رواية حين يزهر القلب الفصل الأول 1 – بقلم نسرين بلعجيلي

رواية حين يزهر القلب – الفصل الأول

الحلقة الأولى: صدفة في السماء
كانت الساعة السادسة صباحًا، والبرد في مطار القاهرة قارس لدرجة خلاها تشد شالها أكتر حوالين كتفيها.
المطار مزدحم: أطفال بيعيطوا، مسافرين بيتجادلوا عند بوابات التفتيش، وأصوات الميكروفون تعلن عن رحلات باللغات كلها.
ليلى مسكت جوازها وتذكرتها بقوة، وكأنها لو سابتهم هتضيع معاهم حياتها كلها.
خطواتها بطيئة، لكنها ثابتة.
في عينيها ظلّ تعب السنين، جروح عمر مش قليل. أربع وأربعون سنة مضت، وها هي على مشارف الخامسة والأربعين، تدرك إن الحياة مشيت أسرع من اللي كانت متخيلة.
“يا ترى لسه في فرصة؟ ولا خلاص العمر جري؟” تساؤل داخلي كانت بتقاومه دايمًا، لكنه بيرجع يطاردها كل مرة تسافر.
بعد طابور طويل مرهق، وصلت للبوابة. الموظفة ابتسمت لها ابتسامة روتينية وختمت التذكرة.
دخلت الطيارة، ريحة المقاعد والجو المغلق اللي بيجمع بين مئات الروائح المختلفة.
مقعدها كان بجانب النافذة. وضعت شنطتها الصغيرة تحت الكرسي، جلست، وأغمضت عينيها لحظة تحاول تلتقط أنفاسها.
سمعت صوت خفيف عند كتفها:
– “عفوًا… الكرسي ده فاضي، صح؟”
فتحت عينيها، ورفعت نظرها، وهناك كان واقف.
راجل في بداية الخمسينات، طويل القامة، شعره أسود تتخلله خصل بيضاء أنيقة، عيناه بنيتان عميقتان، فيها حزن قديم لكن مغطى بابتسامة دافئة.
قال بابتسامة خفيفة:
– “واضح إني هزعجك الرحلة دي.”
ابتسمت بخجل:
– “اتفضل.”
جلس بجانبها، وبعد ما استقر مد يده:
– “أنا كريم.”
ترددت لحظة، ثم مدت يدها:
– “ليلى.”
ضغط على يديها بخفة، نظرة عينيه ثابتة وهادية… كأنها بترسل طمأنينة ما توقعتش تلاقيها.
الطيارة أقلعت، المحركات بتدوي، ووجوه الركاب بين الدعاء والصمت والتوتر.
ليلى شبكت أصابعها ببعض، وابتلعت ريقها ببطء.
التفت لها كريم وسأل:
– “بتخافي من الطيران؟”
ابتسمت وهي تحاول تبين ثبات:
– “مش بخاف… بس اللحظة دي مش مريحة.”
– “أنا العكس… اللحظة دي بتفكرني إن لسه في فرصة الواحد يبدأ من جديد.”
نظرت له بدهشة، كأن كلماته لامست جزء من روحها.
– “تبدأ من جديد؟ بعد ما عدى العمر؟”
ضحك بخفة:
– “هو العمر له ميعاد صلاحية؟ بالعكس… بعد الخمسين، بقت عندي الشجاعة أعيش اللي ضيّعته زمان.”
سكتت لحظة، وابتسمت:
– “كلامك غريب… بس حقيقي.”
الوقت مرّ، والطيارة في السماء. بين السكون وأصوات الأطفال، بدأوا يتكلموا.
هي حكت له عن حياتها: عن تجربة زواج فاشلة تركت فيها جرح مش سهل، عن أمومتها اللي خلتها تنسى نفسها، عن شغلها اللي كان الملجأ الوحيد من الفراغ.
هو حكى عن زوجة تركته من سنين، وعن أولاد كبروا وهاجروا وخلّوه يواجه الوحدة. حكى عن خيانة صديق قديم، وعن سنين من الهروب في الشغل والسفر.
كل كلمة بينهم كانت بتفتح باب جديد.
كانوا بيضحكوا أوقات، وأوقات تانية بيبصوا للفراغ وكأنهم شايفين الماضي بيرجع يتكرر قدامهم.
ليلى حسّت إن كريم مش غريب… حسّت إنه مر بنفس أوجاعها.
أما هو، فشاف في عينيها نفس التعب اللي جواه… لكنه برضه شاف قوة وشجاعة كان فاقدها من زمان.
الطيارة بدأت تنزل، أضواء المدينة ظهرت من تحتهم زي ملايين النجوم الصغيرة.
كريم التفت لها وقال بابتسامة هادية:
– “رحلة قصيرة، بس حسيت إني عرفتك من زمان.”
ضحكت بخجل، قلبها يدق أسرع مما توقعت:
– “يمكن الصدفة ساعات تجمع ناس كان لازم يتقابلوا.”
وقفوا عند باب الطيارة بعد الهبوط. لحظة صمت قصيرة، بس العيون قالت أكتر من الكلام.
وهي ماشية بعيد، التفتت لورا مرة أخيرة. لقت عينه لسه بتدور عليها بين الزحمة.
ابتسمت لنفسها، وهمست:
“يمكن لسه في عمر للقلب يزهر من جديد.”
بعد ما وصلت الفندق، وقفت قدام المراية في أوضة صغيرة مطلة على شارع جانبي في باريس.
رمت شنطتها على الكرسي، شالت الشال من على كتفها، لكن وشها كان متوهج… مش من البرد، من الإحساس اللي ماقدرتش تفسره.
فتحت شنطة صغيرة فيها عطرها المفضل، حطّت نقطة على إيدها، وجلست على طرف السرير.
لكن قلبها مشغول:
“إيه اللي خلاني أفكر فيه كده؟! إحنا غرباء… ليه حسيت إن كلامه كأنه بيخصني أنا بالذات؟”
حاولت تفتح كتاب كانت جايباه معاها، لكن عينيها ما ركزتش في ولا كلمة. كل صفحة كانت بتتحول لصورته. ضحكته، نبرته، وحتى السكوت اللي بين جملة وجملة.
أطفأت النور، تمددت على السرير، بس بدل النوم، فضلت تتقلب طول الليل.
في نفس الوقت، كان كريم راجع شقته المستأجرة في قلب باريس. شقة قديمة في بناية حجرية، فيها صالون صغير وشرفة تطل على الشارع.
أول ما دخل، رمى معطفه على الكنبة، فتح زجاجة مية، وجلس في العتمة.
جهاز التليفزيون قدامه، لكنه ما فتحوش. كان عارف إنه مش هيركّز.
كل اللي شافه طول اليوم مش عالق في ذهنه… إلا هي.
همس لنفسه:
– “ليلى… اسم بسيط… لكن ليه ماسك في قلبي كده؟”
مسك موبايله، فتح “فيسبوك”، قلب في أسماء كتيرة لكن وقف. حس إنه مستعجل. رجّع الموبايل على الطاولة، وقال:
– “لو القدر عايز… هشوفها تاني.”

صباح جديد في باريس
تاني يوم، الجو مختلف. السماء صافية والشمس دافية رغم برودة الصباح.
ليلى قررت تخرج تتمشى في حي سان چيرمان دي بري.
المكان مليان كافيهات، مكتبات قديمة، محلات صغيرة، وأجواء باريسية بتخطف القلب.
وقفت قدام Café de Flore. المكان زحمة كالمعتاد، طاولات صغيرة برا، الناس بتشرب قهوة الصبح، والجرسونات رايحين جايين.
قررت تدخل وتجلس، يمكن فنجان قهوة يظبط مودها.
طلبت قهوة وكرواسون، جلست عند الطاولة قرب الشباك، وبدأت تبص للناس في الشارع.
وفي اللحظة اللي الجرسون جاب لها الطلب، سمعت صوت مألوف جدًا:
– “معقول؟! إنتي هنا؟”
التفتت بسرعة… وكان كريم واقف، بنفس الابتسامة الهادية اللي شافته بيها في الطيارة.
عيونه فرحانة، كأنه لقى حاجة كان بيدور عليها من غير ما يعرف.
ابتسمت ليلى، وارتبكت:
– “صدفة غريبة…”
رد بخفة وهو بيقعد على الكرسي اللي قدامها:
– “واضح إن باريس صغيرة أكتر مما كنا فاكرين.”
جلس كريم قدامها في Café de Flore، ابتسامة هادية على وشه، وصوت الشارع الباريسي بيختلط مع ريحة القهوة الطازة.
بدأ الكلام بينهم عادي:
– “إيه اللي جابك باريس؟ سياحة ولا شغل؟” سألها كريم وهو بيرشف من فنجانه.
ليلى ترددت لحظة، ثم قالت بابتسامة فيها اعتذار:
– “الحقيقة… أنا مش جايه سياحة. جاتلي فرصة أكون بدل بنت مديري اللي تعبت فجأة. كانت جايبة موديلات خاصة بدار أزياء كبيرة هنا. هو وثق فيا وبعتني مكانها.”
ضحك كريم بخفة:
– “واضح إنك عندك حضور وثقة تخلي أي مدير يعتمد عليكى في موقف زي ده.”
– “يمكن…” ابتسمت ليلى بخجل. “بس الحقيقة أنا مش مرتاحة أوي. دي مش أول مرة أزور باريس، كنت هنا من سنتين مع بنت المدير ووالدتها. هي كانت عايشة هنا فترة طويلة، لكن أنا… لسه بحاول أفهم البلد.”
هزّ كريم رأسه متفهمًا:
– “المدينة دي معقدة شوية. جميلة، لكنها محتاجة وقت علشان الواحد يتأقلم.”
– “وأنا أصلاً ما بتكلمش فرنسي. بستعمل الإنجليزي على قد ما أقدر. بس ساعات بحس إني محتاجة لغة تانية تبقى إستايلها شيك.”
ضحك كريم وقال:
– “على فكرة، حتى الفرنسيين ساعات بيتعبوا من لغتهم. المهم الروح مش الكلمات.”
صوت الجرسون قطع لحظة الصمت وهو بيحط طبق صغير فيه قطعة حلوى مجانية. كريم شكر الجرسون بالفرنسية بطلاقة.
نظرت له ليلى بدهشة:
– “واضح إنك متأقلم أوي مع البلد.”
– “أيوه، أنا استقريت هنا من فترة. أنا مدير تنفيذي لشركة استثمارات في باريس. جيت من سنين الأول في رحلة عمل… ولما شفت المدينة، حسيت إنها بتكلمني. من ساعتها قررت أبقى هنا.”
– “يعني باريس بقت بيتك؟”
نظر لها نظرة عميقة وقال بهدوء:
– “بالضبط… بيت لقلبي قبل ما يكون لشغلي.”
ارتبكت ليلى، قلبها اتخطف للحظة، لكنها غيرت الموضوع بسرعة:
– “أكيد الشغل هنا مختلف عن بلدك.”
– “مختلف جدًا. بس برغم التحديات… أنا بحب الإيقاع الباريسي. فيه حاجة في المدينة دي بتخليني أعيش حتى لو أنا وحدي.”
فضلوا يتكلموا في تفاصيل صغيرة: عن الأزياء، عن السفر، عن باريس اللي بتجمع بين الفخامة والعشوائية.
ليلى حسّت إن الكلام معاه سهل… وإنها لأول مرة من سنين مش مضطرة تلبس أقنعة.
وكريم، وهو بيسمعها، كان كل دقيقة يكتشف إنه قدام امرأة مش عادية… امرأة بداخلها حكايات كتير تستاهل يُسمع لها.
ولما وقفت علشان تمشي، ابتسم لها وقال:
– “أتمنى دي ما تكونش آخر مرة نتقابل.”
ابتسمت بخجل، قلبها بيرتعش، وقالت:
– “باريس صغيرة… يمكن نتقابل تاني.”
خرجت من الكافيه، لكن جواها كانت متأكدة: في خيط بيتكوّن… والقدر لسه ماخلصش لعبته.

الفصل التالي اضغط هنا

يتبع.. (رواية حين يزهر القلب) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق