رواية قيد القمر – الفصل التاسع
{ الفصل 9 }
ضغط رؤوف على مفتاح نور المكتب الجانبي فسبحت الغرفة في ظلام لم يكسره إلا ضوء القمر المنبعث من النافذة وأخذ يدور بكرسي مكتبه يمنة ويسرة.. يحاول أن يفرغ رأسه من الأفكار التي تدور بها.. يشعر أنه دخل بقدميه في دوامة ولا يعرف الطريق للخروج منها.. لطالما تجاهل حديث المشاعر والأحاسيس وظنه للمراهقين والصبية أو لمن يريدون التسلية فحسب, لكنه وجد نفسه الآن يتساءل عن صحه تفكيره.. وهل ما يربطه بنورا هو عقد زواج تم بناء على تفكير عقلي فحسب؟.. سخر من نفسه أي عقل وأي تفكير؟.. لقد انطلق اسمها على لسانه بدون أي إرادة من عقله عندما عرض جده عليه الأمر؟.. هل هذا هو الحب الذي لطالما سخر منه؟.. أنه لا يدري.. فقط يعلم أن حياته تغيرت من اللحظة التي ارتبط فيها بها.. أصبح لحياته نكهة مختلفة.. نكهة يكاد يجزم أنه أدمن عليها مثل إدمانه على رائحة التوت البري التي تنبعث من شعرها أو إدمانه لرؤية توترها الذي يدفعها لتقوم بتلك الحركة الفاتنة بشفتيها.. بل أنه يدفعها للعصبية أحياناً حتى تقوم بتلك الحركة فقط.. كما اكتشف أنه يهوى صوت الموسيقى الذي ينبعث مع ضحكاتها.. والطريقة التي تغني بها وهي تدور مثل الفراشة في المنزل وخاصة عند اعدادها للقهوة التي أضحى يدمنها من يديها..
مسح وجهه بكفيه.. وهو يدرك أنه يغرق أكثر وأكثر.. يغرق في بحور لم يعرفها من قبل.. ينغمس في أحاسيس كان يظن نفسه لا يمتلكها.. فحياته مع جده ومن بعده نعمات لم تؤهله ليتعامل مع فيض هذه المشاعر.. لقد عاش لسنوات حياة أشبه بمياه هادئة لم تؤثر فيها أي رياح أو أعاصير.. باستثناء المحاولات الحثيثة للإنجاب إذا اعتبرت تلك المحاولات أزمات من أزمات الحياة.. أما بخلاف ذلك فكانت حياة روتينية هادئة لم تعترضها أي عواصف..
حاول أن يخرج ما بنفسه في صور هزلية كعادته ولكن لأول مرة تفشل الأوراق والألوان في مساعدته على تصفية أفكاره التي تعصف بشدة..
رمق دفتر الرسم الكبير على المكتب وكأنه يناجيه.. يتوسله أن يفسر له ماذا يجري معه؟.. ما تلك الأحاسيس والمشاعر التي تموج بداخله؟.. لأول مرة يشعر أنه فاقد السيطرة على ما يدور حوله.. فاقد للسيطرة على أفكاره وأحاسيسه ومشاعره.. إنه يفقد أعصابه وينطلق غضبه بسرعة شديدة وخاصة عليها.. على نورا.. كلا ليست نورا.. إنها قمر.. قمره هو..
نهر نفسه بغضب.. ما هذا اللغو الذي تتفوه به؟.. إنها فتاة متمردة لا تستطيع تنفيذ ما يطلب منها.. تتعمد دائماً إثارة غضبه وفعل كل ما يثير الحنق..
عاد يرمق دفتره مرة أخرى وهو يتساءل عن رأيها في هوايته تلك.. لقد رفض جده الإعتراف بها تماماً مبدياً رأيه أنها مجرد شخبطات… أما نعمات فثارت ثائرتها عندما لمحتها وظنته يسخر منها.. ولم تستطع استيعاب أهمية تلك الهواية في حياته فهي تراها سخرية وقحة من البشر…
ترى ماذا يكون رأيك يا قمري؟… هل ستعتبرينها شخبطة أم وقاحة؟.. أم ربما يكون رأيك اقسى من ذلك؟..
أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه يحاول تجميع شتات نفسه.. وظل على هذا الوضع لفترة وهو يسترجع ذوبانها بين يديه منذ قليل.. لقد استجابت له ولعاطفته برغم غضبها منه.. وهو كان مستعد للإستمرار رغم إدراكه لذلك الغضب.. لقد احتاج سيطرة عنيفة على مشاعره حتى يبتعد عنها.. فهو لم يصدق لسانه الذي اندفع ليخبرها أنها تحرمه من حقوقه.. وأن الملائكة ستلعنها.. لم يصدق أنه وصل لهذه الدرجة من اليأس حتى يقنعها بأن تفتح له بابها وذراعيها…
فتح عينيه ورمق الأريكة القابعة أمامه.. وابتسم بسخرية من نفسه.. يسترجع ليالي طويلة قضاها على أريكة مماثلة في بداية زواجه من نعمات..
نعمات.. إنه في حاجة إلى حوار مطول مع نعمات.. قد يستوعب الغيرة النسائية العادية بينهما.. وليس بخافي عليه محاولات نعمات لاستفزاز قمر, ولكن ما حدث اليوم كان أكبر مما يتوقع..فهو لم يتخيل امرأة في عقلها ورصانتها تسجل حفل لفتيات صغيرات ثم طريقتها في إخباره عن ما حدث كانت كفيلة باخراجه عن شعوره.. وكاد أن يفعل بالفعل لولا دموع نورا التي لمعت في مآقيها ومنحته شعور بالعجز أمامها….. تباً إن أفكاره تعود به إليها دائماً.. ترى ماذا تفعل الآن؟..
لف بصره ناحية نافذة المكتب المواجهة لنافذة جناحها لعله يلمح أي ما تفعله.. ولكن وياللعجب لمح طيف يحاول الدخول عبر نافذة مكتبه.. أغمض عينيه وفتحها مرة أخرى في محاولة منه لإجلاء نظره, إلا أن الشبح الذي يحاول اقتحام النافذة كان قد أدخل نفسه بالفعل داخل الغرفة..
انتفض رؤوف وهو يصيح:
ـ من؟… من أنت؟..
جاءه صوت نورا وهي تهمس:
ـ من تعتقد؟… أنا نورا.. إن الحديقة الداخلية بين نافذتينا مغلقة.. فمن تنتظر أن يأتي عبر النافذة؟.
قال لها وهو يبتسم:
ـ صحيح.. مَن مِن الممكن أن يتصرف بهذه الطريقة المجنونة سواكِ؟!!
وضعت يديها في خصرها كعادتها وهي تقول بغضب:
ـ ماذا تقصد بمجنونة؟..
أجابها وما زالت الابتسامة معلقة على شفتيه وهو يشير للباب:
ـ لماذا لم تستخدمي الباب؟..
أخذت ترمقه بمكر ثم دارت حول نفسها وهي تتمسك بأطراف الروب السفلية وتفردها حولها مثل جناحين:
ـ لقد خشيت أن يلمحني أحد وأنا بمثل ذلك الرداء؟..
لم يتمالك نفسه فتعالت ضحكاته.. فتوقفت هي عن الدوران وهي تحكم لف نفسها بالرداء.. فأبرز تفاصيلها الأنثوية الخلابة.. فتوقفت ضحكاته بينما أظلمت نظراته وهي تتأملها…. وحين لمحت هي تغيير نظراته ابتسمت ببراءة وهي تسأله:
ـ ما الذي كنت تفعله؟..
أجاب بسرعة:
ـ كنت أراجع بعض أوراق العمل المتأخر
ابتسمت بسخرية:
ـ في الظلام!!!
أعاد اجابته:
ـ أعني أنني انتهيت من مراجعتهم بالفعل..
عادت تبتسم له ببراءة وهي ترفرف بأهدابها:
ـ وماذا كنت تنوي أن تفعل بعد ذلك؟..
تنهد بحرارة وهو يقول:
ـ حسناً يا قمر.. فلنكف عن الادعاء.. أنا لم أكن أعمل.. وأنتِ؟.. لم أنتِ هنا؟..
علمت أنه متأثر بها مهما حاول ادعاء اللامبالاة فهو يناديها بقمر ثانية.. اقتربت منه بهدوء وهي ترفع عينيها متسائلة:
ـ قمر؟…
شدها إليه يلصقها به وهمس لها:
ـ نورا.. ماذا تريدين؟..
أجابته بخفوت:
ـ أنت!
سألها مشدوهاً:
ـ أنا!!!
تملصت من بين ذراعيه برقة وهي تتجول في الغرفة وتقول:
ـ أنت أخبرتني في السيارة أنك تعد لي مفاجأة, ولم تخبرني ما هي؟..
نظر إليها مصدوماً بينما ظلت ترمقه ببراءة وهي تكمل جولتها في الغرفة حتى وصلت إلى مصباح المكتب فضغط على مفتاحه لينير الغرفة ضوء خافت عكس ظلاله على ردائها مما زادها روعة وهي تجلس على كرسي مكتبه فتغوص فيه..
فكر في نفسه أنها أكبر من الدمية بقليل.. كيف يتركها تتلاعب به هكذا؟..
لمحها وهي تمد يدها لدفتره.. وبدأت تتصفحه بالفعل.. فتحرك ليسترده منها.. إلا أن عينيها كانتا لمحتا واحدة من رسوماته.. والتي تمثل ليلة زفافهما بالذات..
حيث رسم نورا بثوب زفافها وهي تركله ككرة القدم خارج جناحهما إلى ذراعي نعمات التي عبر عنها كحارس للمرمى وهي تتلقاه وتسحبه خلفها وهي تلقي بالتحية لنورا!
كان يراقبها وهو يشعر بنفسه مثل التلميذ الذي ضبط بالجرم.. وكان ذلك يشعره بالغضب.. لكنها أخذت تتأمل الرسمة للحظة… ثم تعالت ضحكاتها تلك ذات الجرس الموسيقي الذي يطربه..
وقالت من وسط ضحكاتها:
ـ رؤوف إنك تذهلني!!
سألها بقلق:
ـ ماذا تعنين؟..
أجابته بصراحة:
ـ أعني.. أنني لم أظن أنك تهوى الفن الساخر.. إنك حقاً ملئ بالمفاجآت..
ثم تحركت من على الكرسي لتواجهه:
ـ إنك تمتلك موهبة رائعة.. أتعجب كيف لم تحاول دراسة الفنون لتصقل تلك الموهبة!!
أمسك كفيها برقة وهو يسألها:
ـ هل هذا ما تظنينه حقاً؟.. ألا تشعرين بالغضب من عرضي لذلك الموقف بتلك الطريقة؟
ابتسمت وهي تجاوبه بهدوء:
ـ حسناً.. من الممكن أن يغضبني ذلك.. ولكن قليلاً فقط.. لكني لا أستطيع أن أخدع نفسي.. إن الموقف كان مضحكاً فعلاً.
ثم سألته بغضب مصطنع:
ـ إذاً هذا ما تفعله في مكتبك طوال الوقت, وأنا التي تظن أنك مطحون بأعمال العائلة!!..
جذبها لصدره بحسم وهو يقول:
ـ قمر.. لماذا أتيتِ الآن؟.. لقد ابتعدت حتى لا أفرض عليكِ وضعاً لا ترغبينه.. فلما تزيدين من صعوبة الوضع علي؟..
رفعت ذراعيها لتعقدهما حول عنقه وهي تهمس:
ـ بالعكس.. أنا لا أفعل.. أنا لا أزيد الوضع صعوبة.. لقد ابتعدت أنت, وأنا جئت إليك.. أعتقد أن هذا يوضح كل شيء..
بعد سماعه لكلامها لم يستطع إلا أن يضمها بقوة وهو يرفعها عن الأرض حتى يستطيع بثها قبلاته كما يرغب.. همست أمام شفتيه:
ـ أنت تعلم أنني كنت لأقتلك لو كنت صعدت للطابق الأعلى!!
سألها بهمس:
ـ هل تغارين يا قمري؟..
أجابته وعينيها تنضح هياماً:
ـ بجنون.. أغار بجنون.
عاد ليتناول شفتيها مرة أخرى وهو يضغطها بقوة لجسده ويديه تتحرك بسرعة ليخلصها من الروب الذي يخفي جسدها عنه ولكنها كانت عاقدة لذراعيها خلف عنقه, تسند نفسها إليه فلم يجد بديل عن تمزيق الروب الذي استجاب نسيجه الرقيق لجذب رؤوف له فتمزق إلى قطعتين ألقاهما بعيداً ليرفعها بين ذراعيه ويتجه إلى الأريكة وهي ما زالت بين أحضانه تبادله جنون بجنون.. وتوق بتوق.. فلم يشعرا بالباب الذي فتحته نعمات بهدوء شديد وهي تظن أن رؤوف وحيداً في الغرفة, فأرادت أن تفاجئه بدخولها عليه… ولكن كانت المفاجأة من نصيبها هي… وهي ترى نورا بين ذراعي رؤوف على الأريكة يتبادلان القبل وهما غائبان عن ما حولهما..
استدارت نعمات لتعود من حيث أتت, فيبدو أن الصغيرة هي من كسبت معركة الليلة على أي حال.. ويجب عليها الإعتراف بالهزيمة أمامها.. إلا أن شيطانها أبى عليها أن تتركهما بدون أن تترك ظلالا رمادية على سهرتهما, فعادت لتدخل الغرفة وهي ترمق الجسدان الملتحمان بحقد, ثم أغلقت الباب بقوة فأصدر صوتٍ عالٍ انتفض على إثره رؤوف بينما تجمدت نورا بين ذراعيه.. وهي تسمعه يصيح بغضب:
ـ ما هذااااااااا!!
تظاهرت نعمات بالأسف وهي تقول بحرج مفتعل:
ـ آسفة.. لقد ظننتك وحيداً.. ويبدو أن الباب أفلت من يدي فأُغلق بصوت عالٍ
رمقها رؤوف بعدم تصديق وهو يحرك جسده بسرعة كي تحتمي نورا خلفه ويمد يده ليلتقط ثوب نومها من على الأرض ويعطيه لها.. ثم رفع بصره لنعمات وهو يسألها بغضب واضح:
ـ حسناً لقد أتيتِ لهنا وتأكدتِ أنني لست وحيداً.. فهل تحتاجين شيئاً؟..
لاحظت نعمات لهجته العدوانية والطريقة الغاضبة التي يحدثها بها للمرة الأولى فهمست بصوت مجروح:
ـ رؤوف!!
همسها المجروح أشعل غضب نورا التي كانت ارتدت ثوبها وأخذت ترمقها من تحت أهدابها بغيظ وهي تركتز على كتف رؤوف من الخلف.. فهبت واقفة فجأة مما لفت انتباه رؤوف فقال لها بصوت مسموع:
ـ معذرة يا نورا.. اذهبي الآن وسوف ألحق بكِ بعد قليل..
رمقته بغضب قاتل, فرفع يده ليمسد وجنتها وهو يقول برقة:
ـ لن أتأخر.. فقط أريد نعمات في حديث قصير..
تحركت نورا باتجاه الباب لتعود إلى حجرتها إلا أنها عندما وصلت بالقرب من نعمات التفتت لرؤوف وهي تقول:
ـ روؤف.. لقد نسيت الروب.. هل تتذكر أين ألقيت به؟..
كتم رؤوف ضحكته بصعوبة وهو يتناول سترة بذلته من على ظهر كرسي المكتب ويقترب منها ليلفها بها وهو يقول:
ـ أعتقد أن هذه ستفي بالغرض.. والآن اذهبي..
تحركت نورا بخفة لتذهب إلا أنه استوقفها:
ـ نورا.. أعدي نفسك للسفر إلى الاسكندرية بعد زواج سهير..
رمقته نورا بعدم تصديق وهي تنظر لنعمات بتساؤل.. ففهم ما تريد قوله وأردف:
ـ نحن الاثنان فقط..
قفزت نورا بسعادة وهي تعود لتلقي نفسها بين ذراعي رؤوف وتصرخ بابتهاج.. بينما تجمدت نعمات تماماً وهي ترى المشهد أمامها وتتساءل
“وماذا بعد يا رؤوف؟… هل تعمدت ذكر ذلك أمامي كي تعاقبني؟.. أم حتى أصمت ولا أعترض؟”…
انتبهت أنها اصبحت بمفردها مع رؤوف الذي كان يغلق أزرار قميصه بتكاسل, فقررت الهجوم مباشرة:
ـ لماذا ستصطحبها إلى الأسكندرية؟..
أجاب رؤوف سؤالها بسؤال:
ـ ولماذا لا أصطحبها؟.. لقد ذهبتِ معي مراراً..
أجابته بتلعثم:
ـ نعم.. ولكن ألن يكون هناك الكثير من الأعمال التي عليك متابعتها في الشركة, وخاصة الآن بعد زواج منذر؟..
أجابها في هدوء:
ـ نعم.. وهناك بعض الصفقات التي يجب عقدها بالأسكندرية لذا.. سأضرب عصفورين بحجر واحد..
ـ كم ستغيب؟..
رد بحزم:
ـ نعمات.. ليس هذا ما أردت الحديث معكِ بشأنه.. وأنتِ تعلمين ذلك..
قاطعته بتوسل:
ـ رؤوف..
أسكتها بإشارة من يده وهو يقول:
ـ أنتِ تعلمين جيداً أنه ما كان يصح أن تسجلي ما يحدث في جلسة كلها فتيات وسيدات على هاتفك… تلك أشياء بديهية ولست في حاجة للفت نظرك إليها.
سألته بذهول:
ـ هل رأيت مقطع الفيديو؟
أجاب بحدة:
ـ وهل هذا يهم؟… أم أنه كان من الممكن أن يشاهده أي شخص غيري.. أوحتى أي واحدة من الخدم.. أنتِ أخطأتِ بشدة.. لقد كنتِ ضيفة في بيتهم وهم استأمنوكِ, وأنتِ صورتِ ما يحدث بدون أن تخبريهم, أين كان عقلك؟
كم تمنت أن تصرخ في وجهه..
” كان عقلي معك.. أنت وأحوالك التي تبدلت… ومشاعرك التي أصبحت تجرفك نحو ابنه عمك الصغيرة لتجعلك تفقد احساسك بالمكان والزمان لتتبادل معها المشاعر في غرفة مكتبك حيث من الممكن أن يفاجئكما أي شخص.. يا إلهي كم تغيرت في غضون أسابيع قليلة.. لقد أصبحت أشعر أنك غريب أعرفه للمرة الأولى وليس زوجي للخمسة عشر سنة الماضية”
عادت من حديثها لنفسها على صوته وهو ينهي الحوار:
ـ أرجو أن تنتهي تلك المشاحنات والمشاكسات بينك وبين نورا.. أريد أن يعم الهدوء مرة أخرى… تصبحين على خير..
ثم خرج وتركها وحدها.. تحترق وسط غيرتها وغضبها من تلك الصغيرة اللعوب الذي استطاعت طويه تحت جناحها في غضون أسابيع قليلة..
********************
دخل إلى جناح نورا التي كانت تذرع الغرفة جيئة وذهاباً.. قلقة أن يتسبب احساسه بالذنب الدائم نحو نعمات لأن يصعد معها.. ويتركها هي.. وعند سماعها لصوت باب الجناح الخارجي يغلق.. التفتت بسرعة لتواجهه وهي تهمس:
ـ لقد أتيت!..
رمقها بدهشة:
ـ بالطبع.. لقد أخبرتك أنني سوف ألحق بكِ
كانت تفرك بيديها كعادتها عندما تتوتر… فتقدم منها ليمسك بهما ويرفع ذراعيها حول عنقه وهو يضمها:
ـ والآن.. ماذا كنا نقول قبل أن يتم مقاطعتنا!!
وافقته:
ـ نعم.. قوطعنا بوقاحة..
تمتم بقلة حيلة وهو يميل ليقبلها:
ـ لا حل في لسانك أبداً
*******************
لم يكن حفل زفاف سهير أقل روعة وفخامة عن زفاف نورا.. وكانت العروس كالملاك الناعم بزينتها الهادئة التي تتناسب مع فتنتها الطبيعية وثوب زفافها المذهل بتنورته الواسعة جداً التي تناثرت عليها اللآلئ والماسات الصغيرة في تناغم فني بديع.. وكانت تبدو في أوج سعادتها وهي متعلقة بذراع منذر الذي كان الحب والعشق ينساب مع نظراته لها..
أخذت شموس تتمتم بآيات من القرآن خوفاً عليهما من العين والحسد.. وكذلك قمر وهي ترمق ابنها الأصغر وهو يجلس بجوار عروسه الفاتنة.. فجاءت نورا من خلفهما وهي تقول:
ـ ماذا تفعل أجمل سيدتين في الحفل؟..
التفتت لها عمتها قمر وهي تقول:
ـ نورا.. هل أشرفتِ على كل شيء في جناح العروسين؟
طمأنتها نورا وهي تقول:
ـ لا تقلقي.. لقد رتبت كل شيء تبعاً لأوامرك وأوامر أمي..
تحركت شموس وهي تقول:
ـ يبدو أن سهير تشير لي.. سأذهب لها
تحركت نورا لتذهب مع أمها.. فأوقفتها يد عمتها:
ـ انتظري يا نورا..
سألتها نورا:
ـ هل تحتاجين شيئاً يا عمتي؟..
أجابتها عمتها وهي ترمق معدتها بنظرة ذات مغزى:
ـ هل من أخبار سعيدة؟
توردت وجنتي نورا:
ـ عمتي!!!
سألتها عمتها بتعجب:
ـ لماذا الخجل… إن نظرات ابن أخي تأكلك أكلاً.. وأنتِ أيضاً عينيكِ تتبعانه طوال الحفل.. فمن الطبيعي أن أسأل!!
برمت نورا شفتيها وهي تقول:
ـ عمتي.. ليس هذا وقته.. إنه زفاف منذر وسهير
تحركت عمتها لتذهب لولدها ولكنها همست لها قبل ذهابها:
ـ إذا كنتِ تحملين لابن أخي مشاعر قوية, فلا تترددي في إخباره.. كوني أنتِ البادئة.. أشعريه أنه محبوب لذاته.. لنفسه.. ليس لأنه رجل العائلة اللامع في إدارة شئونها.. وليس لأنه سيحقق حلم امرأة لتكون أماً.. أو من سيوفر وريث للعائلة.. تعلمي من أمك يا ابنة شموس.. إن أباكِ وقف لأول مرة في حياته أمام جدك ورفض تنفيذ أمره من أجل عشقه لأمك… تعلمي كيف تمتلكين مشاعر زوجك..
ثم أردفت وهي تمط شفتيها:
ـ أتمنى أن تكون شقيقتك في مثل بلاهتك وإلا ستستحوذ على ولدي الحبيب منذر!!!
بعد أن تركتها عمتها تسمرت نورا في مكانها وهي مذهولة مما سمعته منها..
وأخذت تتمتم:
ـ ما بهم جميعاً يلقوم بنصائحهم فوق رأسي!!!
التفتت لتذهب لسهير ولكنها التقت بعينين يتأملانها بخبث.. فتعرفت على قاسم ابن عمتها قمر وشقيق منذر الأكبر.. الذي شعرت بعينيه تتابعنها منذ بداية الحفل.. أصابتها نظراته بالقشعريرة والخوف فتحركت عينيها تلقائياً تبحث عن رؤوف حتى وجدته بجانب جدهما.. فتوجهت نحوه مسرعة تحتمي بوجوده بجانبها من تلك النظرات الشريرة..
أحاطها رؤوف بذراعه ما أن خطت بجواره.. فنهره جده بحزم:
ـ رؤوف.. إنك في مكان عام ولست في غرفة نومك!!
كادت نورا أن تلقي ملاحظة لاذعة عن تفكير جدها العتيق إلا أن ذراع رؤوف التي اشتدت حول خصرها قبل أن تتركه حذرتها بأن تحتفظ بلسانها داخل فمها.. فابتلعت كلماتها وآثرت الصمت وهي تسمعه يهمس:
ـ سوف نضطر للسفر بعد الزفاف مباشرة..
سألته بدهشة:
ـ مباشرة!!.. لقد ظننت أننا سنسافر غداً مساء
ـ لقد تغيرت بعض الظروف.. سأخبرك بها لاحقاً
سكتت على مضض لوجود جدهما بجوارهما وهي تقول:
ـ حسناً
********************
أخذت سهير ترتجف بشدة وهي تودع نورا أمام منزل عمتها قمر.. وأمسكت نورا بكفي شقيقتها فوجدتهما قطعتين من الثلج.. فأخذت تفركهما بشدة حتى يسري بعض الدفء فيهما وهي تطمئنها:
ـ ما بكِ يا سهير؟.. اطمئني.. إن منذر يحبك بصدق.. إنه لن يؤذيك أو يضايقك..
أخذت سهير ترتجف بشدة وهي تردد:
ـ إنكِ لا تعلمين شيئاً.. لا تعلمين شيئاً
ذعرت نورا من كلام شقيقتها:
ـ ماذا بكِ يا سهير؟.. ما الأمر
جاء منذر من خلفهما وهو يقول لعروسه:
ـ ألم تكتفي من وداع نورا.. هيا بنا يا حبيبتي
وصعدا معاً درجات السلم وهما يشيرا للجميع حتى وصلا إلى باب جناحهما فرفعها منذر بين ذراعيه وهو يقول بسعادة:
ـ تذكري أن زوجك قد حملك فوق عتبة جناحك
ابتسمت بارتعاش.. وأخفضت رأسها بخجل.. فدخل منذر إلى جناحهما وهو يحملها.. ثم أنزلها برفق وهو يقول:
ـ أخيراً.. أخيراً يا سهير.. أنتِ بين يدي
كانت الرجفة ما زالت تتملك جسد سهير وهي بين يدي منذر, فلاحظ هو ذلك وحاول طمئنتها:
ـ لا تخافي.. أنتِ تعلمين كم أحبك.. وأنني لن أؤذيكِ أبداً
وأخذ يمسد يديها برقة.. فهدأت قليلاً..
حاول منذر أن يقربها منه فابتعدت بخوف.. فقال بهدوء:
ـ اهدئي.. اهدئي يا حبيبتي..
ثم قال بهمس عاشق:
ـ أنا أحبك.. لقد أحببتك منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها وأنتِ طفلة رضيعة بين يدي خالتي شموس.. لقد أخبرت أمي يومها أن خالتي شموس أنجبت شمساً صغيرة.. لها خصلات ذهبية وعينان بلون البحر..
هدأت كلمات منذر من ارتجاف سهير فسكن جسدها قليلاً مما أمكنه أن يقترب منها ويطبع على شفتيها قبلة رقيقة.. عاد ارتجافها للحظة ولكنه ضمها لصدره وهو يهمس لها بكلمات العشق والغزل, فاستسلمت له تماماً حتى حملها بين ذراعيه ليضعها برفق على الفراش.. وهما غائبان في حبهما.. حتى شعرت سهير بيدي منذر تحاول خلع ثوبها عنها.. فلم تشعر بنفسها وهي تصرخ بهيستريا:
ـ كلا.. كلا.. لا تؤذيني.. لا.. تؤذيني…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية قيد القمر) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.