وهموت في بُعدها، بس ده محصلش..اللي حصل اني عشت وبتنفس وشوفتك واتجوزتك..ومطلعة عيني بغبائك..بتعصبيني وأنتِ مش حسة..

لزم الصمت يلتقط أنفاسه، ثم استرسل مجددًا:

-زي مثلا اللي حصل انهاردة سألتيني وانا جاوبتك بأنه مش انا اللي عزمتها..بس ردي زي عدمة ولا كأنك سمعتيه كأنك حطة رد في دماغك وهو ده اللي عايزة تسمعيه..وكل شوية تسأليني وده انا مبحبوش..مبحبش اكرر كلامي..انا مش كداب..لو أنا هقولك انا في وشك ومش هخاف..

لانت قسماتها وبات تنفسها أكثر سرعة، متسائلة بوهن:

-بجد يا أشف يعني مش أنت؟

عض على شفتاه غيظًا لا يدري أكان من سؤالها أم من أشف، او من الاثنان معًا، وعلق من بين أسنانه:

-هو انا بكلم هندي؟

نفت برأسها ببراءة، قائلة:

-لا بتكلم عربي.

زفر بصوت مسموع وعاد جالسًا يوليها جانبة بدلًا من وجهه..رافعًا رأسه ينظر للسماء من اعلاهم..وكل هذا ويدها لا تزال تقبع بين يديه وقد باتت أكثر دفئًا عن ذي قبل..

كبحت مشاعرها وما يغمرها بتلك اللحظة المميزة بينهم..فالسماء فوقهم.. والأشجار الخضراء حولهم…وهو بجوارها…

ثبتت حدقتاها على تلك الشجرة الذي تحرك نحوها القط وغفى باسفلها، قائلة بهدوء قاطعة هذ الصمت:

-تعرف أن الخشب يتيم؟؟

نال حديثها تركيزه ونظر لها يستفسر:

-يتيم إزاي؟

ردت ببساطة وابتسامة مرحة:

-هو مش اليتيم ده بيبقى مقطوع من شجرة..والخشب ده بيتقطع من الشجر، يبقى يتيم ولا لا !

لم يعلق واحتفظ بسبابه خافضة لحاله…اختطفت نظرة نحوه، ثم حاولت نزع يدها..فلم يسمح، مردد:

-لسة مدفيتش..

-لا دفيت انا حسة بيها.. أوعى.

تركها بالفعل واستجاب لمطلبها..متنهدًا بحرارة..منتبهًا لها ولنظراتها من جانب عيناه..وبحركة مباغتة كان يقترب لاصقًا كتفه بكتفيها..

ازدردت ريقها وابتعدت قليلًا.. فأعاد الكرة من جديد وما لبثت أن تفعلها هي الأخرى حتى وجدته يلف ذراعيه حولها يحتضنها..

انتفضت من جلستها لا تتحمل لمسته التي كادت تطيح بها وتفقدها الوعي، مغمغمة بتلعثم:

-أنت قليل الأدب… وأنا كان لازم افهم أن نيتك وحشة..الاول أيدي..وبعدين تقرب واحدة واحدة.. وبعدين تحضني..لا فوق ده أنا محترمة أوي…

نهض هو الأخر يعقب بسخرية:

-وانا جوزك أوي…وكاتب عليكي يا بنت المجنونة..

-ولو..مش من حقك..هو إيه سكتناله دخل بحماره ولا ايه !!

********************

تسير “داليدا” جوار “نضال” بالحديقة لازمة الصمت، يتكرر أمام عيناها ما فعله وكيف قام بتقبيلها دون علمها..

تنحنح بخفوت يجذب انتباهها وبالفعل نجح بهذا مما جعله يبتسم بمكر ويخرج صوته متسائلًا مدعيًا تجاهله لحالتها:

-مالك ساكتة ليه؟!

لم تتوقف عن متابعة سيرها مجيبة بتهكم:

-على أساس أنك متعرفش !

ادعى البراءة معقبًا بمرح:

-وانا لو اعرف هسألك ليه !

توقفت فجأة قبالته تقطع طريقة، مغمغمة بتشنج وخجل من تهوره:

-لا عارف.. أنت قليل الأدب وغفلتني واستغليت الضلمة عشان تبو..

لم تستطع استكمال جملتها من خجلها، متهربة بعيناها حتى لا تتقابل مع حدقتاه اللامعة بالعبث والشغف…

اتسعت عيناه بصدمة زائفة، معلق بذهول:

-انا عملت كل ده !!! طب وأنتِ زعلانة عشان قليل الادب ولا عشان غفلتك واستغليت الضلمة..

ضاقت عيناها لا تفهم مغزى كلماته..ظلت تحاول الوصول إلى ماهية كلماته…حتى وجدته يلتهم المسافة التي تفصل بينهم..وعيناه تجوب من حوله يتأكد من عدم تواجد أحد.. خاصة أشرف وعابد.

يوضح لها ما عجزت عن تفسيره:

-قصدي يعني بعد كدة لما احب اعمل كدة ابقى اقولك قبلها…ما أنتِ مبتحبيش التغفيل بقى..

زاغت حدقتاها وحاولت الابتعاد من حصاره فكان الأسرع محكمًا ذراعيه حول خصرها، انظاره مسلطة على ثغرها الصغير الذي يرتجف قليلًا، هامسًا لها:

-هعملها..واديني قولتلك عشان مفيناش من الزعل.

لم يمنحها وقتًا للتفكير واستيعاب ما يتوق إليه وينوي فعله…

أطبق شفتاه على شفتيها يقبلها بنعومة جعلتها تنسى كل شيء… سواء كان الزمان..أو المكان.

ما يهم فقط هو عيش تلك اللحظة وذلك العشق…

**********************

-ايه ده أنت واخدني فين هنا؟؟!

تحدثت “وئام” ملقية تلك الكلمات على مسامع “عابد” الذي كان يجذبها بإحدى الزوايا التي يعمها ظلام طفيف بعيدًا عن اشقائه المتواجدين بالحديقة..

يهمس لها بصوت خافض وجدي للغاية وهو يضع اصبعه فوق شفتاها:

-هشش هيسمعونا..وانا مش مسؤول..

ذُهلت من جديته وقالت بجبين معقود:

-هما مين دول اللي هيسمعونا وبعدين موطي صوتك ليه؟

جحظت عيناه وهو يجيب ويشير من حوله:

-العفاريت يا روحي..يقطعني هو أنا مقولتلكيش أنه البيت بتاعنا ده مسكون…

نهرته بضيق لا تصدقه بالمرة، دافعة إياه بقبضتها الصغيرة بصدره:

-والله !! عيلة صغيرة أنا مش كدة.. أبعد يا عابد هيشفونا كلهم المرة دي وسع…

رفض وبقوة الابتعاد عنها محتجزًا إياها بين الحائط من خلفها وبين صدره الفولاذي:

-مش هوسع..عايزاني أوسع يبقى تدفعي..والله دفعتي هعملك اللي أنتِ عايزاه..مدفعتيش هعمل برضو اللي أنا عايزه..

تسارعت أنفاسها وهي تراه يميل ينوي التنفيذ وتكرار فعلته مرة أخرى..وقبل أن يفعلها كانت تحاول تذكر أي شيء قد يخرجها من تلك الدوامة من المشاعر المتأججة الملتهبة، وكان لها ما أرادت متذكرة فاتن التي جاءت وازعجتها رؤيتها بشدة :

-لا..روح لفاتن يا روح فاتن…

انتشلته من تلك العاصفة التي عصفت بقلبه وبكيانه و وجدانه، فقد كان على بُعد ثوانِ لا تُعد حتى ينولها..

التقط نفسًا طويلًا قبل أن يغمغم:

-طب ولية السيرة دي ما كنا كويسين يا بنت الحلال وبعدين فاتن مين اللي اروحلها وهو انا لو عايزها كان حد هيمنعني عنها..ما بلاش حجج فارغة..انا عارف انك بتحاولي تهربي مني..بس.

توقف متقدمًا منها بحظر وبصره يسقط على صدرها الذي يعلو ويهبط بانفعال جلي، رفع حدقتاه يطالع وجهها، يتابع ما توقف عنده:

-بس يا ترى لو هربتي دلوقتي..هنروح من بعض فين..انا جوزك وانتِ مراتي..والناس كلها تشهد اني كتبت عليكي..و

زيف متابعته للحديث وقبل أن يضيف أي حروف أخرى كان يلتقط شفتاها ويحاوط وجهها ينال ما أراده فقد استطاع الهائها حتى ينولها ويحظى بتلك القبلة……

حاولت بالبداية دفعه خوفًا من رؤية أحدهم لهم..لكن لا حياة لمن تنادي فقد باتت زوجته وبين يده..

**********************

يجلس مروان جوار ثراء يتساير معها ويتابعهم جابر الذي يرفض التنحي أو التحرك…لا يبالي بأي أحاديث قائمة بين البقية من الرجال…

كذلك السيدات لا ينصت لشيء فقط يضع تركيزه معها هي…

هز قدميه بعنف وانتهز نهوض “علياء” من جانب زوجها وجلوسها جوار روفان والحديث مع والدته.

حل مكان “علياء” جوار مروان يهمس له ببرود يقطع حديثه المتواصل مع تلك المدللة التي لا تطيقه:

-منور يا عمي والله.

ابتسم مروان بغلاظة يعقب من بين أسنانه:

-ملكش دعوة.

صك على فكيه بغيظ من رده، ثم أضاف لا ييأس:

-على فكرة طولوا اوي برة..وانا أخويا مش ملاك..ده توأمي وانا عارفة..ده شيطان، تعلب مكار..وانا لو مكانك مسبش بنتي معاه لوحدها دقيقة..اه والله..اسمع مني.

ورغم ما اعتراه من غيرة و افكار شيطانية تلاعبت برأسه حول ما يفعلوه بالخارج إلا أنه لم يظهر هذا له، وتصنع عدم مبالاته مجيب ببرود:

-ملكش دعوة تاني.

حرك كتفيه تلك المرة بلامبالاة وهو ينهض من جواره:

-طيب مليش..انا كدة عملت اللي عليا..عن أذنك يا عمي..او يا جدو..عشان عمي بتزعلك..

ابتعد وتقدم من درجات الدرج يراقبه من بعيد، يبتسم بمكر ولسانه لا يتوقف عن العد متأكد بانه سينهض ويترك مكانه و وقتها فقط سيتخذه هو ويتحدث معها..

-واحد..اتنين..تلاتة.. أربعة..خ

لم يتممها لنهوضه بالفعل وتحركه للخارج..

أسرع في خطواته وجلس بجانبها ينظر أمامه يصوب حديثه إليها محافظًا على خفوضة مسببًا في فزعها:

-طب واقسم بالله انا مظلوم المرة دي، وابن **** انا معرفهوش واول مرة أشوفه.. وبعدين أنتِ إزاي فكراني بالغباء ده؟؟ يعني عملتها مرة ومنفعتش واتقفشت وكان شكلي زي الخرا قدامك..اروح مكررها تاني..لا ده كدة غباء رسمي..وانا مبحبوش ومعرفوش..

كانت تضع يدها على صدرها فقد فزعها حقًا..نظرت إليه بذات الوقت حيث كان يحرك وجهه كي يرى تعابير وجهها وهل تصدقه ام لا تزال تكذبه..تقابلت عيناهم لوهلة تسببت في شروده بها وتمرير حدقتاه على ملامحها..

ابتلع ريقه واضاف بعدما وجدها لا تتحدث أو تعلق على شيء من حديثه:

-انا اتحمقت لما لقيته واقف معاكي..وبصراحة بقى أنتِ السبب في انه يجي وراكي.. نازلة رقص ومش همك حد وكل اللي يسوى وميسواش بيتفرج عليكي وعلى جسمك.

احتقن وجهها بالدماء وانزعجت من فظاظته بالحديث معقبة بوقاحة لا تقل عنه شيء لا تعلم من اين اتت بها:

-وطبعا حضرتك من اللي ميسواش وكنت بتتفرج..وبعدين انت مالك انا حرة..محدش شريكي وبابا أو ماما لو كانوا شايفين اني بعمل حاجة غلط كانوا اتكلموا..مش انت اللي هتحاسبني يا بتاع أنت..

تغاضى عن كلماتها محاولًا تغيير مسار الحديث كي لا تزيد الأمور سوءاً أكثر، قائلًا:

-مقولتيش ليه أن الواد اللي شفته معاكي في الجامعة يبقى قريبك؟؟ لازم تخلي دماغي تجيب وتودي..

تأففت بضجر وقبل أن تنهض أردفت ببساطة ناهية حديثهم:

-وانا اقولك بتاع إيه؟ هو احنا فيه بينا كلام أصلا..بقولك ايه يا جابر حل عني وعن دماغي والشويتين دول مش عليا، عشان أنت لو عملت إيه نظرتي اللي خدتها عنك مش هتتغير..

حدق “خليل” بأخيه عقب نهوض ثراء من جواره فأعتذر مستأذنًا النهوض من جوار أبيه و احمد جالسًا جوار جابر، قائلًا:

-عملتلها إيه؟

عاد بظهره للخلف، معلقًا

باقتضاب

:

-معملتش..

ومتشغلش

دماغك بيا..خليك في حالك والنبي..

ردد خليل بهدوء:

-قول لا إله إلا الله، وبعدين قولتلك قبل كدة بلاش الحلفان بغير الله…ونزل عينك من على البنت حرام تفضل بصصلها كدة..

-طيب طيب اووف..

ردد بنفاذ صبر، فحرك أخيه راسة وهو يدعو ويناجي الله بسره:

-يارب أهديه..

انتهى من دعوته له، مستمعًا إلى كلمات والدته العالية، وهي تصوب كلماتها نحو فجر:

-جرا ايه يا بنتي هتفضلي قاعدة بالنقاب كدة كتير؟! ده انا نسيت شكلك وبعدين أنتِ مش صغيرة عليه ده؟! كنتي استنيتي شوية وبعدين لبستيه..

استنكرت كلماتها مجيبة عليها باحترام رغم ما يعتريها من انزعاج لتدخلها فيما لا يعنيها:

-واستنى ليه مدام حباه ومقتنعة بيه ! وبعدين هو مش خنقني يا طنط..بالعكس أنا حباه وحبة شكلي فيه..

ردت دلال تبرر سبب حديثها اللاذع:

-وانا مقولتش شكلك وحش، بس أنتِ صغيرة ومديكي شكل اكبر من سنك..

تفاقم انزعاجها وضيقها، كادت تجيب وتعلق وتدافع عما تحب فلا يحق لاحدهم التدخل فيما تريده وترغب مدام سليمًا ولا يغضب الله عز وجل..

لكن تدخل “خليل” بحديثهم، قائلًا بأعين تخشى النظر إليها:

-انا آسف لو بدخل..بس أنا شايف ان النقاب شيء جميل للواحدة… يعني مش لازم يبقى شكلها حلو بيه..لأن هي مش بتلبسه عشان شكلها يبقى حلو او وحش، هي بتلبسه لانه بيغطيها بيبعد عنها أي عيون أو اي نظرات.. الحاجة الحلوة لما بتتعمل بنغطيها عشان لو معملناش كدة الدبان هيتلم حوليها.. ومدام هي لبسته عن اقتناع وحبه ده يبقى مش من حق اي حد فينا يدخل لان ده قرارها هي سواء حبت تكمل بيه أو تخلعه..

ردت عليه “فجر” تلك المرة ببسمة لا يدري بأنها قد شقت ثغرها، توافقه على حديثه:

-بضبط.. القرار قراري لان انا اللي لبساه..ومقتنعة بيه واقتناعي ده بيزيد كل يوم عن اللي قبله لأنه قربني من ربنا ومن ديني وحقيقي بتمنى أن ربنا يثبتني عليه…

اخذ خليل نفسًا عميقًا، يضيف لها بهدوء شديد:

-في دعاء حلو جدا اتعودي تقوليه دايمًا ” اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.”

اغمضت عيناها لوهلة مكررة الدعاء من خلفه وشعور بالراحة يتغلل صدرها ما أن قالته…وبدأت بتكراره مع نفسها همس شديد…..

***********************

يسير بالحديقة باحثًا عن ابنته شاعرًا بالقلق حيالها…وعليها، يتمنى أن تكن فقط شكوك..

وفجأة توقفت قدماه عن الحركة وهو يرى هذا المشهد أمامه…

اتسعت عيناه وبدأ بالاقتراب رويدًا رويدًا لا يصدق بانه يرى “داليدا” جالسة جوار نضال على العشب سامحة له بضمها ورأسها تسند على كتفيه..ويتحدثان بصوت خافض لا يسمع منه شيء…

جثى على ركبتيه حتى باتت رأسه بالمنتصف، منصتًا لاعتراف “نضال”:

-تعرفي أن انهاردة أسعد يوم في حياتي..أنا مش مصدق انك في حضني و

قاطعه همس مروان، يحثه على التصديق:

-لا يا اخويا صدق.. صدق يا مسهوك… انتوا بتهببوا ايه وفين بنتي وأخوك ياض.. وأخوك التاني والبت وعد..

انتفض الاثنان أثناء حديثه وابتعدت داليدا عنه على الفور، متحدثة بتلعثم:

-فـ إيه يا عمو مالك..وطي صوتك..

-مش هوطي زفت فين اخوك ياض والبت بنتي…

في ذات الوقت، وصل صوته إلى ابنته وئام التي انتفضت وابتعدت عن عابد المحتضن لها بتملك شديد وأشارت نحو صوت أبيها:

-الحق بابا…وبيزعق..

-وايه الجديد ما ابوكي علطول بيزعق..

هزت رأسها وركضت سريعًا نحو مصدر الصوت وهو من خلفها والبسمة على ثغره سعيدًا بتلك الدقائق الذي قضاها معها وتلذذ بقربها…

وصلت وعد وهي تحمل قطها الذي استيقظ مفزوعًا على صياح مروان:

-في إيه صحيت القط حرام عليك كان نايم..

-ايكش تولعي أنتِ وهو..

قالها وهو يقترب من أشرف يستفسر منه:

-اخوكم عابد فين؟؟

مط أشرف شفتاه ورد بهدوء:

-موجود هيكون راح فين يعني؟!

-يطلع انا عايزة يطلع و بنتي تطلع قبله والا

لم يكمل لرؤيته وئام تأتي نحوه تبتسم على غيرته عليها، تطمئن قلبه:

-انا اهو..كنا بنتمشى وسمعنا صوتك.. حضرتك بتزعق ليه…

تنهد بارتياح ما أن رآها، ثم نظر نحو عابد متخطيًا الجميع واقفًا قبالتة مباشرة، موجه حديثه للجميع:

-خشوا جوه..كفاية كدة..يلا.

تبادلوا النظرات وانصاعوا إليه ولم يتبقى سوى عابد الذي حك جبينه وعينه لا تفارق أعين مروان الذي رفع اصابعه أمام عيناه وتمتم:

-انا مراقبك..خاف مني…عشان أنا مجنون..

-واخاف ليه ما هي مراتي يعني محسسني اني ماشي معاها ده انا حطيت ايدي في ايدك يا عمي.

-كانت تتقطع..انا غلطان اني جوزتها انا بنتي اصلا لسة صغيرة…

وبعد ساعتين تقريبًا من الأحاديث المتبادلة بين العائلتين، هاتف سليم مروان وأخبره بانتهاء أمر الكهرباء وعودتها من جديد…مما جعلهم يعودون إلى منزلهم ويخلدون في نوم عميق..

**********************

اليوم التالي..

استيقظ”زاهر” وارتدى ملابسه وأصبح جاهزًا للخروج…فتح باب المنزل وخرج غير مبالي بهتاف والدته التي تحسه على الإيقاف وتناول الفطور معهم…. صافقًا الباب بقوة من خلفه.

واضعًا نظارته الشمسية يخفي عيناه ويحجب عنها ضوء الشمس..قاصدًا سيارته.. لكنه توقف ما أن التقطت عيناه صديقة أخته وهي تقف بانتظارها بالحديقة وقبالة السيارة…

ابتسم بعبث وغير مساره متجهًا نحوها..واقفًا أمامها مباشرة بجسده الذي يفوقها طولًا وعرضًا…

ابتلعت الفتاة ريقها فـ طالما كانت تبغض رؤياه بسبب نظرات عيناه الشيطانية التي توحي وتعكس ما يرغب به..

توترت وهي تستمع لصوته الغليظ المتحشرج:

-واقفة كدة ليه ومدخلتيش جوه ليه؟

بللت “ريهام” شفتيها، مجيبة على مضض:

-مستنية اروى عشان هنروح الدرس سوا.

ارتفع حاجبيه وقال بنبرة ذات مغزى وهو يدنو منها خطوتين دبت الرعب بقلبها:

-طب إيه تحبي استناها معاكي؟

نفت على الفور مقترحة عليه كي تتخلص منه:

-لا..بس لو ينفع تطلع تناديها…ممكن؟؟

تبسم وجهه بغلاظة متعمدة مجيب:

-ممكن..ومش بس كدة هوصلكم كمان وهطلع اجبلك مقصوفة الرقبة دي..

قال الأخيرة وهو يغادر عائدًا للمنزل من جديد، لا يمنحها فرصة للاعتراض على عرضه بايصالهم بدلًا من السائق..

التهم الدرجات واتجه صوب غرفة أخته..وقف أمامها و رفع يده كي يطرق على الباب..لكن يده تعلقت بالهواء مما وصل إليه من ضحكات يصاحبها كلمات جعلته يصل إلى ذروة غضبه وإظلام عيناه:

-لا صدق انهاردة هشوفك..بس مش هينفع نطول قولي هنروح فين يا جبوري..و اوعى تقولي تقابلني في شقتك، انا مش بتاعة شقق اه..انا بنت ناس ومتربية..

يتبع.

فاطمة محمد.

رأيكم وتوقعاتكم. 💜💫

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية كارثة الحي الشعبي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق