رواية اشتد قيد الهوى – الفصل الخامس
قيدتني يا حبّ قيدًا ناعمًا
فمشيتُ نحوكَ لا أرى إلا الهوى
وإنْ اشتدَّ بي القيدُ، فإني راضِ
ما دمتُ في محرابِ قلبِكَ أرتوي
طال الصمت بينهما للحظات، فكلاهما كان يرتّب أفكاره وكلماته، وخاصة هي، فهي من بادرت بالاتصال…
“أهلا بالهانم…..خير؟…..”
أجابها بغلاظة وخشونة فهو لا يرى في اتصالها خيرًا بعد ما حدث في مكتب الضابط…
بللت نغم شفتيها بتوتر وهمست بصوت مرتجف و تردد يلون كلماتها….
“كـ…..كنت عايزة اتأسف على اللي قولته
في القسم…..”
أطلق تنهيدة طويلة مثقلة بالكثير ثم استوى جالسًا على الفراش يسحب سيجارة ويضعها بين شفتيه. أشعلها ببطء وعيناه تراقبان الدخان المتصاعد أمامه قبل أن يقول بنبرة ذات مغزى
“متشغليش بالك….المهم ان حاجتك رجعتلك
ودا الأهم بنسبالك….”
عضت على شفتيها بارتباك تحاول تبرير موقفها بحرج شديد….
“على فكرة انا مكنتش عايزة اساومك على خروجك بالخاتم أ…..”
قاطعها أيوب بنبرة استهزاء لاذعه متلاعب
بالكلمات…..
“اه ما انا عارف كان واضح وانتي بتقولي
خروجك قصاد الخاتم انك مش بتساوميني
خالص….”
أوغر صدرها بالغيظ فقالت…..
“انت ليه قليل الذوق كده….”
تشدق ذاهلا….. “نـعـم…..”
قالت بكبت…..
“مقصدش بس أسلوبك مستفز….”
سالها بخشونة….. “وانتي ؟!….”
قالت بدفاع عن نفسها…..
“انا إيه انا كنت عايزة إرجع حاجتي….”
اخبرها بنبرة جادة بين طياتها غضب
خفي….
“وانا كنت هرجعهالك لو كنتي خرجتيني
وقتها…لكن إزاي لازم تحطي العقدة في
المنشار….”
ارتفع حاجبيها على الناحية الأخرى مندهشة
فهذه هي طبيعتها تعقيد الأمور والتعنت لذا
وجدت نفسها تسأله ببلاهة….
“بتكلم كده وكأنك تعرفني ؟!….”
ظن انها تسخر منه فرد بتهكم….
“مش محتاج أعرفك….انا قابلت ناس كتير
زيك ولسه بقابل….”
جزت على أسنانه بضيق وقالت بحمائيه…
“مش شايف انك قليل الذوق وانا بتصل بيك
اعتذرلك واطمن عليك..”
التوى فكه بسخرية وقال بجزع
واضح…
“كتر خيرك بس لو مكنش الخاتم رجع النهاردة كان زماني نايم في التخشيبة وانتي ضميرك
هيبقا مرتاح وقتها….”
قالت بنبرة صادقة ينساب فيها صوتها دفء الناي وشجنه… وأخيرًا سحره.
“كنت هخرجك حتى لو الخاتم مرجعش…”
تمكن منه شعور بالنفور فسألها مستنكرًا وقد انعكست حيرته في نبرته….
“شفقة….. ولا رد جميل مش معترفه بيه لحد دلوقتي؟…..”
قالت نغم بنبرة عادية رقيقة…..
“لا ده ولا ده….عشان خاطر مامتك واخواتك البنات….”
اعتصر عقب السيجارة في المنفضة بعصبية
وهو يقول….
“صعبنا عليكي يعني….كتر خيرك….”
ساد الصمت لثوانٍ معدودة حتى قالت بفضول جامح يندفع بها كقطار بلا مكابح !…
“ممكن اسألك سؤال….”
أعطاها الإشارة الخضراء…… “اسألي….”
قالت باستفسار……
“اي اللي يخليك تصاحب واحد حرامي؟..”
علت علامات الحيرة وجهه فعقب بتساؤل
“حاسس ان المكالمة دي مش اعتذار…دا
فضول؟…”
اجابت بصراحة مطلقة……دون مواربة
او تردد….
“انت اللي خلقت الفضول ده ناحيتك من
أول يوم شوفتك فيه….”
“انتي كمان…..فيكي حاجة مختلفة….”
كان صريحًا في رده عليها كذلك وقبل أن تسأله عمّا يعنيه بادرها بالإجابة يكمل حديثه بفضول لا يقل عن فضولها…
“عايشه في فيلم أكشن كبير…..لسه الناس
اللي عيزاكي بطردك ؟….”
ابتسمت بحزن وعيناها تحملان وجيعة صامتة تخفي خلفها بسمة واهنه حكاية كتبت بلون الدماء والثأر منها نقطة النهاية !…
“حاليا لا….بقا معايا حرس شخصي وبقت الأمور أحسن….انت مجاوبتش على سؤالي….”
ألحت في المعرفة فأجابها بصوت هادئ وعيناه معلّقتان بضوء القمر المنعكس على زجاج نافذته…
“انا بكمل اللي ابويا كان بيعملوا….سلامة كان من ضمن الناس اللي الحاج عبد العظيم
كان بيساعدهم…هو غلبان وجدع بس مطاوع شيطانه…وده اللي وقعه الواقعه دي…”
قالت بوجوم….
“بس انت اللي تحطيت فيها….”
أكد بنبرة هادئه بين طياتها الندم…..
“صح…..تقدري تقولي ان ربنا بينبهني اني ابعد عن الشر…وانقي الناس اللي امشي معاها…مش
كل مرة هتسلم….مش كده؟….”
عاد الترفع يرن في صوتها الناعم
بالقول….
“صح مش كل مرة هتقع مع ناس زينا…”
أضاف على حديثها بقتامة…..
“مش كل مرة هنلاقي ناس تساومنا على حريتنا يمكن المرة الجاية نلاقي اللي يخلص
علطول !…”
لم يثير غيظها بل قالت ببرود رفيع…
“انت وحظك…..عمتا فرصة سعيدة…..واتمنى
متكونش زعلان….آسفه مرة تانية….”
تردد للحظة قبل ان يختبر وقع كلماته
عليها وهو يقول…..
“تصبحي على خير يـا…يا مدام نغم…”
وكأنه أهانها فقالت بتشنج….
“آنسه على فكرة….”
هتف بعفوية…. “طب الحمدلله….”
اتسعت عينيها بصدمة….. “نـعـم…..”
تعثر في ضحكة خافته ثم اعتذر منها
قائلا……
“مش بعاكس…..دا فضول مش أكتر…”
بالقول المتجهم انهت الإتصال الذي بدأ
من عندها….
“كفاية فضول لحد كده….وانت من أهل الخير….”
أغلقت نغم الهاتف وعلّقت عينيها بالسقف وعلى ثغرها بسمة ناعمة شاردة. هزّت رأسها بحيرة من أمرها بعد أن بادرت بالاتصال بهذا الغريب… فقد قادها الفضول للحديث معه.
ورغم أنه لم يُشبع فضولها بالكامل إلا أنه شغل فكرها به وبمكالمته…
وضعت قرصًا من المنوّم في فمها وأخذت رشفة من الماء ثم دثّرت نفسها جيدًا أسفل الغطاء وأغمضت عينيها مستسلمةً لسلطان النوم. لكن فجأة، لاحت ابتسامتها عندما
داهم عقلها سؤاله الخبيث…
على الناحية الأخرى أدار أيوب رأسه للجانب الآخر ينعم بدفء الفراش مغمغمًا بضيق من نفسه بعد السؤال الطائش الذي ألقاه عليها… كمراهق مراوغ.
“مالي انا آنسه ولا مدام…..هناسبها….”
تثاءب مؤكدًا لنفسه أنها مجرد صدفة وانتهت، نغم عابر لن يلتقيه مجددًا ولا حتى
خلسة !…
…………………………………………………….
سمعت نحيبًا خافتًا وصوت اهتزاز واضح على الفراش الآخر… أخرجت زفرة استياء وهي تشعل نور الأباجورة قائلة دون مقدمات…
“مش ناويه تبطلي عياط…..”
لم ترد عليها من تلف الغطاء حول جسدها تخفي نفسها كـكفن يحجبها عن العالم بأسرة لكن لا يحجبها عن الوجع عن حزن ينخر في قلبها بقسوة
“كفاية عياط يانهاد…..انتي بقالك ساعتين
على الوضع ده…..”
قالتها ندى بسأم وقلبها يلتاع مع شقيقتها المنهكة تحت ظلال الحزن والقهر….
على نحيبها وهي أسفل الغطاء تخفي نفسها… تخفي عار مشاعرها التي انكشفت أمام أختها
اليوم.
ولحسن الحظ أن ندى فقط من لاحظت
وليس أمها وشقيقها…
لم تتحمل ندى تجاهل توأمها فأبعدت الغطاء عنها ونهضت نحو الفراش المجاور. أشعلت الإضاءة مصممة على المواجهة في غمرة
انهيار توأمها اليائسة ذات القلب المعطوب !…
سحبت الغطاء عنها فصاحت الأخرى وسط دموعها المنهمرة…
“سبيني ياندى….طفي النور…..”
قالت ندى بجدية وحزم…..
“لا مش هسيبك…..لازم نتكلم وافهم إزاي
وامتى؟….”
نظرت نهاد إلى سقف الغرفة وقلبها يخفق بوجيعة وعقلها يدور في أزقة معتمة موحشة بالأفكار…
عادت ندى تسألها بحيرةٍ أكبر…
“سلامة يا نهاد…..طب إزاي….ازاي تعلقي
قلبك بيه…..يادكتورة….”
“بتكلمي على اساس انه بايدي…..حاولت انسى
واتجاهل مشاعري…بس مقدرتش كل ما كنت
بشوفه كنت بتاكد اني ا…..”
تحشرج صوتها ولم تقدر على المتابعة وكأن الاعتراف خنقها بغصة مؤلمة كالغصة في
قلبها الآن….
تململت ندى بعينين تستنجدان دافع حقيقي خلف ما رأته في القسم، وما تسمعه الآن من اعترافٍ مؤكدٍ دون براهين…
“مش قادرة أصدق بجد…..طول عمرك ماشيه ورا قلبك…..امك واخوكي فكرينك الاعقل والانصح بينا بس في الحقيقة طول عمرك
ماشيه ورا عواطفك…..والنتيجة حبك لواحد
خريج اصلاحية….وقبلها ملجأ….”
اعتدلت نهاد جالسة وعقدت ذراعيها أمام صدرها تعترض بعتابٍ حاد…
“انتي بتلوميه على حاجة مخترهاش؟!…”
قالت ندى برجاحة عقل رغم حدة صوتها
دون أن يرتفع عن الحد الطبيعي…
“بالعكس انا بوضح لسيادتك البيئة اللي
خارج منها….بوضحلك ان ربنا اداه بدل
الفرصة ألف ومستغلهاش بالعكس رجع
لـسكك إياها تاني وده ان دل على شيء
يدل ان الإنسان ابن بيئته….بيتأثر بالبيئة
اللي جاي منها…وصعب يتغير طالما
الدوافع اللي جواه مش قوية….”
قالت نهاد بنبرة حزينة….
“يمكن بعد اللي حصل يتغير للأحسن…”
قست ندى عليها بالقول…..
“حتى لو اتغير للاحسن…وبقا كويس ومحترم….برضو علاقتكم متنفعش…”
مطت نهاد شفتيها تخبرها بحرج….
“هو ميعرفش حقيقة مشاعري ناحيته…”
قالت ندى بصلابة….
“والاحسن انه ميعرفش عشان ميستغلش
نقاط ضعفك….”
انكمشت ملامح نهاد مدافعة…..
“سلامة مش وحش ياندى…..سلامة مـ…”
قاطعتها ندى بغلاظة كمن يجذب أحدهم من أعالي السحب الوردية ليهبط به على أرض الواقع ويريه الحقائق التي غفل عنها…
“سلامة مينفعكيش يانهاد…مش بس عشان
فرق المستوى في التعليم بينكم…دا مش العائق الوحيد اللي يمنع.. في عائق أكبر انا
وانتي عارفينه كويس وهو ده سبب
عياطك دلوقتي….”
أسبلت نهاد جفونها وهي تعرف إلى ما تشير إليه توأمها… الحقيقة تقصد الحقائق التي تعيق مشاعرها عن الخروج للعلن.
“لازم تنسيه يانـهـاد…..الاحسن ليكي… ”
كيف تُقنعها أن القلب لا يطيع المنطق وأن بعض المشاعر لا تُمحى بل تبقى محفورة
للأبد….
قالت نهاد بعد تنهيدة طويلة مثقلة
بالكثير…..
“بتكلمي على اساس ان النسيان ده زرار أقدر
ادوس عليه وقت ما أحب….حاولت انسى واتجاهل مشاعري ناحيته بس مقدرتش
طول الوقت شاغل تفكيري…. بفكر فيه
في اليوم اللي ممكن تكون في بينا
حاجة رسمي….”
لم تشعر نهاد بالبسمة التي لوّنت ثغرها بسمة خاصة كتلك المشاعر التي تخبئها عن الجميع وهو أولهم…
“انا لما بشوفه ياندى بحس انه بيحي قلبي
من تاني….”
امتقع وجه ندى بعدم رضا من غرق أختها
في بحر الغرام بينما قالت نهاد بقلبٍ مُدلّهٍ بالحب…
“مشاعري متلغبطة معاه…. أحيانا بحس ان الحب ده ذنب….ذنب بكفر بيه عن حاجة معرفهاش ورغم كل ده مش قادرة أبطل
أحب سلامة…..”
قالت ندى بنبرة حازمة محذرة….
“لازم تبطلي لان الصح انك تبطلي….حاولي
مرة واتنين لحد ما المشاعر دي تختفي جواكي….”
أومأت برأسها فهي ما زالت ابنة التسعة عشر عامًا ما زالت في مقتبل العمر. ربما ينتهي هذا الشعور عند سن معين… تتمنى ذلك !
“هحاول….يمكن فترة مراهقة وهتنتهي مع
الوقت…. وهرجع لعقلي….”
قالت ندى بمناكفة….
“اتمنى ترجعي لعلقـك…. وتفرملي قلبك ده
شوية….”
نظرت لها نهاد وقالت….
“هحاول اعمله صيانه زيك….”
قالت ندى بمرح تحاول تغير الجو المشحون
بالحزن واليأس…..
“هتحسديني ولا إيه…انا قلبي ده لا بيحب
ولا بيكره….تقريباً عطلان بقاله فترة…”
ضحكت نهاد وهي تنظر إلى أختها بدهشة فقالت ندى بابتسامة واسعة…
“ايوا كده اضحكي….وجعتي قلبي عليكي ياست چولييت….”
غامت عينا نهاد بالحزن معقبة….
“اتمنى متكونش نهايتي زيها في الحب !…”
صاحت ندى بحمية معاتبة….
“بعد الشر عليكي…بكرة تتخرجي وتبقي الدكتورة نهاد عبد العظيم على سن ورمح
وتقابلي حب حياتك…تقابلي الحب اللي
يسعد قلبك بجد…..”
كيف تخبر أختها أن سعادتها كلها معلّقة بحبها لسلامة، دون غيره؟ كيف تشرح لها أن نزع الحب من القلب ليس مجرد قرار يُتخذ، بل معركة تحتاج إلى شجاعة شجاعة تعلم جيدًا أنها لا تملكها عندما يكون الأمر متعلقًا بنسيان حبيبها…
“وسعي كده خليني انام جمبك….”
قالتها ندى بعفوية محببة وهي تنضم إلى أختها في الفراش تضمها إلى صدرها وتجفف دموعها بيديها قائلة بحنوّ يُحفّزها…
“نامي يـانهاد وكفاية عياط….طول مانا جمبك
متخفيش واي حاجة هتتحل طالما احنا مع بعض…..”
ابتسمت نهاد، وعادت الدموع تترقرق في عينيها وهي تبادل توأمها المتطابق العناق وتنام في أحضانها كما كانت تفعل في صغرها، حينما تيأس من العالم بأسره فتلجأ إلى توأمها دون غيرها.
ندى أيضًا كانت وما زالت تلجأ إليها في كل لحظة انهيار وحزن أو غضب، فتجد أختها تواسيها وتهوّن عليها وتمتص كل شعور
سيئ يجتاحها…..
…………………………………………………….
وقفت السيارة الفارهة أمام صرح كبير… مبنى شاهق وفخم بواجهة زجاجية تعكس فخامة وثراء أصحاب المكان. تعلوه لافتة عريضة، شاشة عرض مضيئة، تحمل اسمًا كُتب في مجال الموضة وأصبح أيقونة في عالم
الأزياء.
صنع المجد بيده وكتب قصة كفاح كانت مصدر إلهام وتحفيز للكثيرين !…
(الموجي للأزياء)
شركة الأزياء الفخمة من بين الشركات التي سطّرت اسمها بتصاميم تعكس هوية مصممها ومدى شغفه بالحياكة والإبداع الفني، بدايةٍ من الرسم على الورق وصولًا إلى القماش والتنفيذ عليه…
ترجلت نغم من السيارة الفارهة ولحق بها الحرس الشخصي أربعة رجال مفتولو العضلات طوال القامة يقفون خلفها بثبات كحوائط قوية ومتينة… يرتدون طاقمًا رسميًا داكنًا ويضعون سماعات في آذانهم تسهل التواصل بينهم عند وجود خطر…
دلفت إلى المدخل الضخم وأرضيته اللامعة تعكس صورة حذائها العالي الذي يقرع الأرض بخيلاء.
ترتدي طاقمًا عمليًا أنيقًا يلائم المكان وترفع شعرها الأشقر للأعلى، وتُظلّل عينيها الرماديتين بنظارة سوداء فخمة.
وقفت في بهو الشركة فوقف الموظفون يلقون التحية بصوت موحد يشع احترامًا وتقديرًا لمكانتها…
اكتفت بابتسامة بسيطة وهي تتابع طريقها إلى حيث المصعد الكبير اللامع ضغطت على الزر فانفتحت أبوابه لها. وقبل أن تدلف قالت لقائد الحرس بأمر هادئ…
“خليكم هنا….. مش عايزة حد فوق معايا….”
تحدث قائد الحرس محتجًا ببعض الحزم….
“بس ياهانم كمال الموجي اوامره لينا انك متغبيش عن عنينا و…..”
قالت نغم بتصميم ثابت…..
“مش هيحصل حاجة….انا هنا في أمان….خليكم هنا وبكده هتكونوا بتنفذوا اوامره…”
وقبل أن يعترض قائد الحرس كانت تَدلف إلى المصعد وتُغلق الباب خلفها بأناقة تلائم كل شيءٍ من حولها.
خرجت من المصعد فرأت شعار اسم الشركة في الممر الذي تخطوه بخطوات متحفزة وأنيقة.
(الموجي للأزياء..)
مالكها والملهم الوحيد بها كمال الموجي، الذي
ما زال يبدع في تصاميم تحمل اسمه ويرسلها عن طريق ابنته التي رغم موهبة أبيها في هذا المجال والنجاح الذي حققه لم ترث منه هوايته. بل فضّلت أن تدير الشركة مستندة الى شهادتها التي حصلت عليها من أرقى وافخم الجامعات…
إدارة الأعمال فهذا هو المجال الذي تحبذه بعيدًا عن الحياكة والتصاميم …
دلفت الى المكتب فاستقبلتها مساعدتها الخاصة (جيداء)بتقرير الصباح…..
“صباح الخير يانغم….”
دلفت إلى مكتبها الفخم الشاسع الذي يعكس ذوقها الرفيع في كل قطعة وضعت به ثم جلست خلف مكتبها الخشبي الأبنوسي
الفاخر يلمع سطحه ويعكس صورتها الانيقة وهي تنزع نظارتها مجيبة عليها…..
“صباح النور….الموردين جابوا الخامات؟…..”
اجابتها جيداء وهي تتابع تفحصها للتقرير….
“كمان نص ساعة هيكونوا هنا هما في السكة…
جبتي التصاميم…..”
أومأت لها نغم وهي تُخرج الرسومات من حقيبتها ثم وضعتها أمامهن على سطح المكتب قائلة….
“بابا بقاله فترة شغال عليهم والنهارده ادني
مجموعة منهم…..”
مسكت جيداء إحدى الرسومات ثم فغرت فمها بإعجاب واضح متأملة بانبهار الخطوط التي بخفة وشغف مصممها رسمت ثوبًا أنثويًا شديد الروعة والتميّز…..رفعت جيداء عينيها بدهشة معبرة….
“واوو يجننوا…..بجد انكل كمال ده مش هيتكرر في عالم الموضة….”
ابتسمت نغم مؤكدة بلا أدنى شك، وهي تقول
بنبرة حزينة…
“دا حقيقي….ربنا يشفيه ويرجع تاني لشركته
وشغله…..في حاجات كتير وقفت من ساعة
ما تعب والمنافسين كتروا حوالينا…..وكلوا
بيحارب عشان يوقع الشركة….”
قالت جيداء بضيق…..
“انتي هتقوليلي بذات….جاسر العبيدي مش
مبطل شغل من تحت الترابيزة….”
جزّت نغم على أسنانها منفعلة، وقد توقفت عن قراءة التقرير وهي تقول بحدة…
“الندل نسي انه كان حتة موظف عندنا….وبابا هو أول واحد ساعده وعلموا…..واول ما تفرعن…اتفرعن علينا وبيحاربنا في شغلنا….”
قالت جيداء بملاطفة….
“انسي نزل ولا طلع عمره ما هيجي حاجة
جمب كمال الموجي….”
تنهدت نغم ولم تعلق وعادت تقرأ التقرير
فسالتها جيداء بتحفظ…..
“هتعملي ايه في المسابقة اللي المفروض شركتنا هتقدم فيها…..”
قالت نغم دون إهتمام…..
“مش فاضيه أسافر ومستحيل اضغط على بابا في الشغل اكتر من كده….كفاية Designs اللي شغال عليها عشان الشركة تنزل بيهم الـSeason ده…”
قالت جيداء بوجوم….
“بس جاسر العبيدي ضاف اسمه في المسابقة…وشكله ناوي يكسب زي السنتين اللي فاتوا….”
لم تهتم نغم بالأمر، بل قالت بعملية وهي تعطيها القرار الأخير في الأمر…
“يعمل اللي يعملو….احنا عندنا الف حاجة فوق
دماغنا….حضري الميتنج وابعتي لـفريق التصاميم عشان يشوفوا اخر التطورات….عايزة ابلغهم بتعليمات كمال الموجي عن الكولكشنات اللي هنشتغل
عليها الفترة الجاية…”
“حاضر دقايق والاجتماع يكون جاهز….”
ابتعدت جيداء وسارت نحو باب الخروج لتحضر المطلوب منها، بينما عادت نغم إلى الملف في يدها تدقق فيه بتركيز شديد…
……………………………………………………..
بعد يوم حافل من العمل بالشركة وفي طريق العودة بالسيارة الخاصة يقودها السائق وبجواره قائد الحرس وخلفها سيارة
الحرس الأخرى بثلاثة رجال
ظلت نغم تحدق في الطريق الراكض أمامها بشرود وعقلها يسترجع ذكرى مر عليها ثمانيّ سنوات عندما كانت طالبة في الجامعة
والتقت به لأول مرة….
(بيقولوا إنك بنت كمال الموجي….مصمم الازياء المعروف؟…)
رفعت عينيها والنظارة السوداء تخفي تعبير نظرتها الأولى نحوه…
(أيوا…)
أجابت بإيجاز فهذا هو السؤال المتوقع من معظم طلاب الجامعة وكم يروقها الأمر أن تكون نجمة العام الدراسي الأول ويتهافت حولها الجميع باسم والدها وشهرته الواسعة في عالم الأزياء.
جلس على المقعد قبالتها دون دعوة منها، وقال هذا الشاب الوسيم الثري…
(انا أسر شكري العزبي…ابن رجل الأعمال المعروف شكري العزبي…تسمعي عنه؟!…)
قالت بفتور وهي تلملم حاجيتها عن
الطاولة دون اكتراث….
(اه طبعا مين ميعرفوش…فرصة سعيدة
يا أسر….مظبوط كده؟…..)
اوما أسر وعيناه تشعان غرورًا…
(مظبوط أوي….)
نهضت على عجالة قائلة…..(عن إذنك بقا….)
سالها متعجبًا…..(على فين….)
قالت بايجاز……(على المحاضرة…..)
قال وهو ينهض معها قائلًا بثقة….
(ممكن رقم تلفونك….لو مش هيضايقك نبقا
صحاب…)
قالت بنبرة صارمة متعالية……
(ا…Sorry….بس انا دايرة معارفي وصحابي
صغيرة ومش اي حد بصاحبه…..)
تركته وغادرت بهدوء بخطوات أنيقة تصدر ترنيمة مغوية أغوت حواسه حينها، فقرر بتحدٍّ صبياني أن يوقعها في حباله، ولم تجرؤ على رفضه مجددًا.
كان في الجامعة معروفًا بكونه الصياد الماهر الذي يعرف كيف يلقي شباكه حول ضحاياه.
لكنها لم تكن سهلة المنال وقلبها كان صلبًا كالحجر لا يلين معه مهما حاول بشتى الطرق وانتهى الأمر آنذاك بفشلٍ ذريع، فوجد نفسه هو من وقع في حبالها دون أن تلقيها عليه فأصبح مهووسًا بها يطاردها يريد أن تكون حبيبته زوجته لكنها كانت عنيدة ترفض
الأمر.
وفي آخر لقاء بينهما قبل أشهر قليلة من موته قابلها في الشركة معترفًا للمرة الألف بأنه يحبها لكن هذه المرة كانت مختلفة عن كل المرات السابقة لأن رفضها كان قاسيًا ولم ترأف بمشاعره وقتها كما اعتاد منها.
(اسمعيني يا نغم….ادي فرصة لعلاقتنا…حتى
بفترة خطوبة….)
تاففت وهي تشعر بأن الحصار يطبق
عليها أكثر من اللازم…
(أسر ارجوك بلاش تضغط عليا اكتر من كده…..)
أشار على نفسه بنظرة تتوسل الحب…..
(هو انا وحش لدرجادي يانغم…بترفضيني..)
قالت نغم بارهاق نفسي وهي توضح بصبرٍ طبيعة مشاعرها….
(المشكلة مش فيك يا أسر…المشكلة فيا انا..
انا اللي مش حاسه بحاجة ناحيتك…ولو خدت
خطوة معاك زي دي هكون بظلمك…وبظلم
نفسي معاك….أرجوك خلينا صحاب زي ما
طول عمرنا صحاب من أيام الجامعة….)
قال أسر بحدة…
(بس انتي بنسبالي اكتر من كده….)
صاحت نغم بكلمات كـرصاص الطائش….
(حقيقي انا تعبت…ليه مصرة تحطني في الموقف ده كل مرة….فين كرامتك بجد….)
اتسعت عيناه بحزنًا معاتبًا…..
(كرامتي؟!………)
خففت من حدتها متمسكة بزمام الصبر
بقدر المستطاع….
(أسر انت مش وحش انت الف بنت تتمناك..شاور بس وهتلاقي احسن واجمل
مني رهن اشارة من إيدك….ام انا فأنا مش عايزة….لا عايزة احب ولا ارتبط….)
اخرجت تنهيدة مصرحه بكلمات حالمة
لم تعرف حينها لما قالتها له لكنها كانت
الصدق والاحساس الذي لن تتنازل
عنه مع من تحب….
(انا يوم ما ارتبط….لازم اكون واثقه مليون في المية اني بحبه..بحبه اوي كمان…واني من أول مرة اشوفه احس انه خطفني خطف….فكري ومشاعري كلهم بقوا بيتحركوا ناحيته هو…. هو وبس…..)
نظرت نغم في عينيه وقالت بصراحة مطلقة
فـوجد حتفه بها…
(انا محستش بناحيتك بالحاجات دي يا أسر
وحاولت كتير بس مقدرتش…الحب مش بايدينا…دي حاجة بتحصل من غير تخطيط
فهمتني…)
ابتسم ابتسامة موجعة وقال بصوت تحشرج بغصة لم يستطع ابتلاعها بها كشف الكثير
من آلامه…
(فهمتك….ويارتني ما فهمتك…..)
وقبل أن تقول شيء يخفف من الوضع الحرج بينهما دخلت جيداء عليها بالملفات حينها لُجِم وهو يشيح بعينيه إلى مكان بعيد عنها يخفي خيبات الحب المتناثرة أرضًا كشذرات حادة.
ومن بعدها سمعت خبر انتحاره ورسالة كتبها بخط يده معترفًا بأنه أقدم على الانتحار بسبب رفضها له. كانت الرسالة كالنار في الهشيم لم ترتح من بعدها ولم تعرف النوم إلا بعقاقير مهدئة للأعصاب.
أصبحت حياتها مليئة بالمخاطر تشعر بأنها فريسة وسط غابة موحشة جياع ينتظرون سقوطها أو أن تنفرد بنفسها ولن تخرج بعظامها حتى !
ارتجف جسدها وقلبها خفق بخوف والسائق يتوقف فجأة أمام سيارة سوداء اعترضت الطريق عليهم…
وعندما خرج صاحبها من المقعد الخلفي وانتشرت شذى عطره القوي الفاخر والعفن بالنسبة لها وقع قلبها أرضًا بخوف وهي تراه ماثلًا أمامها بهيئة مرعبة تدب الهلع في قلبها ارتجفت أوصالها من شدة الخوف وهي تقول لقائد الحرس
“دا…..دا شكري العزبي…..”
ما زال يبحث عن ثأر ابنه منها ولن يتركها إلا وهي راكعة أرضًا ذليلة تتوسل الموت رحمة لها ولن تناله أبدًا !….
أمام عينيها خرج قائد الحرس من السيارة في مواجهة شكري العزبي قائلًا بحزم….
“مينفعش تعترض طريقنا بالشكل ده…. انت كده بتعرض نفسك للمسألة القانونية….”
نظر شكري إليه ثم نحوها حيث تجلس في مقعدها الخلفي تنظر إليه من خلف نظارتها… لم تتضح معالم الخوف على وجهها الشاحب ولا نظرة الذعر في رماديتيها فقد كانت النظارة تخفيها كقناعٍ واقٍ !
قال شكري بنبرة لئيمة بين طياتها الوعيد…..
“مسالة قانونية اي بس….دا الهانم غالية عليا أوي دي كانت حبيبة ابني……ابني الوحيد اللي ساب كل حاجة وضحى بشبابه عشانها…..”
فتحت الباب وخرجت من السيارة، لتقف في مواجهته بينما كان الحرس يحميها بالوقوف
بجانبها.
“انت عايز إيه بظبط مني……”
“روحك…..”
هتف بها بنظرة سفاح بينما ارتجفت داخليًا وهي تحدق فيه. شاعرة بقشعريرة الخوف تزحف الى جسدها لكنها تمالكت نفسها محاوِلة ألا تظهر ضعفها….
ثم تابع بابتسامة باردة وعيون تلمع بنشوة
الانتقام….
“بس قبلها هاخد حاجات كتير بتحبيها….خلينا
نبدأ بشركة الموجي للأزياء….كان نفسي أبدا
بالموجي نفسه بس انا شايف انه كده كدا بيودع مش محتاج عزرائيلي…..”
تجمدت في مكانها تشعر بأن الهواء من حولها قد توقف فجأة عادا خفقات قلبها التي تقرع كناقوس الخطر تدوي في أذنيها حتى كادت ان تصمها…
لم يكن هناك مفر من شعور الخوف في حضرة
عزرائيل ظهر من العدم…..
قالت بثبات و بصوت حادًا…..
“انت كده بتلعب بالنار وانا مش هسكت…..”
ضحك شكري ضحكة مريضة تصيبها بقشعريرة باردة ضحكة مظلمة تحمل وعيدًا خفيًا ثم قال بعد ان اختفت فجأة كما
خرجت فجأة..
“على سيرة العب بالنار…..انا شاطر اوي في
اللعبة دي…..”
توقف وهو يشير على الفراغ قائلا
بخبث….
“انا شامم ريحة حريق….اي ده دي الخامات الجديدة بتولع في المخازن…..بووووم…”
تجمدت الدم في عروقها وهي تحدق فيه بتمعن تفك شفرة كلماته حتى رأت في عينيه المظلمتين حقيقة الأمر فصرخت بغضب…
“انت مجنون…..انت بجد مش طبيعي….”
اجابها شكري بنبرة مثخنة بالجراح….
“ولسه دي أول الخساير بس مش الأخيرة يابنت كمال الموجي….دم ابني غالي….ومش هيكفيني روحك بس….”
صرخت بجنون تكرر براءتها على مسامعه للمرة التي فشلت عدّها…
“مقتلتوش….مقتلتوش ولا كنت السبب….أكيد
دا مش انتحار اكيد دي جريمة قتل….”
تحدث شكري بنبرة مستهجنة…..
“والرسالة اللي كتبها بخط ايده…..وتقرير الطبيب الشرعي انه انتحار ببرشامة ******كل ده كدب…”
تابع وهو يتوعد لها بنبرة مظلمة……
“ابني انتحر بسببك وانتي عايشه حياتك ومكملة بس والله ما هيحصل طول مانا
عايش هحول حياتك لجحيم مش هرحمك يانغم…..ولا حتى الموت هيرحمك مني…..”
تركها واستقل السيارة الفخمة مشيرًا إلى السائق بالانطلاق أمام مرأى عينيها المذعورتين من كل ما يحدث حولها…
“احنا ممكن نبلغ البوليس انه هو اللي حرق
المخازن باعتراف منه…وكلنا شاهدين…”
قالها أحد الحرس بنبرة جهورية….رفضت الأمر
قائلة باستياء…..
“شكري العزبي عنده الف شاهد يشهدوا انه كان موجود معاهم في اللحظة دي…..”
سارت بخطوات ثقيلة ترفع قدمها بصعوبة عن الأرض. لحق بها الحرس الشخصي… فقالت بنبرة محطمة بالأسى بعد أن استقلّت السيارة وجلست في مقعدها…
“اطلع على المخازن…. وبلغ المطافي….. بسرعة…”
إلى متى ستظل تدفع ثمن رفضها له؟ أحيانًا تتمنى لو عاد الزمن بها لتقبل بهذه العلاقة إكرامًا لنفسها المحطمة الآن ولتفادي الخسائر التي تجنيها !…
………………………………………………………..
ترجلت من سيارة الأجرة أمام مصنع الملابس الذي يحمل شعار (الأبرار) إرثُ جدّها الذي أطلق عليه هذا الاسم تكريمًا لزوجته حبًا ووفاءً لها. والآن هي تحمل نفس الإسم اختاره لها والدها محبةً وتقديرًا لأمه الغالية لطالما شعرت بأن هذا الاسم لا يليق بها تمنت لو كان لها اسمٌ أكثر حداثة كصديقاتها أكثر انسجامًا مع زمنها اسمٌ يُشبهها يُعبر عنها…
دخلت المصنع بخطوات هادئة كانت صالة كبيرة ومهنةُ عملٍ يتوارثها الأجيال…
قابلها ضجيج الآلات في المكان وأصواتُ العمال نساءٌ ورجال يعملون على قدمٍ وساق حول ماكينات الخياطة البعض ينحني فوق ماكينات الخياطة يوجّه القماش تحت الإبرة بخبرةٍ ودقة وآخرون يتنقلون بين الطاولات يفرزون القطع ثم الى التعبئة استعدادًا للمرحلة التالية… رائحة القماش تملأ أنفها تؤمن أن لكل شيءٍ رائحته الخاصة لكن رائحة القماش على ماكينة الخياطة لها عطرٌ منفرد لا
يفقهه الكثيرون !…
تعرف طريقها جيدًا الى الطابق العلوي حيثُ تقبع الإدارة ويقع مكتب والدها. صعدت إلى الأعلى فرحّب بها الساعي وبعض الموظفين فقابلت الترحيب ببسمة ودودة ثم فتحت باب والدها بعد أن أذن للطارق بالدخول…
عندما دخلت رأت والدها جالسًا خلف مكتبه وياسين يجلس مقابله على الجانب الآخر
يتحدثان وأمامهم ملفٍ لكن عند دخولها توقفا عن الحديث ونظر والدها إليها متفاجئًا ثم تهللت أساريره بالفرح قائلاً بحفاوة
“أهلًا…اهلًا بـ بِرّتي الحبيبة……”
ابتسمت أبرار بسعادة ربما هي لا تحب اسمها لكنه يصبح أجمل حين يُصغر الى (بِرّتي)بِرّتي الحبيبة كما كانت تناديها امها وتدللها…..
والان والدها يناديها به ليس كثيرًا لكن أحيانا يدللها به وحينها تشعر بتميزها وكأنها تمتلك شيئًا. لم ترثه من أحد بل خُصّت به وحدها…
“كنت قريبة من هنا قولت اعدي عليك…وحشني..”
قالتها أبرار ببسمة شقية وهي تلقي نفسها بين ذراعيه بعدما وقف صالح يستقبلها بترحاب…
بينما كان يراقبهما ياسين مبتسمًا حتى فصلت
أبرار العناق ناظرة إليه…..
“إزيك يا ياسين…..”
رد بصوتٍ عميق…..
“الحمدلله نورتي المصنع يابنت عمي…..”
“منور بصحابه يابشمهندس….”ثم نظرت لوالدها وقالت بتودد….
“عامل إيه يابابا…..”
رد صالح وهو يعود للجلوس….
“الحمدلله…. في زحام من النعم….نسأل الله
دوامها…قعدي خلصتي محاضراتك؟… ”
جلست في المقعد المقابل لياسين الذي
ظل جالسا ملتزم الصمت يراقب حديثهما
بملامح هادئة…..
“اه الحمدلله….انت أكيد فاكر اننا خارجين بكره؟..”
سالها صالح باستفهام….
“رايحين فين بكرة ؟!….”
تشدقت أبرار بدهشة….
“مش معقول نسيت يابو الكباتن… دا انا
مأكده عليك….”
ابتسم بحرج مؤكدًا بصدق….
“نسيت يا أبرار…..فكريني وعدتك بإيه….”
قالت بسأم وهي تطرق باصابعها خشب
المكتب الفخم….
“موعدتنيش بس قولت هتفكر….”
“في إيه بظبط؟…..”
قالت بنظرة وبنبرة راجية….
“في إنك تيجي معايا خطوبة لمياء صاحبتي…
في قاعة ***على البحر…..”
عبست ملامح صالح بعدم رضا….
“وانتي عارفه اني بروح قاعات؟….او هسيبك تروحيها ؟….القاعة بيبقا فيها اختلاط بين البنات والشباب….”
قالت أبرار بعناد تقارعه بالحديث بملامح
مكفهرة…
“الجامعة برضو بيبقا فيها اختلاط…ومع ذلك بتسبني اروحها….”
انعقد حاجبيه مستنكرًا بالقول….
“لانه مستقبلك والضرورات تبيح المحظورات…والوضع يختلف….وخطوبة صاحبتك وفي قاعة زي دي مش من الضرورات لو قاعة إسلامية انا موافق….”
تأففت وهي تشعر أنه يضيّق عليها حريتها فكلما كبرت عامًا بعد عام يصبح الأمر
أصعب مما سبق….
أحيانًا تتمنى لو لم يكن والدها متدينًا بهذا القدر لكان أباح لها الكثير كما يفعل آباء صديقاتها…
“مش معقول كده يابابا هقولها اعمليها في
قاعه إسلامية عشان أحضر…معظم المناسبات مش بحضرها بسبب رفضك ده….انا هبارك لها
وهقعد مع صحابي شوية وهمشي مش
هتحرك من مكاني أوعدك…تعالى معايا وهتتاكد بنفسك…..”
رفض صالح بنظرة حازمة…..
“انا مبروحش الأماكن دي يا أبرار…ولا فاضي…”
قالت بلا مبالاة…..
“خلاص أروح لوحدي…..”
سألها بقلة صبر…. “ومن إمتى ده ؟!…..”
نظرت إليه برهبة… عليها أن تعترف بأن
والدها رغم صلابة عقله وتشدده في بعض الأمور معها لم يضربها يومًا فهذا ليس من شيم رجال الشافعي. لكن نظرته وحدها كانت كفيلة ببث الرهبة في قلبها مما يدفعها للتراجع عن العناد والتحدي أمامه. وهكذا فعلت عندما قالت بابتزاز عاطفي…
“يابابا متكسرش بخاطري ورحمة ماما عندك…”
عقب بنبرة جادة…..
“قال النبي صلى الله عليه وسلم…. من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت….”
زمت شفتيها بحرج وهي تنظر الى ياسين
الذي أبتسم بشماتة….فعادت الى والده
وقالت بوجوم….
“عليه أفضل الصلاة والسلام….انا مقصدش
انا بس…..”
تدخل ياسين أخيرًا بعد مشاهدة المشادّة الجبّارة المسلّية من وجهة نظره…
“انا ممكن احل المشكلة دي واروح معاها القاعة ساعة بالكتير ونرجع…..”
وكأنها وجدت طوق النجاة فقالت
بلهفة……
“أيوا يابابا انا موافقة ان ياسين يبقا معايا ونبي….قصدي بالله عليك…بالله عليك
وافق يابابا….”
نظر لهما صالح مفكرًا لثواني ثم قال
بخشونة…..
“بشرط ساعة مش أكتر….وياسين معاكي…”
نهضت واقفه واقتربت منه تعانقه
بسعادة…
“احلى بابا في الدنيا….ربنا يخليك ليا….”
اتى اتصال لصالح فابتعد عنهما قليلا مجيبًا
على أحد التجار المهمين….
مالى عليها ياسين بعد ان وقف بجوارها
وقال بنبرة مستفزة….
“عدي الجمايل….لولايه كان زمانك لسه بتتحايلي وتعيطي ومكنش برضو هيوديكي….”
نظرت إليه بقوة وقالت بتبرم…
“متشكرين يابشمهندس….عمتا مش محتاجة أعد الجمايل لانك بترد الجميل كدا كده….”
سالها بعدم فهم….
“اي جميل مش فاهم؟….”
قالت من بين اسنانها مبتسمة بخبث…..
“جميل اني اتسترت عليك انت والملزقه بتاعتك..يا…. يـاسونة… ”
ارجع راسه للخلف متوعدًا…..
“والله بقا كده….طيب..يخلص عمي المكالمة ”
سألته بقلق…. “هتقوله إيه ؟!..”
نظر الى ساعة يده قائلا بلؤم….
“هقوله اني افتكرت مشوار مهم بكرة لازم اعمله..”
انقبلت ملامحها مائة وثمانون درجة وهي
تقول كقطة وديعة…..
“لا خلاص هعد الجمايل متبقاش ندل….”
“ندل ؟!…”
قالت بابتسامة واسعة معها ظهرت الغمازات
منيرة خديها…..
“مش انت طبعا….انت مفيش في جدعنتك وشهامتك…..”
ابتسم وهو يتابع اختفاء غمازتيها الجميلتين.
“تعجبيني اهو كده الكلام….هنروح الساعة
كام بقا ؟….”
“سبعة….”
“تمام سته ونص تكوني قدامي….بفستان محترم مش عايز قلة عقل…..”
القى ياسين نظرة قاطعة لا تقبل الجدال…
قالت أبرار مستهجنة…..
“قلة عقل ! هو الواحد عارف يتنفس حتى… أطمن يابشمهندس طالما صالح الشافعي ابويا… وانت ابن عمي….يبقا لازم كل خطوة تبقا بحساب وكل كلمة بمراجعة…. ومنيفعش أعمل حاجة غير بموافقتكم… اطمن… اطمن…فستان محتشم وطويل… ”
أومأ برضا تام وهو يشير على لفة حجابها
العصرية…..
“عقبال ما تغيري لفت طرحتك….”
قالت بغضب…..
“ما اتنقب أحسن ؟….”
رد باستفزاز….
“ابوكي هيفرح أوي بالخطوة دي….”
قالت برفض….”مستحيييل…..”
عاد بنفس الاسلوب المستفز يقول
ببرود…
“خلاص امسكي لسانك عشان ميمسكش في
الكلمة…. وبعدين اي اللي مزعلك دي محبة
وخوف عليكي…”
قالت بعبوس….
“ساعات بابا بيخنقني بتحكماته….”
نصحها ياسين برجاحة عقل….
“اديكي قولتي ساعات مش طول الوقت…. وبعدين حد يلاقي اب حنين وبيحبه كده ويتخنق منه..”
نظرت له بدهشة…..
“بدافع عن بابا سبحان مغير الأحوال….”
قال بصوت هادئ متزن…..
“مشاكلي معاه على جنب…. انا بتكلم عليكي انتي وهو وبـشهد بالحق….”
“مم طيب….”
سحب هو الملف عن سطح المكتب قائلا
بهمسًا بالقرب منها….
“طيب يا بِرّتي انا هروح أكمل شغلي عطلتيني بما فيه الكفاية….”
خفق قلبها فجاة بقوة وهي تعبس في
وجهه قائلة بحنق بالغ….
“متقوليش الاسم ده…. بابا بس اللي يقوله…عشان ياء الملكية فلا يجوز….”
ضحك وهو يقول قبل ان يخرج بنبرة
رجولية جذابة…..
“بكرة يجوز يـادكتورة وياء الملكية تكون ليا لوحدي…..أصبري……”
قطبت جبينها بعدم استيعاب مغمغمة…
“مالو ده…اتجنن….ونظراته اتغيرت كده ليه….”
عاد والدها بعد دقيقتين من انهاء المكالمة
وسالها وهو يدور حول مكتبه…..
“فين ياسين ؟!….”
اجابته بهدوء….
“خرج بيقول عنده شغل…..”
جلس صالح خلف المكتب واشار لها قائلا
بمحبة….
“طب قعدي واقفه كده ليه….تشربي إيه…”
تكملة الفصل
في اليوم الثاني مساءً…
فتحت الجدة الباب وعلى الفور اتسعت ابتسامتها بمحبة وهي ترى حفيدها فارع الطول الوسيم أمامها وقد زادت سمات الجاذبية لديه وهو يقف أمامها بطاقم كلاسيكي أنيق مصففًا شعره الأسود الغزير للخلف. وجهه ناضر ناعم، بعد أن حلق لحيته النابتة كما اعتاد دومًا منذ أن بدأت تنبت الشعيرات في وجهه.
تفوح منه رائحة عطرٍ رجولي فاخر تمتزج بها رائحة النعناع القوية للعلكة التي يمضغها الآن بخشونة!
لم تعجبها يومًا عادته في مضغ العلكة، لكنها مع الوقت تفهّمت أنها مجرد وسيلة لإلهاء عقله عن أشياء لا يود التفكير بها…
وكأنه يطحنها كالعلكة تحت أسنانه !
“خلصت ولا لسه؟….بقالي ساعة مستني…”
سأل الجدة متململا بنزق….فردت عليه
بهدوء….
“قربت بتلف الطرحة….أدخل…..”
تركته على الباب ودخلت لحق بها مغلق
الباب خلفه قائلا بسأم…..
“هدخل طالما فيها لف طرحة يبقا قدمنا
ساعتين كمان….”
جلست الجدة على الاريكة امام التلفاز وبجوارها احتل ياسين المقعد ينظر لشاشة بدون إهتمام وهو يمضغ العلكة ببطء وتأنٍ….
“أمورك تمام مع عمك؟…..”
السؤال الذي أصبح معتادًا منها في الآونة الأخيرة، والذي لا يخلو من القلق…
نظر إلى عينيها الخضراوين القلقتين من
الرد…عينين لم يرث لونهما أيٌّ من أحفادها، لكن ورثهما عمُّه صالح… ابنها المتبقي لها
بعد طوفان الموت الذي أخذ زوجها ثم ابنها الأكبر…
“كل حاجة تمام……اطمنى….”
سألته الجدة بحذر…..
“هي كلمتك تاني….شوفتها…”
توقف عن مضغ العلكة اللاهية وقد تشنج جسده في جلسته ولاحت القسوة على خطوط وجهه الجامد وهو يهز رأسه نفيًا…
لم يتطرق للتحدث عنها… يكره أن يتحدث عنها حتى بينه وبين نفسه. إنه يسيء إليها فعليًا إن فكَّر بها، وشيطانه يساعده على ذلك !
فماذا إذا نعتها أحد أمامه بحقيقة أنها امرأة خاطئة، فاسقة… تركت ابنها وزوجها العاشق لها لأجل إرضاء غرائزها العفنة في البحث عن رجلٍ آخر غيره…
ليتها اكتفت بالرجل الذي فضَّلته على والده، والذي أوضحَت الأيام أنها كانت على علاقة به أثناء زواجها…
إنها طلبت الطلاق منه أيضًا ثم هاجرته لأجل رجل آخر، ثم تركته لآخر، ولآخر غيره… سلسلة حافلة من الزواج والطلاق انتهت بزواجها من شابٍ يكبره هو بخمس سنوات فقط ، أي في عمر ابنها !
ابنها الذي لم تفكر فيه طوال الخمسة عشر عامًا، أثناء سلسلة زواجها المتكررة ولهاثها خلف رغباتها… لهاثٌ يسيل من فمها لعابًا كلما رأت رجلًا وأُعجبت به…
(عبلة العزبي) التي جعلت من جمالها الفج جحيمًا له ولوالده لسنوات طويلة، حتى انتهى الأمر بموت والده… أما هو، فما زال يحترق في القاع !
“ولا بتكلم خالك…..شكري العزبي…..”
مط فمه مستغربًا السؤال ثم عقب
بجفاء…..
“إيه اللي هيخليني اكلمه….انتي عارفه اني مليش علاقة بيه…واللي اعرفه انه قاطع علاقته بيها من ساعة…..”
توقف عن الحديث وقد أدرك انه سيتحدث
عنها…عن تفاصيل حياتها ماضيها وحاضرها
لكن الجدة لم ترأف بحالة فقالت بمواجهة
صريحة معه…..
“من ساعة ما ضيعت ورث أبوها على اجوزتها..في مشاريع فشلة كانت بتعملها ليهم…ولما شطبت وملقتش رجى من أخوها الغني اللي طلعها من حسباته بعد عمايلها السوده….
قالت ترجع الود بينها وبينك…وتسحب منك
انت فلوس ترضي بيه النطع الجديد اللي
اتجوزته…..”
ارتسمت امارات الازعاج على وجه ياسين
وهو يسألها باستهجان….
“ليه بتفتحي في الموضوع ياتيته…مش خلصنا…”
قالت الجدة بلوعة…..
“مخلصناش….متخلهاش تستغلك…تستغل نقطة ضعفك وحبك ليها…..”
صاح ياسين مستنكرًا…
“مين قالك اني بحبها بعد كل اللي عملته
فيا…..”
هزت راسها بعدم تصديق قائلة بيقين…..
“محدش بيكره امه يا ياسين مهما عملت…..”
أسدل عينيه وقد عجز عن الرد، وعقله يدور في زوبعة من الأسئلة..عجزت العلكة عن إلهائه وقد تعلَّقت في أسنانه، متناسيًا وجودها كما تعلَّق قلبه في حقيقة لا يعترف بها !…
قالت الجدة برجاء….
“عشان خاطري يابني متدهاش الفرصة
تكسرنا…..”
انعقد حاجب ياسين بعدم رضا
قائلا بحمائية….
“ماعاش ولا كان اللي يكسركم…..”
قالت الجدة أبرار بنظرة متحفظة….
“كسرتنا هتبقا برجوعك ليها ياسين…وهي هتسعى لده….مش حب فيك…..دا حب في اللي ابوك سبهولك قبل ما يموت….حصتك
في مصنع الملابس……شركتك مع عمك
صالح في المصنع والمحلات كلها حاجات هتخليها تقرب منك تاني بعد ما اخوها قفل الباب في وشها…..وخرجها من جنته….”
وضعت يدها على ركبته تنظر اليه بقوة وعيون تلمعان بالخوف من القادم….
“خد بالك من نفسك انا مش حمل خسارة تانية…انت اللي مهون عليا فراق الغالي… فهمني يابن الغالي…”
“انا جهزت خلاص…..يلا بينا…..”
انقشعت غمامة الحزن والقلق من حولهما بعد سماع صوتها المفعم بالحيوية والدلال يدوي بالقرب منهما. رفع ياسين عينيه بلا أهداف…
فوجد الهدف أمامه فتنة متحركة من الجمال والرقة تتألق بثوب سهرة أزرق أنيق ومحتشم، مع حجاب يلتف بعصرية لن يُنكر أنها جميلة به… تضع زينة رقيقة تلائم ملامحها الأنثوية الصغيرة.
جسدها النحيل وقامتها القصيرة وقسمات وجهها الصغيرة الدقيقة يمنحونها مزيجًا رائعًا من الطفولة التاركة أثر جميلا عليها الى الانوثة المتشبثه بها حديثًا والتي تنضج
يومًا بعد يوم أمام عينيه….
“مالكم في إيه؟…..قلبين وشكم ليه؟…
شكلي مش حلو ؟…..”
حدجت بهم أبرار بقلق وهي تنظر الى نفسها
بشك….
وقبل ان تتفوه الجدة بشيءٍ عقب ياسين
بنبرة جادة ونظرة جافة….لم تلين حتى
بعد رؤيتها….
“للأسف….. حلوة أوي….”
“ليه للأسف…. عمرك ما هتكمل حاجة
للاخر انا هروح البس الشوز….”
ثم قالت بتبرم وهي تبتعد عنهم…..
“انجز ها… انت معطلنا كفاية رغي مع
تيته….لم نرجع ابقى احكيلها عن اخر
مغامراتك مع البنات…. يادنجوان عصرك….”
التوى فك ياسين بسخرية وهو ينتصب واقفًا
مكتفي بنظرة وداع الى الجدة قبل ان يلحق
بها للخارج…..
…………………………………………………….
ألقت عليه نظرة طويلة عاقدةً حاجبيها وهي ترى قسمات وجهه منقبضة بشكلٍ ملحوظ وكأنه يفكر في شيء يزيد من حنقه بينما قبضتا يديه تشتدان أكثر على عجلة القيادة وعيناه مثبتتان على الطريق.
لم ينطق بكلمة منذ أن خرجا من البيت وحتى استقلا السيارة معًا يجلسان بجوار بعضهما.
“وحدوا……”
قالتها أبرار بصوتٍ عالٍ تبدد غمامة الصمت
الكئيبة التي خيمت فوقهما….
نظر لها ياسين متمتمًا وهو ينظر اليها بقوة وكأنها نسي وجودها للحظة وانغمس في
ظلمة أفكاره وصراعاته….
“لا إله إلا الله…..”
سألته بنظرة مناغشة وغمازتها تظهر مع التواء شفتيها في بسمة جانبية…
“مالك ياسونه…. هي ميار مزعلاك ولا إيه…”
تافف منزعجًا وهتف بغلاظة…..
“أبرار خفي…. انا مليش مزاج لا اهزر ولا أتكلم…..”
قالت متبرمة… بنظرة ماكرة……
“ليه بقا ان شاء الله… فك التكشيره دي احنا رايحين فرح على فكرة مش عزا وبعدين سيرت ست الحسن والجمال بتاعتك بتعكر مزاجك؟!….عجايب…..”
رمقها باستخفاف قائلا…..
“مقولتش انها بتعكر مزاجي…وكمان مقولتش ان في بيني وبينها حاجة…..”
قالت مستنكرة…..
“جملتين مش مفهومين بصراحة….بش شكلك
مش عايز تحكيلي عنها….”
أومأ بفظاظة…..
“اعتبريها كده….. واسكتي…..”
امتقع وجهها بالغيظ……
“إيه اسكتي دي….هتمسك لساني ولا إيه…”
عندما لم يعقب قالت بمناكفة….
“وبعدين عادي لو حكيت ليا….مانا مسيري
أحكيلك….”
أدار ياسين رأسه اليها بنظرة كسهام
الحادة….
“نــعــم !!……. تحكيلي عن إيه بظبط؟…..”
اجابت أبرار ببرود….
“لما أحب….هو الحب حرام ؟….”
نظر لها نظرة قاتلة معقب وكأنه يمضغ
الحصى……
“حرام……. ومش حرام…..”
سألت مستفسرة….. “لا أفهم بقا ؟!….”
التوى فكه ساخرًا…….
“المفروض انتي تكوني فهماها لوحدك يابنت صالح الشافعي…..”
نظرت للنافذة المجاورة مكتفيه بالصمت بعد
ان ذكرها بـ أبيها……
شعر بان صدره يحترق كأتون حار فصاح على
نحوٍ مفاجئ هازئًا…..
“عيلة مفعوصة زيك….عايزة تحب….”
اتكأت على اسنانها وهي تصيح في
وجهه…..
“متقولش عيلة وفيها إيه يعني لما أحب واتحب…..انا مش صغيرة انا في كلية طب
وكلها كام سنة واتخرج….”
زجرها بصيحة حادة…..
“ممكن تسكتي…وبلاش حرقة دم على المسا يا….. يا دكتورة…”
على صوت تنفسها بغيظٍ فقالت بصراخ….
“تصدق انك غشيم…..ولطخ…..”
اتسعت عينيه وهو يحدق فيها معقبًا
بصدمة….
“أنا لطخ ؟!…”
عقدت ذراعيها امام صدرها مؤكدة بثبات
امام نظراته التي….ترعبها للأسف….
“أقل كلمة تتقالك والله…..”
ثم إضافت بجسارة غريبة…..
“اصل انا اسمي مش ميار بقا….شوف بتعاملني إزاي تلاقيك معاها كتكوتي كوتي كوتي بوتي…..”
فجأة ابتسم ابتسامة شيطانية ثم علق
بتسلية سفاح !……
“بوتي ؟!….فكرتيني أيام ما كنت بقعدك على
البوتي وبتروحي تعمليها على جمب في
الآخر…..”
شعرت وكأن دلوًا من الماء سُكب فوق رأسها فجاة بينما لمعة عينيها وأحمر وجهها بتدريج غضبًا وحرجًا….فصاحت بجنون…..
“إحترم نفسك الفرق اللي بينا مش كبير….
كلهم ست سنين عُمي…..متألفش…..”
نظر للإمام قائلا ببرود…..
“طب اسألي تيته مين كان بيقعدك على البوتي….”
ظلت تحدق فيه بغضب شديد فـنظر لها
ثم علق على لمعة عينيها بسخرية….
“هتعيطي !…. مع انك انتي اللي بدأتي…..”
اشاحت بوجهها قائلة بخشونة……
“بص قدامك…. ممكن…..”
زفر بضيق وهو ينظر أمامه معقبًا…..
“مش قد الهزار متهزريش…..”
رن الصمت بينهما وأصبح أثقل من ذي قبل
كانت تشتعل بنيران الغضب والحرج…كيف
استطاع ان ينتصر عليها مجددًا بتلك السيرة القديمة التي يرددها كلما أراد ان يخرسها !..
اما هو فكان عقله منشغلًا في حديثها
الطائش حول الارتباط والحب هل هي
جادة فعلا ؟
خرج ضجيج أفكاره عن الحد المسموح فسألها
دون مقدمات بفضول و…..قلق……
“هو انتي في حد في حياتك ؟!…..”
التفتت اليه بعينين تشتعلان بالغضب قبل ان ترد بحدة….
“ملكش دعوة…..”
عاد يسالها وهو يكاد يحترق على جمارٍ
ملتهبة……
“بتحبي حد يا أبرار ؟!….”
ادعت الصمم… فصاح بوجهٍ اربد غضبا…..
“ردي عليا…..”
سالته ببرود….. “مهتم ليه ؟!…”
هز رأسه بتشنج وبنبرة حازمة أعاد
السؤال……
“سؤال غبي بجد……انطقي عشان انتي بتكحليها معايا أكتر…..بتحبي حد ؟.. ”
اطلقت زفرة انهزام وهي تعترف على
مضض……
“لا….بس بكرة هحب مش هتمنعني يادنجوان عصرك اني أعيش حياتي زيك….”
رمقها بنظرة غريبة ثم أوقف السيارة فجأة
فشهقت متسعة العينين ، التفت نحوها
وهو يفك حزام الأمان قبل ان يقول
بصوتٍ هادئ….
“وصـلنا….”
اتخذت مكانًا وجلست على طاولة يجتمع حولها أصدقاؤها، بينما ظل هو بعيدًا نسبيًا عنها، يتابع حفلة الخطوبة بوجه جامد ونظرات خاوية من أي تعبير.
زمت شفتيها بحنق وأبعدت عينيها عنه
متابعةً العروسين ثم ابتسمت بهيام وهي
ترى الهمسات والنظرات المتبادلة بينهما
بحب ونظرتُ الفرح في عيني العريس
وكأنها أعظم انتصاراته…
“عقبالك يابيري…..”
نظرت أبرار لأحد أصدقاؤها وهي تقول
بسأم….
“تفتكري أصلا لو ارتبط هعمل خطوبة زي
دي…مظنش…..”
سألتها مندهشة… “وليه لا ؟!….”
سخرت متململة…..
“قصدك وليه آه…..معتقدش…..”
قالت صديقتها بتفاؤل….
“مفيش حاجة مستحيلة بدليل انك جيتي القاعة أهوه يعني باباكي ممنعش….”
قالت أبرار وهي تلقي عليه نظرة
خاطفة….
“لولا ياسين مكنتش عرفت اجي….”
غمزت لها صديقتها بخبث معقبة….
“وبكرة ياسين نفسه هو اللي يقنعه بالخطوبة…..”
انعقد حاجبي أبرار بتساؤل…. “تقصدي إيه….”
ضحكت الاخرى قائلة بمكر….
“معقول مش واخده بالك منه…دا انا ملاحظه…..”
ثم شاركت حديثها لباقي الفتيات بصيحة
مشاكسة…..
” تقريبا كلنا ملاحظين مش كده يابنات..”
ضحك الجميع مؤكد ببسمة لئيمة فقالت
أبرار ببغض شديد….
“إحنا اخوات على فكرة ويمكن اكتر كمان…. فبطلوا سخافة وقولولي نهاد وندى مجوش ليه…..”
قالت واحده منهن بضيق….
“بعتلهم محدش بيرد بس نهاد قالتلي إمبارح
إحتمال متجيش…..”
أكدت من كانت تحدثها منذ قليل…..
“ندى كمان قالتلي كده من يومين…. بس كنت حطه أمل أنهم يجوا خسارة بجد….”
قالت الأخرى وهي تلوح للعروس
مبتسمة…
“متعوضة….. لمياء بتنادي علينا…. عيزانا نرقص معاها…..”
رفضت أبرار بحزن وهي تراهم يتأهبون
للوقوف…
“لا روحوا أنتوا…. انا مش هتحرك من مكاني….”
قالت صديقتها وهي تجذبها من ذراعها
لتقف معها…
“لو على ابن عمك فهو لسه خارج دلوقتي…
شوفته بيتكلم في التلفون…. تعالي نهيص لها
شوية احنا صحابها مش هنفضل قعدين قعدت العواجيز دي…..”
رفضت وهي تنظر لمكان ياسين الفارغ
بتردد… “قولتلكم لا….”
“لمياء بتشورلك…..”
قالتها إحداهن فنظرت أبرار إلى العروس التي كانت تصوب نظراتها نحوها وتشير إليها بيدها لتتقدم منها…
قالت إحداهن بنفاد صبر…
“العروسة بنفسها عيزاكي ترقصي معاها… قومي بقا وبطلي نكد….”
قالت أبرار بارتياع وهي تتحرك معهم نحو ساحة الرقص حيث كانت العروس تقف
بانتظارهن…
“ياسين لو شفني مش هيحصل طيب…”
قالت صديقتها بتشجيع…..
“إيه اللي هيخليه يشوفك خمسة وارجعي
مكانك….”
تقدمت أبرار مع اصدقاؤها إلى ساحة الرقص حيث وقفت العروس في منتصف الدائرة تتألق بثوب أبيض براق أصبح موضة العصر في حفلات الخطوبة…
على صوت الضجيج بدأ التصفيق ينساب من حولهن وصوت غنائهن الأنثوي العالي يعلو باندماج مع الأغنية الشعبية المذاعة…
تشابكت الأيدي وتلاقت نظرات الفتيات بسعادة وحماس وشكّلن دائرة حولها وبدأن يرقصن بينما العروس تغني وترقص بفرحة. أبرار شاركتهن الرقص والصياح وقد تناست كل شيء وأصبحت كفراشة طليقة تتمايل وتغني بسعادة.
وفي وسط اندماجها بينهن لم تعرف لماذا رفعت عينيها نحو مكان معين لتراه يقف
هناك يحدق بها بنظرات ذابحة لو كانت
تقتل لوجدت حتفها في الحال.
توقفت في مكانها بخيفة تبادلة النظرات
بحرج شديد…
تجمدت ساقيها وكأن عيناه قيود تكبل
حركاتها…
بينما هو تحرك وتقدم منها بنفس النظرة…
نظرة قادرة على بث الرعب في أوصالها…
……………………………………………………..
استيقظ صباح يوم الإجازة وخرج من الحمام يجفف وجهه بالمنشفة فرأى التوأمان أعدا وليمة من الأسماك المالحة….
سحب مقعدًا وجلس وهو يقول بشهية مفتوحة….
“مين اللي نزل جاب الحاجات دي….”
قالت والدته بحنان وهي تضع اخر طبق على
السفرة….
“انا ياقلب أمك…. عرفاك بتموت في الفسيخ
والرنجة….”
“والسردين….. والبصل….”قالها وهو يقرب
السردين المملح من نهاد التي مطت شفتيها
بقرف قائلة…
“أبعد بس الحاجات دي عني….”
سالها وهو يضع اللقمة في فمه….
“انتي بتاكلي إيه؟…..”
اشارت على الطبق الوحيد القريب منها من بين كل هذه الوليمة…
“جبنة….”
قطب جبينه مستنكرًا وهو يشير على الاصناف
المنوعة أمامهم….
“جبنة !…تاكلي الجبنة وتسيبي الحلويات دي…..”
قالت ندى وهي تقضم من رأس البصلة
الخضراء…..
“قولها يابوب لسه أنفه زي ما هيه….. وملهاش في السمك…. بتقول ان احنا كده بنقضي على
الثروة السمكية…..”
عقب أيوب مستهزءًا…..
“عقبال ما نقضي على الثروة اللحمية….”
ضحكت ندى بملء شدقتيها….
“عسل ونبي يابختها اللي هتبقا من نصيبك…”
سايرها أيوب وهو مستمتع بمضغ
بالطعام….
“حبيبي وكفاءها….يعني فن التطبيل
يعني….. هاتي عيش من جمبك…..”
اعطت له الخبز وهي تنغمس في الطعام
مستلذة بالمذاق….
“اه مربى………بجد مربى….”
وافقها الرأي قائلا للنسخة الأخرى الجالسة بجواره….
“جربي هتندمي يادكتورة….”
زفرة نهاد مغتاظة من كلاهما……
“بس بقا يا أيوب مبحبوش بقولك….”
“ياماما قوليلو…..”
قالت الأم بضيق…..
“سيبها يا أيوب انا ريقي نشف معاها…”
مد أيوب اللقمة لأمه بمحبة….
“طب خدي انتي يا صفصف….”
اخذتها منه صفية بعيون تلمع بالسعادة وكأنه
يهديها أثمن الأشياء على قلبها فتلك الحركة
كان يفعلها والده كلما اجتمعا على الطعام
يطعمها بيده امام أولاده ويناغشها في كل وقت وحين……قالت بحنوًا……
“حبيبي تسلم إيدك ان شاء الله ما نتحرم
منك ابدًا…..”
أبتسم لها أيوب وهو يرى في عينيها الحنين والحزن على رفيق عمرها….
عاد ينظر الى نهاد يناكفها بأسلوب
صبياني…..
“طب اي اللي عجبك في الجبنة…أفهم…”
قالت بترفع متحاشية النظر الى ما يأكلون..
“يكفي انها مش زفرة….”
ارتفع حاجب أيوب بعدم رضا…..
“انا حاسس ان احنا بنتشتم….”
قالت ندى بلؤم….
“حاسس خليك متأكد انها بتهزقنا…..”
قالت لها نهاد بضيق…..
“خفي يا اشعال ذاتي شوية…..”
برمت ندى شفتيها وهي تقضم من البصل الأخضر مستلذة الأطعمة…..
“البصل الاخضر حكاية…..”
وضع أيوب قطع من السمك المالح (الفسيخ)
في اللقمة ثم عصر الليمون عليها قائلا…
“بصي بقا لما نحط اللمون كده على الفسيخ
بيترقى….”
وضع اللقمة في فمه يمضغها بمتعة كبيرة…
ثم نظر الى نهاد ملحًا…..
“جربي يادكتورة……هتندمي…..”
“سبني أندم…..مـ…….”
وعلى حين غرة وجدت اللقمة تدس في فمها
من يد أيوب….
افرغت اللقمة في يدها وهي تصرخ بغضب مشمئزة ثم ركضت الى الحمام قائلة
بهستيريا…
“حرام عليك يا أيوب ليه كده….ليه كده
بجد….”
ضحكت ندى عليها وهي تغمز لأيوب بتشجيع فوجدته يضع معلقة من الجبنة في فمها المفتوح بالضحكات فانكمشت ملامحها في اللحظة التالية ثم قالت بغضب وهي تقفز
من مكانها….
“اي يابوب القرف ده يابوب….جبنة مع فسيخ….طب والله ما وكله….”
ثم لحقت بتوأمها بخطوات غاضبة…
قالت الأم معاتبة رغم انها تشاركه الضحك….
“كده يا أيوب نكدت عليهم….”
بإبتسامة متشفية أضاف بلا مبالاة….
“شوية من اللي بيعملوا فيا…..المهم ان الواحد
هياكل براحته…..”
قالت امه باستياء….
“آه لما بتحط حد في دماغك….”
بعد صلاة العصر وجدهن يجتمعن أمام التلفاز
أمه تشاهد أحد الأفلام القديمة، بينما التوأمان يتابعان شيئًا على هواتفهن ويتشاركان الحديث حول الأمر
جلس على المقعد ثم قال بدون مقدمات….
“اي رأيكم نخرج النهارده…..”
سألت ندى بلؤم…. “بتصالحنا يعني….”
اوما مبتسمًا….. “حاجة زي كده….”
سألت ندى مجددًا بحماسية…
“وهنروح فين….”
اخبرهم باختصار شديد…..
“في مول ****في محلات هناك عاملة عروض حلوة على الهدوم…..تعالوا نروح
هناك ونشوف منها فسحه ومنها كسوة
العيد…..”
رفضت ندى وهي تقول بطمع…..
“العيد لسه فاضل عليه كام شهر…لا انا اللي هشتريه هحضر بيه المناسبات الجاية مش كفاية فوت خطوبة لمياء صاحبتي..”
اكتفى بالموافقة وهو ينظر الى نسختها
الاخرى الصامته…..
“ماشي…. اي رأيك يامارد وشوشني…..”
حدقت نهاد فيه لبرهة ثم عاقدة ذراعيها امام صدرها وقالت بنظرة متوعدة خبيثة….
“طالما فيه اسراف وانت بنفسك اللي عايز
كده انا جايه….بس مترجعش تندم…..”
قالت الام بتعنيف محذرة….
“متقلوش على أخوكم….خلي عندكم شوية قناعة…”
قال ايوب بحسم…..
“خلاص روحوا البسوا…. وانتي ياصفصف معاهم…..”
رفضت الام بحنوًا….
“لا يا أيوب خد اخواتك وروحوا شموا هوا…
انا مفييش جهد للمشي والفرهدة….”
ظل متمسكًا برأيه وقال….
“في اي ياصفصف متنكديش علينا هتيجي
معانا يعني هتيجي معانا….”
رفضت الام مصرة…..
“والله ما هقدر…..سبني بقا على راحتي…”
قالت نهاد بملاطفة…..
“خلاص يا أيوب كده كدا….انا عارفه مقاسات ماما وهجبلها حاجة على ذوقي هتعجبها…”
ضرب على ركبتيه وهو ينهض من مكانه….
“طب يلا انجزوا…خمس دقايق وتكونوا قدامي…..”
قالت ندى بمزاح وهي تدلف الى الغرفة….
“صلي على اللي هيشفع فيك…مش أقل من نص ساعة احنا لسه هنورنش وشنا….”
اتسعت عينا أيوب دهشةٍ وهو يترجم الكلمة
ثم صاح بخشونة محذرًا…..
“اياكوا تحطوا حاجة على وشكم…..سامعين…”
____
بعد مدة وفي قلب المركز التجاري المزدحم
بعض الشيء تختلط أصوات المتسوقين
مع الموسيقى المنبعثة من احد المحلات
وروائح العطور الفاخرة الاتيه من متاجر
العناية الشخصية…..
كل واجهة لها لغة مختلفة بين الألوان المتنوعة حد التناسق، والإضاءة والديكور الفاخر أشياء تسحر عيون المتسوقين في دعوة سخية للاقتراب وشراء كل ما يجذبهم…
وواجهات محلات الأزياء في المول تصاميم تحكي تناسقًا مدروسًا من مصممها وألوانًا وضعت في مكانها الصحيح لمعة القماش واختيار القَصَّة المناسبة…
كُتب على المول بالخط العريض.
(أزياء الموجي)
ولطالما كان هذا الاسم يتردد كثيرًا أمامه في فترة كان مغرمًا بهذا المجال ويتفانى في التعلم وحفظ كل تفصيلة ولو صغيرة به. وكان هذا الرجل منبع إلهام وإعجاب له منذ سبع سنوات. لكن الآن تغير الكثير داخله فأصبح يرى عالم الأزياء كلوحة جميلة تعجبه لكنه لن يشارك فيها ولا حتى بتعليقٍ صغير…
كان الأشقاء الثلاثة يسيرون جنبًا إلى جنب
يحملوا في ايديهم أكياس التسوق…
و عند أحد المقاهي جلسوا لالتقاط أنفاسهم بينما كانوا يتشاركون الحديث ومشروبًا مثلجًا اشتعل النقاش حولهم فقال أيوب مدعي الغيظ…
“انا غلطان… انا اللي جبته لنفسي….ضيعتوا الجروش ياولاد عبد العظيم…..”
ضحكت ندى وهي تقول باستمتاع….
“فدانا…..المهم ان الدريسات تجنن اي رأيك يانهاد….”
قالت نهاد مؤكدة بسعادة…..
“والعباية اللي جبتها لأمك تحفه…..هتعجبها أوي…”
قالت ندى بمناغشة….
“ايوب اللي اختارها أصلا…..”
اومات نهاد بابتسامة فخر……
“طبعا احنا معانا خبير في الاقمشة…”
أكدت ندى وهي تقول لأيوب بجدية…..
“والله خسارة انك سبت الخياطه….كان هيبقا ليك مستقبل فيها…..”
وضع ايوب الكوب فارغًا ثم اعتدل في جلسته
قائلا بنبرة هادئه تخفي الكثير في جُعبته…..
“كده أحسن……خلصوا العصير خلينا نروح الحق انام كام ساعة…”
ثم أضاف بمللا وارهاق واضح…..
“لحسان هنزل الفجر استلم البضاعة اللي هفرشها في السوق….”
………………………………………………………
“يعني إيه نزلت من غير حِراسه وانتوا كنتوا
فين يابهوات….”
صاح كمال الموجي بغضب بصوت زلزل سكون حديقة الفيلا المتواجدين بها بينما يجلس متصلبًا على مقعده المتحرك وأمامه يقف قائد الحرس يستمع للتوبيخ عن تقصيره في عمله المكلف به وخلفه يقف رجاله تكسو وجوههم ملامح الحرج يستمعون بصمت دون تدخل تاركين القائد يوضح الأمر
تململ قائد الحرس محاولا التماس
العذر…..
“ياكمال بيه هي رفضت اننا نيجي معاها…
قالت انها راحه تشتري حاجات من مكان
قريب من هنا ومش محتاجة وجودنا
معاها وأصرت….”
ضرب كمال على ذراع المقعد مغتاظًا…
“وطبعا لما هي اصرت حضرتك ما صدقت
تريح دماغك واهو كده كدا مرتبك هتاخده
مش هينقص حاجة روحت معاها او لا
المهم انها رفضت….”
كان الرجل سيعترض على هذه الإهانة
اللاذعة..لكن رب عمله لم يسنح له
وهو يتابع باستهجان….
“مع انك عارف كويس ان من أسبوع حصل
حريق في المخازن ويومها قطع عليكم
الطريق شكري العزبي وانت بنفسك اللي مبلغني بـ ده…..لولا انكم كنتوا معاها انا
مكنتش عارف هيحصلها إيه… ”
تمتما منفعلا منهي الحديث…..
“وبعد كل ده حضرتك تسيبها تخرج لوحدها..”
قال القائد مبررًا…
“يافندم هي رفضت مـ….”
زجرة كمال بسخط واضح…..
“حتى لو رفضت تطلع وراها من غير ما تلاحظ المهم تكون عينك عليها عشان لو حصل اي حاجة تكون قريب انا اللي هفهمك
شغلك ياحسام بيه…..”
اسبل حسام عيناه قائلا بصوتٍ تحشرج
من شدة الحرج….
“عندك حق انا آسف…..انا هروح دلوقتي أ….”
قاطعه كمال وهو يشير له برحيل الان
من امامه….
“لا تروح ولا تيجي اتفضل دلوقتي…لما اشوف
الأول هي فين بظبط…..”
“مفيش حد شايف شغله….”
قالها كمال وهو يرفع الهاتف إلى أذنه فأتى الرد الذي سحق قلبه خوفًا الهاتف مغلق !…
انعقد حاجباه والغضب يتفاقم في صدره وألف سيناريو بشع يدور في عقله…
هذه الفتاة عنيدة وبسبب عنادها ستعرض نفسها للأذى وسيموت هو يومًا من شدة الهلع عليها..
يجب أن يجد شخصًا يكون على قدر عنادها يملك من الصلابة ما يوازي صلابتها ومن العزم ما يكبح تهورها شخصًا لا يتراجع أبدًا عن حمايتها حتى من نفسها.
شخص يكون كظلها يرافقها أينما ذهبت لا يتركها حتى إن طلبت ذلك لكن أين يجد هذا الشخص وكيف يضمن وفاءه لهما !…
_____________________________
صعدت على السلم الكهربائي هبوطًا للأسفل حيث بوابة الخروج نظرت إلى الأكياس بين يديها التي تحمل أسماء علامات تجارية معروفة كانت ترتدي فستانًا صيفيًا أنيقًا شعرها مصفف بعناية ومنسدل خلفها بافتتان بينما رماديتاها كحيلتان بجمال عطرها الفاخر يترك أثرًا خفيفًا في الهواء تنظر حولها شاردة الفكر….
مر أسبوع على حادثة حرق المخازن ومقابلتها للوزان وتهديده الصريح لها بأنه سيدمر أغلى الأشياء لديها وسيبدأ بعملها أولًا شركة الموجي للأزياء شركة كانت أشبه بابنة والدها الأولى كبرها عامًا بعد عام لم يكن يراها مجرد مشروع تجاري بل امتدادًا له لجهد وكفاح سنوات…
كمال الموجي ليس فقط رجل أعمال ناجح لديه شهرة واسعة في مجاله إنه رجل بدأ من الصفر وصنع المجد بأحلام حققها على أرض الواقع….
رجل وضع سنوات عمره في كل زاوية من زوايا الشركة خطّ بالعزم والشغف كل تصميم وكل قطعة حاكها بيده..حكى عنها الجميع بانبهار يفوق الوصف…..
هل ستتركه يدمر كل ما بناه والدها وما كان بالنسبة له أكثر من مجرد شركة ؟!…
العزبي لا يتحدث عبثًا وإذا توعد نفّذ وما حدث حينها خير دليل على أنه لن يترك لها قشة نجاة تتعلق بها في الحياة سيجعلها تموت ببطء انتقامًا منها على رفضها لابنه سابقًا الذي أقدم على الانتحار ولقي حتفه بسببها هي !
اليوم قررت أن تخرج لعلها تجد في التسوق عزاءً يخفف عنها ثقل الأفكار التي لا تهدأ وبعناد استثنت مرافقة الحرس الشخصي
لها وكأنها تقول للعزبي
أنا هنا اقتلني وأرحني من هذه اللعبة
السخيفة !…
دلفت إلى المرأب واتكأت على مفتاح السيارة بين أصابعها ثم جلست في مقعد القيادة..
أغلقت الباب وبدأت تضع الأكياس على المقعد المجاور….
ارتجت السيارة فجأة بعد ضربة عنيفة على إطارها رفعت نغم عينيها بصدمة جافلة لترى أمامها رجلًا ملثمًا بملابس سوداء ونظرات إجرامية موجهة نحوها يمسك بين يديه أداة حادة ضرب بها للتو إطار السيارة…
اتسعت عيناها وعقلها يستوعب الخطر المحاطة به الموت الذي كانت منذ قليل
تتمناه بجسارة وعناد اتى لـعندها…
تجمدت مكانها تنظر إلى الملثم بعجز وقلبها هوى أرضًا من شدة الهلع….
صرخت صرخة تكاد تمزق أحبالها الصوتية والدموع تعرف طريقها إلى عينيها بينما جسدها ينتفض بقوة…
حاولت أن تدير محرك السيارة لكنها فشلت
من شدة الخوف فـتوقف عقلها وشلت أطراف جسدها…
لم يمنحها الملثم الفرصة حتى رفع الأداة الحادة مجددًا وضرب بها إطار السيارة
وضعت يدها على أذنيها وأغمضت عينيها بقوة حابسة أنفاسها في ظلمة الخوف وصرختها تخرج منتفضة مع كل ضربة تتلقاها السيارة وكأنها تنالها هي بشعور من الهلع والنهاية الحتمية التي يرسمها لها الموقف بدمويته
لحظة لحظتين وانتهى صوت الأداة العنيفة وحل السكون المفجع فتحت عينيها
الحمراوين تنظر حولها لترى إطار السيارة قد تحطم بشكلٍ عنيف وكأن وحشًا انقض عليه بلا رحمة…
نظرت إليه بعينين مرتعبتين وكأنها ترى انعكاس مصيرها في ذلك الخراب
انتفضت بصرخة مكتومة وهي تسمع من يطرق على شباك سيارتها برفق….
رفعت عينيها المذعورتين لترى فتاة ملامحها مألوفه لها لكن عقلها مشوشًا الان….
خرجت من السيارة بصعوبة ولا تعرف كيف فعلتها لكنها تستحق جائزة عليها…
وقفت بساقين مرتخيتين تكاد لا تحملانها
بينما كانت نظرات الإعياء تثقل عينيها….
“انتي مين؟…..”
قالت ندى بقلق وهي ترمقها بتفحص….
“اللي كان بيضرب على عربيتك أول ما شافني جري….انتي كويسه؟……”
اكتفت نغم بإيماءة وجسدها يوشك على الانهيار من بشاعة ما حدث للتو والذي انتهى مؤقتًا ما زالت لا تصدق أنه انتهى بسبب وجود هذه المراهقة التي ظهرت من العدم
وما زالت مشوشة عن تذكرها….
“شكلك مش فكراني….بس انا فكراكي من
اول ما شوفتك….انتي نغم هانم….انا ندى
اخت أيوب لو فكراه؟…..”
وكيف تنسى صاحب الندبة والعيون العابثة باللهو !….
شعرت بأن الأرض تميد تحتها لتزحف إلى الظلام رويدًا رويدًا بين ذراعي ندى التي لم تقدر على حملها بشكل جيد فنادت على أخيها الذي وصل للتو إلى المرأب حيث سيارته البسيطة وبصحبته نهاد نسختها الأخرى وقد توقفا بدهشة وهما يتابعان ما يحدث
بتساؤل..
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.