رواية عهد الدباغ الفصل الرابع 4 – بقلم سعاد محمد سلامة

رواية عهد الدباغ – الفصل الرابع 4

بالنادي الرياضي
داخل مربع من الزجاج،
صوت ارتداد الطابة الصغيرة وهي ترتطم بجدار الزجاج، يتردد صداه مع كل ضربة مضرب عنيفة، وصوت “الإسكواش” يملأ القاعة… ثم ساد الصمت لحظة، لحظة إعلان فوز يارا…شعرت بزهو، سُرعان ما نظرت للمنافس الآخر الذي دخل الى المربع لم تهتم وشعرت بغرور على يقين فى المكسب… بدأت مباراة أخرى لكن لم يستمر الحظ، أو بمعني أصح لم يتنازل المنافس عن براعته ويجعلها تفوز مقابل مزايا أخرى مثل الحصول على رضائها … كانت الهزيمة صعبة عليها وسهلة جدًا عليه فهو مُتمرس…
بينما يارا وقفت تلتقط أنفاسها بصدرٍ يعلو ويهبط غيظًا، تبتلع مرارة الخسارة
تقدّمت ببطء نحو الجدار الزجاجي، لمست السطح البارد بيديها كأنها تُحاكمه على انكسار عزيمتها، انعكس وجهها المتعب في الزجاج، مزيج من الكبرياء والخيبة… خلفها، ارتفع صوت بعض المُشجعين ضاحكًا ، فشدت يارا قبضتها على المضرب، غيظها يغلي في عروقها أكثر من العرق الذي يغمر جبينها.
تنفست بعمق، رفعت رأسها بثبات،
ثم التقطت الطابة من الأرض، أغلقت أصابعها حولها بقوة، كأنها تُمسك بوعد جديد بينها وبين نفسها… بينما الآخر نظر لها بنظرات إعجاب، مد يده لمصافحتها قائلًا:
حظ موفق الماتشات الجاية
توقف للحظة ثم إستطرد حديثه يُعرف نفسه لها:
“نديم الجنايني” بطل مصر فى الإسكواش، وتاني العالم.
نظرت نحو يده الممدودة بغرور وتعالي، للحظات قبل أن تمد يدها لمصافحته قائلة بغرور:
معنى كده إني كنت بلاعب بطل عالمي، خِسرت قدامك بنتيجة متقاربة، يعني خسارتي تعتبر مكسب…
أنا “يارا محي الدين الدباغ”
لمعت عيناه بإعجاب لا يستطيع إنكاره رغم شعوره أنها مُتعالية، لكن
ابتسم ابتسامة خفيفة، مزيج بين الإعجاب والتحدي، قائلًا بنبرة واثقة:
واضح إن عندك ثقة بنفسك أكتر من بعض اللعيبة المُحترفين اللي كسبوني قبل كده.
رفعت حاجبها بتحدٍ ساخر، ومسحت بظهر يدها عرق جبينها وهي تتحدث بغرور:
الثقة مش غرور يا كابتن، دي إيمان بقدراتي… وده اللي بيخلي الخسارة عندي مش نهاية، بس بداية لجولة تانية.
ضحك بخفوت، نظر إليها وهو يجمع أغراضه قائلاً:
واضح إن الجولة التانية هتكون نارية… وأنا مستنيها.
رمقته بنظرة حادة كأنها تُعلن الحرب، ثم قالت بثقة:
خليك مستعد، المرة الجاية مش هاسمحلك تكسب.
غادر الملعب بخطوات ثابتة، دون مبالاة… بينما ظلت يارا واقفة في مكانها للحظات، تُراقب انعكاس صورتها في الزجاج مرة أخرى…لأول مرة تشعر بهذا الشعور أن لا تكون محل مدح من أمامها، ذلك المغرور، فاقها فى التعالي حين غادر غير مُباليًا… تحدي دخل الى عقلها لابد لذلك المُتباهي أن يعلم أنها تكون يارا إبنة “محي الدين الدباغ”.
❈-❈-❈
في منطقة شعبية مجاورة للغورية،
داخل منزلٍ قديم في الطابق الثاني…
كانت تجلس على أريكة صغيرة في ردهة ضيقة، تُحاول أن تُخفي إرهاق يومها بابتسامةٍ باهتة رسمتها لوالدتها التي وضعت أمامها صينية صغيرة، عليها كوبان من الشاي وثالثة مملوءة بالماء… ثم جلست بجوارها، وضعت كفها على فخذها برفق قائلة بنبرة يغلب عليها الجشع:
لو كنتِ جيتي بدري شوية كنتِ اتغديتي معايا أنا وأبوكِ،
مطبختش النهاردة، كان عندنا شوية طبيخ بايت اتغدينا بيهم وخلصوا،
وقلت لأبوكِ وهو راجع بالليل يجيب فول وفلافل نتعشى بيهم…
إنتِ عارفة إن مفيش غيري أنا وهو، بنقضيها بأي حاجة تسد الجوع…
بقينا من بعد ما اتجوزتوا إنتِ وأختك،بنقضيها أي حاجة.. كأننا زهدنا في الأكل،
ولا بقى لينا نفس في حاجة.
ابتسمت رابيا بخفوت، تحرك الملعقة في كوبها دون تركيز
تتأمل بخار الشاي المتصاعد ، تشعر بعدم رغبة في شيء فقط تود الصمت، لكن حدثتها والدتها:
ها قوليلي أخبارك إنتِ ومحسن إيه، مجبتيش البنت معاكِ ليه دى وحشاني أوي.
تنهدت رابيا بغصة وتحدثت بخفوت:
محسن بخير الحمدلله، والبنت شبطت فى عمتي مرضتش تجي معايا.
لاحظت والدتها عبوس وجهها كذالك نبرة حديثها المغصوصة.. فسألتها بإستفسار:
طب الحمد لله يارب دايمًا تبقوا بخير، بس مالك
ومالك وشك زعلانه، إيه اللى مضايقك.
نهضت رابيا تحمل كوب الشاي بين يديها تشعر ببرودة تستمد من ذلك الكوب بعض الدفئ ليديها تنظر للا شئ، تشعر بضياع وهي تُجيب والدتها:
مضايقني حياتي مع محسن، حياة جافة مفيهاش روح ولا مشاعر.
تهكمت والدتها بسخط:
مفيهاش روح ولا مشاعر، وبنتك والتانية اللى فى بطنك دي كمان حِبلتي فيها إزاي.
نظرت رابيا لولدتها بعينين غائمتين بالدموع قائلة:
مشاعر فاترة، مفيش إحساس، كأنها واجب مفروض عليه، نفسي أحس منه بشوية لهفة، يقولى كلمة، حتى لو كلمة عتاب، لكن زي اللى بيأدي مهمة ولما هتخلص يبعد عنها، عارفة نفسي أحس منه بشوية إهتمام، أنا لما بشوف عمتى وجوز عمتي، رغم مرور أكتر من تلاتين سنه على جوازهم، بس فى شغف متبادل بينهم بيظهر فى عيونهم أول ما بيشوفوا بعض، بسمته لها، وهو كمان رغم بيبقي تعبان طول اليوم بس بيبصلها ببسمه، … عكس محسن، بحس إن وشه بيتغبن لما بيبص لى..
بحس بوجع فى قلبي..
توقفت رابيا سالت دمعة عينيها ثم تحدثت بندم:
أكيد السبب هو طريقة جوازنا مكنش لازم أطاوعك وأنفذ االى قولت لى عليه وقتها، يمكن…
قاطعتها والدتها بحِدة قائلة بتعسُف:
يمكن إيه… كان زمانك متشحتفه عليه وهو إنتِ ولا فى دماغه…اللى عملته هو اللى غصب عليه يتجوزك… إنتِ اللى خايبه مش عارفة تميليه ناحيتك، إتعلمي من عمتك، وشوفي نحنحتها وكُهنها وإتعلمي منها، وقتها هيلين في إيديك.
بدموع تهكمت رابيا قائلة بيأس وندم:
تفتكري محاولتش مع محسن، بس هو قلبه مقفول من ناحيتي، كتر خيره، لو واحد غيره مكنش بطل فيا معايرة…يمكن سكوته أرحم من إنه يقول كلام يوجعني.
نظرت لها والدتها وزفرت بغضب قائلة:
بناتي الإتنين خايبين واحدة إتجوزت واحد موظف فى التأمينات بمرتب ميكفيش اكل أسبوع…والتانيه فى إيديها النعمة ومش عارفة إزاي تحوط على جوزها.
غص قلب رابيا قائلة بامنية:
ياريتني زي أختي وجوزي بيحبني زيها وأعيش معاه عالحسيرة،ولا إني اشوف فى عنيه ندم ولا مشاعر جافة تنشف القلب.
❈-❈-❈
بشقة توفيق
ذُهل كل من إجلال كذالك محي قائلًا بإندهاش:
عهد مخطوبة.
فسر له توفيق:
مش مخطوبة بمعني الكلمة، بس إبن خالتها طلب إيدها من شهر تقريبًا وهي وافقت، والموضوع مش سري بس خطيبها مسافر دبي، بيشتغل مبرمج فى شركة برمجة هناك، والاتفاق كان فى الصيف هنعلن الخطوبة بحفلة.
نظر محي لـ إجلال هزت رأسها بموافقة.. لاحظ توفيق وميرفت ذلك تنحنح محي فلقد شعر بالكسوف قائلًا:
يبقي ناخد فرح لـ فاروق.
تبسم توفيق قائلًا:
طبعًا يشرفني نسبك يا حج محي، كمان فاروق انا أتعاملت معاه مرات قليلة لاحظت فيه الطموح والأخلاق… بس إنت عارف الأصول الرأي رأي فرح لازم أخد رأيها زي أختها.
أوما له محي بتوافق.
بعد قليل غادر محي وإجلال..
دلفن عهد وفرح الى الغرفة… تبسم لهن نظر نحو فرح قائلًا:
تعالي يا فرح إقعدى جنبي.
جلست فرح لجواره، وضع يده على كتفها قائلًا:
بدون مقدمات
فى موضوع عاوز قرارك فيه… بصي الحج محي ومراته كانوا هنا النهاردة..طلبوا إيديك لـ فاروق إبنهم… ها إيه رأيك.
صمتت فرح تشعر بالخجل كذالك نبضات قلبها تتسارع.
-إيه رأيك.
قالتها ميرفت.
تنهدت عهد لوهلة كادت تعترض لكن سبقتها فرح قائلة بخفوت:
اللى تشوفه يا بابا.
ردها معناه القبول كادت فرح أن تعترض، لكن لاحظت لمعة عيني فرح كذالك تعلم خِصالها جيدًا… لم تُفاجئ بإعجاب فرح بذلك المدعو “فاروق” فهذا كان واضحً مهما حاولت إنكار ذلك… هي ليست تعسُفيه، ربما فرح ترا فيه فتي أحلامها، فصمتت، بينما إبتسمت ميرفت قائلة بمكر:
اللى تشوفيه إنتِ مش باباكِ هو اللى هيعيش مع فاروق، قولى قرارك.
إبتلعت فرح ريقها قائلة بخفوت:
موافقة.
ابتسم توفيق وضمها لصدره بأبوه وضع قُبلة فوق رأسها قائلًا:
طول عمرك خجوله عكس عهد لما قولت لها على طلب خالتك… قالت موافقة يا بابا مباشر.
ضحكت فرح قائلة بمرح:
عشان عهد معندهاش حيا يا بابا.
ضحكت ميرفت تؤكد ذلك، كذالك هزة رأس توفيق بتوافق، عبست ملامح عهد قائلة بإعتراض مرح:
مش قلة حيا طبعًا… بس أنا مش بحب المُحن ولا التردد.. بأخد القرار حتى لو غلط انا اللى هتحمل نتيجته… بس ربنا يخلي بابا، دايمًا مش بخاف عشان هو ورايا.
فتح توفيق ذراعه الاخرى فنهضت عهد من مكانها وجلست جواره ضمهن بين ذراعيه بأبوه قائلًا:
ربنا يبارك لى فيكم ويسعد قلوبكم.
❈-❈-❈
بأحد المطاعم الفاخرة كان يجلس مع أحد العملاء يتحدث عن صفقة لكن ليس كعادته ينهمك فى العمل ولا يهتم بأي شيء آخر لكن اليوم يود إنهاء العمل والعودة الى المنزل…
وها هو سريعًا إنتهي من ذلك اللقاء وغادر متوجهًا الى المنزل، بوقت قياسي… ترجل من السيارة ودخل الى داخل المنزل… بنفس الوقت كان وصول والديه، تبسم لهما.. شعرت إجلال بالآسف فيبدوا أن لديه مشاعر إتجاه عهد كما توقعت،فسابقًا عرضت عليه الزواج كان يُماطل لكن حين فاتحته بالأمس أبدى مواقفة وبالأخص حين ذكرت له إختيار بين
عهد و فرح…إختار عهد…
تنهدت بآسف… نظر محي لـ فاروق قائلًا بإستفسار حول العمل:
خلصت الصفقة مع العميل.
أومأ فاروق برأسه قائلًا:
خلصتها وبالسعر اللى إتفقنا عليه.
ابتسم محي قائلًا:
طول عمرك شاطر وعندك قدرة على الإقناع… رجل أعمال ناجح.
توقف وتنهد بآسف بين نفسه هامسًا لنفسه:
بس باين مقولة”الشاطر سعيد الحظ فى العمل قليل الحظ فى الحب”.
أشار له بالجلوس، فجلس مُترقبً… يود معرفة نتيجة زيارة والديه…
لحظات يتحمل الى أن تفوهت إجلال:
إحنا لما كنا فى بيت عمك توفيق، وزي ما إتفقنا إمبارح، أبوك فتح الموضوع، بس فى مفاجأة إحنا مكناش نعرفها.
صمتت إجلال تتبادل النظر بين محي وفاروق…ثم قالت مباشرة:
عهد مخطوبة لابن خالتها.
صدمة… أذهلت فاروق عاود السؤال:
مين اللى مخطوبة… عهد!
بس دي مش لابسة دبلة.
أجابه محي بتفسير:
أنا ومامتك إنصدمنا كمان، بس توفيق قال إنها مخطوبة وخطيبها فى دبي ولما ينزل أجازة هيعملوا حفلة خطوبة رسمي.
شعر فاروق بارتباكٍ مفاجئ، كأن الأرض انسحبت من تحت قدميه للحظة، لكنه سرعان ما استعاد تماسكه، رفع حاجبه متسائلًا ببرود مصطنع:
خطيبها.. من إمتى الكلام ده.
أجابه محي:
من شهر كده، توفيق قال إن ابن خالتها طلبها رسمي ، ولما ينزل يعملوا الخطوبة.
ظل فاروق صامتًا، نظراته زائغة، كأن ذلك الخبر صفع قلبه.. مشاعر غير قادر على تفسرها.
قاطعت إجلال شرود بنبرة محسوبة:
بس تعرف يا فاروق… انا من الأول مكنتش بحبذ عهد، وباباك إتحرج وكلمه على فرح.
رفع فاروق عينيه نحوها بصدمة دون فهم، فتابعت بابتسامةٍ هادئة:
فرح هادية وعاقله… بصراحة كده أنا ومحي شايفينها أنسب لك
تبادل النظرات مع والديه في صمتٍ مذهول، ثم تحدث ببطء:
فرح!
ابتسم محي مؤكدًا:
أيوه يا ابني، البنت هادية، محترمة، وكلها أدب.
سكت فاروق لحظة، زفر أنفاسه ببطء قائلًا:
موضوع محتاج تفكير يا حاج.
لكن داخله كان عاصفًا… لا يرى في ذهنه إلا وجه عهد، ونظرتها يوم تقابلا آخر مرة… تنفس بقوة قائلًا بتسرُع:
وأنا مستحيل أخذلك يا بابا، أنا موافق على فرح.
نظر له محي قائلًا:
مش حكاية تخذلني… ده حياتك إنت، كمان إحنا مخدناش رد من توفيق قال هيسأل فرح، يمكن تجي من عندهم وميبقاش فى نصيب.
أجابه فاروق بتحدي:
هتوافق، وأنا كمان موافق، حدد معاهم ميعاد للخطوبة ولو جواز يبقي أفضل، حضرتك عارف، إني مش فاضي لفترة خطوبة.
إعترضت إجلال:
بس…
قاطعها فاروق بعناد:
مفيش بس يا ماما زي ما قولتِ كل شئ قسمة ونصيب، وانا مكنش فى دماغي واحدة محددة، عهد من فرح مش هتفرق الإتنين زي بعض عندي…
توقف ثم نهض قائلًا:
عندي شغل مهم لازم اتابعه… والموضوع ده خلاص منهي بالنسبة لى مش هتفرق كتير…اي واحدة فيهم… همشي أنا عندي شغل مهم.
غادر فاروق… بينما نظرت إجلال لـ محي قائلة:
زي ما توقعت فاروق كان عاجبه عهد أكتر من فرح.
تنفس محي بآسف قائلًا:
واضح جدًا، بس ده النصيب… كمان لسه قرار توفيق وبنته، ياريت تجي منهم ويرفضوا… لاول مره أبقي عاوز الرفض يجي من عندهم.
نظرت له إجلال بدهشة:
إنت بتقول إيه يا محي.
أجابها وهو يمرر كفه على وجهه بتعب:
أيوه، عاوز أسيب القرار في إيد القدر… فاروق بيكابر على نفسه، الصدمة خلته مش عارف هو عاوز إيه… هو وافق على فرح عِناد.
أخفضت إجلال رأسها في صمت، ثم قالت بنبرة أمٍّ يختلط فيها الخوف بالحنان:
مش يمكن تكون فرح بالنسبه له أفضل من عهد… أنا إتعاملت مع الإتنين… عهد مندفعه كمان شعنونه.. لكن فرح هادية وعاقله… ودي الشخصية اللى تناسب فاروق أكتر.
أومأ محي موافقًا، ثم تمتم بصوت خافت كأنه يكلم نفسه:
أنا كمان شايف كده، بس خايف نكون بنظلم الإتنين، ونبقي بنعيد حكاية
محسن ورابيا.
نظرت له اجلال بنفي قائلة:
مالهم محسن ورابيا… تفتكر محسن لو مش عنده قبول لـ رابيا كان جوازهم إتحمل خمس سنين، وفرح مش زي رابيا ولا فاروق زي محسن… بلاش نتشائم، مش يمكن أختيار القدر هو الأفضل.

بإستطبل الخيل
إمتطي فاروق إحد الخيول… هرول به فى المضمار بسرعة كبيرة، يلفح الهواء البارد وجهه يشعر كانه لسعات ساخنه تُصيب قلبه، يحاول نفض رأسه عن التفكير، مضي وقت، شعر بإرهاق الجواد، توقف وترجل من عليه، وقف ينظر امامه،لكن هنالك خيال عاد لرأسه،إصابة عهد هنا،حديثها الجاف،اعاد برأسه عدد مرات لقائهم…طريقة حديثها معه كانت جافة…هو كان يظن أن ذلك دلال منها ،لكن هي كانت طبيعتها الخاصة…
إذن لا داعي للتفكير كثيرًا… فربما ما يكنه لها كانت فقط مشاعر إعجاب، وإنتهت من الآن… هو ليس الشخص التى تُسيطر عليه مشاعر قلبه، أو بالاصح مشاعر عابرة.
❈-❈-❈
بعد مرور أيام
كان رد توفيق بالموافقة على عرض محي، وتم تحديد موعد للخطوبه أو بالأصح
خطوبة وعقد قران…معًا
وها هو اليوم الذي تم تحديده لـ عقد قران فاروق و فرح.
صباحً
بمنزل محي
بغرفة الرياضة
كعادته حين يكون هنالك أمرًا يؤرق تفكيره… وهل هنالك أمر أكثر أرقًا من عقد قرانه مساء اليوم
خلف إحد الاجهزة الرياضية
رفع يده يجفف العرق عن جبينه، بينما عينيه مُعلقتان في الفراغ كأنه يبحث عن إجابة وسط ضجيج الصالة الخافت…
منذ أن استيقظ وهو يشعر أن اليوم أثقل من طاقته… ليس خوفًا، بل مزيج غامض بين القلق واليقين، بين الرغبة في الإقدام والتوجس مما سيأتي.
سمع خطوات تقترب خلفه، وصوت مألوف يقول بنبرة مازحة:
يا ملك ريح شوية، ده مش وقت رياضة عنيفة ترهق جسمك، ده وقت المفروض تجهز نفسك لكتب الكتاب.
التفت فاروق، ابتسم بفتور قائلًا:
بنشط جسمي، بقالي فترة كنت مهمل التمارين.
جلس محسن على مقعد قريب، نظر إليه بتفحص قائلاً:
واضح إنك مش مقتنع مية في المية، ولا أنا غلطان
صمت فاروق، شد أنفاسه، ثم تحدث ببطء:
مقتنع مش مقتنع مبقتش تفرق…خلاص نفد وقت التراجُع… وساعات اللي مش مقتنع بيه بيكون الأفضل.
هز محسن رأسه بتفهُم، قائلًا وهو يتأمل انعكاسهما في المرآة الكبيرة أمام الأجهزة:
طبيعي تخاف، الجواز مش تمرين يومي… ده قرار عُمر يا فاروق، ممكن عقوبة… كان نفسي تدى لنفسك وقت للتفكير أكتر.
ضحك فاروق بخفوت وهو يُمسك زجاجة المياه:
قرار عُمر… ولا عقوبة مؤبدة… كله واحد
بنفس الوقت دلف محي الى الغرفة وسمع حديث فاروق
رمقه بنظرة جانبية وتحدث بعتاب خفيف:
قول كلام غير كده، فرح بنت محترمة، ومامتك فرحانة بيها كأنها بنتها وتعرفها من سنين… واثق إنك مع الوقت هتقول كان أحسن إختيار
جذب فاروق قنينة مياة وشرب منها وضع القليل فوق رأسه ثم عبث بغطاء الزجاجة بين أصابعه قائلًا بصوت أقرب للهمس:
أنا مش بزهد فيها يا بابا، بالعكس…
ساد صمت قصير، وهو يرفع نظره نحو المرآة، يرا حالة شعره المبعثر، هو داخيًا هكذا مُبعثر..
قطع محي الصمت بنبرة حازمة:
العروسة اسمها فرح. يمكن الاسم يكون بشارة خير.
ابتسم فاروق قائلًا:
وإحنا كلنا مستنيين الفرح ده، مش بس بالاسم.
تبسم محسن بأمل قائلًا:
طب كفايه بقي تمارين، روح خُد دوش وخلينا نلحق نحضر نفسنا قبل ما ماما تقلب عليك الدنيا.
ضحك فاروق، كذالك محي وكنان الذي دلف وألقي حقيبة ملابسه أرضًا قائلًا:
وصلت قبل كتب الكتاب أخيرًا هشوف عروسة “الملك”
دي تاخد وسام وخمس نجوم، أنها أقنعته يدخل القفص.
كانت بسمة فاروق باهته.. كذالك محسن الذي حاول أن يجعل فاروق يتراجع كي لا يعيش حياة باردة وجافة مثله.. لكن يبدوا أن النصيب هو صاحب القرار دائمًا.
❈-❈-❈
بمنزل توفيق
كانت التحضيرات الاخيرة
زي العروس المناسب، لكن كانت المفاجأة لـ عهد حين دلفت الى الغرفة… نظرت بإنبهار لـ فرح قائلة:
الحجاب عليكِ يجنن… مين اللى أختار ليكِ الفستان ده…وصل إمتى وانا مشفتوش…ده فستان روعة.
أجابتها فرح:
بجد الفستان حلو والحجاب لايق عليا.
أجابتها بتأكيد:
ده روعة… ده ممكن اللى إسمه فاروق يقولك مش بس كتب كتاب، لاء انا هاخدها معايا… والله إنتِ خسارة فيه، بس نقول إيه، القلب ما يختار بقي، اوقات بيعمي النظر.
ضحكت فرح قائلة:
مش عارفة ليه واخدة موقف من فاروق مع إنه شخص لطيف.
-قصدك سخيف.
ضحكت فرح قائلة بعتاب:
لاء طبعًا ومن فضلك بلاش الكلام بالطريقه دي ده “الملك”.
ضحكت عهد قائلة:.
قصدك الملك المخلوع.
نظرة عتاب من فرح.. ضحكت عهد وهي تضمها قائلة:
خلاص هتحمل سخافته عشان خاطرك… بس قوليلي من اللي أقنعك بالحجاب كمان الفستان ده إختيار مين.
اجابتها:
فاروق اللى أقنعني إن الحجاب زينة المرأة واللى بعت الفستان ده وكل مستلزماته طنط إجلال، وإتصلت عليا، وقالت لى إن فاروق هو اللى إختار الفستان… ذوقه حلو أوي.
ابتسمت عهد بتوافق قائلة:
هو هيبدأ يفرض أوامره عليكِ،خلي لنفسك شخصية قدامه.. بس مقدرش أنكر
طبعًا ذوقه حلو والدليل إنه إختارك. نشن مظبوط… ربنا يهنيكِ يارب.
ابتسمت فرح بسعادة قائلة:
مش بيفرض عليا، أنا كنت عاوزة البس الحجاب من فترة بس كنت متردده وهو شجعني…
وإنت كمان خطيبك هينزل قريب وهتبقي أحلى مني.
عارضت عهد قائلة:
لاء أنا هتبقي خطوبة بس مفيش كتب كتاب قبل ما أخلص دراسة وأشتغل كمان…أحب أبقي شخصية مُستقلة…قبل شخصية مسؤولة.
ضحكت فرح قائلة:
الله يكون فى عونه،بأفكارك اللى فى دماغك،أوقات بحس إن خالتو بتدعي على إبنها إنك تكوني من نصيبه ده أكبر مشكلة فى حياته.
نظرت لها عهد بعتاب مرح فضحكن الإثنتين معًا بنفس الوقت.
دلفت عليهن ميرفت نظرت الى فرح سهمت لدقائق تتمعن النظر لها وتدمعت عينيها ثم ضمتها بحنو قائلة:
بسم الله ما شاء الله قمر والحجاب زادك جمال فوق جمالك.
نظرت لهن عهد بمرح قائلة:
أما أشوف هاخد حضن وشوية دموع زي دي يوم خطوبتي،ولا أنا ماليش غير فى الزعيق بس.
ضحكن الإثنين وتفوهت ميرفت بمرح:
دا أنا هقوله خدها معاك،وربنا يصبرك على ما بلاك..كل واحد يتحمل نتيجة إختياره.
لوت عهد شفتيها بإعتراض فضحكن عليها.
❈-❈-❈
مساءُ
حفل بسيط بشقة توفيق إختصر على العائلتين فقط
جلست فرح هادئة، تشعر بالخجل ينصهر وجهها احمرارًا زادها جمالًا فوق جمالها.. في الحقيقة، هي أجمل من عهد… كذالك خجلها الدائم وهدوؤها يُضيفان عليها وقارًا رقيقًا يأسر الأنظار…
كانت تشعر بنبضات قلبها تتعالى، خفقان متلاحق يكاد يجعل صدرها يتراقص في تلك اللحظة، منذ أن تقابلت بعيني فاروق للمرة الأولى، وشيء ما داخلها تغير… كأن قلبها، الذي كان مطمئنًا منغلقًا، فُتح فجأة على مشاعر لم تعرف لها وصفً.
رفع فاروق نظره نحوها ابتسم ابتسامة صغيرة لم تدم أكثر من ثوانٍ، لكنها كانت كافية لتبعثر هدوءها تمامًا… خفَضَت بصرها سريعًا ، تُخبّئ ارتباكها في محاولة يائسة لتبدو متماسكة.
وفي تلك اللحظة،إنحنت أمامهما عهد بصنية عليها كأسين وتبسمت بصفاء ودفئ قائلة:
ألف مبروك.
نظر فاروق نحوها وتلك الابتسامة الصافية على وجهها شعر بإستفزاز…لكن تجاهلها… وهنالك شعور غريب… يشعر به نحو فرح دفء خفيف يسرى في صدره، لم يشعر به من قبل. ربما كانت هي فقط، بوجهها الهادئ وعينيها الموشحتين بالخجل، السبب في هذا الاضطراب الجميل الذي اجتاحه دون إنذار.
بعد وقت إنتهي عقد القران
انفضّ الجمع تدريجيًا بعيدًا عن العروسين.. وبدأت الأحاديث تخفت شيئًا فشيئًا، حتى لم يبقَ سوى فرح وفاروق معًا فقط بالغرفة.. . كانت فرح ما تزال تجلس في مكانها، أصابعها تعبث بطرف فستانها بخجل،
التفت فاروق نحوها، تردد قليلًا قبل أن يخطو خطوة خفيفة باتجاهها،جذب كأس العصير وجهه نحوها قائلًا بنبرة صوت هادئه ودافئة:
إتفضلي.
رفعت نظرها نحوه بتردد، ارتبكت قليلاً وأخذت الكأس من يده تهمس وهي تبتسم بخجل قائلة:
شكرًا .
ارتشفت القليل ثم وضعت الكأس على المنضدة.. ثم
ساد صمت قصير بينهما، لكنّه لم يكن صمتًا مزعجًا، بل مفعمٌ بشيءٍ لطيف،
تنحنح فاروق في محاولة لكسر التوتر قائلًا: الحفل كان بسيط، بس حلو… يمكن البساطة بتخلي الحاجة تبقى أصدق.
ابتسمت فرح وهي تهمس:
أيوه… البساطة بتخلي كل حاجة تحسها قريبة من القلب.
تبادلا نظرة قصيرة، ثم سرعان ما صرفت عينيها في خجل، لكن تلك اللحظة الصغيرة كانت كافية لتزرع بينهما بذرة وِد خفية وهادئة… تمامًا كالحفل الذي جمعهما.
بعد قليل
دلف كل من عهد ومعها كنان يبتسمان وهما يتحدثان، بود.. نظر فاروق نحو عهد وطريقة حديثها مع كنان، كانت لطيفة عكس حديثها الجاف معه دائمًا .. تبسم بتكلف خفيف كمن يُخفي امتعاضه، وكأن شيئًا ما في صدره ضاق دون إذنٍ منه… تابع نظراته نحوهما، يراقب كيف تضحك وهي تميل برأسها قليلًا، وكيف يبادلها كنان ذلك الحديث المازح…
انقبض قلبه رغم محاولته التظاهر باللامبالاة، فابتسم مجددًا ابتسامة باهتة وأدار وجهه نحو فرح ك يبحث عن شيء آخر يشغله… لكن عيناه خانتاه، فعادتا تتسللان نحوها دون وعي..لكن سُرعان ما حايد النظر لها وركز نظره مع فرح…مُنهيًا قصة لم تكُن لتبدأ،فأمامه
بداية أخرى.. تستحق نقطة ومن أول السطر في بداية حكاية… يعلم أنها ستُغير كل شيء مستقبلًا.

يتبع.. (رواية عهد الدباغ) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق