رواية اشتد قيد الهوى – الفصل الثالث
مقفرة هي عقول تنساق خلف الشهوات ومطامع الحياة ونست الحسبة الكبرى
إن لكل خطأ ثمنًا باهظ يُدفع ولو بعد حين
فأحذر من غفلة تجرفك مع التيار الى
المجهول !….
وقف أسفل الثُّريَّا المنيرة في بَهْو المنزل الفاخر يتطلع على كل جزءًا ظاهر بعينين تلمعان بالطمع ونشوة الانتصار بعد خطوة واحدة ، سيجني الكثير من الأموال سيحقق جميع الأحلام..
ابتسم سلامة بسعادة متمتمًا بعد ان
قفز في عقله وجه أيوب……
“مش لو كنت طوعتني ياصاحبي كان
زمنا بنتقاسم انا وانت في الهيلمان دا كله…”
“وانت بتوزع من مال أبوك بقا عشان كده
هنقسم التركة سوا….”
جحظت عينا سلامة بصدمة مُستديرٍ الى مصدر الصوت الذي يعرف هوية صاحبة
دون أدنى شك…..
“أيـوب….أنـ……”
وقبل ان يتابع باغته أيوب بلكمة قوية في أنفه على أثرها ترنح سلامة للخلف جافلا
ومزال تحت تأثير صدمة وجود أيوب هنا….
“طول عمرك وسخ….هنتظر إيه من فتاح
خزن…..حرامي… ”
صاح بها أيوب بحدة وهو يسحب سلامة من ملابسه مسدد له اللكمات بغضب هائل قد فقد السيطرة على نفسه بعد ان أوهمه هذا الفاسد
بالتوبة الزائفة لسنوات وتقبل النصيحة، بعد
ان تشارك معه الخبز والعمل وفتح له بيته واعتبره اخًا لم تلده أمه خانه وكذب عليه…
ماذا ينتظر من نبته ضارة ترعرعت في ارضًا
غير صالحة، الاقتراب منها يؤدي الى التسمم حتَّى الموت وهو لم يحسب للأمر تعامل
معه بمروءة لطالما كانت السبب في خراب
حياته والندبة التي في عنقه خير دليل….
بانه سيصل للموت يومًا بسبب تساهلة
مع البشر !….
وضع سلامة يده على أنفه التي تسيل بخطٍ
من الدماء وهتف سائلا بالسؤال الذي يحوم
في رأسه بدهشة كبرى….
“عرفت ان هنا إزاي؟….”
رد أيوب لاهثًا بغضب….
“براقبك ياحلو…..وشكي فيك طلع في محلا…”
هتف سلامة بمداهنة….
“يا أيوب اهدى كده واسمعني….دي خطفة العمر ياصاحبي…بُص حوليك هتعرف ان
طاقة القدر اتفتحت لنا….رزق وجه لحد عندنا….نعمل إيه ؟!… ”
التوى فم أيوب ببسمة سفاح على وشك
سفك دماء هذا الملعون….
“نسرقه مش كده….فين الرزق وانت بتنط على بيوت الناس وبتفضي اللي في جيوبهم…”
أشار سلامة على الباب خلف ظهر أيوب
قائلا بجدية….
“قصدك اللي في خزنتهم…..الباب المقفول
وراك ده….باب مكتب وفيه خزنة…..”
حرك أيوب رأسه بتساؤل….
“وعرفت منين بقا….دا انت لسه داخل….”
أخبره مختصرًا….. “ذكي قالي….”
ازدادت الشكوك والاسئلة وهو يستفسر
منه……
“والصايع ده عرف التفاصيل دي منين…”
هتف سلامة بحنق متلهفًا….
“مش وقته يا أيوب….لازم نخلص وبما انك
معايا يبقا القسمة هتبقا على تلاته…وانا وانت
طبعًا هناخد العكمة الكبيرة….”
حرك أيوب حاجبيه مستأنف…. “انا وانت….”
أومأ سلامة وعينا تلمعان بظفر….
“اه طالما جيت يبقا مش هنخرج من هنا فاضيين…..”
“لا هنخرج فاضيين….ودلوقتي….”مد أيوب
يده كي يقبض على ملابسه ابتعد سلامة
عن مرمى قبضته مزمجرًا بغيظ…..
“انت بتقول إيه….بعد ما وصلت لحد هنا أمشي دا على موتي…..”
قبض أيوب على ياقة قميصه صائحًا
بنظرة مظلمة مرعبة…..
“يبقا موتك يا سلامة…..”
صرخ سلامة في وجهه بنفاد صبر….
“ايـــوب….عايز تمشي انت أمشي…انا مش هتحرك غير لما اخد اللي انا عايزة…زي ما نويت….”
هتف أيوب وهو يهزه بين
يداه بعنف…. “انت شيطان يلا….”
زجره سلامة هادرًا بتعنت……
“صح وألعن منه كمان….أبعد انت بقا عني يـامـلاك وخليك في فقرك والمخروبة اللي
دفني فيها….”
رد أيوب مستهجنًا منه….
“المخروبة دي انضف منك…على الأقل فلوسها
حلال…..”
ليقول سلامة بنزق….
“وانا مليش في الحلال…جربت ومنفعش……”
صرخ في وجهه أيوب بسخط محتد…
“عشان انت وسخ…وماشي ورا عيال صيع ولاد ستين كلب بيلعبوا في مخك….بعد
السنين دي كلها بتمد إيدك…وسنين السجن ايه متعلمتش منها رايح لسكه الزفت دي تاني….”
نزع سلامة يداه عنه هاتفًا من بين
أسنانه بتردد…..
“أيوب أبعد عني ومتبوظش الدنيا….الدقيقة
هنا محسوبة…..وممكن نتقفش….”
رد أيوب ببرود… “لوحدك هتشيل شيلتك…..”
عقب سلامة هازئًا…..
“انت كدا كده بقيت ملطوط معايا في
الحوار.. ”
نظر له أيوب بعينين ضاريتين وفلتت
سبه بذيئة من بين شفتيه…..
فقال سلامة بأسلوب مقنع…..
“دي الحقيقه فكر وجودك هنا مش من فراغ
ياصاحبي دا ربنا عايز كده رزقك…..”
مالى أيوب بوجهه للجانب الاخر يهز
رأسه باستياء ويلعن نفسه واليوم الذي
اخذ هذا الخسيس صديق له….ثم
عقب بكراهية شديدة…..
“انت ألعن من الشيطان….دا يخربيت اليوم اللي شوفتك فيه وصاحبتك يلا بينا…وبرا المكان ده نتحاسب….”
مسكه أيوب بقوة ينوي الخروج به
فزمجر سلامة مصممًا….
“مش مااااااشي يا أيوب….قولتلك مش مااااشي……”
توقف أيوب عندما سمع صوتٍ يأتي من الطابق العلوي لشخصٍ يحتضر في نزاع
مع الألم….
“اي الصوت ده….انت قتلت حد ؟!..”
سأله أيوب بوجهٍ بهت متخيلا الاسواء….
رفع سلامة يداه للأعلى مجيبًا بصدق….
“انا ملحقتش اتحرك من مكاني….وبعدين
انا مليش في القتل….”
عاد الصوت يتكرر بالاهات فعقب أيوب
متيقنًا…..
“دا صوت حد بينازع……”
كاد ان يذهب لمصدر الصوت لكن سلامة
منعه قائلا بتبلد…..
“رايح فين….خليك هنا لحد ما افتح الخزنة..”
“خليك مكانك عارف لو اتحركت خطوة
واحده هقتلك يا سلامة….هقتلك…”حذره
أيوب متكأ على أسنانه بقوة وبنظرة جادة
غير متهاونة….
ثم نظر الى الدرج الممتد أمامه والصوت المتألم المنبعث من الأعلى يتزايد فلم
يستطع تجاهل الأمر لذا خطى خطواته
صاعدًا بحرصٍ شديد بعينين حادتان
مراقبتان المكان من حوله…..
بينما بقى سلامة مكانة بملامح مكفهرة ونظرة
تشتاط غضبًا غرز اصابعه في خصلات شعره بقوة يكاد يقتلعه من شدة ما يعتريه…
خطفة العمر انتهت قبل حتى ان تبدأ وحلم
السفر والاموال الطائلة أصبح أبعد إليه من
نجوم السماء !…..
ظل أيوب يتبع الصوت حتى وصل الى باب
غرفة مضاءة موارب بابها وصوت نزاع مؤلم
يصدر من رجلا عجوز هكذا راه أيوب من
شق الباب واقع بجوار الفراش عاجزًا عن الوصول لـشيئًا لم يراه أيوب بعد فكان
عند الجانب المغلق من الباب…..
جسده كله في حالة تأهب ولكن عقله يعرقل
هذا التصرف الإنساني فظهوره يعد شبهة جنائية لها عواقب وخيمة ، كيف يقدم
على المساعدة في عقر دار العجوز !…..
من أين اتى ؟!….ولماذا اتى ؟!…..
أخذ الأمر دقيقة واحده وعندما زاد أنين
الرجل وجعًا حسم الأمر ودلف إليه….
كان كمال الموجي منبطح أرضًا على بطنه يحاول الوصول الى كرسية المتحرك بعد
سماع اصوات رجال بالاسفل ولكنه فشل
في الوصول إليه بسبب شلل ساقه وزاد
الوضع الصحي سواءًا عندما ضاقت أنفاسه
وبدأ ينازع في سحب الهواء لرئتاه لكن
دون جدوى وكأن الهواء انعدم فجأة من غرفته…..
القلق يتزايد على ابنته رغم علمه أنها لم تعد من العمل بعد إلا انها على وشك الوصول هل اتت وتلك الأصوات لرجال عصابات قد أرسلهم
هذا المجنون لايذاءها….
ضعيف هو وعاجز والموت يحوم حوله
ويفتك به !……
أنتبه كمال الى الباب يفتح ويقترب منه شاب
طويل القامة عريض المنكبين يميل عليه ويساعده في التسطح على الفراش سائلا
دون النظر إليه….
“في حاجة بتاخدها…..شاور لي عليها طيب..”
كان كمال يشير على جارورة المنضدة البعيدة
نسبيًا عن الفراش هامسًا بكلمات متقطعة..
“بــ….خـاخة…….الر…..بو…….”
فهم أيوب سريعًا واتجه الى المنضدة يخرج منها بخاخة الربو…..اعطاها له مساعده على
استنشاقها وعيناه غامت في ذكريات مريرة
عن والده الذي كان يعاني من نفس مرض
الربو لـسنوات عدة….
أخذ الأمر دقيقتين حتى بدأ يستعيد كمال أنفاسه بصورةٍ طبيعية شاهقًا زافرًا فـقد
عاد للتو من صراع مع الموت….
أشار كمال على كوب الماء اعطاه له أيوب
بهدوء متراقبًا تعافي الرجل كليًا حتى يعود
من حيث آتى….
“انت مين…..”
سؤال متوقع نطق به العجوز متوجسًا منه فابتعد أيوب عنه مصعوق وكان الصاعقة ضربت عقله الآن فانتبه انه أطال الوجود هنا…وكل دقيقة تمر تضعه تحت الشبهات
وكل هذا بسبب الخسيس
الخسيس ؟!…
كيف نسى أمر لصَّ الخزائن المتحالف مع الشيطان !…..
ابتعد أيوب سريعًا مغلق الباب خلفه فصاح
كمال مناديًا بقوة….
“قولي انت مين بنتي فين….نـغـم….نـغـم
بنتي…..”
وضع كمال يده على صدره متألمًا بتعب فأصبح النداء يشكل جهدًا أكبر من تحركه الآن…
“نـــغــــم………نااااااااااغم……..”
توقف أيوب مكانة في منتصف درج السلم وهو يسمع نداء العجوز وصيحة الاه منه
في الاخر…وكأنه فقد الوعي….او فارق
الحياة !….
اعتصر أيوب جفونه بقوة وصدره يغلي بغضب
وخوف لكنه تابع الهبوط على الدرج مصممًا
على الرحيل فرأى سلامة ينتظره في البهو خالي اليدين فضاقت عينا أيوب باتهام صريح وهو يهجم عليه يفتشه كالمخبرون…..صاح سلامة بغضب منه…
“مخدتش حاجة ولا حتى اتحركت من
مكاني أدخل اتأكد بنفسك…..”
“هتأكد حد قالك اني بقيت بثق فيك….”
فتح أيوب بـاب المكتب بالفعل تفحص
المكان بدقة ليجد كل شيءٍ بمكانه
لا شيء يثير الشّكوك حتى الخزينة
لم تمسس…..
“سلامة…..إيدك مطولتش صح؟…..”
أعاد أيوب السؤال وهو يشعر ان هناك حلقة
مفقودة فليس من الطبيعي الانصياع لأمره
والخروج من هنا دون اخذ شيء !…
أجابه سلامة بحدة…..
“ورحمة أبويا وامي اللي معرفهمش…ما حصل…..”
أشار أيوب للأعلى بصوتٍ جاد….
“الراجل اللي فوق شافني يعني لو في
حاجة لقطها انا اللي هبقا في الوش….”
هتف سلامة بمداهنة…
“المهم إنك ساعدته ياصاحبي….”
تساءل أيوب…. “انت طلعت ورايا ؟!…..”
أومأ براسه بمناورة….
“آه بطمن لحسان يكون في لبش….”
ثم اضاف بارتياب….
“خلينا نخرج من هنا…قبل ما يبلغ عننا…”
……………………………………………………..
وقع ارضًا متاوهٍ بعد ان باغته أيوب بلكمة
قوية…..
صاح سلامة وهو ينهض من مكانه مسددًا اللكمات له بغضب….
“هو انا بقيت ملطشه ليك…..”
رد أيوب له اللكمات بانفاسٍ متسرعة
من شدة الغضب مستشيطًا وهو
يسأله بحدة…..
“وليك عين تبعبع كمان…..انطق يلا عرفت
الفيلا دي إزاي….واي دخل ذكي الزفت
ده في الموضوع….”
تراجع سلامة والقى نفسه على الأرض جالسًا
بتعب غير قادر على متابعة القتال أكثر من هذا….فهم ولمدة ساعة في حلبة مصارعة كالثيران يهاجمان بعضهما بضراوة…..
“معلق مع البت الممرضة اللي بتمرض الراجل الكبير….وكلام جاب كلام بينهم حكت له عن
الناس اللي شغاله معاهم…..”
اسند أيوب جذعه على مقدمة سيارته التي
تنير لهم هذا المكان الهادئ المنزوٍ عن أماكن المدينة الصاخبة…..
“حكت إيه بظبط ؟!…”
أخبره سلامة بصوتٍ متهدج بتعب….
“ان الفيلا معلهاش حراسة….وانا اخر طقم
حراسه كان واقف من أسبوع فات ولسه بيكلموا شركة أمن يكلفوا ناس تحرسهم..
بتقول ان في عواء مع بنت صاحب الهيلمان
ده…..وان في ناس عايزة تقتلها….”
مع سكوت أيوب وعيناه المدققتان بصاحبه
تابع سلامة معترفًا بتفاصيل كاملة…
“الفكرة لعبة في دماغ ذكي خصوصا ان المكان فاضي وسهل اي حرامي يدخل ويخرج
الجنايني اللي شغال معاهم من سنين مسافر يومين عند أهله في البلد… والشغالة بتيجي بنهار وبتمشي على الساعة عشرة بليل….
والممرضة كمان مش بتبات في الفيلا آخرها الساعة حداشر وتروح والراجل الكبير بينام من الساعة تسعة…..يعني المكان فاضي وده انسب وقت نخلص…..”
“كلمني ورساني على الدور….وعرف ياخد من الممرضة كل المعلومات اللي عايزها من غير
ما تشك في حاجة….اصل المغفلة عمرها ما قابلته يعرفوا بعد من عن نت بس….
ومفهمها انه طيار….”
ضحك سلامة هازئًا بينما اظلمت عينا أيوب
أكثر فازدرد سلامة ريقة متابعًا الباقي من
الحكاية…..
“اتفقت اني هروح المصلحة دي النهاردة وهو
معايا….بس مردش ابن الـ….تلاقيه تقل في
الشرب ونام قتيل….انا عارفه حمار….ويمكن
يكون رماها عليا وعايز ياخد حقه ناشف
من غير ما يتلط في الحوار لا في سرقة
ولا في بيع…..”
صاح أيوب مزمجرًا….
“ياولاد الكلب……دا انت وهو مرتبين لكل حاجة….”
بتعنت هتف سلامة بجزع….
“هي مترتبه….بس انت وجودك بوظ الدنيا….
وضيع المصلحة من ايدي….”
لوح له أيوب بازدراء…
“بكرة تلاقي مصلحة جديدة متقلقش اللي زيك مش هيغلب…”
سأله سلامة وهو يقف…. “يعني إيه ؟!..”
التوى فك أيوب بسخط….
“وليك عين تسأل كمان….يعني انت من طريق
وانا من طريق وكفاية لحد كده خلصت…”
هدر سلامة منفعلا….
“ولما هي خلصت مسبتنيش أكمل اللي
جت عشان ليه….”
بمقارعة أجابه أيوب….
“عشان الراجل شافني ياحدق…واي حاجة هتلقطها هتاخد انا في الرجلين….”
“وتفتكر بقا هو مش هيبلغ عننا….”
أجابه أيوب بنظرة محتدة….
“هيبلغ أكيد….بس مفيش حاجة اتسرقت…يبقا
مفيش جريمة….فهمت…”
حاول سلامة الإعتذار…
“أيوب…..انا غلط بس اوعـ…..”
بتر أيوب الحديث بنظرة غير متهاونة
كـرصاصة قاتلة…
“اقطم على الحوار…. انتهت…انت بتحرق
على الفاضي….”
“سبني في فقري وفي المخروبة اللي شغال
فيها وخليك انت في حياتك اللي اختارتها
الله يسهلك……”
ذكره بالحديث الذي القاه على مسامعه بمنتهى
الغباء متحالف مع شيطانه في عدم الحفاظ
على اي شيءٍ نظيف في حياته !…
وأيوب كان الشيء الوحيد والاخير عنده !…
حاول سلامة مبررًا الذنب بأخر….
“يــا أيوب…..انا كنت مضطر…..انا نفسي
أسافر….نفسي يكون معايا فلوس ياجدع
امتع نفسي بالدنيا زي بقيت الناس…هو
حرام….”
رد أيوب قانطًا….
“الحرام انك تستسهل الطريق وتلجأ للحرام..”
هتف بأسف…..
“الشيطان لعب بيا….وغلط وعايزك تسامحني….”
رفض أيوب بنظرة غاضبة….
“متحولش يا سلامة….انا لا بقيت بثق فيك
ولا بقيت عايز اصاحب واحد زيك….”
ثم أضاف بنبرة شاجنة….
“انا كنت بكمل اللي أبويا كان بيعملوا معاك…
بس لو الحاج عبد العظيم كان عايش وشاف
إيدك بتطول تاني على حاجات غيرك….كان
قطعها…..وسامحك…..”
“انا بقا لا هقطع إيدك ولا هسامحك…انت
إدرى بمصلحتك…..وانا كمان مصلحتي
بعيد عن واحد زيك……..”
سار أيوب مبتعدًا عنه ثم استقلّ السيارة وانطلق بها امام عينا سلامة اليائستان الندمتان على خسارة صديق العمر….
قد سار خلف هواه متشبث بالسهل الممتنع
ولم يحسب للعواقب…..
صدح الهاتف الخاص به فتح الخط ودون مقدمات صاح بنبرة حانقة مُستاءة…
“المصلحة باظت ياذكي….أيوب قطع عليا
من قبل حتى ما ادخل الفيلا…..”
استمع للطرف الاخر الذي يبدو عليه عدم
التصديق…..فعاد سلامة يهدر بغيظ…
“وانا هكدب عليك ليه ياجدع….بقولك أيوب
قطع عليا….مدخلتش ولا شوفتها من جوا حتى عامله إزاي…..”
ثم تابع واجمًا..
“أخرس بقا بسببك خسرت أيوب….ويمكن
أكون خسرت نفسي….”
سمع من الطرف الآخر كلماتٍ ساخرة ملأت
صدره بقواتم الماضي فاوما سلامة برأسه بنظرة ضياع مؤكدًا بمرارة….
“صح انا كدا كده خسران….حلال بقا ولا
حرام مش فارقة…..”
“مش عايز اسهر مع حد انا مروح….”
أغلق الخط وهو يرفع رأسه للسماء في هذا المكان الخالٍ من البشر صرخ بوحشية كذئب
مجروح جائع بعد ان ضاع منه قطيع من الأغنام ولم يحصل إلا على حمل…..حمل
صغير من بين قطيع كامل هل هذا عدلًا !….
أخرج سلامة قطعة ماسية صغيرة كانت
عبارة عن خاتم صنع من الالماس الخالص
نفيس الثمن وقيم الشكل وكأنه متوارث
بين الأجيال !….
هذا كل ما طالته يده بخفة بعد ان تتبع أيوب للأعلى وراه يساعد الرجل عاد ادارجه فوقف امام أحد الغرف فتح الباب بحذر
ليجد غرفة فارغة مرتبة…تشي بان صاحبتها
انثى بمعنى الكلمة….عطرها فواح كملابسها
التي فتش بها بحث.. بحث كثيرًا حينها…
وفشل في ايجد المكان السري التي تضع
فيه مصوغاتها…
قد تقدم البشر في صنع مَخَابِئ سرية غير
معلنة لإدخارتهم الثمينة بعدما عجزوا عن الحفاظ عليها من لصوص الخزائن…..لصوصٍ
لا يقف امامهم قفلًا مؤصدًا فاصابعهم
مفاتيح لـكل الاقفال المحكم غلقها….
كان من الممكن فتح خزينة المكتب كما طمع لكن وجود أيوب أفسد كل شيء فلم يرد
خسارته لذا اكتفى بسرقة هذا الخاتم
الثمين بعد ان رآه في علبةٍ على طاولة
الزينة….اخذه في لمح البصر من العلبة
وحرص على اخفاءه في مكانًا لن تصل
إليه يد أيوب….
فهو على دراية كاملة ان أول شيءٍ سيفعله أيوب هو تفتيشه قبل الخروج…..
لا بأس في سرقة حمل صغير من قطيع
كبير لن يؤثر على أصحاب البيت؟!…
غافلا هو عن التشبيه الذي ألقاه فـربما هذا
الحمل الصغير الاغلى بين كل القطيع !….
وضع سلامة الخاتم في جيب بنطالة عائدًا
الى البيت بجسد مجهد ورأسه يتفاقم
من كثرة الصداع….
……………………………………………………..
تقف أمام غرفة الفحص رماديتيها مثبته على
الباب المغلق بخوف يستوطن قلبها واعصابها
كلها في حالة إنهيار بعد ان وصلت للبيت
ورأت الباب مفتوع على مصرعية عندها صعدت الدرج تنادي على والدها بهلع حتى
وجدته على الفراش فاقدًا للوعي…..
حينها ابلغت سيارة الاسعاف وتم نقلة لأحد
المشافي التابعة لحالته الصحية…..
أتت عليها صديقتها جيداء بقلق مقتربة
منها….
“اي يانغم خير؟…. مالوا انكل؟…”
قالت بنبرة باهته….
“بيقول ان في حد اتهجم على البيت….”
هتفت جيداء بصدمة….
“إيه مين ده…. تبع العزبي ؟!….”
هزت رأسها بنفي فاذا كان الامر يخص شكري العزبي فهي المستهدفة الوحيدة وليس
والدها….
“معتقدش….”
سالتها جيداء بتراقب…
“حرامي مثلا…….. سرق حاجة….”
علت الحيرة وجهها وهي تقول…
“الخزنة محدش قرب منها…..بس انا بلغت البوليس وهما بيحققه في الوقعة…. وحاليا
في الفيلا بيرجعوا كاميرات المراقبة….”
ربتت على كتفها جيداء مواسية بالقول…
“ان شاء الله هيلاقوهم اطمني ياحبيبتي…”
غامت عينيها الرمادية في حزنًا دفينًا
قائلة بوهن….
“انا مبقتش عارفه اي اللي بيحصل حوليا
يا چيدا….. كل حاجة عمالة تتعقد… انا
خايفه على بابا أوي… لو جرالو حاجة انا
ممكن أموت….”
عادت تربت عليها قائلة بحنو
“حبيبتي ان شاء الله خير…الدكتور
مطمنكيش عنه….”
“لسه عنده جوا…..”
فور نطقها بالجملة خرج الطبيب والمساعدة فاقتربت منه نغم تسأل بلهفة وخوف…
“خير يادكتور؟…..طمني؟….”
اخبرها الطبيب بشكلًا عملي عن المضاعفات
الصحية التي طرأت ثم ختم الحديث بالقول
المطمئن….
“بس الحمدلله هو بقا أحسن حاليا…..تقدري تشوفيه….وتطمني عليه….”
أبتعد الطبيب بينما ولجت نغم لداخل الغرفة تتبعها صديقتها…..
“بابا…..”
قالتها بنبرة شاجنة وهي تلقي نفسها على صدره تذرف الدمع بعد ان اختبرت الخوف
من فقدانه للمرة التي فشلت عدها !…
“انا بخير يانغم….متخفيش المهم انتي….”
رفعت رأسها إليه تقول بحزن….
“انا كويسه ياحبيبي مفيش اي حاجة…البيت
كان فاضي اصلا مفهوش حد…انت شوفتهم
الناس دي ؟!….”
أومأ براسه مُحتار الفكر فيما حدث…
“شوفت واحد ساعدني…..واداني بخاخة
الربو…..”
قطبت جبينها متعجبة معقبه….
“مين ده يابابا….وكان جاي ليه أصلا….مفيش
حاجة اتسرقت…وانا لسه مكلماهم وبيعملوا
تحرياتهم…..وهيرجعوا الكاميرات….”
اجاب كمال بغرابة…
“معرفش مرضاش يقول حاجة….”
ساد الصمت المتوتر بين الحيرة والفضول من معرفة هوية هذا الشاب الذي اقتحم منزلهما كالصوص ثم ساعد والدها اثناء نوبة ضيق التنفس التي تاتيه !…
هناك شيءٍ مفقود في هذه الحكاية الغريبة
فهذا التناقض لأول مرة تسمع به !….
قطع الصمت صوت جيداء الرقيق
بحرج….
“حمدلله على سلامتك يانكل….”
رد عليها بود… “الله يسلمك يابنتي….”
قالت جيداء بمساندة….
“اطمن يا انكل ان شاءالله هيجيبوا اللي عملوا
كده ويتحسبوا….”
هتف كمال شاردًا…. “الغريبة انه ساعدني….”
اضافت نغم بنفس النبرة المتحيرة….
“والاغرب انه مسرقش….طب كان اي هدفه…”
قالت جيداء بدهاء مفكرة….
“هيبان وبعدين انتي اكتفيتي بانك تشوفي
خزنة المكتب….طب ما دوري في اوضتك
يمكن يكونوا لقطوا حاجة كده ولكده…”
اومات نغم براسها مؤكده على الأمر فهي
لم تبحث جيدًا فلأطمئنان على والدها
أخذ منها الحائز الأكبر….
“جايز برضو….بس الخزنة كانت قدامهم..لو
سرقة فعلا اي اللي منعهم ؟!….”
قالت جيداء بحذق….
“مش معقول ضميرهم صحي…أكيد في
سبب تاني….”
قالت نغم متنهدة….
“أكيد المهم اني بلغت….والحكومة هتصرف
واكيد هتجيب اللي عمل كده….”
………………………………………………………..
“صدق بابا لما قال عليك نمرود…..”
وكانت جملتها الحانقة بمثابة عود كبريت وقع في كومة قش فندلعت النيران فجأة في
صدره وهاجت مراجله وهو ينظر إليها نظرة
اخرستها وجمدتها لبرهة فقط….
فقط لبرهة قبل ان تبعد عينيها عنه وتشهر اسلحتها على الشابة الواقفة بينهما……
ليراها في اللحظة التالية تسحبها من شعرها
بقوة أمام عينيه المصعوقة من ردة فعلها
التي كانت أسرع من غضبه نحوها…..
صرخت الفتاة وهي تحاول ان تخلص نفسها
من بين يدي تلك الصغيرة المتوحشة…
بالفعل كانت أمام عينا الفتاة مجرد مراهقة صغيرة طائشة بينما هي تكبرها بعدة
اعوام….
صاحت الفتاة مستغيثه بالم…
“الحقني يا ياسين…. ابعدها عني آآه….”
وقعت الفتاة أرضًا وأبرار فوقها تجذبها من
شعرها فـفعلت الفتاة مثلها مدافعها عن
نفسها….
سألتها أبرار بوجهٍ مربد
غضبًا….
“كنتوا بتعملوا إيه بظبط…”
“وفين أهلك انتي أفهم….”
ردت الفتاة عليها صارخة بتعالٍ….
“وانتي مالك يابتاعه انتي حاشره نفسك
بينا ليه انتي مين أصلا ؟!.. ”
اقترب ياسين منهن وجذب أبرار يبعدها عن الفتاة ثم ساعدها على النهوض ووقف
بينهن حائل يقول…
“ميار…..روحي دلوقتي….هبقا اكلمك في
التلفون…..”
قالت ميار بصدمة وهي ترجع شعرها
المشعث للخلف….
“أروح ؟!..بعد كل اللي عملته فيا الشوارعي
دي….مين دي يا ياسين….ومحموقه اوي كده
ليه عليك….. انت خاطب ولا متجوز ؟!….”
وقبل ان يرد عليها قالت أبرار بسخط وهي تضبط حجابها على رأسها بشراسة…
“مين دي اللي تفكر تربط نفسها بواحد
في اخلاقه….غير لو واحده في أخلاقك
سيادتك يبقا ما وفق الا مجمع….”
صاح في وجهها محذرًا….. “أبـرار….”
لم تهابة وهي تقول باهانة لاذعة مشيرة
على السترة الموضوعه على الاريكة…
“البسي الجاكت ياقطه لحسان تستهوي…ولما
تحبوا تعملوا كده….برا البيت ده….مش هنا..”
سحبها ياسين من ذراعها مزمجرًا
بغضب….”انتي زودتيها أوي….”
صاحت بازداء وهي تنظر اليه…
“وانت كمان….حصلت تجيب ستات البيت دا لو بابا وتيته عرفوا هيطربقوها فوق دماغك
مش بعيد يطردوك برا البيت ده….”
شع التمرد في عينيه وهو يقول بنزق…
“حد قالك اني قاعد هنا شفقة منك او من
ابوكي..انا قاعد في مالي….ورث أبويا…زي
زي ابوكي وانا حُر أعمل اللي انا عايزة….”
قالت بنظرة ونبرة محتدة…
“لا مش حُر….انت معوج علينا ليه…وكل تصرفاتك غلط وتقرف واخرها جايب
واحده من الـ…..”
كمم فمها هادرًا….. “اخرسي ولا كلمة…..”
ثم نظر الى ميار معتذرًا بنبرة أهدى….
“ميار استنيني تحت….هاجي اوصلك….”
اومات ميار براسها بملامح محمرة بالغضب ثم
سحبت سترتها والحقيبة وخرجت….
بينما سحب هو يده عن فمها….فقالت
هي بتعليق لاذع…
“كمان هتوصلها دي واضح انها غالية
عليك أوي….”
رد مؤكدًا بغلاظة…. “أوي….عندك مانع…..”
“وانا مالي…. أولع بيها….”قالتها وهي تبتعد
خارجة من غرفة الجلوس لحق بها وهو يديرها إليه…..
“راحه فين….هو الدخول زي الخروج….”
بلعت ريقها متوجسة….. “قصدك إيه…..”
سالها باهتمام مبهمًا…..
“ابوكي قال عليا نمرود….وانتي كان ردك
إيه مصدقاه ؟!…..”
نظرت الى وجهه القريب منها وعيناه التي
تحاصرها في دوامة تدور بها….قالت
بتقريع….
“هتفرق اصدقه ولا لا….كل حاجة بتكلم
عن نفسها واخرهم الهانم اللي لسه خارجة
من عندك….”
وامام سِعة عينيها السوداء أجاب
موضحًا…
“ميار كانت جايه زيارة لحد قريب من
هنا وعدت عليا تطمن…..”
قالت بنبرة هازئة….
“ليه تطمن… بطلع في الروح وانا مش
واخده بالي !….”
جز على أسنانه بقلة صبر…
“لسانك عايز قصه….”
قربت وجهها منه منفعلة….
“وانت مبرراتك مايعة زي البنات اللي تعرفهم….”
أبتسم بصلف قائلا…..
“وانتي تعرفي إيه عن المياعه…ومركزة
ليه معايا ؟!…”
بنفس الأسلوب قارعته…
“وانت كمان ليه مهتم برأيي فيك….”
أدار وجهه بعيدًا عنها ودنَّ الصمت للحظات
فرأى العلبة التي جلبتها له بالقرب منه على
سطح الطاولة…..
اخذها ثم فتحها وبدا في أكل الشطيرة
على ثلاث قضمات !….
وامام نظراتها المشتعلة بالبغض نحوه…..قال
وهو ياخذ الشطيرة الثانية….
“روحي اعملي كوباية شاي ابلع بيها القمة…”
“طفحتها هات…..سندوتشاتي…”قالتها بعدائية
كبيرة وهي تسحب منه العلبة رفعها للأعلى
بذراعه وهو يأخذ آخر قضمة متبقية من الشطيرة الثالثة !….
“انت شايل اللوز في إيه ؟!….”
القت هذا التعليق بعينان متسعتان وهي تسحب ذراعها متراجعة قبل ان يلتهمه
كالشطائر التي يفترسها….
“مش عايز منك حاجة خدي العلبة بتاعتك
واطلعي على الفوق…..”
وضع العلبة في يدها فارغة فزمت شفتيها وهي تضعها على الطاولة قائلة بمقت..
تكملة الفصل
وضع العلبة في يدها فارغة فزمت شفتيها وهي تضعها على الطاولة قائلة بمقت….
“انا راحه الجامعة أصلا….مش فضيالك…
روح الحق الهانم بتاعتك…. ”
أخبرها بهدوء مغيظ….
“تعالي اوصلك…انا كده كدا نازل….”
ادارة ظهرها إليه برفضٍ….
“وانا مش عايزة امشي معاك….هاخد
تاكسي….”
“أسمعي الكلام…. أبرار…..أبرار…”
رآها تصفع الباب بقوة ردًا على نداءه….جز على اسنانه بغيظ وهو يسحب المفاتيح والهاتف ويخرج خلفها….
لحق بها على درجات السلم وقبل ان تخطو درجةٍ أخرى سحبها من ذراعها بقوة استندت
على الحائط بظهرها وهي تنظر لها شزرًا…
“عايز إيه مني….قولتك هاخد تاكسي…إيه
مش بتفهم عربي….”
هتف بنظرة حادة تشي بنفاد صبرة….
“لمي لسانك يا أبرار…..مش هسيبك تمشي لوحدك هوصلك….فيها إيه….”
قالت باهتياج…. “فيها اني مش طيقاك….”
سألها ببرود…. “واي السبب….”
ارتفع حاجبيها مجيبة بحمائية….
“كل حاجة بتعملها السبب….انت مبقتش زي الأول يا ياسين…..بعدت اوي عني….وعن بابا
وتيته….بقيت شيفنا اعدائك…..”
هرب من عينيها بالقول….. “محصلش….”
اضافت بحرقة معاتبة…
“ومش الأيام اللي فاتت بس….انت بقالك فترة متغير من ساعة ما عرفت انها اتجوزت للمرة
التالته….”
“أبــرار…..”هجم عليها كالمغيب يعتصر ذراعيها بين قبضتان يداه بعنف…..
تألمت متاوهة وهي تنظر إليه….
“آه دراعي…..ياسين…ياسين انت بتوجعني….”
عقب بنبرة مبهمة…. “وانتي بتعملي إيه….”
حرر ذراعيها فمررت يداها عليهما وهي
تقول بعينين دامعتين…..
“انا عيزاك تفوق لنفسك….مفيش حد هيحبك
قدنا….بابا مش عدوك يا ياسين….الفلوس اللي
ادتها ليها دي مـ…..”
اوقفها وهو يقول بصعوبة متحشرجًا…
“كانت محتاجاها…مكنش ينفع أقولها لا….
دي أمي….”
قالت أبرار بحذق…..
“بس هي بتستغلك….وجوزها ده هو اللي زقها
عليك….”
اغلق سبل التحدث في الأمر بنبرة شاجنة تتعثر في الألم…..
“الموضوع إنتهى….انا اديتها اللي هي عيزاه وهي وعدتني انها مش هتطلب مني حاجة
تاني….ولا هتقرب من مكان انا فيه….”
سالته ساخرة….. “وانت صدقتها….”
لمح السخرية تطل من عينيها فقال
بحزم….
“أبـرار….اقفلي الموضوع….انا مش ناقص عتاب منك او من غيرك….يلا اوصلك…”
كانت تود الرفض والعناد لكنها انساقت
خلف أمره على مضض مطلقة زفرة حانقة وهي تهبط على الدرج بشفاة ممطوطة بضجر…
استقلت السيارة في المقعد الخلفي بينما جلست ميار بجواره في المقدمة ملتزمة الصمت وهي تشع نظرة كراهية الى أبرار
من مرآة السيارة استقبلتها أبرار ببرود….
فقال ياسين بمداهنة….
“مش عارف أقولك اي ياميار….بس في سوء تفاهم حصل فوق….أبرار بنت عمي…لسه صغيرة وطايشه….وهي افتكرت حاجة
تانية خالص…”
عَلَى وجه أبرار امارات الانزعاج وهي
تراه ينظر إليها عبر المرآه الامامية يوضح
سوء التفاهم بالقول الهادئ…
“أبرار….ميار شغالة معايا في الإدارة في
مصنع الملابس….عمي صالح عارفها كويس….تقدري تسألي عنها لو مش
مصدقة…”
ثم أضاف بثبات جاد….
“هي حبت تطمن عليا عشان بقالي فترة مجتش المصنع….”
أنتظر كلاهما تعليق منها اي رد يحسن موقفها
بعد هجومها العدائي على ميار دون ان تتريث
في حكمها…..لكنها قالت بجفاء…..
“انا اتأخرت….هتوصلني ولا اخد تاكسي…”
رفعت ميار حاجبها بعدم رضا وهي تنظر الى ياسين الذي زم فمه وهو يدير محرك السيارة قائلاً بتهكم….
“لا وعلى إيه يا أبرار هانم….الطيب أحسن
هوصلك…..”
عقدت أبرار ذراعيها امام صدرها بتذمر وهي تنظر الى النافذة بملامح واجمه وصدرها
يتوهج بالنيران كلما تذكرت تبريرة واعتذاره
نيابة عنها الى تلك الفتاة الوقحة التي اتت
لخلع سترتها في بيت شاب أعزب هل يظنها
طفلة غبية لا تفهم نواياهما قبل دخولها
عليهما وافساد الأمر !…
………………………………………………….
في المساء…
كانت جالسة على الاريكة بجوار جدتها تتفحص الهاتف على وسائل التواصل
الإجتماعي بينما جدتها تتابع التلفاز
باهتمام وهي تقوم بدهن ساقيها
بدهان معالج للعظام..
“رجلي يابت يا أبرار….مبقتش قادره منها
شده عليا أوي….”
مطت أبرار شفتيها قائلة…..
“الحال من بعضه ياتيته….خلصي عشان
ادهن انا كمان….”
نظرة لها الجدة باستنكار…
“تدهني إيه….هو انتي لسه روحتي ولا
جيتي عشان عضمك يوجعك….”
اجابتها أبرار بواقعية وهي تاخذ الدهان…
“مش محتاجة أروح واجي احنا جيل نازل مخستع…..هاتي هاتي السن تسعتاشر بس
الصحة ماشيه في رِنچ الستين….”
ضحكت الجدة وهي تنظر للتلفاز…..فقالت
أبرار وهي تمرر يدها على ركبتها بعد وضع
الدهان عليها….
“تيته…..”
ردت عليها بهمهمات تحثها للمتابعة فقالت
أبرار ببراءة…..
“هو انا مليش في المياعة زي البنات…..”
نظرة لها الجدة بحيرة قائلة….
“وانتي عايزة يكون ليكي في المياعه وقلة
الأدب….انتي متربية…تربيت ستك.. ”
قالت أبرار متبرمة….
“اه تربيتك منكرش…بس شكلك نسيتي
تربي حفيدك معايا…..”
سألتها الجدة بقلق…
“هو في حاجة حصلت ؟!….”
ابعدت ابرار عينيها عنها وهي تفكر بالوشاية عليه انتقامًا منه على افعاله الصبيانية….
“بيكلم بنات….”
اكتفت بهذا القول وهي تتكأ على لسانها
تمنع البوح بتفاصيل….
“ربنا يهديه….بكرة يعقل ويتلم….ابوكي كان
كده في شبابه ولما شاف أمك قال هي دي
الأولى والاخيرة…..”
عقبت أبرار بغير تصديق…
“ازاي بابا كان كده دا بابا حاجج بيت ربنا
تلات مرات ومش بيفوت فرض….والسبحه
مبتفرقش أيده…..”
شعت بسمة الحنين على وجه الجدة وهي
تقول بنبرة مشاغبة….
“كان زمان بقا كان لسه صغير….بس جدك لما
شاف الوضع كده جوزه علطول لأمك الله يرحمها….كانوا أهلها جيرانه البيت في
وش البيت…..”
تناثر الحزن والشوق على وجه أبرار التي
قالت بنبرة عميقة…..
“الله يرحمك ياماما…..وحشتني أوي….”
ربتت الجدة على كتفها بحنو قائلة
برجاحة عقلا…..
“ادعيلها ياضنايا….دا قدرها…الموت هيعدي علينا كلنا مش هسيب حد كل واحد بتيجي
ساعته فبيروح…..حسن الختام يا رب…”
مسحت أبرار دمعة فارت من جانب عينيها
وهي تغير مجرى الحديث حتى تقشع سحابة
الحزن عنهما…..
“تيته المسلسل خلص….”
قالت الجدة بسأم….
“خسارة نسيت اشوف اخر حته….”
قالت أبرار باسلوب فكاهي….
“ياتيته دول بقالهم ساعة واقفين مصدومين
والكاميرا عماله تلف عليهم واحد واحد…ونفس الريكشنات…. قوليلي امتى هيخلص المسلسل ده.. دا شغال من وانا
في اعدادي تقريباً….”
قالت الجدة بصبرٍ…
“لسه في الجزء السابع…..وبعدين اهي اي
حاجة بدل الزهق ده….”
ضحكت أبرار والغمازات تضيء خديها
بجمالا….
“والله ياتيته انتي المفروض تاخدي أوسكار
على جلد الذات اللي بتعمليه في نفسك
ده….”
قالت الجدة بتذمر….
“افضلي اتريقي عليا….مانا معرفتش اربي…”
عانقتها أبرار بمحبة ضاحكة….
“انا أقدر يا أحلى تيته….دا انتي القلب كله…”
قالت الجدة بلؤم…
“طب قومي اغسلي المواعين….”
ابتعدت أبرار عنها…..
“لا انا لسه داهنه ركبي بالمرهم….”
ضاقت عينا الجدة بتساؤل…
“يعني انا اللي هقوم اغسلهم….”
قالت أبرار باستنكار….
“انا مقولتش كده بس ليه مانجبش شغالة
هو احنا فقره…..”
لترد الجدة مستجهنة…
“شغالة لـ ايه بظبط…هي مستاهلة….أمال انا وانتي بنعمل إيه…..”
قالت أبرار بترفع….
“لا إله إلا الله شكلك ناسيه اني في كلية
طب ومحتاجة اذاكر واركز…..”
قارعتها الجدة بالقول….
“والله وساعة ما بتمسكي التلفون مبتفتكريش الكلام دا ليه….”
“عندك حق انا هروح اغسلهم بسكات….” قالتها
أبرار وهي ترفع راية الاستسلام مبتعدة فصدح
جرس الباب فقالت الجدة بأمر….
“شاطرة افتحي الباب الاول…حطي الطرحة
على شعرك…. يمكن يكون ابن عمك….”
تمنت من كل قلبها ان لا يكون هو لكن تحطمت الامنية على صخرة الواقع وهي
تراه أمامها بعد شهر من الانقطاع عنهم
قرر ان يأتي في يوم تكره أحرف إسمه
لا وجهه الماثل أمامها !…
“سلام عليكم…..”
لم ترد عليه قد ابتعدت عن الباب فدلف هو للداخل بينما هي اغلقت الباب بوجهٍ مكفهر
مالى على الجدة يقبل راسها ويدها فقالت
هي بنبرة معاتبة….
“عاش من شافك يابشمهندس…. اخيرًا روحت
بدري….مطولتش في سهراتك زي كل يوم.. ”
“انتي شايلة ومعبيه مني لي كده….هي
العصفورة اللي هنا قالتلك حاجة عني….”
قالها وهو يجوارها على الاريكة في مكان أبرار
بينما عيناه تلتقف عينيها في نظرة طويلة….
سألته الجدة بشك….
“ليه هي تعرف حاجة انا معرفهاش….”
“ولا اي حاجة….”رد عليها بمواربة بينما رأى
أبرار تبتعد عنهما داخل المطبخ…..
“رضيت عمك….”
هز راسه بنفي…فـعادت الكره تسأل
بقلب مفطور من عناده….
“طب مروحتش شغلك ليه… مش كفاية سرمحا يا ياسين… هتفضل واجع قلبي
عليك لحد إمتى….”
رضاها وهو يقبل يدها قائلًا..
“هروح ياغالية اطمني… بكرة من النجمة هتلاقيني في المصنع….راضية عني كده..”
قالت الجدة بمحبة….
“انا طول عمري راضية عنك…وهرضا عنك اكتر لما تتصافى مع عمك…والله بيحبك وخايف عليك…”
اكتفى بايماءة بسيطه وعيناه تشرد في نقطة
بعيدة عنها فمالت عليه تسأله باهتمام…
“احطلك تاكل….”
رفض وهو يضرب على ركبته ناهضًا….
“مش جعان…. هروح اعملي شاي اعملك معايا…..”
وافقت وهي تعاود النظر للتلفاز بصمت….
راها تقف امام صنبور المياة تغسل الأواني بصمتٍ حتى سمعت خطواته تقترب فقالت بجفاء…
“انا لو عصفورة زي ما بتقول كنت حكيت
على اللي شوفته الصبح….”
رد غير مبالي بنبرة وقحة…..
“واي اللي مانعك…. روحي قوللهم… شيفاني خايف ولا ماسك فيكي….”
أوغر صدرها بالغضب منه فقال هو بضيق….
“طلعي الهبل اللي في دماغك ده… عشان مفيش حاجة حصلت ولا كانت هتحصل….”
تركت ما بيدها وهي تقول باستهانه….
“والجاكت اللي كانت قلعاه قدامك….”
قال ياسين متذكرًا….
“مش قدامي… على ما روحت فتحت لك الباب كانت عاملة كده… يمكن حرانه….”
“حرانه والتكييف شغال….جديدة دي….” ضحكت ساخرة فظهرت غمازاتها كـنجمتين منقوشتان على خديها بسحرٍ……
ظل يحدق فيها بصمتٍ غير مقروء بينما اضافت بقنوط…
“الحركات المايعة دي معروفة…خد بالك بقا…شكلها بترسم عليك….”
رد عليها بعنجهية ذكورية……
“ومالوا انا حلو برضو وفي الطمع…ومش أول واحده ترسم ولا هتبقا الأخيرة…المهم انا عايز
مين في الآخر…..”
نظر لها بقوة فحركت كتفيها مستهينة…..
“ولا حد فاهملك حاجة…عمتا الله يكون في عونها اللي هتتورط فيك في الآخر…دا أمها داعية عليها..”
رد بصلف….. “قصدك دعيلها….”
قالت مستنكرة…..
“على إيه بس….لو على الحلاوة الحلوين كتير
المهم الأخلاق…..”
رفع حاجبٍ بتساؤل…..
“يعني انتي شايفه اني معنديش أخلاق….”
قالت بابتسامة صفراء….
“لا يسمح الله انا مش شايفه…انا متأكدة….”
“الكلام معاكي قلته أحسن…..”بدأ يعد اكواب
الشاي بانتظار غليان الماء…..
بينما هي لم تعقب وعادت للغسيل بملامح واجمه حتى سمعت خشخشة لشيءٍ يفتح…..
فاستدارت اليه تسأله بفضول…..
“بتاكل إيه ؟!….”
“كلورتس….”
قالها وهو يمضغ العلكة ورائحة النعناع القوية تفوح منه….
“الله هات واحده…..”قالتها وهي تشطف يدها بالماء ثم اقتربت منه…..رفض ببرود…..
“لا….”
تاتات بشفتيها و بنظرة مؤثرة
طلبت…..
“بطل غلاسة بقا….وهات واحده…”
اعطاها علبة صغيرة خضراء فتحتها واكلت
قطعتين معًا لتشعر بموجةٍ باردة على لسانها
يليها مذاق النعناع الغني المنعش….عقبت بملامح منكمشة…..
“حراقه اوي……مش بحب النعناع…..”
رد ياسين بمناكفة…
“وبتاخديها ليه طيب…..طفاسه ؟!….”
ابتسمت ببرود…. “او غلاسة…..”
ابتسم ياسين دون تعقيب وخرج من المطبخ وبين يداه الصنية التي وضع عليها كوبين من الشاي….
بعد مدة من الجلوس مع الجدة وشرب الشاي وقد جلست معهما أبرار بعد ان انتهت من جلي الأواني…
فتح الباب بالمفتاح ودلف صالح ألقى السلام بخشونة وهو يلمح ابن أخيه بصبحتهن بعد
انقطاع أسابيع عن الصعود الى هنا والمشاركة
في الطعام معهم…
اتكأ على السبحة بين قبضة يده وهو يتبادل مع ابن أخيه النظرات وكلا منهم يلقي اتهام صريح للاخر..
تنحنح صالح بخشونة وهو يدلف الى الغرفة بخطوات ثابته وهالة من الشكيمة والهيبة تحيط به…وعطر العود يفوح منه فارض
نفسه على المكان كـصاحبه….
رجلا يفرض نفسه بصورةٍ لا تقبل الجدال
في وقفته صلابة وفي الصمت مهابة يفرض حضوره دون بذل مجهود يُذكر يجبرك على
احترامه والحذر أمامه…..حتى اذا تحدث
أوجز واصاب الهدف…..
هذا هو صالح الشافعي والفرق الشاسع بينهما، انهم ليسوا على وفاق ولن يكونوا أبدًا !….
لكزته الجدة قائلة بأمر…
“أدخل راضي عمك….كفاية كده انتوا ملكوش إلا بعض….”
رفض بعناد يشتبك به الكبرياء….
“مش وقته يا تيته….انا نازل تحت….محتاج اغير هدومي واخد دُش ونام…..”
تاففت أبرار وهي تسمع الرد لتعلق
بسخط…
“كالعادة بتهرب من المواجهة….”
رد عليها بغلاظة….
“كالعادة بتدخلي في اللي ملكيش فيه….”
قالت بزمجرة….. “دا بابا على فكرة….”
التوى فكه هازئًا منها…..
“وهو عمي والموضوع بينا….ملكيش دعوة انتي…وكفاية دور المصلح الإجتماعي اللي عماله تطبقيه عليا…”
نظرت الى جدتها التي ترمق ياسين بعدم رضا….
“سامعه الرد…..انا غلطانه اعمل اللي يعجبك….انا داخله اوضتي أصلا…..”
بالفعل نهضت مبتعده عنه واغلقت باب غرفتها عليها……نهض ياسين كذلك نحو باب الشقة ينوي الخروج لكن صوت صالح المهيب اوقفه….
“لو هتفضل سايب الشغل كده وموقف مصالحنا عرفني عشان نجيب حد مكانك…..”
استدار له ياسين يقارعه بتكبر…..
“على أساس اني مش شريك زي زيك في المصنع….”
رد صالح بصوتٍ مسننًا…..
“انا من رايي تبيع حصتك…وكفاية لعب عيال
والمبلغ اللي تطلبه هتاخده…..”
نهضت الجدة ووقفت بينهما تهتف بغضب في
ابنها الأكبر…..
“صــالــح…..”
انفعل صالح قائلا بصوت مهيب….
“سبيني يا أمي… لازم البشمهندس يعرف ان في مصالح واقفه بسبب امضته اللي مش موجوده على الورق….حاجات كتير واقفه بقالها شهر بسبب ان الباشا مقموص…..”
زأر ياسين بصوتٍ عالٍ…
“بطل تعملني كأني عيل صغير….”
رد صالح بثبات مستفز…..
“انت اللي عايزني أشوفك كده….عملت إيه يثبت لي انك راجل…..انك ابن فاروق….
مش ابن عبلة… ”
نظرت له امه بضيق تحذره…..
“صاااالح……بس كفاية…..”
تابع صالح بنبرة مثخنة بالوجيعة وعينيه تفترس وجه ياسين الذي نظر له بملامح ميته……
“امك اللي موتت أبوك بحسرته….رايح تكبش من خيره وتديها….ولما اعاتبك تقل ادبك في الرد ومش عاجبك كمان اني بحاول احافظ عليك وعلى فلوس ابويا واخويا من استهتارك…..”
ابتسم ياسين بهزء….
“كل اللي فارق معاك الفلوس…..”
صفعة صالح بالكلمات بقسوة…..
“وانت كل اللي فارق معاك ترجع لحضن أمك…مع انك كبرت على انك تحتاج ليها…..”
كانت ضربة قاضية بجدارة جعلته يقف مكانه يحدق في عمه الغاضب بصمت بينما وجد
الجدة تصرخ في ابنها بغضب…..
“كفاااااية ياصالح…..كفاية يا أبني…..هو كان ناوي يرجع الشغل….قالي كده أول ما دخل….وكان ناوي يرضيك…”
رد ياسين له الصاع صاعين…
“مش عايز أشتغل معاك…..وهبيع حصتي
بس لحد تاني مش ليك…..”
استشاط صالح غضبًا وهو يتجاوز امه قابض
على عنق سترة ياسين مهاجمًا……
“ورحمة أبوك يا ياسين لو عملتها هدفنك
حي مكانك..”
إبتسم ياسين بتهكم وهو يراه يفقد وقاره وصمته امام مسألة البيع ودخول شريك
غريب بينهما…..
يعرف هو كيف يضرب كما يعرف عمه كيف يصيب الهدف ، فاتح الجراح بمشرطٍ حاد كما فعل منذ لحظات !…..
أمره صالح بنبرة صارمة كالفولاذ الصلبة….
“من بكرة تبقا في المصنع قدامي….والله لو اتأخرت عن معادك دقيقة واحده….رد فعلي مش هيعجبك….وانت عارف انا ردي بيبقا عامل إزاي…..”
أبتعد ياسين وخرج صافع باب الشقة خلفه بقوة بينما خلف باب غرفتها كانت تقف تضع يدها على صدرها متألمة لأجله والدموع تنهمر من عينيها حزنًا عليه…
لطالما شعرت بان الوجع بينهما ينقسم عليهما متساويًا كالضحكات والطعام والحلوى في
صغرهما تشاركا أشياء عديدة معًا حتى
فقدان الأم تشاركا وجيعته مع اختلاف الظروف !…..
قالت الجدة بعتاب وهي تمسح دموعها….
“ليه ياصالح كده….قولتلك براحه كلمه براحة…
مش بالقسوة يابني….دا يتيم لا أب ولا أم….
ملوش غيرنا….”
رد صالح بصلابة قاسية…..
“وعشان كده لازم يفوق…ويعرف ان لـصبر حدود لازم ينشف ويعقل ويعرف مصلحته فين ومع مين…”
…………………………………………………….
بعد عدة ايام أوقف صالح السيارة أمام باب
البيت جالسًا في المقعد بانتظار والدته والتي ظهرت أمامه تتوشح بالاسود وهي تمسح عينيها الباكية بمنديلا…..
زفر صالح نفسًا ثقيلا وهو يرمقها بقلق ومقتطفات من ذكريات سابقة عن الموت
تحوم حوله….
لكل ذكرى حزينة فقيد غالٍ رحل عن عالمه
دون وداع مسبق ، ولم يبقى منه الا ذكريات يحيا عليها حتى يحين اللقاء……
“عرفت العنوان ياصالح ولا اقولهولك تاني…”
استقلت امه السيارة بجواره وهي تلقي
سؤالها….
أدار محرك السيارة منطلق بها وهو
يجيبها بهدوء…..
“انا هتوه عن المكان يا أمي عرفته…ياما روحنا زيارة لخلاني هناك….الله يرحم الجميع
هي تقربلك ؟!….”
دمعة عينيها مجددًا وهي تقول بنشيج….
“صاحبتي وعشرة عمري….مفرقتهاش غير لما اتجوزت أبوك….وكنا بنشقر على بعض من فترة
لتانية….لحد الدنيا ملهتنا عن بعض….الله يرحمك يا ام شروق…..كنتي نعمة الأخت…”
سألها صالح وهو مصوب عيناه على
الطريق…
“الله يرحمها…..هي عندها رجالة….عشان
ادخل معاكي نعزيهم….”
ردت والدته بتذكر شاجنة….
“ليها ابن مسافر بقاله فوق الخمستاشر سنة ولا حد يعرف عنه حاجة….. وبنتها الكبيرة
اتجوزت واطلقت ورجعت عاشت معها هي
وبنتها…..ملهاش حظ شروق غلبانه…زمانها
متشحتفه عليها…..مكنش ليها في الدنيا
غيرها… ”
اوما صالح متفهمًا….
“بعد الام مفيش ربنا يباركلي فيكي…”
مسحت دموعها تسأل….
“ويخيلكم ليا يا بني….ياسين رجع الشغل…”
رد بايجاز…… “رجع….”
سألت باهتمام…. “وكويس يعني…..”
رد صالح بسلاسة….
“كويس هو مهندس إنتاج…..ومفيش غبار
على شغله دا تخصصه…..وهو شاطر فيه
بس لو يبطل……”
لم يتابع حديثه فقالت الام بتمني….
“هيبطل ويعقل ويبقا زي الفل….وبكرة يشيل من عليك الشغل….”
صف السيارة جانبًا في شارع الرئيسي ترجلت
والدته وهي تشير على احد الازقة الضيقة
التي ستدخل فيها لتصل لبيت صديقتها
المتوفيه….
فتح صالح باب السيارة يخرج منه بعض
الاكياس التي تحوي منتجات غذائية
اشترتها أمه لابنة صديقتها…
ضمتها السيدة أبرار بحنان فبكت شروق في احضانها قائلة بحزن مرير….
“كانت بتحبك أوي ياخالتي…..كنا في سيرتك
قبل ما تموت بيوم….بتقولي عايزة أشوف خالتك ام صالح وحشتني…..”
نزلت دموع السيدة أبرار وهي تقول
بندم معاتبه….
“ياريتك اتصلتي بيا كنت جيت أشوفها…ما رقمي معاكي ياشروق اخص عليكي…”
فصلت شروق العناق وهي تقول
بلوعة الحزن….
“كنت ناويه والله بس الموت سبقني…”
ربتت على كتفها تواسيها….
“ربنا يرحمها….هي في دار الحق والله…ربنا
يرحمها ويحسن إليها…..”
هبطت الدموع بكثرة من عينا شروق التي
يكسو جسدها السواد بالعباءة وغطاء الرأس
الذي يماثلها….وجهها شاحب شحوب الموتى
وعينيها غائرتان حمراوان كالدماء من
كثرة البكاء والحزن في الأيام السابقة…
فمنذ ان توفت أمها وهي تعتزل العالم
بأكمله غارقة في احزانها ومرارة الفقد
كالغصة في قلبها….
“أهدي ياشروق يـا بنتي…كفاية…”
قالتها السيدة أبرار بشفقة وهي تجاورها في الجلسة على الاريكة قالت شروق بوله
“مبقاش لي حد غيرها….”
قالت السيدة أبرار بمساندة حانية….
“وانا روحت فين انا مكانها…انا هشقر عليكي
علطول مش هسيبك…..واللي مقدرتش اعمله
وهي وسطنا ان الاوان اعمله وهي غايبة عننا
دا حقها عليا….امك دي مكنتش صاحبتي دي
أختي وجارتي…..وانتي زي بنتي ياشروق..”
“ماما…..”نادت الصغيرة على أمها فاشارة
لها شروق ان تقترب منها….
“تعالي ياملك…..”
اتت ملك الصغيرة من الغرف تدس نفسها بين
ذراع امها التي التقفتها وضمتها الى صدرها
تشم عبقها بشوق باحثه عن مخرج للاحزان
التي تفترسها بقسوة…..
ابتسمت السيدة أبرار وسالتها بحنو…..
“ماشاء الله… دي بنتك ياشروق….”
اومات لها شروق وهي تزيد من ضم ابنتها
وعينيها تترقرق بها الدموع مجددًا…..
“اه ملك…..امي كانت روحها فيها….وهي مكنتش بتفارق امي أبدا…..”
انهمرت الدموع من عينا الصغيرة كحال
امها فقالت السيدة أبرار بحنق حزين…
“بس بقا بطلي عياط…البت بتعيط زيك…”
سحبت السيدة أبرار ذراع ملك وضمتها
الى صدرها قائلة بعطف شجي……
“بس ياملك ياحبيبتي….ادعيلها ياملك…
ادعيلها ربنا يرحمها ويغفرلها….”
سمعا طرق على الباب فقالت السيدة أبرار
برفق…..
“دا تلاقيه صالح….طالع بالحاجات الحلوة
اللي اشتريتها لـملك…..افتحي يا ملك… ”
“خليكي ياملك الترباس معصلج….”
قالتها شروق واتجهت بخطوات هادئة نحو
باب الشقة….
ضبطت الحجاب أكثر على راسها ثم فتحت الباب وقبل ان ترفع عينيها توغل عطر العود
القوي الى انفها…..
رفعت عينيها الحمراون وتلاقت بعينين خضراوان حادتان بالفطرة على وجهٍ
شامخ رجولي الى قامة طويلة مهيبة
وجسد قوي عريض وصلب وقبضتان
يد تحويان أكياس و….وسبحة سوداء
تتدلى من يدهُ….
وعطر العود……هذه قصة اخرى تحكى….
لم يدقق صالح النظر بها لمجرد ثانيتين وارخى الجفون احترامًا وهو يقول بحرج
“البقاء لله يا ام ملك…..”
قالت هي ايضًا بحياء منه….
“البقاء والدوام لله….اتفضل الحاجة أبرار جوا…..”
“لا معلش انا هستناها تحت…إتفضلي دي حاجة بسيطه….”اعطاها الأغراض بهدوء
فنظرت الى الاكياس بحرج أكبر…
“مكنش ليه لزوم….”
رد صالح دون النظر اليها…
“دي حاجة بسيطه عشان ملك….وبعدين كله من خير الحاجة أبرار….”
بلعت ريقها بارتباك قائلة…
“لازم تدخل تشرب حاجة…..”
رفض مستأذنًا….”مرة تانية….عن إذنك….”
أغلقت الباب بعد ان ابتعد عن مرمى
عينيها….انه رجلا يربك المرء طاغي الحضور
ومهيبًا كـعطره الذي مزال يترك اثرًا حتى بعد
مغادرته !…..
“مدخلش برضو….”
سالتها السيدة أبرار… فاجابتها شروق
“مرضاش….”
قالت السيدة ببسمة فخر….
“هو طول عمره كده بيتحرج….عزاكي…”
اومات شروق برأسها وهي تضع الاكياس
بجوارها…
“آه…. انتي بقا إيه اللي جيباه دا ياخالتي
انتي غريبه….”
ردت السيدة أبرار بجدية…..
“ما عشان انا مش غريبة جبت… وملكيش
دعوة انتي دا كله عشان ملك….”
بدات تدغدغ ملك وتشاكسها قائلة وهي
تفتح احد الاكياس….
” يلا ياملك تعالي اوريكي انا جبتلك
إيه حلو… ”
تمتمت شروق وهي تجد ابنتها بدأت
تبتسم بسعادة وحماس….بعد ان هاجرتها
البسمة لأيام……
“كتر خيرك ياخالتي ام صالح….”
بعد مدة خرجت السيدة أبرار من الازقة الضيقة لتجد ابنها ينتظرها أمام السيارة
وقد انهى للتو مكالمة عمل….
“عطلتك عارفة….”
هز راسه بنفي مبتسمًا لها ببشاشة…
“لو في الخير….فهي مسمهاش عطلة….المهم تكوني عملتي الواجب…”
اومات برأسها بارتياح قائلة بعطف….
“الحمدلله وكل فترة هروح ازورها دي بقت مقطوعة من شجرة وملهاش حد غيرنا…”
اكتفى بايماءة فهو اعتاد على تلك الزيارات
التي تقوم بها أمه لأحد الأقارب والمحتاجين تعطي لهم من ما أنعم الله عليها….
“ربنا يقدرك يا أمي على فعل الخير….”
“خالتي ام صالح…..”
استدار صالح ينظر الى مصدر الصوت ليجد
نفس المرأة التي قابلها على باب الشقة مشحة بالسواد شاحبة كالموتى بعيون
منتفخة حمراء….
أسبل عيناه منتظرًا بهدوء فوجدها تقترب من
أمه قائلة بعتاب….
“انتي نسيتي الفلوس دي على الكنبة…”
ادعت والدته الدهشة قائلة….
“انا منستش حاجة… تلاقيها فلوسك وانتي
ناسيه….”
هزت شروق راسها مصممة….
“لا مش فلوسي بالله عليكي ياخالتي… بلاش كده خدي فلوسك مستورة والحمدلله….”
وبختها والدته برفق قائلة….
“وطالما انا خالتك عامله فرق ليه… فلوسي هي فلوسك….خليهم معاكي لو احتاجتي حاجة..”
رفضت شروق بتعنت…..
“مستورة والحمدلله… انا كدا كده هنزل الشغل
بكرة…..”
تأتأت والدته بعدم رضا لتقول…
“على ما تنزلي خليهم معاكي جرالك إيه ياشروق عامله فرق بينا ليه…انا مكان
أمك هنا….”
على التردد والحرج وجه شروق وهي
تقول مجددًا…..
“كتر خيرك ياخالتي بس….”
قاطعها صالح مختصرًا الكلمات وهو
ينظر لها….
“احنا أهل يام ملك…ولو احتاجتي اي حاجة
احنا موجودين …..الست والدتك كانت من
احب واغلى الناس على قلب الحاجة أبرار
واللي بتعملو ده نقطة في بحر من اللي
نفسها تعمله عشانك انتي وبنتك….”
اكدت والدته وهي ترمقها بعتاب…..
“قولها ياصالح…محبكاها اوي وعاملة فرق وكاني غريبة عنها….”
تجمعت الدموع في عينا شروق وهي
تقول بوهن مرير…..
“مش عارفه اقولك إيه ياخالتي…انا لو أمي
كان عندها اخت بجد مكنتش هتعمل معايا
كده….”
“بس بقا بطلي عياط…قطعتي قلبي عليكي….”
قالتها السيدة أبرار ثم ضمتها بعاطفة الأم وعينيها تدمع تأثرًا معها بينما نظرت شروق بعينيها الباكية الى صالح الذي اوما لها برأسه مبتسمًا بمساندة حانية يطمئنها انها ليست بمفردها !…
…………………………………………………….
كان جالسًا على المقعد يتابع حركة السوق والمارون من أمامه بعينين شاردتان في البعيد، تمر الأصوات على أذنيه كـهمهمات بعيدة فلا يلتفت ولا ينتبه
أتت عليه عزة تحمل كوب الشاي الذي برد أمامه ولم ينتبه لها….فقالت يحيرة…
“دي تالت كوباية شاي اعملهالك وتبرد….انت كويس ياسي أيوب؟….”
رفع عيناه عليها بتساؤل… “بتقولي حاجة ياعزة….”
سحبت مقعد وجلست بالقرب منه
مستفسرة… “سلمتك….مالك انت تعبان…..”
اجابها وهو يفرك في عيناه بآرق……
“لا انا كويس…شكلها قلة نوم….الشاي برد ؟!…”
مسك كوب الشاي ثم تركه بعد ان حصل على الإجابة من ملمسه….قالت عزة مبتسمة…
“مبقاش شاي…دا بقا تلج…..”
اردفت بسؤال خبيث….
“هو سلامة ليه مجاش هو انتوا متخاصمين؟….”
هز راسه بنفي فاضافت بدهاء….
“أمال ليه بقاله كام يوم مش واقف معاك على الفرش….هو مبقاش شغال معاك….”
اخرج تنهيدة طويلة مجيبًا بايجاز….
“لا كل واحد شاف مصلحته…وهو مصلحته
في حته تانيه…..”
مطت شفتيها بحزن قائلة…
“يعني زعلانين…والله دي عين وصابتكم…بكرة
ترجعوا تصافوا تاني لبعض….دي مصارين البطن بتتعارك….”
وقبل ان يرد أيوب عليها وجد حركة غريبة تحدث في الشارع والجميع ينظر الى جهةٍ معينة نهض أيوب وتقدم للأمام ناظرًا بفضول الى الحدث الذي جذب انظار المارون ليجد سيارة شرطة على بعد خطوات منه….
الضابط يسأل على أحدهم فاشار له صاحب المحل على أيوب الواقف أمامه تقدم الشرطي من أيوب بملامح تنذر بالشر مهاجمًا إياه وهو يكبل ذراعه هو وأحد العساكر وكأنه مجرم خطير !…
“انت أيوب عبد العظيم؟!…..”
سأل الضابط بنبرةٍ خشنة محتدة….
رد عليه ومزال تحت تاثير الصدمة….
“ايوا انا…..”
“تعالى معانا…..”
سألهم أيوب مستفسرًا…
“انا عملت إيه….انا معايا تصريح من البلدية…..”
صاح الضابط مستنكرًا…..
“بلدية إيه يالا انت هتستعبط… انت متهم في قضية سرقة…سرقة في فيلا كمال الموجي…..
سرقة خاتم الماظ…”
“خاتم الماظ ؟!…”
اتسعت عيناه بصدمة وقد ردد اخر كلمتين بعدم استيعاب !
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.