رواية اشتد قيد الهوى – الفصل التاسع عشر
تجلس خلف المكتب تسند ذراعيها على السطح وتضع ذقنها عليهما تحدق بعينيها الرماديتين في تلك الجائزة الذهبية اللامعة لمعانًا يطفئ أي فرحة بداخلها….
كيف تشعر بلذة الانتصار والفرح بعد أن أخذت جهده ونسبته لنفسها بمنتهى الوقاحة؟! لم تتمكن من إصلاح أي شيء وقتها…
لقد تفاجأت بتصرف جيداء لدرجة أن عقلها توقّف عن العمل وهي تتلقى التهاني والتبريكات من الجميع ثم تستلم الجائزة
وكل هذا وهي صامتة في حالة ذهول لم تخرج منه بعد…
كان أيوب قد اختفى من أمام عينيها حينها ولم تره منذ الأمس… يبدو أنه تأكد من أنها تستغله فقرر الابتعاد عنها…
وخزها قلبها بشدة شعرت بالاختناق والخوف وكأنها في قبو مظلم لمجرد تخيل أنه قد يغيب عن عالمها ولو لأيام…
هل هذا هو الحب الذي يتحدث عنه الجميع بهيام؟….. أن يخنقنا حتى الموت؟!
هل تُعاقب بسبب انتحار (آسر العزبي) هل ألقت عليها لعنة الهوى فأصبحت مقيدة به
إلى الأبد؟!…
إنه يشتد بعنف حول عنقها وكلما اشتد اختنقت وإن تحررت تموت. فإما الاختناق أو الموت… هكذا هو الهوى وعذابه كما ينشدون.
آه… ليتها ما وقعت لقد أصبحت ضحية كالجميع… ضحية لا تعرف مصيرها أبدًا…
فُتح الباب فجأة ثم دلفت جيداء بخطوات أنيقة وملامح هادئة وكأنها لم تفعل شيئًا بالأمس…
وعندما رأت نغم على تلك الجلسة البائسة شاردة في عالمٍ آخر تحدق في الجائزة وتعطل كل العمل منذ أن أتت قبل ساعتين…
قالت جيداء بنبرة جافة…
“هتفضلي على الحال ده كتير؟…”
وقفت أمامها على الجهة الأخرى تنظر إليها باستنكار…
سألتها نغم دون أن تنظر إليها وعيناها لا تزالان معلّقتين بالجائزة…
“أيوب وصل؟…”
ردت جيداء على مضض….
“طالما مجاش معاكي… إيه اللي هيجيبُه؟! على فكرة الاجتماع كمان شوية…”
ردت نغم بصوت باهت…
“أجلي كل حاجة… لحد ما أيوب ييجي…”
احتقن وجه جيداء بالغيظ وقالت من بين أسنانها بصعوبة….
“بس الاجتماع ده مهم…”
قالت نغم بهدوء….
“عارفة… ومهم كمان أيوب يحضره معنا.”
تنفست جيداء بحدة وهي تفقد أعصابها منفعلة بشكل مفاجئ….
“أيوب… أيوب… هو بقى صاحب الشركة وإحنا اللي شغالين تحت إيده ولا إيه؟! ما خلاص مهمته انتهت لحد كده!”
قطّبت نغم جبينها ورفعت عينيها إليها
تسألها بحذر…
“تقصدي إيه؟!”
قالت جيداء بصفاقة وجه…
“نشتغل على التصاميم اللي عمله… جالنا طلبيات كتير من امبارح والتليفون مش
مِبطّل رن لحد دلوقتي…”
نهضت نغم من مكانها ثم التفت حول المكتب حتى وقفت أمام جيداء وسألتها مدعية الهدوء رغم الغليان الذي يتصاعد بداخلها..
“وبعد كده هنعمل إيه؟…”
مطت جيداء شفتيها باستهانة وقالت بتبجّح
“ولا حاجة… هنعدل شوية في التصاميم اللي عملها الألوان شكل القَصّة وهنشتغل برضو… المهم المضمون… ”
نظرت إليها نغم نظرة حادّة وقالت بغضبٍ مكتوم…
“يعني إنتي عارفة إنه هو اللي عملها… ومع ذلك نسبتيها ليا وللشركة؟!.. ”
اجابتها جيداء بجمود…..
“طبيعي انتي عايزة تطلعي واحد زي ده على قفانا….وتديله فرصة ميستهلهاش…..”
ارتفع حاجب نغم وهتفت بدفاعٍ حاد…
“لا… يستاهلها بدليل إننا نجحنا بسببه ومن حقه يـ…”
قاطعتها جيداء بنظرة سوداوية كارهة…
“من حقه إيه؟! دا حرامي اللي زيه مكانه في السجن… أو يبيع هدوم على الرصيف لكن ينجح ويعلى علينا دا اللي مش ممكن
يحصل أبدًا…”
تجمدت ملامح نغم من الصدمة وبدت مذهولة النظرات وهي تهدر بانفعال…
“إنتي بتتكلمي كده ليا؟!… من حقه يا جيداء… من حقه ينجح ويكبر… هو مش بيسرق مجهود حد زي ما طلعتيني قدامه كأني بستغله!”
تبرمت جيداء ببرود وأجابت…
“مفيش استغلال ولا حاجة هو خد تمن شُغله… خلاص خلصنا!”
خنقها الحديث المستفز وقد تطاير الشرر من عينيها وهي تصيح…
“مخلصناش مخلصناش واللي عملتيه غلط وأيوب مش حرامي… ومفيش حاجة تعيبه
ولا حتى شغله على الرصيف… سامعة؟!”
تلون وجه جيداء بابتسامة صفراء وقالت بخبث…
“محموقة عليه أوي كده ليه دا بدل ما تشكريني…”
تشدّقت نغم بتعجب…
“أشكرك؟!”
أومأت جيداء برأسها وقالت بأسلوب لئيم مقنع…
“أيوه… عايزة تغلطي غلطة كمال الموجي وتشغليه وتديله مساحة هنا وسطنا؟! وفي الآخر يشتغل لحسابه ويضربنا في ضهرنا.. ”
سريعًا هزت نغم رأسها رافضة دون تفكير
“أيوب عبد العظيم مش زي جاسر…”
ارتفع حاجبا جيداء بسخط وتساؤل..
“وإيه اللي خلاكي متأكدة أوي كده إنه مش هيبيعك لأي حد؟… أو علشان مصلحته؟!”
ارتفعت وتيرة تنفس نغم بحدة وقالت..
“متأكدة… وواثقة فيه… أكتر من نفسي…”
انعقد حاجبا جيداء بشك وفاضت نظراتها بالدهشة…
“أكتر من نفسك؟!… انتي بتحبيه ولا إيه؟!”
ظهر الارتباك في عيني نغم وفي رجفة يديها التي ضمّتهما ببعض كمن يحضّر قذيفة يوشك أن يلقي بها معترفةً بصوتٍ عالٍ دون هرب..
“آه بحبّه… عندِك مشكلة؟!”
اتسعت عينا جيداء بصدمة وغضب أسود وهي تصرخ بجنون..
“انتي أكيد جرالِك حاجة.. تسيبي كل الرجالة دي… وتمسكي في ده؟!”
تراجعت نغم خطوة للخلف بذهول من ردّة فعلها المبالغ فيها ومن تلك النظرة المشبعة بالغضب والكره التي تلقيها عليها لأول مرة… وكأن قناعها سقط فجأة وظهرت ملامحها الحقيقية بتعابير نابعة من قلبها…
سألتها نغم بضيق…
“وماله ده؟!….. ماله؟! إيه مشكلتك معاه أفهم؟!… ”
قالت جيداء دون تفكير وبضغينة…
“هو في مشكلة أكبر من كده… إنك تحبّيه!”
سألتها نغم باستنكار…
“ليه؟!….. حرام أحب؟!”
هتفت جيداء بتهكم…
“كان قدامك آسر… وكان قدامك رجالة كتير… اشمعنَا ده؟!”
ازدردت نغم ريقها بخجل وقالت بخفوت..
“الحب مفهوش اشمعنا وليه… دي حاجة بتحصل جوانا من غير ما نرتب لها…”
زمّت جيداء شفتيها وعقبت بسخرية قاتمة..
“عشان كده بتساعديه؟… عايزة يكون قريب من مستواكي شوية… على الأقل؟!”
رفضت نغم بنظرة شرسة كانت كافية لقطع
أي نقاش…
“مش صح هو موهوب… وإنتي شوفتي ده بعينك ويستحق يتقدم للناس ويتعرف!”
ثم استرسلت بعزم…
“وأنا… هحاول أصلح اللي حصل!”
صاحت جيداء فجأة بغل…
“لو عملتي كده… هتبوظي كل حاجة بغبائك..”
رمقتها نغم بعينين تنفثان نارًا…
“بغبائي؟!…. انتي جرالِك حاجة ليه الحقد والكره ده…. هو عملك إيه؟!”
هتفت جيداء دون تفكير…
“ما هو مش حياتي أنا اللي تبوظ… وانتي حياتك تبقى وردي مع سي أيوب بتاعك”
شعرت نغم وكأن حجرًا ثقيلًا سقط فوق صدرها فجأة شاعرةً بالعجز في كل خلايا جسدها ثم سألتها بشق الأنفس…
“هو انتي بتتكلمي معايا كده ليه؟! وإيه الألغاز دي؟!…. أنا مش فاهمة حاجة…”
قالت جيداء ببرود…
“أنا هقدم استقالتي… أنا مبقتش قادرة أكمل في المهزلة دي… ”
غادرت جيداء المكتب بخطواتٍ غاضبة بينما بقيت نغم في مكانها تنظر إلى الفراغ بملامح متجهمة وقد استوطن الخوف والشك قلبها لأول مرة تجاه صديقتها… تلك التي رأت في عينيها أطنانًا من الضغائن والكره لم تكن موجودة من قبل…
أو… هي التي تغافلت عنها !….
…………………………………………………..
جلس أيوب في هذا المقهى الراقي المطل على البحر وهو الذي سبق أن دخله من قبل بصحبة نغم في انتظار المدعو (عدي) اليوم يجلس في نفس المكان لكن شتّان بين المرة الأولى والآن فهو اليوم يحمل مفتاح الحقيقة…
مفتاح سيفتح جميع الأبواب الموصدة ومعه سيعرف سرّ تلك الحيّة والمكيدة التي دبرتها بمنتهى الدهاء وظلت أمام أنظار الجميع في هيئة الملاك الوفي… قريبة من الضحية إلى درجة الثقة العمياء بها….
فتح أيوب الفيديو مجددًا فيديو يحوي مشاهد مخلة بين عدي وعشيقته السرية علاقة تتم في الخفاء بعيدًا عن زوجته المصونة وحماه السياسي…
ابتسم أيوب بازدراء وهو يتذكر كيف وصل إلى هذا الفيديو…
قبل عدة أيام…
وصل سلامة بصحبة أيوب إلى غرفة تقع فوق سطح إحدى العمارات في حي شعبي بسيط.
وعندما فُتح الباب ظهر أمامهما شاب نحيف يرتدي سروالًا قصيرًا وفانلة حمالات وتحت عينيه هالات سوداء شاحب الوجه والإرهاق بادٍ عليه وكأنه من المستذئبين لا ينام ليلًا فقد كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا.
أشار سلامة إليه بفخر…
(الچنيس حمادة كولا… أحسن هاكر في المنطقة.)
ابتسم له حمادة وهو يشير إليه بالدخول
(سلامة؟!… عاش من شافك ياض… على ما افتكرت…)
زمّ سلامة شفتيه ساخرًا بقنوط
(على أساس إنك بتقوم من قدّام الكمبيوتر معايا ضيف وعايز مصلحة منك… وفيها لقمة حلوة ليك…)
رد حمادة بنظرة منتشية
(أنا خدام اللقمة الحلوة… ادخلوا نتكلم جوّه.)
وبعد لحظات أوضح أيوب ما يريده بالضبط فعقب حمادة على الأمر ببساطة
(مفيش مشكلة نختَرِق تليفونها… بسيطة.
اللينك يتبعت أول ما يتفتح يبقى تليفونها وكل تحركاتها كتاب مفتوح قدامك… بس المهم تفتحه ساعتها سيب الباقي عليا…)
تدخل سلامة بتأهب..
(طب وافرض مفتحتوش؟ دي بت حويطة ومش سهلة…..)
رد حمادة بنبرة جادة..
(لازم تفتح اللينك علشان أقدر أشوف شُغلي وأعملكم اللي انتوا عايزينه.)
وبالفعل في يوم المسابقة استغل أيوب انشغالها وطلب منها الهاتف ليجري مكالمة ضرورية مدعي ان هاتفه نفد رصيدة ورغم الاعتراض الذي بدا على وجهها الحانق إلا
إنها أعطته الهاتف على مضض… حينها فتح الرابط الذي أُرسل إليها وسهل ذلك اختراق هاتفها لاحقًا….
في البداية لم يجد شيئًا يثير الشكوك سوى ذلك الفيديو الذي مدته دقيقتان يُسجل لحظات غرامية بين عدي وامرأة شقراء
ترقص وتتمايل بقميص نوم فاضح بينما هو يعانقها من الخلف في حالة سُكر يُرثى لها…
عندها شعر أيوب أنها أولى خيوط كشف الحقيقة وأن عدي هذا يخفي في جعبته الكثير مما يرفض البوح به خوفًا من
الفضيحة.
مؤكد جيداء تبتزّه كي لا يعترف بالحقيقة… لكن ما هي الحقيقة؟… وما علاقة جيداء بموت آسر العزبي؟
هذا ما ينتظر سماعه على أحرّ من الجمر بعد أن أرسل الفيديو الفاضح إلى عدي وأبلغه أنه في انتظاره في نفس المقهى… وحده للتحدث حول الأمر دون مراوغة….
وصل عدي بعد لحظات تتلفت عيناه يمينًا ويسارًا بقلق يساوره الشك في أن أيوب قد أعد له فخًا محكمًا للإيقاع به….
جلس على المقعد المقابل له بملامح مرتابة حانقة نزع نظارته عن عينيه ثم سأله دون مقدمات…
“الفيديو ده وصلك إزاي؟…. وجبت رقمي منين؟”
رد أيوب بنبرة هادئة ونظرة نافذة…
“بنفس الطريقة اللي خدت بيها الفيديو.”
قطب عُدي جبينه متسائلًا….
“مش فاهم؟!”
رد عليه أيوب بنظرة قوية…
“مش مهم تفهم… أنت هنا عشان أنا أسألك وأنت تجاوبني…”
احتقن وجه عدي بالغضب وتحدث من بين أسنانه بقلة صبر…
“إنت إزاي جتلك الجرأة تتكلم معايا بالطريقة دي… مفكر إن حتة الفيديو ده هيخوفني؟! أعلى ما في خيلك اركبه… أنا مش بتهدد.. ”
رد عليه أيوب بخشونة…
“محدش قال إني بهددك… أنا كل اللي عايزه أعرف الحقيقة… الحقيقة اللي مرضتش تقولها في النيابة… عشان نفس الفيديو اللي بتبتزك بيه… ”
ارتبك عدي وهو يناور قائلًا…
“إنت بتقول إيه؟!… مين دي اللي بتبتزني؟!”
مال أيوب بجسده للأمام ساندًا بذراعيه على سطح الطاولة وتحدث بنبرة جادة حازمة
“برضه هتلف وتدور؟! ما تيجي نتكلم بصراحة راجل لراجل…إنت على علاقة بواحدة تانية غير مراتك بنت السياسي المعروف… الفيديو اتصور واتسرب ووصل لإيد جيداء فبقت تهددك…..لو اتكلمت هتخرب بيتك وتشردك.”
ثم استرسل بحاجبين مرتفعين وبنبرة
مشككة…
“اللي عايز أعرفه بقى… إيه اللي عندك مخليها خايفة منك وبتبتزك بفيديو عبيط زي ده؟”
هتف عدي دون تفكير…
“عبيط؟….. الفيديو ده ممكن يدمر حياتي وينفيني من الوجود… ”
تبرم أيوب ساخطًا…
“للدرجة دي السياسيين جامدين كده؟!.. طب إيه اللي خلاك تعط لمؤاخذة من الأول؟!”
أشاح عدي بوجهه بحرج…
“نزوة وعدت… الفيديو قديم و…”
قاطعه أيوب بنبرة خبيثة…
“والله حتى لو بقاله قرن بالنسبة للمدام جديد… ومتصور النهاردة كمان اسألني أنا
يا حلاوة مفيش زي الستات في تكبير المواضيع.”
زمجر عدي بنفاد صبر….
“إنت عايز مني إيه بظبط ؟!”
رد أيوب بتأنٍّ…
“أعرف الحقيقة… من غير لف ودوران.”
رد عدي ببرود…
“طب وأنا هستفيد إيه؟”
قال أيوب بابتسامة سمجة…
“هتستفاد إن الفيديو يتمسح… ويادار ما دخلك شر.”
رفض عدي بعناد…
“وأنا أضمنك منين؟!”
مط أيوب شفتيه ببلادة قائلًا..
“خلاص زي ما تحب… الفيديو كمان ساعتين هيوصل للمدام وأبوها السياسي.”
علت وتيرة أنفاس عدي وظهر الارتباك والقلق جليًا عليه وقال بعد صمت…
“ولو قولتلك على اللي أعرفه؟”
رد أيوب بلهجة حاسمة….
“يبقى حُط في بطنك بطيخة صيفي… أمان وكأننا ما تقابلناش… بس إيه اللي إنت تعرفه بالظبط؟… من غير اشتغالات. تعالى معايا دوغري… إيه علاقة جيداء بآسر العزبي؟”
هتف عدي معترفًا كأنه يلقي أول قذيفة في وجهه…
“كانت مراته!”
خيم الصمت قليلًا وظل أيوب يحدق فيه بملامح تجمدت من هول الخبر الذي نزل كالصاعقة فوق رأسه… ثم عقب باستفهام..
“مراته؟!………. مراته إزاي؟!”
رد عليه عدي بهدوء…
“كانوا كاتبين ورقة عرفي… متجوزها في السر…”
سأله أيوب
“وليه في السر؟!… ”
أخذ عدي نفسًا طويلًا ثم زفر وهو يوضح باستفاضة منذ بداية القصة بنبرة خافتة متحفظة…
“عشان نغم… من أيام الجامعة وهو بيحب نغم…في الأول كان عايز يجيب مناخيرها الأرض وتحبه بس بعد كده اكتشف إنه هو اللي بيحبها وهي ولا شيفاه.”
شعر أيوب بالنيران تندلع في صدره كلما ذُكر هذا الحب الملعون…
بينما استرسل عدي بنفس التحفظ…
“جيداء كانت بتحبه من أيام الجامعة زيها
زي بنات كتير وهو عارف بس مطنش ومش مديها اهتمام… لما بدأت تقرب من نغم وبقوا صحاب بدأ يقرب من جيداء كصديقة… إنها تبقى رسول الغرام بينهم…. ولما رفضت ده واعترفت إنها هي اللي بتحبه… ونغم مش شيفاه أصلاً…”
“قطع علاقته بيها… لحد من سنتين بس بدأ يكلمها تاني وحصلت علاقة بينهم واتجوزها عرفي… ومحدش شهد على العقد غيري أنا وواحد صاحبنا…. هو مسافر أمريكا حاليًا وتقطعت أخباره حتى ميعرفش حاجة عن موت آسر… ”
“من فترة كبيرة حكالي إنها حامل منه… وإنه رفض يعلن جوازهم رسمي لما طلبت منه… كان لسه عنده أمل إن نغم ترتبط بيه خصوصًا إنه ما زال بيحاول يقرب منها وإنهم أصحاب جدًا… ”
تشنج فك أيوب بقسوة وهو يركز على الحديث أكثر…
بينما تابع عدي….
“جيداء حست بكده… وقبل ما يموت بكام يوم كان عند نغم في الشركة وجيداء سمعته وهو بيعترف ليها بحبه… ودخلت عليهم وقتها.”
“آسر بعدها ارتبك وشاف نظرة في عيون جيداء خلته يقلق منها فحب ينهي العلاقة ويطلقها… خصوصًا إنها سمعت كلامه ونزلت اللي في بطنها خوفًا من إنه يسيبها.”
“وعلى حسب كلام آسر معايا من بعد عملية الإجهاض اللي عملتها جيداء بقت شخص تاني… عصبية وزعيق وغيرة تخنق… وده اللي خلاه يطلقها ويقطع الورقتين وينهي كل حاجة بينهم… ”
“الغريبة إن آسر قالي إنها رغم هوسها بيه وتضحيتها إنها تقتل اللي في بطنها عشان تكمل معاه إلا إنها أول ما قالها إنه مش عايز يكمل وعايز يطلقها… تقبلت الموضوع عادي جدًا من غير انفعال أو عياط… وولعت في الورقة اللي كانت معاها قدامه وسبته ومشيت.”
عقد أيوب حاجبيه مفكرًا بارتياب من هذا الرد غير المتوقع…
“يوم الحادثة كنت متفق مع آسر إننا هنروح حفلة… دخلت عليه الشقة بحكم إن معايا نسخة من المفتاح…. لقيته ميت… تشريح الجثة قالوا إنه خد حباية مميتة اسمها *** والرسالة اللي كتبها بخط إيده كانت جنبه بيقول فيها إن سبب انتحاره رفض نغم ليه.”
“في الحقيقة أنا مصدقتش الرسالة رغم إن التقرير أكد إن خط إيده… بس آسر مستحيل ينتحر عشان واحدة رفضته حتى لو روحه فيها… خصوصًا إنه كان على علاقات غرامية بستات كتير مش بس جيداء. يعني مكنش مترهبن عشان حبه لنغم بالعكس… أنا كنت شايفه واخد الموضوع تحدي بس عشان رفضته فكان عايز يضمها لحريمه باي طريقة
ترضيها… مش أكتر وهو بنفسه اللي قالي كده أكتر من مرة وهو سكران.”
ثم أنهى الحديث بنبرة صادقة…
“بس أنا معرفش مين قتله.”
ضاقت نظرات أيوب معقبًا باستنتاج…
“مش يمكن هي اللي تكون قتلته وبتبتزك بالفيديو ده؟”
هز عدي رأسه موضحًا…
“كل اللي طلبته جيداء مني إني مجبش سيرة جوزها منه… لأنهم كده كده كانوا انفصلوا قبلها بكام يوم…. فقالت إنها مش عايزة شوشرة… ”
شدد أيوب على الأحرف…
“بس إنت شاكك إنها ورا موته؟”
رفض عدي وهو يهرب من نظراته بعصبية..
“معرفش… الموضوع أكبر من إني أورط نفسي فيه دي قضية قتل وشكري العزبي راجل مش سهل وأنا مش عايز يكون ليا علاقة بأي حاجة تخص الموضوع ده… وأنصحك تعمل زيي وتسيب النيابة تشوف شغلها وأكيد هيعرفوا إذا كان انتحار ولا قتل… دي شغلتهم.”
تبرم أيوب بسخرية قاتمة…
“شغلتهم لازم تكمل بالأدلة والشهود… وإنت خبيت حاجة كبيرة ممكن تفيد في القضية وتحمي نغم من كل اللي هي فيه.”
رد عليه عدي دون اكتراث…
“أظن إن إحنا مش ملايكة وكل واحد لازم يدور على مصلحته… وأنا مصلحتي إني أبعد عن الموضوع ده نهائي.”
نظر إليه أيوب باستهانة وسأله…
“وضميرك بقى؟… عامله على الوضع الصامت؟”
لم يهتم عدي وقال بجمود..
“حاجة زي كده… أنا قولت اللي عندي وبلاش خيالك يصورلك إني ممكن أعيد الكلام ده قدام النيابة أو قدام أي حد تاني….”
رمقه أيوب بنظرة خالية من التعبير بينما يده تُغلق الهاتف بعد أن سجل الحديث الذي دار بينهما منذ قليل….
……………………………………………………….
يقف في الحديقة يدسّ يديه في جيب بنطاله الجينز وعيناه تحدقان في الفراغ بين الأشجار والورود… خلفه يلمع المسبح ويعتم الظلام المكان لكن إضاءة خافتة تنير الأرجاء…
أطلق تنهيدة عميقة وهو يستشعر وقع خطواتها على العشب الأخضر ثم عطرها الفاخر الذي انتشر في المكان وداهم أنفه
دون رحمة…
خفق قلبه بشدة بين أضلعه وشعر بتشنجٍ في كل خلايا جسده عندما سمع صوتها الموسيقي بالفطرة ينادي…
“أيوب…”
أن يُنطق اسمي من بين شفتيكِ لحنٌ عذبٌ قادر على أن يُسكر حواسي…
أغلق جفنيه بعذاب وهو يسمع خطواتها تقترب وعطرها يتوغل أكثر إليه حتى وقفت أمامه.
فتح أيوب عينيه في مواجهة عينيها العاصفتين كانت تبرق رعدًا وغضبًا
الآن…
عقدت نغم ذراعيها أمام صدرها وهي تقف أمامه بكامل أناقتها وشعرها حر طليق على ظهرها بينما عيناها تكادان تنفثان نارًا وهي تقول….
“بقالك يومين ما بتجيش الشركة…”
رد عليها أيوب وعيناه لا تحيدان عن وجهها الغاضب…
“حبيت آخد إجازة…”
سألته بنظرة لائمة…
“من غير ما تقولي؟!”
ردّ أيوب بجفاء….
“اللي كنتي عايزاه أنا خلصته… وجودي مش مهم دلوقتي…”
نمت الغصة في حلقها كشفرة حادة وشعرت بوخزة في قلبها وهي تسمع ما كانت تخشاه فقالت باختناق…
“أنت مفكر إني استغليتك صح؟… أنا ماكنتش أعرف إن جيداء هتعمل كده… أيوب أنا مستحيل آخد مجهودك وأنسبه ليا مهما حصل…”
لم تجد منه ردًا سوى الصمت ونظراته الثاقبة التي تكاد تبتلعها قالت بشجن…
“أيوب أنت مصدقني صح… أنا مستحيل أستغلك لا عشاني ولا عشان الشركة…”
أخذ نفسًا طويلاً خشنًا ثم زفره على مهل وهو يقول بتريث….
“فات وقت الكلام ده يا نغم… اللي حصل حصل…”
قالت بجدية…
“أنا هحاول أصلح اللي حصل ده… أوعدك.”
هز أيوب رأسه قائلاً بحزم…
“كل اللي عايزه منك إنك تاخدي بالك من نفسك…”
زمت فمها وهي تقول بمسكنة….
“هاخد بالي من نفسي إزاي وإنت مش معايا؟ هترجع الشركة بكرة مش كده؟”
رد بهدوء….
“لسه إجازتي ما خلصتش…”
سألته بضيق…
“وإمتى بقى هتخلص؟”
رد بنفس الهدوء المستفز….
“لسه مش عارف…”
هتفت باسمه تستجدي عطفه…
“أيوب…”
تململ أيوب وأخبرها على مضض…
“وجودي مش هيزيد ولا هينقص فيها… سبيني على راحتي…”
قالت نغم كما يملي عليها قلبها….
“وجودك جنبي مهم…”
سألها مستنكرًا…
“ليه؟…….. إيه السبب؟!”
يعلو النبض وترتفع معه حرارة جسدها وارتباكها وهي تهرب من نظراته قائلة
بحذر…
“مش عارفة… بس محتجاك جنبي…”
رد عليها بصوتٍ أجش قاطع وعيناه لا تحيدان عنها….
“حتى الاحتياج بيبقى وراه سبب… معقول مش فاهمة ولا مش عايزة تصدقي؟”
رفعت عينيها لترى ذاك الوهج العنيف في عينيه فتراجعت تلقائيًا خطوة للوراء قائلة بارتجاف ملحوظ…
“أصدق إيه؟”
ظل أيوب ثابتًا في مكانه وكانت عيناه كفيلتين ببعثرة مشاعرها واختلاج قلبها
“اللي بيقوله قلبك…”
يقرع قلبها بجنون كطبول الأعراس بل كناقوس إنذار…
خطر… أنت خطر كبير يهدد سلام قلبي… كل شيء فيك خطر… نظراتك… كلماتك… وجودك…
هواك يا سيدي خطر كبير ويبدو أني أنا وقلبي نهوى المخاطر…
“وإنت بقى عارف هو بيقول إيه؟”
ورغم ارتجاف صوتها تحلت بالشجاعة وسألته بنظرة جريئة باردة…
رد أيوب بابتسامة ساحرة جذابة…
“عارف وحاسس بيه… عشان قلبي بيقول نفس الكلام…”
ألا يكفي الحديث؟! أنت تزيد الوضع خطورة بتلك الابتسامة القادرة على سلب ثبات قلبي… كفاك عبثًا معي…
“اللي هو؟!… ”
اقترب أيوب منها خطوة… ثم خطوتين…
تراجعت نغم تلقائيًا ولا تعرف لماذا تفعل ذلك بمنتهى الغباء… هل تخاف منه؟ أم تخاف على قلبها منه؟….
فلتت منها شهقة صغيرة بعدما اصطدم ظهرها بجذع شجرة كبيرة خلفها…
نظرت إليه مذعورة لترى كفه يسند على الجذع جوار وجهها محاصرًا إياها بالوقوف أمامها دون أن يلمسها وعيناه واهٍ منهما تكفيان لصنع بلبلة كاملة في مشاعرها المضطربة…
“إنت غبية أوي يا نغم…”
بوجهٍ أحمر مرتاب حركت نغم أهدابها بسرعة عدة مرات في حركة أنثوية تشع بغباءٍ فطري معه تمنى أيوب أن يلتهمها بأسنانه فهي تشبه الحلوى الهلامية… رقيقة…. ناعمة…. وحلوة المذاق…
تابع أيوب موضحًا وعيناه تأسرانها بلا رحمة..
“إزاي صدقتي إني ممكن أزعل إنك خدتي الجايزة مكاني؟”
سألته نغم بتلعثم…
“أمال ليه بعدت؟…. طالما مش زعلان…”
قال بخشونة….
“عشان نفسي آخدك قلمين…”
ظهر الانزعاج جليًا على وجهها المتخضب..
“نعم؟!… ”
أومأ أيوب برأسه مضيفًا بنظرة عابثة…
“وبعد كده آخدك في حضني وأصلّحك بطريقتي…”
توسعت عيناها الرماديتان بجمال كقمرين يبرقان في سماءٍ غائمة ثم فتحت فمها
ببلاهة…
“هاااا…”
مد أيوب يده يغلق فمها بحركة سريعة ومعها لامس شفتيها الناعمتين فازداد وهج عينيه وهو يقول بصوتٍ أجش…
“اقفلي شفايفك الحلوين دول… اسمعي لو عايزاني أرجع الشركة تاني صاحبتك تمشي… بصراحة ما ينفعش أنا وهي نكون في مكان واحد بعد اللي عملته معايا… اختاري بينا…”
قالت نغم بخفوت…
“جيداء كده كده قدمت استقالتها امبارح…”
أومأ برأسه…… “عملت طيب…”
سألته بلهفة….
“يعني هترجع؟”
سألها وعيناه تتأملان حنايا وجهها الجميل…
“إنتي عايزاني أرجع؟… ”
زمت شفتيها الفاتنتين وبنظرة لائمة سألته
“إنت شايف إيه؟… ”
تنهد أيوب وقال بعذاب….
“شايف إن عينيكي الحلوين دول سبب ضياعي وحيرتي…”
سألته وقلبها يتأرجح بلهفة بين حديثه ونظراته المفتونة بها…
“مالهم عينيا؟!”
رد بصراحة….
“غدارين أوي…”
عقدت حاجبيها مستنكرة وهي تقول ببراءة..
“بس أنا مش من طبعي الغدر…”
رد وهو ينهال بنظراته على وجهها وعينيها وكأنه يلتهمها…
“أمال ليه عينيكي بتوعدني بحاجة… وتصرفاتك معايا حاجة تانية؟!”
سألته بعدم فهم….
“وإيه اللي عينيا وعدتك بيه؟!”
ردّ بصوتٍ عميق…
“الحب… فين الحب يا نغم؟!”
بلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر أنها تعبث مع نيران الهوى…
“مش فاهمة؟!”
تأفف أيوب مدعي الأسى…
“يعني لا فاهمة قلبك… ولا فاهمة كلامي… هنوصل إزاي كده؟!”
نادت عليه بضياعٍ أنثوي…
“أيوب…”
ابتسم أيوب وهو يميل نحو وجهها أكثر هامسًا بصوتٍ عنيف بالمشاعر….
“طب أقولك أنا اللي قلبي بيقوله يمكن تفهمي قلبك…”
بادلته الابتسامة وهي تسأل بجرأة….
“وإيه اللي قلبك بيقوله؟”
مال بوجهه وعند أذنها همس بصوتٍ يضخ بالعاطفة….
“بيقول إنه واقع… واقع في حبك…”
طبع قبلة على وجنتها توقيع موثق بعد هذا الاعتراف…..فكان ردها شهقة صغيرة وعينان تتسعان بذهول وعدم استيعاب يسيطر عليها…
إنها اللحظة التي نرتدي فيها ثوب الغباء بكامل إرادتنا فلا العقل يستوعب تلك التغيرات المفاجئة ولا القلب يصدق أنه وصل إلى مبتغاه… حتى الأذن تظن أنها تتوهّم
الكلمات…
“هااا…”
تشعر بأن قلبها توقف ربما أنفاسها… المكان بأكمله… الهواء…
لكن أيوب لم يتوقف وهو يعترف مجددًا… اعتراف سيكون في أول صفحات حبهما
“بحبك يا نغم… بحبك يا كلّ الحب…”
مال عليها مجددًا يقبّل وجنتها الأخرى وعندما طالت قبلته همست نغم بدلال وهي تضع يدها على صدره تبعده عنها برفق….
“إييييووووب…”
متى أتيتَ وكسرتَ حصني المنيع… وكيف اهتز ثبات قلبي على يديك بنظرة… بمزحة… بابتسامة مالى إليك وكأنّه كان في انتظارك منذ دهور…
جلسا معًا بالقرب من حافة المسبح يخيم الصمت على المكان…
لم تستوعب نغم بعد اعترافه المنكّه بكل مقومات السحر العاطفي !….
ولم يرغب أيوب في الحديث الآن ففضل الصمت وترك لها مساحةً للرد…
رفعت ركبتها وضمتها إلى صدرها تكبّلها بذراعيها وعيناها تحدّقان في بركة الماء
التي ينعكس عليها الضوء بجمالٍ باهر…
نظر أيوب إلى جانب وجهها وطال النظر إليها
حتى مالت بوجهها نحوه تتبادل معه النظرات… والخفقات أيضًا.
“مش هتقوليلي قلبك بيقول إيه؟…”
سألها أيوب متلهّفًا لسماع اعتراف يستشعره بقلبه قبل أن يراه في عينيها لكن سماعه منها شعور آخر…
لعقت نغم شفتيها مرتبكة وهي تنظر إلى بركة المسبح قائلة…
“مش بيقول حاجة…”
“نـغـم…”
اقترب منها في جلستهما فنظرت إليه بتحذير…
“متأكدة إنه مش بيقول حاجة؟”
عضّت على شفتيها تحاول أن تحرر نفسها من هذا الخجل الذي عقد لسانها… فيبدو أن الاعتراف سيكون متبادلًا لا محالة من التهرب…
“تقريبًا بيقول نفس الكلام…”
برقة عينيه فسألها بتروٍ….
“اللي هو؟!”
توردت وجنتاها ورفضت بشدة
“بلاش تحرجني…”
لكن أيوب لم يرحم خجلها وأصرّ بنبرةٍ ونظرةٍ لحوحة….
“هتقولي… مش هضيع الفرصة دي من
إيدي…بتحبيني؟!”
اختلج قلبها بين أضلعها بقوة وهي تومئ برأسها بخفة متحاشية النظر إليه..
“أيوه…”
ابتلع ريقه وسألها بنشوة…
“من إمتى؟”
تعلقت عيناها بسطح الماء المضيء وبنظرةٍ ناعمة يملؤها الحب قالت بهمسٍ يشبه نغمة الناي…
“مش عارفة… فجأة لقيت نفسي كده بحبك وبتعلق بيك…عايزة أشوفك عايزة أكلّمك عايزاك قريب مني طول الوقت…وبموووت من الغيرة لما بشوفك قريب من ليان أو غيرها…
وبضيع… بضيع كل ما أبصّ في عينيك…”
ضحك أيوب فنظرت إليه مندهشة من ردّة فعله لتراه يغمز لها قائلًا بمزاح ذكوري ثقيل
“ده انتي واقعة أكتر مني…”
امتقع وجهها بالغيظ ثم لكزته في كتفه منزعجة وعقّبت بحرج شديد…
“تصدق إنك غلس؟!…. أنا غلطانة إني صريحة معاك…”
وقبل أن تنزع كفها كان يحتجزها بين يديه بحنو
رافعًا إياها إلى شفتيه معتذرًا وهو يوزّع القبل الدافئة على أصابعها ذات الأظافر الوردية اللامعة… وكأنّه يرسمها بقبلاته ثم ختمها بقبلة على كفها طبع شفتيه لثوانٍ…
معها شعرت بأن قلبها سيتوقّف من شدّة الانفعال العاطفي…
طبع القبلة على كفها ثم رفع عينيه قائلًا بصوتٍ عميق سرى معه كقشعريرة في سائر جسدها…
“أنا دايب يا نغم… دايب فيكي أوي…
بحبك… بحبك أوي…”
لم تقاوم كثيرًا وهي تعترف بنظرةٍ تملؤها العاطفة المستجدة بينهما…
“وأنا كمان بحبك يا أيوب…”
يهزم المرء أمام عيني من يحب لكن لم يخبرونا أن هناك هزيمةً أكبر…تلك التي تأتي بعد أول اعتراف بالحب فتصبح المشاعر سافرة…والعيون ناطقة !….
……………………………………………………..
سحبت أكبر قدر من الهواء البارد إلى رئتيها وعيناها متعلقتان بهيام على البحر وقت المغيب….
كانت تجلس على بساط جلبته معها ومعه علب الطعام التي أعدتها له بيديها. كانت قد وعدته أن تفطر معه يومًا في مكان عام ولم تجد مكانًا أفضل من شط البحر لتناول وجبة الإفطار….
مكان سحري وعبق البحر يملأ رئتيها انتعاشًا مع صوت الأمواج ورذاذ المياه الذي يلطم صفحة وجهها بخفة….
تلونت شفتيها بابتسامة ناعمة وهي تغمض عينيها بانسجام فاليوم تحقق حلمًا من ضمن أحلامها المستحيلة أن تكون بقرب حبيبها وأن يأكل من صنع يديها وهما يجلسان أمام شط الهوى كأي حبيبين… ومن يمانع؟
لكن… انكسرت الابتسامة على شفتيها بحزن فالعالم كله يمانع… إلا قلبيهما…
نظرت إلى السماء بحيرة. لا بد أن لهذا الحب الذي طرق حياتها سببًا وجيهًا وإلا… لماذا أتى؟
همست بكلمة واحدة وعيناها تنطقان بالكثير
“يا رب…”
“بتدعي على مين يا دكتورة؟”
عاد قلبها يرفرف وكأنه عاد للحياة مجددًا. انقشعت غمامة الحزن والخوف عنها ومالت بوجهها تنظر إليه عاقدة حاجبيها بعتاب..
“كل ده بتجيب العصير؟”
أرجع سلامة خصلات شعره الناعمة عن وجهه للخلف ثم جلس بجوارها على البساط وبينهما علب الطعام المغلقة والبحر أمامهما مباشرة.
“المحل زحمة… وكأن مفيش غيره اللي
بيبيع… ”
سألته وهي تنظر إلى زجاجة العصير التي أحضرها….
“جبت الصُّوبيا؟”
أعطاها زجاجة متوسطة الحجم وهو يقول بمداعبة…
“أحلى صُوبيا… ”
أخذتها نهاد منه مبتسمة فتحت الغطاء وبدأت في شربها بتمهّل تروي جسدها الظمآن… لكن كيف تروي قلبها الولهان؟!
أنزل سلامة الزجاجة عن فمه وهو يسألها بمناغشة…
“ما قولتيش كنتي بتدعي على مين؟”
قالت بنظرة شريرة توجهها للبحر…
“عليك !… ”
توسعت عيناه بدهشة مرتاعًا…
“يا ساتر… ليه يا دكتورة؟!…أنا زعلتك في حاجة؟!… ”
ضحكت نهاد وهي تقول بحنو…
“مش بدعي عليك… بدعيلك.”
سألها منتشيًا…
“ودعيتي ليا بإيه بقى؟… ”
قالت نهاد بخجل…
“بكل حاجة حلوة…”
أطلق تنهيدة حارة وهو يقول بتوله…
“وبالنسبة للحلو اللي قدامي ما دعيتيش يكون من نصيبي؟”
أسبلت جفنيها تنظر إلى زجاجة العصير وقلبها ينتفض متفاعلاً مع سيده…
“اتجدعن إنت… وكل حاجة هتيجي في وقتها….”
هتف سلامة بحرارة…
“أنا ناوي أول ما أشتغل مع أيوب وأقف على رجلي… أفتحه في جوازنا…. ”
قطبت جبينها بحيرة…
“والتعليم؟!… ”
هتف بمسايرة..
“هيجي واحدة واحدة… بس نتجوز الأول.”
رفضت نهاد باستنكار…
“لا يا سلامة أنا مش موافقة.. دا مهري اللي وعدتني بيه… إنك تتعلم.”
ضاق صدره فجأة مختنقًا ومع ذلك أوضح لها بصبر….
“إنتي عارفة إن الموضوع هيأخد وقت وسنين…معقولة هنضيع عمرنا كله عشان
حتة ورقة؟… ”
احتقن وجه نهاد بانزعاج واضح وقالت
بدفاع…
“الشهادة مش حتة ورقة… الشهادة مستقبلنا ومستقبل عيالنا… ”
شعر بكتلة من الألم تقف في حلقه فجأة فقال بصوت خافت متحشرج….
“أنا هجيب الفلوس اللي بتيجي من ورا الشهادة….”
قالت نهاد….
“عارفة… بس التعليم…”
قاطعها سلامة بنبرة جادة….
“ما تضيعيش حبنا يا نهاد… وتطلبي المستحيل مني….”
على وجهها تعبير الذهول واتسعت عيناها وهي تتشدق بـ…
“إنك تكمل تعليمك… مستحيل؟!”
أومأ سلامة برأسه وهو يقول بنبرة مثخنة بالجراح…
“آه مستحيل… مستحيل أوي كمان.إنتي مش طالبة مني أتعلم القرايه والكتابة كان مقدور عليها… إنتي طالبة سلامة جديد… متفصل على دماغك… ناجح ومعاه شهادة كبيرة
طب إزاي؟…… تيجي إزاي دي؟”
هتفت نهاد بصوتٍ منفعل…
“تيجي لو كان عندك هدف.. ”
بنظرة قوية ونبرة مشحونة بالمشاعر هتف بصدق….
“هدفي هو إنتي!…. بتعجزيني ليه يا دكتورة؟! وبترشي ملح على الجرح… صعب تقبليني زي ما أنا…. ولا أنا أقل من إنك تقبليني على وضعي ده؟!.. ”
حديثه اخترق قلبها كنصل حاد فانكسرت عيناها بنظرة عتاب وقالت بصوت واهن…
“أنا حبيتك زي ما أنت يا سلامة… بس…”
قاطعها سلامة وهو يقول بصلابة…
“بس إيه؟! هجبهالك على بلاطة يا دكتورة… اللي بتطلبيه مستحيل وأنا كبرت على الكراسة والقلم وفات وقتها. وكل اللي أقدر أوعدك بيه إني أنحت في الصخر عشان أجيب فلوس بالحلال أشتري بيها شقة وأكتبها باسمك… وده مهرك عندي…. غير كده مقدرش أوعدك بحاجة تانية….”
جحظت عيناها بصدمة من هذا التغير المفاجئ…عندما ضمن وجودها وحبها
تراجع عن وعده لها؟!…
“بس إنت فعلاً وعدتني إنك…”
أخبرها بصعوبة شديدة…
“حاولت يا نهاد… حاولت وفشلت. مش كل الناس مخها حلو زيك وغاوية تعليم وشهادات…”
ظلت تحدق فيه دون رد وتعبير خيبة الأمل مرسوم بوضوح على محياها… انطفأ بريق عينيها وبدا وجهها حزينًا على نحوٍ أثقل
قلبه….
أردف سلامة بصوت أجوف…
“أنا فتحت عيني على الدنيا لقيت نفسي وسط عيال كتير بيقولوا إنهم إخواتي. لما كبرت عرفت إني عايش في ملجأ لا ليا أب
ولا أم… ولما كبرت شوية هربت ومقدرتش أستحمل المعاملة والحرمان اللي كنت بشوفه في عيني وعيون عيال كتير بتستمنى حد يتبناها…”
يعرف كيف يؤثر عليها يعرف تمامًا كيف يجعلها ترتد عن قرارها… فهل يفعلها ببراءة دون أن يلاحظ؟…. أم أنه يتلاعب بها باسم الحب وهي لا تدري؟!
استرسل سلامة بصوت متحشرج بالألم وعيناه على البحر….
“لقيت نفسي في الشارع بكبر فيه وسط ناس متمناش أقابلهم تاني ولو صدفة. شوفت كتير وقابلت ناس أكتر… لحد ما اتسجنت خدوني الإصلاحية بعد ما اتقبض عليا وأنا بسرق. قضيت عقوبتي وطلعت. وقتها أبوكي الحاج عبد العظيم وقف جنبي إداني أوضة فوق السطوح وشغلني في مصنع تبع ناس حبايبه… وبعد ما مات… ما بقيتش بفارق أيوب… والباقي إنتي عارفاه…”
نظر إليها مجددًا بصدر يضج بالوجع وعينين تفضحان عجزه وقلة حيلته…
“أنا مخي عمره ما هيستوعب اللي إنتي عايزاه. حاولت أكون زيك أحب التعليم أطمع إني آخد شهادة وأنجح وأشرفك… بس مش كلنا نقدر نعمل ده. في ناس الظروف بتعاندها وفي ناس هي اللي بتعاند نفسها… وأنا والله الاتنين…”
بللت نهاد شفتيها المرتجفتين وهي تكبح رغبتها في البكاء بصعوبة…
“يعني ده آخر قرار عندك؟ مش هتكمل تعليمك؟”
تهرب سلامة من عينيها اللامعة بالدموع وهو ينظر إلى العلب المغلقة بينهما…
“إنتي جاية تفطريني… ولا جاية تاخدي على خاطرك مني وتمشي؟”
هتفت نهاد بعصبية…
“رد عليا يا سلامة وبلاش تهرب من الإجابة!”
بلع سلامة ريقه بتردد وهو ينظر إلى عينيها بخوف….
“هتسيبيني يا نهاد… صح؟!”
وأمام نظراته الخائفة كطفلٍ يخشى الضياع أشاحت بوجهها عنه بدموع تنساب على وجنتيها دون أن تستطيع منعها….
تأفف سلامة منزعجًا من نفسه سائلًا…
“بتعيطي ليه دلوقتي؟!”
قالت وهي تمسح دموعها بعصبية…
“عشان إنت غبي… مش بتحاول عشاني.. ”
أومأ برأسه مؤكدًا بعجز مرير…
“حاولت والله… بس أنا فعلًا غبي مش عارف أحقق حاجة… بس لو عايزانا نسيب بعض…”
أدارت وجهها إليه بسرعة تحدق فيه بنظرة حادة كرصاصتين قاتلتين ثم هتفت بتملّك
“هموتك لو سبتني… وهموت نفسي بعدك.”
سألها بتروٍ وهو يتأمل ملامح وجهها المتغيرة بتعابير تُلقي الحجر فوق صدره…
“يعني..إنتي موافقة نكمل بعد اللي قولته؟”
قالت نهاد باستياء وهي تمد يدها لتفتح علب الطعام…
“ينفع نبطل نتكلم في الموضوع؟.. إنت قولت اللي عندك…. وأنا سمعتك للآخر.”
سألها سلامة بلهفة…
“بس أنا ما سمعتش ردك…”
نظرت إليه نهاد وقالت بنبرة أنثوية قاطعة
“ردي إني مستحيل أبعد عنك… إلا لو إنت طلبت ده…. ”
هتف سلامة بجزم…
“ده لو آخر نفس في عمري… مش هسيبك يا نهاد !… ”
تبرمت نهاد قائلة بشك…
“أما نشوف… واضح إنك مش بتوفي بوعودك!”
أردف سلامة دون تردد…
“إلا الوعد ده… أموت ولا إني أسيبك تكوني لغيري….. ”
زمّت شفتيها بدلال معترفة….
“فين غيرك ده؟… إنت خليت قلبي وعيني يشوفوا حد تاني؟!”
استهجن حديثها متشدقًا بغيرة…
“ومالك مضايقة كده ليه؟… مملاش العين
أنا؟!”
مالت شفتيها في ابتسامة حزينة وقالت بنبرة يغلبها الهوى رغم خيبة أملها…
“تملى العين… والقلب كمان… كُل وقول رأيك عملتلك كمان سينابون بإيديا… نحلي بيها.”
مد سلامة يده ليأكل أول قطعة من اللحم ومضغها على مهلٍ متذوقًا حلاوتها… حلاوة يديها التي تبّلتها وسوّتها بمنتهى الحب له…
سألته بلهفة…
“ها… إيه رأيك؟”
نظر لها بحب وقال ممازحًا…
“تسلم إيدك… مكنتش أعرف إن الدكاترة طبخهم حلو أوي كده.”
ضحكت نهاد بخفة قائلة…
“بالهنا والشفا… وعلى فكرة أشطر ناس في الطبخ هما الدكاترة أصلًا.”
سألها بمداعبة…
“طب وفي الحب؟”
قالت بنظرة عملية وهي تتلاقى بعينيه المتلهفتين…
“بيعرفوا يشخصوا الحالة.”
ابتسم سلامة وهو يأكل الطعام بشهية مفتوحة بينما هي تأكل القليل… فاقدة شهيتها وربما فرحتها معه….
“طب شخصي حالتي… ينوبك ثواب فيا.”
سألته بنظرة ماكرة…
“وبتشتكي من إيه بقى يا سلامة؟”
أجاب بحرارة…
“من قلبي….”
ضحكت ساخرة…
“قديمة…”
هز رأسه وقال بمشاعر جياشة…
“لا بجد… قلبي متعلق بهواكي.”
أخفضت رأسها والابتسامة تداعب شفتيها بظفر أنثوي…
“وماله… خليه متعلّق.”
سألها وهو يمازحها بعينيه…
“طب والعلاج يا دكتورة؟”
قالت نهاد بخفة دم وهي ترمقه بلؤم…
“عيوني هما العلاج يا بني… مش كفاية؟!”
ضحك سلامة بملء شدقيه بينما شاركته الضحكة برنة أنثوية جميلة.
وحين انتهيا نظر إلى عينيها وقال بغمزة شقية…
“بس عيونك مسكنات..مفعولها بيروح أول ما بتغيبي عني… ”
قالت نهاد بتغنّج مجارية له…
“خلاص… نصورهم ليك وتلزّقهم في الحيطة عشان مفعول المسكّن مايروحش.”
برقت عينا سلامة فجأة وقال…
“طب والله… لو أقدر أعملها هعملها… ”
نظرت إلى السماء بغرورٍ أنثوي يليق بها..
“ده لو وافقت على الصورة…”
هتف بنبرة تضج بالحماس…
“هتوافقي… لازم نتصور سوا المرادي.”
ضحكت نهاد بشقاوة وهي تقفز واقفة بخفة
“بشرط… لو عرفت تمسكني إبقى صورني.”
لحق بها مناديًا عليها بلهفة حارّة…
“نهــــــاد !…. ”
همست وهي تبتعد بدلالٍ مغرٍ….
“نفسك طويل… ولا؟”
سارت على الرمال المبللة حافية قُرب الماء.
اقترب منها بخطوات سريعة قائلاً بمداعبة صبيانية…
“طويل… بس المسكنات هدّت حيلي.”
أطلقت ضحكة رنّانة فاتنة وهي تجري أمامه بشقاوة بينما هو يلاحقها ضاحكًا من أعماقه يلهو كطفل صغير… يلهو لأول مرة في حياته… يلهو مع من سكنت قلبه…وسكنت جراحه !…
تشعر أن جدران
تكملة الفصل
تشعر أن جدران غرفتها تطبق على أنفاسها.
منذ الأمس وهي جالسة هكذا عيناها معلقتان بسقف الغرفة والدموع تسيل من مقلتيها بغزارة…
هل انتهت علاقتهما لمجرد أنها رفضت مشاعره؟….
هل كانت قاسية عليه أم أن اعترافه المفاجئ جعلها تتصرف بحماقة ودون تريُّث؟…
هي لا تفهم مشاعرها…
كل ما تعرفه أنها لا ترى في الكون سواه…هو ووالدها وجدتها….
هل تكنُّ له مشاعر خاصة؟ لم تفكر بذلك من قبل….
وحتى إن طرقت الفكرة الى رأسها كانت ترفضها بشدة…
فهي كانت تخشى ذلك التغيير الذي قد يُحدث صدعًا في علاقتهما صدعًا لا يُرأب.
لكن…هل رأب الصدع عندما رفضتِ مشاعره؟
لقد انتهى كل شيءٍ بينهما بعد ذلك الرفض القاطع..
نزلت دموعها مجددًا بحرقة قلب وهي تشعر أنها لا تحتمل هذا الصراع العنيف…
خرجت من غرفتها بعد أن ارتدت إسدال الصلاة فصادفت جدتها في الصالون
وكانت الجدة تجلس أمام التلفاز تشاهد
أحد المسلسلات وهي تأكل من طبق الحلوى الشرقية. وحين رأتها أشارت إليها بالاقتراب قائلة…
“تعالي يا أبرار… اتفرجي على المسلسل ده حلو أوي…”
ردّت عليها باقتضاب…
“مش عايزة…”
عادت تدعوها بحنان…
“طب تعالي كلي قطايف… إنتي رايحة فين؟”
قالت وهي تفتح الباب…
“نازلة تحت… عند شروق…”
ثم غادرت دون أن تنتظر ردّها بينما قطّبت الجدة جبينها بحيرة وصدمة متمتمة….
“عند شروق؟… من إمتى؟”
حين كانت تهبط على الدرج مرّت بالطابق الثاني حيث تقع شقة ياسين المغلقة والمظلمة. لم يعد حتى الآن.. ولم يتناول وجبة الإفطار معهما متحججًا بعزومة عند أحد الأصدقاء.
لكنها تعرف جيدًا… أنه يتهرّب من رؤيتها…
خرج أنين خافت من صدرها فالالم ينهش قلبها بنصلٍ حاد…
وصلت إلى الطابق الأرضي ووقفت أمام باب شقة شروق… طرقت الباب منتظرة بملامح واجمة ونظرة فقدت بريق الشقاوة والعفرتة…
وهذا ما لاحظته شروق حين فتحت الباب ورأتها أمامها. ورغم المفاجأة إلا أنها ما إن تأملت حالتها حتى تلبّسها القلق وسألتها بلهفة….
“إنتي كويسة يا أبرار؟…… مالك؟”
قالت أبرار بصوتٍ واهنٍ حزين…
“مخنوقة… ومش طايقة أقعد في أوضتي…”
لانَت نظرات شروق بحنان وفتحت ذراعيها إليها قائلة برفق…
“تعالي يا أبرار…”
وجدت نفسها تلقائيًا تلقي بجسدها بين ذراعي شروق تنتحب باكية على كتفها دون أن تنطق بحرفٍ واحد…
ربّتت شروق على كتفيها ولم تطلب منها التوقف بل تركتها تُفرغ كل شحنات حزنها وكل ما أثقل قلبها…
لم تتوقع أبرار أن تلجأ في قمة حزنها ويأسها إلى امرأة مثل شروق…
لكن يبدو أنها ساحرة بكل معنى الكلمة… تؤثّر في كل من حولها وها قد أصبحت أبرار واحدة منهم…
ابتسمت أبرار باستياء وهي تذرف الدموع
على كتف شروق دون أن تشعر بالضجر وكأنها راضية بوقوعها في الفخ… تمامًا كما حدث
مع الجميع قبلها….
بعد لحظات كانت تجلس على الفراش البسيط الخاص بشروق وابنتها…. تأكل من الكنافة المحشوة بالكريمة وترتشف من كأس عصير كبير أعدته شروق لها….
دخلت شروق إليها مجددًا وبين يديها صينية عليها كل ما لذّ وطاب من أصناف الحلوى والمشروبات المتنوعة….
زمت أبرار شفتيها وهي تمضغ الطعام على مضض….
“إنتي عايزة تجيبيلي السكر؟!…. إيه دا كله!”
قالت شروق بحفاوة وهي تضع الصينية على الفراش بينهما…
“مش هتنسي زعلك غير بالأكل.. وطالما مش عايزة تاكلي حَلّي… والخير كتير والحمد لله.”
نظرت أبرار بذهول إلى الصينية…
“إنتي طلعتي كل اللي في التلاجة يا شروق؟”
قالت شروق بمحبة وهي تقرص وجنتها…
“وهو في حاجة تغلى عليكي يا هبلة؟.. كلي وإياكي أشوفك بتعيطي تاني… مفيش حاجة تستاهل زعلك.”
وضعت قطعة كنافة في فمها ومضغتها بصعوبة وهي تقول بملامح قانطة…
“فيه اللي يستاهل زعلي… ياسين.”
سألتها شروق…
“ماله ياسين؟…… عملك حاجة؟”
قالت بنظرة حزينة…
“أنا اللي عملتله يا شروق…”
ردت شروق مبتسمة…
“طول عمرك بتعملي وهو بيفوّت… عملتي إيه المرادي؟.. ”
بلعت اللقمة بصعوبة وهي تقول بتلعثم..
“ياسين… ياسين بيحبني… هو قالي كده…”
أشرق وجه شروق بالفرح وهي تقول بجذل
“أخيرًا نطق !.. ”
عقدت أبرار حاجبيها بتساؤل..
“إنتي كنتي عارفة؟”
أومأت شروق برأسها مبتهجة..
“طبعًا عارفة دي ملك ذات نفسها عارفة… إمبارح كانت بتقولي هو ياسين هيخطب
أبرار إمتى؟”
انفكت عقدة حاجبيها وارتفعا بذهول
وتمتمت…
“ملك عارفة؟!….. وأنا اللي حمارة وسطكم!”
ضحكت شروق وقالت بغمزة جريئة..
“ياسين مشاعره كانت مفضوحة أوي… وبيني وبينك كنت شاكة إنك عارفة وبتستهبلي… بس دلوقتي باين إنك مصدومة بجد.”
ثم سألتها بلهفة وعينيها تلمعان بفضول..
“هاه قوليلي… رديتي وقولتي إيه؟”
مطت أبرار شفتيها قائلة بامتعاض…
“قولت إني مش حاسة ناحيته بحاجة… وإننا إخوات.”
سقطت الفرحة عن وجه شروق وذوت ابتسامتها قبل أن تكتمل وهي تعقب
بصدمة…
“لا متهزريش!…. أكيد ما قولتيش كده؟!”
صاحت أبرار بعصبية…
“يعني لو كنت قولت عكس كده… كنت هنزل أنوح هنا؟!”
ثم نظرت إلى الكوب الكبير وقالت بمقت…
“العصير ده ماسخ!… إنتوا ما عندكوش سكر؟!.. ”
برقت عينا شروق بغضب واندفعت بحنق شديد…
“سكر؟!… ده إنتي جبتيلي السكر إنتي هبلة
يا بت !”
تململت أبرار في جلستها…
“إيه يا شروق؟!”
لوحت شروق بيدها بغضب مكتوم….
“إنتي خليتي فيها شروق ده انتي خليتيها خل خالص في حد عاقل يرفس النعمة.. ترفضي ياسين؟!…. ليه…… في إيه؟!”
تأففت أبرار وهي تقول بعذاب…
“هي طلعت معايا كده… معرفتش أقوله إيه… أنا شايفاه زي أخويا.”
رمقتها شروق شزرًا…
“كدابة… ده إنتي كنتي بتغيري عليه حتى
من ملك.. ”
حرّكت كتفيها بلا اكتراث..
“عادي، ما الإخوات بيغيروا على بعض.”
نظرت شروق للأعلى بقلة صبر…
“صبرني يا رب… هو إنتي بجد مش حاسة ناحيته بحاجة خالص؟”
قالت بتردد…
“مش عارفة… مش قادرة أحدد…”
عنفتها شروق بالكلمات كما تفعل مع ابنتها..
“مش قادرة تحددي إزاي؟! إنتي صغيرة
لازم تعرفي إنتي بتحسي ناحيته بإيه وإياكي تقوليلي إخوات عشان بعد اللي عملاه في نفسك ده باين إنك بتموتي فيه وندمانة
إنك نيلتي الدنيا… ”
أومأت أبرار برأسها معترفة…
“أنا فعلًا ندمانة…”
سألت شروق…
“يعني بتحبيه؟”
حرّكت كتفيها تلك المرة بحيرة وعجز مجيبة
“مش عارفة… أنا بس مش عايزاه يبعد عني…”
تنهدت شروق بملل واضح تعلن نفاد صبرها
“لا إله إلا الله… حيرتيني معاكي بقيتي
دكتورة إزاي؟!…. أفهم.. ”
خيم الصمت عليهما قليلًا حتى قطعته أبرار قائلة بتهدج…
“أعمل إيه يا شروق؟!”
نظرت إليها شروق قليلًا ثم قالت بنصح…
“الحل إنك تِكلمي معاه وتفهميه إنك مش رافضاه… إنتي بس مش عارفة تحددي مشاعرك ناحيته.”
اندفعت بالسؤال متعلّقة بخيط أمل…
“وتفتكري هنرجع زي الأول؟”
هزت شروق رأسها وقالت دون مواربة..
“لأ طبعًا ما أعتقدش. أكيد رفضك جرح رجولته… ويا خوفي يدور على حد يداوي جروحه…. أصل دي طبيعة الرجالة…”
هوى قلبها أرضًا بخوف والصدمة تعلو وجهها الحزين….
“يعني إيه؟!…… هيشوف حد تاني يحبه؟!”
رفعت شروق حاجبها بلؤم معقبة …
“وإنتي زعلانة ليه؟!.. مش بتقولي إنكم أخوات… ”
رمقتها أبرار بنظرة نارية..
“شروق، بلاش تستفزيني”
ابتسمت شروق باستياء معقبة….
“والله إنتي هبلة وغاوية وجع قلب ولو عملها بجد مين يلومه…. بعد ما قولتي ليه إنت أخويا…. ”
صاحت أبرار بغيظ شديد…
“تصدقي إني غلطانة إني جيتلك؟!”
خففت شروق من أسلوبها الساخر وهي
تقول…
“بلاش تقفشي عليّا.. أنا بكلمك لمصلحتك
بفكر بعقلي وعلى حسب اللي شوفته في الدنيا..”
نظرت إليها أبرار قليلًا ثم قالت بعذاب..
“لو ياسين عرف واحدة تانية… أنا ممكن يجرالي حاجة…”
قالت شروق بنظرة ذات مغزى…
“خلاص اتحركي… واصلحي اللي نيلتيه.. ”
قالت أبرار بسرعة…
“أروح أقوله إني بحبه؟!”
سألتها شروق بدهشة والسعادة تنطق من عينيها…
“يعني بتحبيه؟… ”
هزت أبرار رأسها بغباء منقطع النظير..
“مش عارفة…”
انطفأت الفرحة في عيني شروق وهي تنهض قائلة بنفاد صبر…
“صبرني يا رب… أنا حاسه إن كتر السكر ده هو اللي قافل مخك… هاتي الحاجات دي أنا هبدّلها بمخلل… يمكن يعمل مفعول !”
………………………………………………………
خرج بخطى واثقة هادئة من أحد محلاته التي تبيع الملابس الجاهزة التي يُنتجها المصنع… دفع الباب الزجاجي الكبير ثم خرج متجهًا إلى السيارة والهاتف على أذنه يتحدث عبره…
“في سموحة… كنت في المحلات بشوف الشغل ماشي إزاي… مش عايزة حاجة
أجيبهالك معايا؟….. في أمان الله…”
أغلق الهاتف وفتح باب السيارة فلاحظ طيف امرأة من الجهة المقابلة للسيارة… امرأة تخرج من أحد المباني الشاهقة ترتدي عباءة سوداء فضفاضة والوشاح يغطي رأسها…
أمعن النظر إليها فعقد حاجبيه وهو يرى ملامحها بوضوح…
“شروق…”
لفظ اسمها بحيرة ثم تحرك خلفها… لم يُرِد أن يستقل السيارة ليلحق بها كي لا يصيبها بالذعر فقرّر أن يتبعها سيرًا…
“أم ملك…”
نادى عليها وبينهما خطوتان فقط فاستدارت شروق بعدما ميّزت نبرة صوته وبالطبع رائحة عطره التي تسللت إلى أنفها قبل نداءه…
ارتفع حاجبها بتوجس….
“شيخ صالح…إيه اللي جابك هنا في حاجة؟”
أشار صالح إلى صفّ المحلات القريبة منهما مجيبًا…
“محلاتي هنا في الشارع ده… انتي إيه اللي جابك هنا؟”
ظهر خط ارتباك في عينيها وهي تردّ عليه بخفوت…
“مـ… محل العطور اللي بقف فيه هنا… على أول الشارع من الناحية التانية…”
قطّب جبينه عابسًا وهو يقول…
“بس انتي كنتي خارجة من البرج ده…”
رمشت بعينيها عدّة مرات والتوتر ينهش ملامحها بقوة…
“وأنا إيه اللي هيدخلني البرج ده؟ ليا مين فيه؟… أنا واقفة في محل عطور…”
جادلها صالح بنظرة قوية…
“بس أنا شوفتك…”
زاد انفعالها وهي تسبل جفنيها ملتزمة الصمت فسألها صالح بنبرة حانية…
“انتي مخبّية عني حاجة؟”
هزت رأسها نفيًا وعيناها تتهربان من مواجهة عينيه…
“هخبّي عنك إيه؟….. مفيش حاجة…”
عاد يسألها بصوتٍ أجش وعيناه تراقبان انحناءة رأسها هربًا منه…
“متأكدة يا شروق؟”
أومأت برأسها بتأكيد متحاشية النظر فأطلق صالح تنهيدة خشنة عالية وهو يشير لها إلى السيارة…
“تعالي أوصلك…”
رفعت عينيها إليه رافضة….
“في مشاريع قدام هاخد أي حاجة توصلني لحد البيت…”
“ما أنا كده كده مروّح…. وسكتنا واحدة…”
قالها وهو يستدير مشيرًا لها أن تتبعه بينما بقيت هي في مكانها لثانيتين تنظر إلى كتفيه العريضين بنظرة حزينة مغمغمة بحرقة قلب
(بتهيألك إن سكتنا واحدة…)
استقلّت السيارة وجلست بجواره وظلت ملتزمة الصمت لأوّل مرة تشعر أنها لا تريد الحديث معه… ولا عن أي شيء…
حتى هو لاحظ تكورها على نفسها وابتعادها عنه فأعطاها نظرة جانبية ثم سألها بهدوء…
“ساكتة ليه؟.. ”
قالت بفتور…
“في حاجة ينفع أقولها؟”
أخبرها صالح بنبرة معاتبة…
“عدى من رمضان خمستاشر يوم ومحدش شافك من أول يوم فطرتي فيه معانا…”
قالت بابتسامة باهتة…
“قلت أريحكم مني شوية… أنا تقلت أوي عليكم…”
زمّ فمه غير راضٍ عن الإجابة ثم حاول فتح حديث جديد…
“ومفيش جديد في حياتك؟”
أجابته بصوت هادئ…
“ولا أي حاجة… من الشغل لمدرسة ملك لدروس للمطبخ واليوم بيتعاد…”
سألها باهتمام…
“والصلاة؟… وقراءة القرآن؟”
تلك المرّة توسّعت ابتسامتها بسعادة تقطر امتنانًا للخطوة الصحيحة التي آلت إليها حياتها وزادتها هدوءًا ورضًا غريبًا سيطر
عليها خصوصًا في الآونة الأخيرة…
“الحمد لله منتظمة فيها… وبدأت أحفظ كمان سور من القرآن… بصراحة فيه مُحفظة اتعرّفت عليها في الجامع وقت صلاة التراويح قالتلي إنها بتحفّظ قرآن وبتدي دروس في الدين… وبروح أنا وملك بقالنا أسبوع…”
“واستفدت منها كتير أوي… ربنا يباركلها…”
ابتسم صالح وهو يقول بإعجاب…
“اتغيّرتي للأحسن يا أمّ ملك…”
تنهدت بارتياح حقيقي…
“الحمد لله… البركة فيك…”
ردّ صالح بحنوّ…
“أنا ما عملتش حاجة… إحنا أسباب لبعض… في الأول وفي الآخر دي محبة ربنا ليكي…”
عاد الصمت يخيم عليهما حتى انطلق سؤال صالح كرصاصة طائشة اخترقت صدرها..
“وبالنسبة للسجاير؟….. بطلتيها؟”
التفتت برأسها إليه في صدمة وهي تخرج الكلمة التي اختنقت في حلقها….
“السجاير؟!”
أومأ مؤكدًا بسهولة جعلت الدماء تجفّ في عروقها فجأة كما جفّ حلقها وفقدت صوتها للحظة….
“آه السجاير… هتكدبي وانتي صايمة؟”
احمرّ وجهها بحرج شديد وقالت متجنبة النظر إليه…
“أمال ليه عملت نفسك مصدق لما قولتلك دي بتاعة واحدة صاحبتي؟”
أعطاها نظرة جانبية قبل أن يتابع ببرودة أعصاب تستفزها….
“مكنتش عايز أحرجك… وكان عندي أمل إنك في يوم هتتغيري للأحسن…”
قالت بملامح مقتضبة مغتاظة…
“بطلتها من ساعة ما شوفتها معايا… ورميتها من البلكونة…”
نظر إليها بشك…
“بجد؟”
هتفت بنبرة صادقة حارة…
“آه والله العظيم من ساعتها… وإيدي متمدّتش عليها…”
ترخت ملامحه في رضا تام لكن صوته حمل الحزم وهو يقول…
“كويس… عشان كنت ناوي أكسرلك إيدك لو لسه بتتمدّ عليها…”
ارتجف قلبها تأثرًا بكلماته الحادة المسيطرة فقالت بتهدّج…
“تكسرلي إيدي؟!…. بأي حق تعمل كده؟”
رد بسطوة تلمعان في عينيه الخضراوين الغير متهاونتين مع عنادها وسؤالها الغبي…
“بحق إن الشيخ صالح… مش انتي كنتي علطول بتقولي خاطرك غالي عندي أوي يا شيخ؟….. ولا ده كلام في الهوا؟”
تراجعت والإحباط يسيطر عليها وهي تقول بصدق…
“مش كلام في الهوا… إنت مقامك وخاطرك فوق رأسي…”
عاود صالح جرّ الحديث منها بصبر…
“مش ناوية تغلطي وتيجي تفطري معانا في يوم؟”
قالت شروق برفض قاطع…
“مش عايزة أغلط… قولتلك كفاية الكام يوم اللي قضيتهم معاكم…”
تحجّج قائلًا…
“بس كده الحاجة هتزعل…”
رمقته بعينين متعجّبتين وهي تقول…
“أنا بطلع للحاجة مرتين وتلاتة في اليوم…”
عقد حاجبيه وهو ينظر إليها…
“غريبة… أنا مش بشوفك…”
قالت بفتور…
“طبيعي… إنت بتبقى في الشغل…”
بنظرة لائمة عقب بوجوم بالغ…
“انتي ظبّطة مواعيدك بقى… عشان منتقابلش… حتى برج الحمام نسيتِه…”
عاد قلبها يخفق بسرعة في حضور الشيخ وكلام الشيخ المعسول… لهفته… وعتابه…
ضمت يديها إلى بعضهما وكأنها تسيطر على أعصابها المنصهرة بتلك الحركة الواهية…
“عشان مشغولة… زي ما قولتلك…”
أوغر صدره بالغيظ قائلًا بوجوم…
“واضح إن المُحفظة دي غيّرتك… وخلّتك تتغيّري عليا…”
هزّت شروق رأسها نافية وقالت بخفوت…
“بلاش تظلم المحفظة… هي ما تعرفش حاجة عني… صحوبية لأبرار السبب… مش عايزة أزعلها وترجع تفهم غلط تاني… كده أحسن.”
عقب بدهشة….”عشان ابرار……”
“أيوا…… أمال عشان إيه….”
“على العموم انا موجود ياشروق…لو احتاجتي لحاجة مش هتأخر عنك….”
اكتفت بإيماءة بسيطة وهي تعود بالنظر إلى النافذة بينما ازداد التجهم على ملامحه وعينيه وتابع القيادة بصمتٍ خانق…
توقفت السيارة أمام المنزل ثم ترجلت منها شروق ودون أن تلتفت إليه سارت إلى الداخل ثم إلى شقتها…
ظل صالح جالسًا في مقعد القيادة ينظر إلى أثرها الذي اختفت به عن مرمى عينيه
شعور غريب يجتاح صدره… لم يعتد عليها هكذا هادئة غير مهتمة به…كانت دومًا شعلةً متقدة أمامه تتوهج عيناها عند النظر إليه مثل حديثها المتلهف… ومبادراتها الجريئة
التي لم تكن تروقه لكنه وقع في فخها…
هل المشكلة أصبحت (أبرار) الآن أم أنها تتحجج بعد أن وقع في هواها وانتهى
الأمر؟!
……
في صباح اليوم التالي كان ما يقوم به دربًا من الجنون فهو لم يتوقع ولا حتى في أحلامه أن يراقبها ليعرف مكان عملها…
يعلم أنها تعمل في محل عطور لكنه لم يعرف عنوانه أبدًا ولم يهتم. لكن اليوم أراد أن يتابع خطواتها بسيارته كي يصل إلى مقر عملها…
لكنه تفاجأ بأنها تصل إلى نفس الشارع الذي تقابلا فيه أمس وفي نفس البرج اختفى أثرها بعد أن تحدثت إلى حارس العقار ملقيةً التحية وكأن الأمر معتاد بينهما !….
عقد حاجبيه وهو يترجل من السيارة يرفع عينيه الخضراوين إلى البرج ثم إلى باب الدخول…
تقدَّم صالح والشيطان يصوّر له أبشع السيناريوهات عنها وعن الشيء الذي قد
تكون تفعله هنا…
“سلام عليكم…”
قالها صالح وهو يقف أمام حارس العقار
فرد الحارس عليه وهو يقف بتأهب منتظرًا باحترام إذ يبدو من هيئة صالح الهيبة والثراء…
“وعليكم السلام خير يا بيه؟… اتفضل.”
قال صالح وهو ينظر إلى المصعد المغلق الذي استقلته شروق منذ لحظات…
“كنت عايز أعرف الست اللي دخلت قدّامنا دي… ساكنة هنا؟”
عقد الرجل حاجبيه مبتسمًا بدهشة….
“أم ملك؟ تسكن هنا إزاي يا بيه؟ دي ست غلبانة بتربّي بنتها بالحلال…. شغالة هنا…”
سأله صالح بوجوم…
“شغالة هنا؟!…… شغالة إيه؟!”
رد الرجل باستفاضة…
“هتكون شغالة إيه؟… خدامة يا بيه بتكنس وتغسل وتمسح… بقالها أربع سنين شغالة عند الست كوثر اللي في الدور العاشر… حضرتك بتسأل ليه؟… هي عملت حاجة؟”
لجمته الصدمة فوقف صالح ينظر إلى الرجل مبهوتًا وعيناه قد أظلمتا مثل ملامحه وعقله يدور في زوابع تتلاطم فيها الأسئلة كالأمواج بعنف…
بدت اللحظات كالدهر وهو يقف مكانه صامتًا بينما مشاعره تتضارب بحدة بين الصدمة والخزي من تفكيره نحوها…
منذ أن وقعت أمام داره تطلب المساعدة وهو يتعامل معها بقسوة ويشكك في أخلاقها كلما سنحت له الفرصة… يتهمها بعينيه وبحديثه بأنها أهلٌ لكل ما هو سيئ طالما أنها امرأة مطلقة…
ولم يرَ هذا الجانب الخفيّ منها… حياتها والمسؤولية التي وضعت على عاتقها كونها تحارب وحدها عاريةً أمام الجميع فقط لأنها مطلقة وتعيل ابنتها وحدها… فهي مطمع لكل عينٍ لا ترحم…
وهو كان أول الناس في إلقاء الحكم عليها دون وجه حق أو دليل…والان كان يشك أنها…
اعتصر عينيه بقوة وأطلق زفرةً غاضبة تلاها استغفاره… ظل واقفًا عند السيارة منتظرًا خروجها من هذا البرج…
أخبره الحارس أنها تنهي عملها خلال أربع ساعات وستنزل ولو كان أخبره أنها لن تنتهي قبل أيام لكان انتظرها دون كلل أو ملل…
فهو يستحق أن ينتظرها لبقية العمر !…
أحيانًا مشاعرنا تحتاج إلى دفعة قوية حتى تنهض من سباتها الذي طال عن الحد واليوم مشاعره تتمحور حول امرأة اختلافها كان له مفعول السحر في تقيده بقيد الهوى…
خرجت شروق من المبنى ويبدو على ملامحها الإرهاق الشديد حتى إنها كانت تجرّ ساقيها جرًّا على الأرض وهي تسير…
كان يومًا حافلًا بالعمل يؤلمها ظهرها بشدة وكل عظمة في جسدها تصرخ مستغيثة برحمة…
شقة السيدة كوثر كبيرة جدًا وحتى أثاثها ثقيل ومرهق…
وسيدة كوثر رغم طيبة قلبها وعطفها إلا أن لسانها سليط ومهووسة بالنظافة بدرجة مستفزة…
لكن عليها التحمل… يجب أن تتحمل كل شيء لأجل ملك ولأجل نفسها… فهذا التعب أفضل من الوقوف في المحلات لاثني عشر ساعة معرّضة لمضايقات من هذا ونظرة وقحة من ذاك…
توسعت عيناها بصدمة وهي تراه يقف عند السيارة أمامها مباشرة بلعت ريقها بخوف وهي تقترب منه سائلةً بارتجاف…
“شيخ صالح… إنت بتعمل إيه هنا؟”
“اركبي…. ”
قالها صالح بأمرٍ ناهٍ وهو يسبقها إلى مقعد السيارة. نفذت أوامره بملامح مرتاعة من القادم وقلبها يخفق كعصفور مذعور…
ظلت تفرك يديها بتوتر وهي تراه يستقل السيارة بجوارها ثم انطلق بها دون أن يتفوه بحرف…
“في حاجة حصلت؟ أنا عملت إيه طيب؟”
قالتها شروق بخوفٍ يستوطن قلبها. رد صالح وعيناه مركزة على الطريق…
“مقولتيش ليه إنك شغالة هنا؟”
على هدير قلبها ومع ارتفاع حاجبها بذهول..
“إنت عرفت؟!”
صف السيارة جانبًا في مكان بعيد عن الناس ونزع حزام الأمان واستدار إليها بكليّته والإجابة في عينيه الحازمتين…
بلعت ريقها وهي تقول بوهن…
“الشغل مش حرام ولا عيب… بس أنا مبقولش لحد إني بنضف في البيوت….. حتى ملك متعرفش… وبعدين إنت جاي ورايا ليه؟”
تجاهل سؤالها الأحمق وهو يردد ما سمعه…
“بتشتغلي بقالك أربع سنين؟!”
احتقن وجهها بالحرج والانزعاج وهي تسبل جفنيها قائلةً بصعوبة….
“أيوه… كنت الأول شغالة في محل عطور
بس سبته عشان تعبت من الوقفة…”
علم أنها تكذب وأن هذا ليس السبب الحقيقي وراء تركها للعمل… اشتعل صدره كمرجل ناري وهذا الشعور القاسي يصعب ترويضه…
ظل صالح صامتًا ينظر إليها بملامح جافية وعيناه الخضراوان تشتعلان كغابة اندلع بها حريقٌ مفاجئ !…
لملمت شروق حرجها قدر المستطاع وهي تقول بصلابة…
“الست كوثر اللي بشتغل عندها ست محترمة وطيبة عايشة لوحدها… مع كلابها… وعيالها بيزوروها كل أسبوع مرة… اللي أقصده يعني… إن مفيش حد معاها…”
رد صالح بخشونةٍ محتدة….
“معاها حد أو لا… انتي مش هتروحي الشغل ده تاني…..”
جحظت عيناها بصدمة وسألته بدهشة…
“ليه؟!…… إيه اللي حصل؟”
هتف صالح بصدر يشتعل كأتون حارق…
“اللي حصل إن كفاية بهدلة ومرمطة لحد كده..انتي تستحقي تبقي ست بيت… وييجي اللي يخدمك كمان…. ”
نظرت إليه شروق ببلاهة ثم لم تلبث إلا وضحكت بملء شدقيها دون مرح فالألم
يفتك بصدرها وجسدها المنهك ومع ذلك
تقاوم للنهاية…
“ضحكتني يا شيخ… هو في حد يقدر يغير قدره؟… الدنيا متقسمة نصين… نص شقيان ونص مرتاح…”
رد صالح بملامح مقتضبة وعيناه تنهالان بالنظر إليها دون أن تترخيا كما اعتادت
منه…
“مفيش حد مرتاح يا شروق… بس أنا قررت أريح قلبي….. وأريحك معايا…”
عقّبت بعينين متسائلتين بقلق….
“مش فاهمة… قصدك إيه؟”
هتف صالح بنبرة خشنة دون تراجع….
“أنا عايز أتجوزك يا شروق… على سنة الله ورسوله…”
ظلت تحدق فيه بعينين واسعتين مذهولتين وفمها مفتوح إلى آخره تشعر أن فكّها سقط أرضًا من هول الصدمة بينما قلبها توقف عن النبض…
كل شيءٍ توقف من حولها… إلا هو ونظراته المترقبة المنتظرة وابتسامته التي زينت لحيته الكثيفة وهو يومئ برأسه مؤكدًا
دون أن تسأله….
“أيوه… عايز أتجوزك….”
……………………………………………………….
خرج من باب الشقة وهو يتحدث عبر الهاتف
“خلاص…بقفل الباب ونازل…”
وحين استدار ليهبط على الدرج رآها تجلس على السلم في الجهة المقابلة لباب شقته كقطة لقيطة يائسة حتى نظراتها نحوه
تشحذ العطف…
بلع ريقه بصعوبة وهو يبعد عينيه عنها
قائلاً بخشونة…
“صباح الخير يا أبرار… إيه اللي مقعدك هنا؟”
نهضت أبرار بسرعة مقتربة منه…
“كنت مستنياك…”
ردّ عليها بجفاء…
“ليه يعني؟”
بلعت الغصة في حلقها وقالت بنظرة معاتبة
“بقالك أسبوع غايب مش بشوفك… بتطلع الصبح بدري وبترجع بليل خالص… حتى لا بقيت بتفطر…. ولا بتتسحر معانا…”
رد مقتضبًا وهو ينظر إلى الهاتف…
“معلش… مشاغل…. عايزة حاجة؟”
ارتفع حاجبها بدهشة مؤلمة…
“عايزة حاجة؟!… مالك يا ياسين… بتكلمني كده ليه؟… ”
بملامح رصينة ونظرة باردة أجابها…
“بكلمك إزاي؟! مانا بتكلم عادي أهو… أصلي مش فاضي… ”
فغرت شفتيها وقالت بوجع…
“الخمس دقايق دول هيعطلوك؟”
ردّ بجمود…
“لو في حاجة مهمة…. قوليها…”
هتفت بعينين تصرخان بالغضب المكتوم…
“مفيش حاجة مهمة… طول عمرك بتسمعني مش لازم تكون حاجة مهمة..”
جادلها ياسين بصوت قاسٍ…
“الوضع أتغير… مفيش حاجة بينا هترجع زي الأول….”
قالت أبرار بتهدج…
“ياسين…. انت بتقسى عليا…”
أظلمت ملامحه أكثر وهو يقول بجفاء…
“بالعكس… أنا بعمل الصح ليا وليكي.”
قالت بصدمة…
“الصح إنك تبعد عني؟!”
رد بكلمات قاسية كالصفعات على وجهها…
“أنا مش بعيد بدليل إني بتكلم معاكي أهو… بس أنا بتعامل معاكي زي ما انتي حابة… إخوات وولاد عم بس.”
قالت أبرار بشجن…
“بس انت مكنتش كده الأول…”
قذفها بردّ جاف…
“ما انتي عرفتي ليه أنا كنت الأول بتعامل معاكي كده…”
توسعت عيناها الحزينتان بصدمة وهي تشير إلى نفسها….
“يعني إيه؟… بقيت بتكرهني؟!”
ردّ بصلابة كالفولاذ…
“لا فيه كره ولا فيه حب… إحنا إخوات
مش ده كلامك؟”
هتفت أبرار بصوت مختنق…
“ياسين أنا ماقصدتش أجرحك… أنا بس كـ…”
هزّ ياسين رأسه قائلاً بنبرة تحمل بين طيّاتها الكثير…
“بالعكس… انتي فوقّتيني… كلامك فوقني… خلاني أحسبها صح.”
سألته بخوف…
“وإيه هي الحِسبة الجديدة بقى؟”
“بكرة تعرفيها…..بس انتي مش هتكوني في الحسبة دي اطمني….ربنا يوفقك مع اللي يختاره قلبك….”
ألقى عليها نظرة باردة مخاصمة ثم استدار مغادرًا تاركًا إياها واقفة في مكانها تنظر إلى أثره بملامح باهتة وعينين غائمتين بالحزن…
“ياسين…”
نادت اسمه بصوت منكسر كما انكسر قلبها على صخرة قاسية…
بعد دقيقة واحدة تحركت ساقاها خلفه تنوي التحدث إليه مجددًا…لن ينتهي ما بينهما بهذه السرعة… يجب أن يفهم مشاعرها ويجعلها تفهم هذا الحب…
إن قلبها بكري ولن يتفتح إلا على يديه. لماذا
لا يفهم أنها مترددة…. خائفة لكنها لن تتنازل عن هذا الحب… ولن تتقبل خسارته أبدًا…
تسمّرت مكانها عند باب الحوش الكبير وقد تجمدت ساقاها أسفلها وعيناها متسمرتان عليه عند السيارة يقف مع ميار…
كانت تقف أمامه مباشرة تتحدث إليه بصوت ناعم… ناعم إلى درجة مستفزة….
“كل دا ياسين؟…. مستنياك من بدري…”
رد عليها ياسين بهدوء…
“على ما لبست هدومي…”
قالت ميار بابتسامة ونظرة وضعت فيهما كل عناصر الفتنة والإغواء…
“متنساش هتفطر معايا النهاردة… إنت وعدتني…”
رد ياسين بنظرة خالية من المرح…
“بقالي يومين بفطر وبتسحر معاكي… إيه الجديد؟… ”
همست برقة مغرية…
“الجديد إن النهاردة عيد ميلادي… ولازم نحتفل بيه…”
أومأ برأسه ينزع الابتسامة غصبًا الى
محيّاه وهو يقول….
“نحتفل بيه وماله… كل سنة وانتي طيبة…”
ضحكت ميار بخفة وهي تمد يديها تهندم له ياقة القميص مجيبة…
“وانت طيب يا سونسون…”
نظر ياسين بطرف عينيه إلى باب الحوش فرآها واقفة هناك تتابع ما يحدث… لم تتح له الفرصة لرؤية ملامحها لكنه عاد ينظر إلى عيني ميار وهو متأكد أنها كالعادة غير مهتمة…
لو يعلم أنها تقف على صفيح ساخن وقلبها ينتفض وجعًا بينما عيناها تذرفان الدموع في صمتٍ موجِع… تشاهد ما يحدث بعذاب والندم كجذوة من لهب تحرق صدرها…يتبع
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.