رواية قلوب تحت الحراسة الفصل الثالث 3 - بقلم بشرى إياد
قلوب_تحت_الحراسه
البارت_الثالث
السماء بدت خرساء، كأنها تنظر من الأعلى بعينٍ لا تملك سوى المراقبة.
في داخل السيارة المتوقفة قرب حافة الطريق الصحراوي، جلس جاد وليان في صمت… ولكن العاصفة كانت في صدريهما.
قال جاد، بينما يراجع تسجيل المكالمة الأخيرة:
– "كل حاجة بتقول إن الشخص اللي بندور عليه… مش بس عايش، لا، دا راجع وعنده رسالة."
ردّت ليان بنبرة غارقة في القلق:
– "بس لو فعلاً هو الرقم التاسع، وبيتحرك لوحده… يبقى عارف إحنا بندور عليه. وساكت. ودا في حد ذاته… مرعب."
– "اللي زيه مش بيسكت من خوف. بيسكت من تخطيط."
---
توقف جاد فجأة أمام لافتة شبه مطموسة على الطريق:
> "مستشفى النيل للطب النفسي – مغلق للتحقيق منذ عام ٢٠١٣"
همس لنفسه:
– "هنا البداية… وهنا واحد من الألغاز المدفونة."
نزل من السيارة، ليان لحقت به.
– "إيه المكان دا؟"
– "المستشفى اللي كان بيشتغل فيها الدكتور سامر الأبياري… واحد من فريق أبوكي. اختفى فجأة قبل ١٢ سنة، وملفاته اتقفلت بطريقة غريبة."
– "تقصد إنه… الرقم التاسع؟"
– "مش متأكد. بس هو أول خيط هنشدّه… ولو طلع غلط، هينفجر في وشّنا."
دخل الاثنان من بوابة خلفية محطمة، بقايا ممرات طويلة تفوح منها رائحة الرطوبة والزمن.
كل شيء كان ساكنًا… إلى أن وصلا إلى غرفة أرشيف مهجورة.
فتح جاد بابًا صدئًا، فاندفعت رائحة أوراق قديمة.
ليان أمسكت بمصباح صغير، سلّطته على رفّ عالٍ.
صرخت:
– "جاد! اسم بابا مكتوب هنا!"
اقترب بسرعة، وسحب الملف.
اسم الملف:
> "S-09: نقل معلومات عبر التواصل غير المباشر – حالة: ليان حمدي"
شهقت.
– "أنا؟!"
– "دي أوراق بتقول إن والدك زرع جواكي معلومة مشفرة… من خلال الإيحاء والتكرار النفسي."
صفحة بعد صفحة، يقرأ جاد:
> "المفتاح التاسع… لا يُذكر. لا يُكتب. بل يُعاد ترميزه في اللاوعي."
> "الرقم التاسع ليس ملفًا. الرقم التاسع هو ناقل."
ثم توقّف عند جملة مخيفة:
> "في حال تنشيط اللاوعي العكسي، يبدأ الدماغ في استعادة النمط."
همس جاد:
– "هو خبّى المعلومة فيك… كأنك هارد ديسك بشري. بس علشان تشتغلي… لازم يحصل تنشيط."
– "يعني إيه؟ تنشيط إزاي؟"
– "ماعرفش. بس غالبًا… حاجة ليها علاقة بالصوت، أو بالألم."
---
وفجأة، رنّ هاتف جاد.
لكن هذه المرة… كان الرقم مكشوفًا.
رقم غريب، لكنه مألوف لعينه.
ضغط الرد.
الصوت الذي خرج، لم يكن صوت عدو… بل صوت صديق.
"تمّام الحديدي" – ضابط المخابرات وصديق جاد الأقرب منذ سنوات.
> – "جاد… في خيانة جوه الجهاز. وأنا وصلت لمصدر."
– "فينك؟!"
> – "قريب. بس لازم تقابلني لوحدك. ليان تبقى في مكان آمن. في حاجة لازم أقولها بعيد عن الكل."
– "طب قوللي… أنت بتثق في مين؟"
سكت تمام لثواني، ثم قال:
> – "محدش. غيرك."
أغلق الخط.
---
التفتت ليان إليه:
– "هو دا الصديق اللي كنت بتقول عليه؟"
– "أكتر واحد كان شايف الصورة معايا… لو هو فعلاً عنده معلومة، يبقى لازم نسمعه."
– "بس مش حاسّة إنه وقت مناسب نثق في حد… حتى لو كان أقرب الناس."
نظر جاد في عينيها:
– "ولّا فيّ أنا كمان؟"
سكتت… ثم قالت بصوت ناعم:
– "فيك… بثق أكتر مما لازم. ودا اللي مقلقني."
ابتسم، وقال:
– "أنا هقابله… وإنتِ هتفضلي هنا. لو بعد ساعة ما رجعتش… خدي الملف دا واهربي بعيد. ما تبصيش وراكي."
---
في الظلام… وقف جاد في النقطة المتفق عليها، وسط مقابر قديمة خلف المستشفى.
ظهر تمام من خلف جدار حجري، أنحف مما كان، عيناه مرهقتان.
– "ماصدقت إنك وافقت تيجي."
– "قوللي بسرعة… مين الخاين؟"
تمام تنفّس بعمق… ثم قال:
– "الرقم التاسع… مش دكتور سامر.
الرقم التاسع… هو اللي كان بيراقبك من البداية.
وهو… قريب منك أوي."
جاد ارتبك:
– "يعني إيه؟!"
– "يعني إن الظلّ الأحمر وصل ليان قبلك…
والملف اتنشّط فعلاً."
شهق جاد:
– "إنت بتقول إيه؟!"
– "وأكتر… الشخص اللي سلّمهم مكانك أول مرة…
هو اللي إنت شايفه كل يوم فمرايتك."
نظر جاد إليه مشدوهًا.
لكن لم يملك الوقت للرد…
رصاصة اخترقت قلب "تمام"، فسقط أمامه فورًا.
---
ركض جاد نحوه، لكنه لم يسمع سوى همسة أخيرة:
– "إرجع… ليان… مش لوحدها… في حاجة… جواها… هتفجر…"
وسكت الصوت.
---
عاد جاد يركض نحو المزرعة… والقلب يخبط أسرع من خطواته.
لكنه حين دخل المكان… لم يجد ليان.
وجد فقط، ورقة صغيرة على الأرض…
عليها بخط يدها:
> "جاد… أنا افتكرت حاجة. لازم أواجههم لوحدي.
هتلاقيني… في المكان اللي اتولدت فيه ذكرياتي."
وقع الورقة ارتجف بين يديه.
همس:
– "يا بنت المجنون… رُحتِ فين؟!"
لكن في عينيه، كان شيء آخر يولد…
نظرة رجل… فقد السيطرة، لكنه لم يفقد السبب.
الورقة بين يديه، تتشرب عرقه المتوتر.
الصمت في المزرعة بات مريبًا، كأن الجدران اختنقت من فُقدانها.
وقف جاد مكانه، يحاول أن يربط بين السطور،
بين الكلمات الصغيرة… والمصير الأكبر.
"المكان اللي اتولدت فيه ذكرياتي."
همس لنفسه:
– "يعني مش المستشفى… مش البيت…"
ثم رفع نظره فجأة:
– "المدرسة!"
ركض نحو السيارة، صوته يلهث أكثر مما يتحمّل.
فتح الخريطة على هاتفه، وكتب:
"مدرسة الصحوة النموذجية – المعادي – دفعة 2004"
كانت لا تزال مسجّلة في سجلات أبوها، كأول مؤسسة تعليمية لها.
ضغط العنوان، وانطلق.
---
الطريق كان فارغًا، كأن المدينة تنتظر.
لكن جاد لم يرَ سوى صورتها… وهي تمشي وحيدة، تحمل ذاكرتها كسكين، وتواجه ما لا يجب أن يُواجه.
---
في تلك اللحظة، كانت ليان تقف أمام بوابة المدرسة القديمة، المغلقة منذ سنوات.
تخطّت السور الخلفي كما فعلت أيام الطفولة،
وصلت إلى الفناء المكسوّ بالغبار والذكريات.
كل ركن هنا كان يحتفظ بجزء من طفلتها الضائعة.
لكنها لم تأتِ لتتذكّر… جاءت لتواجه.
دخلت فصلًا ضيقًا في الزاوية، لا تزال طاولته الخشبية محفورة بالحروف القديمة:
"L.H. - Daddy's Girl"
جلست.
أغمضت عينيها، وبدأت تهمس:
– "بابا… أنا هنا… زي ما كنت تقوللي لما أخاف… إرجعي للمكان اللي بتحسي فيه بالأمان.
بس الأمان خلاص… بقى غريب."
ضربت يدها على الطاولة بقوة.
– "لو جوايا حاجة… اظهروا! افتكروا! خلوني أشوف الحقيقة."
وفجأة…
صوت في رأسها… لا يشبه صوتها.
> "ليان… الشيفرة ليست ورقة. إنها وجع. افتحي الباب رقم ٩."
شهقت.
فتحت عينيها، وفجأة انتبهت لشيء محفور تحت الطاولة، لم تره من قبل.
حروف صغيرة جدًا:
"باب 9 – خلف المسرح."
---
ركضت نحو المسرح المهجور، دخلت عبر ستارة متعفّنة،
وجدت بابًا حديديًا عليه رقم 9 بالكاد يُقرأ.
دفعت الباب.
ظلمة.
صمت.
ثم نور خافت ينبعث من شاشة صغيرة متروكة على منضدة قديمة.
اقتربت.
الشاشة تعمل… وحدها.
فيديو قديم… أبيها جالس أمام الكاميرا.
قال بصوت متعب:
> "ليان… لو بتشوفي الفيديو دا، يبقى الأمور خرجت عن السيطرة.
كنت عارف إني هتحط في لحظة أضطر أخبّي السر جواكي.
الملف الحقيقي… مش ورقة ولا جهاز. الملف هو شخص… هو "سيف مراد".
كان صاحبي. شريكي. بس خانّا… وباع المعلومة.
ودلوقتي، لو ظهر تاني، لازم يتوقّف… قبل ما الكارثة تحصل."
ثم اقترب وجه الأب من الكاميرا:
> "بس أوعي تثقي في جاد… مش لأنه خاين… لا، لأنه مش عارف إنتِ جواكي إيه.
ولو عرف، هيضطر يختار بينك… وبين الدولة."
تجمّدت.
فجأة، سُمِع صوت من خلفها.
– "ليان؟"
استدارت بسرعة.
كان جاد واقفًا عند الباب، عيونه تبرق.
– "إزاي لقيتيني؟!"
– "عرفتِني إزاي مش هعرف ألاقيكي؟"
نظرت إليه نظرة ممتزجة بالرعب والثقة:
– "أنا لقيت المفتاح."
سألها ببطء:
– "يعني إيه؟"
أشارت إلى الشاشة، ثم قالت:
– "سيف مراد… هو الرقم التاسع.
وهو… عايش."
صُدم.
لكن قبل أن ينطق بكلمة…
انطفأت الشاشة فجأة.
وانفتحت بوابة سرية خلف الجدار، كأنها استجابت للشفرة.
ومن العتمة… خرج رجل.
طويل، يرتدي معطفًا أسود،
وجهه لا يُبشّر بشيء.
قال بصوت واثق:
– "كنتم بتدوروا على الرقم التاسع؟
أنا جيت… بس مش علشان أتهرب."
اقترب أكثر.
– "أنا جيت… علشان أختار."
ثم نظر إلى جاد مباشرةً:
– "إنت اللي هتقرّر…
تسلّمني… ولا تنقذها."
سيف مراد واقف قدّام جاد وليان، وجهه متجهم، عيناه تخفيان حكايات ما تنقال، لكنه كان هادي وثابت، كأنه بيدعوهم لكل لحظة قرر فيها حياته.
ساد الصمت ثواني ثقيلة، وكأن الزمن نفسه مش قادر يتحرك.
جاد رفع سلاحه بتردد، صوت أنفاسه يتعالى:
– "ليه جيت؟ عايز تخلص اللعبة دي؟ اللعبة اللي دمرت ناس كتير؟"
سيف ابتسم ابتسامة باردة، قال:
– "مش عايز أخلصها… بس عايز أختار الطريق بنفسي."
التفت ليان إليه، عينها مليانة تساؤل وخوف:
– "إنت مين أصلاً؟ وليه أبويا كان خايف منك؟ وليه بتقول إنك خانت؟"
سيف تنهد بعمق، وقال:
– "أنا كنت صاحب أبوك في المهمة الكبيرة دي… مهمة كانت هدفها تغيّر اللعبة كلها، تخلي العالم يمشي على إيقاعي.
لكن لما فهمت إنه فيه ناس بتلعب لعبة تانية، ناس أكبر… قررت أخونهم، وأدي الحقيقة للي ممكن ينقذ."
جاد وقف متصلب:
– "يعني أنت الخائن اللي بيهدد حياتنا كلنا؟"
سيف قال بدهشة:
– "الخيانة؟ ممكن تكون دفاع عن النفس.
لكن اللي أهم… إنه انتوا مش فاهمين حجم اللعبة اللي انتم فيها.
لو ما وقفناش دلوقتي، كل حاجة هتتبهدل، مش بس حياتكم، لا دي مستقبل بلدكم."
ليان دخلت بحزم، رغم خوفها:
– "مش عايزين الكلام ده، عايزين الحقيقة.
لو فعلاً في حاجة جوايا، لو أنا المفتاح… لازم أعرف أستخدمه قبل ما يتحكموا فيّ."
سيف هز رأسه ببطء:
– "دي البداية بس.
بس عايز أديكم فرصة تختاروا: تسلّموني وتخلي الحقيقة تموت معايا…
ولا تحاولوا تنقذوا اللي جواكي، حتى لو ده معناه الحرب الكاملة."
جاد رفع سلاحه بحزم:
– "مش هسلمك!
لكن كمان مش هسّيبها لوحدها.
لو هتختار الحرب… إحنا معاكي."
في لحظة، سمعوا صوت خطوات مسرعة.
الأبواب اتفتحت من برا، مجموعة مسلحين دخلوا.
سيف نظر لجاد بحدة:
– "الناس دي مش هنا علشان تسلمني، دي هنا علشان… تمنع اللي جاي."
جاد أطلق طلقة تحذيرية، والخطر صار حاضرًا بكل تفاصيله.
ليان أمسكت يد جاد وقالت:
– "خليك جنبي… اللي جاي مش هيرحم حد."
وفي ضوء النار والصمت المقطوع، بدأت معركة ليست فقط على الحياة، بل على الأسرار، الحب، والثقة التي بدأت تتصدع.
وقف سيف مراد، يحدق في جاد وليان بعينين تخفيان أسرارًا دفينة، وكأن كل كلمة تنطق بها ستغير مجرى حياتهم إلى الأبد.
قال بصوت خافت لكنه مليء بالقوة:
– "أنا مش جاي أهرب من الماضي… جاي أواجهه.
لكن المواجهة دي مش بيني وبينكم بس… هي بين الحقيقة وبين الكذب اللي مسيطر على كل حاجة."
جاد قبض على سلاحه بشدة، كان يرى في عينيه وهجًا مختلفًا عن أي خصم آخر.
– "إنت خنت أبوها وخنتنا كلنا، ومش هسمحلك تلعب في حياتنا تاني!"
سيف ابتسم ابتسامة حزينة:
– "الخيانة كانت وسيلتي لأصلح اللي ما قدرش هو يصلحه…
بس تعرفوا إيه أغرب حاجة؟
إن اللي بحاول أحميه، هو القلوب نفسها اللي لازم تتحمى."
ليان، رغم خوفها، نظرت إليه بعينيها اللامعتين:
– "أنا مش هقبل أكتر من الحقيقة… مهما كانت مرّتها."
قبل أن يرد سيف، دخلت المجموعة المسلّحة بسرعة، أنوار الأسلحة تتلألأ في الظلام.
كانوا رجالًا ليسوا مجرد أعداء، بل ظلّ ثقيل يلاحقهم منذ زمن.
جاد رفع سلاحه وأمر ليان بالابتعاد:
– "خليكي ورايا، مش هسمح لحد يمسكك."
اندلعت المواجهة، أصوات الرصاص تملأ المكان، والصراعات الداخلية تبدأ تخرج على السطح.
سيف وقف في قلب العاصفة، متحديًا الخطر، وصوته كان آخر ما سمعوه قبل أن يغوصوا في دوامة النار:
– "في هذه القلوب… تكمن الحرب الحقيقية.
قلب يخاف، قلب يجرح، وقلب… لا يعرف إلا أن يحرس."
يتبع...
• تابع الفصل التالى " رواية قلوب تحت الحراسة " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق