رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السادس والثلاثون 36 – بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السادس والثلاثون 36 – بقلم نعمة حسن 

_٣٦_

~ الرجاء الأخيـــر ~

_________

عادت حياة إلى البيت وهي واجمةً، دخلت وأغلقت باب الشقة خلفها وهي تتطلع أمامها دون النظر في نقطة محددة، فتفاجئت بوالدتها التي ظهرت أمامها فجأة وهي تتسائل بقلق بالغ:

_ حياة، أخبريني هل طمأنكِ الطبيب؟

أومأت حياة بموافقة واتخذت سبيلها نحو الغرفة ركضا فلحقت بها أمها وهي تقول بخوف:

_ ماذا قال لكِ، ما سبب الإغماء المتكرر؟!

جلست حياة على طرف الفراش وهي تخلع عبائتها وقالت بهدوء:

_ مجرد ضعف نتيجة للإجهاد والضغط النفسي، لا تقلقي.

تنهدت أمها باطمئنان يشوبه الشك وقالت:

_ هل وصف لكِ علاجا ما؟

أجابتها حياة وهي تتمدد على الفراش بضعف:

_ أجل، سأذهب لإحضاره في وقت لاحق.. من فضلك اخرجي، أود أن أرتاح.

شعرت صفية بتعب حياة ولم تُرد إزعاجها أكثر فلقد كانت تشعر بالخوف الصادق عليها، لذا خرجت من الغرفة بصمت واتجهت لغرفة زوجها الذي كان يرقد بفراشه ممسكا بالمصحف ويقرأ به، وفور أن دخلت سألها بقلق:

_ ماذا أخبرها الطبيب؟ هل هي بخير؟

جلست بجواره وتنهدت بتعب ثم قالت:

_ تقول أنه أخبرها أنه مجرد ضعف نتيجة للضغط النفسي ، ولكني لا أصدق كلامها.

نظر إليها بعجز ويأس ثم قال:

_ لمَ لا تصدقين؟ طالما أنكِ تسممين بدنها بكلامك هذا كلما رأيتِها سيحدث لها ما هو أشد من ذلك.

نظرت إليه بضيق وقالت:

_ أنا أنصحها وأريد ما فيه الصالح لها، إذا تركتها لنفسها ستلقي بنفسها إلى التهلكة، إبنتك معمية بالحب.

نظر إليها بأسف وقال بلومٍ صريح:

_ تدمرين حياة بحجة أنكِ تنصحيها لأنها معمية بالحب ، وما هو مبررك لتدميرعنبر؟ 

نظرت إليه بصدمة وقالت بسخط وضجر:

_ هل أنا من دمرت عنبر؟! 

أومأ مؤكدا وقال بنفاذ صبر:

_ تسلطك وحقدك ورغبتك في السيطرة على جميع من حولك هم من دمروا حياة إبنتيكِ، تظنين أنكِ أم صالحة وتعرفين مصلحة بناتك وترشدينهم إليها، في حين أنكِ من تضلينهم وتَسعين بهم نحو الخراب والفشل.

نظرت إليه بذهول شديد وظهرت الصدمة جلية بعينيها ولكنه لم يكن ليتراجع فتابع بغضب مدفون:

_ بناتك ضحايا حقدك، أنتِ تحقدين على كل من حولك، بداخلك طاقة حقد وكره كافية لتدمير الجميع، وما لا تستوعبينه بعد أن هذا الحقد قد طال بناتك للأسف، تريدين جعلهم كالدمى بين يديكِ تحركينهم كيفما شئتِ.

أطرقت برأسها أرضا وهي تفكر بحديثه والصدمة لازالت ترسم آثارها على وجهها بينما أضاف هو بتعب:

_ يكفي ما حدث لابنتيكِ بسببك، الأولى في السجن والأخيرة طلقها زوجها وكل هذا بسبب مكرك ، يكفي صفية، هن بناتك ولسنَ أعدائكِ.

أراح صالح رأسه على الوسادة من خلفه وقد شعر بتعب شديد بسبب المجهود الذي بذله للتو ؛ فهذه هي المرة الأولى بعد أزمته الصحية التي يتحدث بها كثيرا بهذا الشكل.

أما صفية فخرجت من الغرفة وأوصدت الباب ثم وقعت عيناها على باب غرفة حياة فأخذت تبكي بقهر وقد حرك كلام زوجها ساكنا بداخلها.

______

كان قاسم جالسا بالشرفة، ممسكا بهاتفه في تردد ، وكلما اتخذ قرارا بالاتصال على حنان للإطمئنان على حياة تراجع وهو يحاول إقناع نفسه أنه لا يخصه.

إلى أن أجفل عندما ارتفع رنين هاتفه بيديه معلنا وصول اتصال من حنان فأجاب متلهفا وهو يقول:

_ مرحبا حنان.

تحدثت حنان بتلاعب وقالت:

_ مرحبا قاسم، هل كنت تنتظر إتصالا مني أم ماذا؟

حمحم بحرج وقال بهدوء مصطنع:

_ لا، أقصد نعم ، كنت سأتصل بكِ كي أسألك ..

_ تسألني؟

_ أجل، بخصوص عودتك إلى هنا ، تعرفين أنني لن يمكنني الاعتناء بصبر وكريم بمفردي.

تنهدت بيأس وهي تقول:

_ هل هذا كل شيء؟

_ أجل.

_ حسنا، عزيز في الطريق إليك سيصطحبهم ويعود بهم إلى هنا.

تسائل بتعجب قائلا:

_ كيف؟ هل سيبقون عندك؟

_ أجل، وما المانع ؟

_ لا مانع، ولكن لقد تفاجئت بقرارك، ثم أنني لا أعرف إن كان صبر سيرحب بهذا القرار أم لا؟!

_ بخصوص صبر لا تقلق هو سيفضل البقاء أينما يتواجد كريم، لقد تعلقا ببعضهما بشدة، أما بخصوص قراري المفاجئ فلقد رأيت أن هذا هو أفضل حل، في النهاية أنا لن أبقى ببيتك مدى الحياة، زوجي يحتاجني، ومن جهة أخرى أنت لن تكون متفرغا للبقاء برفقة الشباب فأنت أيضا تحتاج لمباشرة عملك الذي أهملته طويلا، ومن جهة ثانية أنا أحتاج لوجودهما برفقتي، أنا متفرغة تماما كما ترى وهما يؤنسان وحدتي الحقيقة.

هز رأسه بموافقة وقال بامتنان صادق:

_ أشكرك حنان، لقد فعلتِ معي معروفا لن أنساه طوال حياتي.

ابتسمت حنان بحنوٍ وقالت:

_ لا داعي للشكر قاسم، وإن كان هناك من يستحق الشكر فهي الظروف التي وبالرغم من قسوتها ولكنها منحتني طفلين ملأا ذلك الفراغ الموحش الذي كنت أعيشه.

ابتسم ابتسامة مقتضبة وأضاف:

_ صحيح، على كل حال اعتنِ بهما ، وخاصة صبر، أنتِ تعرفين حالته جيدا.

_ لا تقلق، سأجهز له غرفة معقمة كالموجودة عندك ولن أدخر جهدا للاعتناء به.

_ أشكرك حنونة.. جزاكِ الله خيرا.

ابتسمت حنان؛ فلطالما أحبت هذا الإسم من أخيها والذي لا ينطقه إلا بحب صادق، لذا فنادتهُ بدفء وقالت:

_ قاسم ، أحبك كثيرا أخي.. أنت كنت ولا زلت أعظم أخ في الوجود.

رق قلبه بشدة وامتلأت عينيه بالدموع بتأثر وقال:

_ وأنا أحبك جدا حنان.

ابتسمت حنان بفرحة ثم قالت:

_ حسنا، عزيز سيصلك بعد قليل، لا تنسَ أغراض صبر وعلاجه.

_ حسنا.. سأقوم بتحضيرها فورا..

_ ممتاز، نتحدث لاحقا.. مع السلامة.

همت حنان بإنهاء المكالمة ولكنه استوقفها ملهوفا وهو يقول:

_ حنان لحظة، هل حياة بخير؟

ابتسمت حنان لأنها كانت تعرف أن مكابرته لن تدوم طويلا وقالت:

_ كنت أعرف أنك لن تصمد كثيرا..

زفر بضيق وقال بنفاذ صبر:

_ لا تتساخفِ حنان.

_ لا تقلق، هي بخير. الضغط النفسي الذي تعيشه ليس هينا.

تنهد قاسم بضيق وقال:

_ صحيح، على كل حال اعتنِ بها جيدا وإذا احتاجت لأي شيء أخبريني.

تسائلت بهدوء أزعجه كثيرا وقالت:

_ ولمَ لا تتصل بها بنفسك وتعرض عليها هذا العرض النبيل؟ في النهاية هي ستظل ابنة عمك بغض النظر عما حدث بينكما.

تأفف بضيق وقال باقتضاب:

_ هيا حنان لقد أضعتِ الكثير من وقتي، مع السلامة.

أنهى الاتصال وألقى الهاتف بجواره بحنق ثم نهض بعدها ليقوم بإعداد أغراض كريم وصبر استعدادا لانتقالهما لبيت حنان.

___________

كانت حياة تتمدد على فراشها وهي تسند راحتيها فوق بطنها المسطحة ودمعها يسيل على جانبي خديها بإرهاق شديد، فإذ بها تتلقى اتصالا من حنان فأجابتها بخفوت:

_ نعم حنان.

تحدثت حنان بأسف وسألتها:

_ هل تبكِ حياة؟

_ لا، أنا بخير.

تنهدت الأخرى بحزن وقالت:

_ ماذا أخبرتِ زوجة عمي؟ 

_ كما اتفقنا، أنه مجرد اجهاد وضغط.

_ وهل انطلى هذا الحديث عليها؟

_ لا أعرف، ليس مهما.. المهم بالنسبة لي ألا يصل الخبر لقاسم.

زفرت حنان بيأس وضجر وقالت:

_ حقيقةً أنا لا أفهمك، كيف تريدين استعادته وأنتِ تخفين عنه خبر حملك؟ بالرغم من أن هذا الحمل سيكون أقوى دافعا لإذابة الجليد بينكما.

_ وهذا بالتحديد مالا أرغب فيه، أنا أريد أن يردني قاسم لأنه سامحني بالفعل ليس لأنني حامل منه وأصبح مجبرا على ذلك، أود أن تعود علاقتنا لأجلنا نحن ليس لمجرد أني حامل ويجب أن تتحسن علاقتي به من أجل الطفل، فهمتِ؟

تنهدت حنان بيأس وقالت بشفقة:

_ فهمت حياة. على كل حال قاسم قلق جدا عليكِ..

لمعت عيني حياة بحماس من بين دموعها وقالت بلهفة:

_ حقا؟ 

_ أجل، كنت أتحدث معه للتو وسألني عنكِ وأخبرني أنكِ إذا إحتجتِ شيئا أن أخبره، هو يحبك حياة ولكنه لازال مجروحا بسبب ما حدث.

أوصدت حياة جفنيها وتهاوت من بينهما العَبَرات بندم وقالت:

_ أعرف ذلك.

_ على كل حال الوقت سيصلح كل شيء أنا أثق بذلك، كل ما عليكِ فعله الآن هو الاهتمام بصحتك وبطفلك، يا إلهي سأطير من فرط السعادة والحماس، لا أصدق أنني سأصبح عمة بعد تسعة أشهر إن شاء الله.

ابتسمت حياة من بين دمعاتها وقالت:

_ لن أوصيكِ حنان، لا تخبري قاسم وأبلغي عزيز بهذا.

_ لا تقلقي، اعتنِ بنفسك جيدا، مع السلامة.

___________

أنهت حياة الاتصال وفتحت مجلد الصور الخاص بها هي وقاسم وراحت تشاهدها وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة حزينة، ثم ضمت الهاتف إلى حضنها ونامت.

بعد قليل دخلت صفية إلى الغرفة لتطمئن عليها، دخلت لتجدها نائمة وهي تضم هاتفها الذي يحمل صورة قاسم، فالتقطت صفية الهاتف من بين يديها وهي تطالع صورة قاسم بحنق وهي تتمتم بهمس:

_ لا أعرف ما المميز بك كي يفتتن بك بناتي بهذا الشكل المثير للشفقة.

وأطفأت الهاتف ووضعته على الطاولة الصغيرة الملتصقة بالسرير فلفت انتباهها حقيبة يد حياة، فنظرت إليها ثم فتحت الحقيبة تنوي معرفة تخصص الدكتور الذي زارته لكي تبدد شكوكها ولكن ما وجدته هو ما أكد كل ما كانت تفكر به.

أمسكت بروشتة الطبيب وأخذت تقرأ تفاصيلها بعينين جاحظتين وهي تقول:

_ دكتور نساء وتوليد؟! حامل!!!

مدت يدها بداخل الحقيبة وأخرجت الأدوية التي اشترتها حياة والتي كانت عبارة عن بعض المقويات والفيتامينات التي توصف للمرأة في بداية الحمل فأخذت صفية تحملق بهم وسالت دمعاتها بغزارة وهي تردد :

_ يا إلهي، لا مستحيل، مستحيل أن تكون قد حملت من هذا الجبان، يا ربي أتوسل إليك!!!

شعرت بتململ حياة فأعادت كل شيء لمكانه وهرولت إلى خارج الغرفة متجهة نحو غرفتها لتخبر صالح الذي كان قد غفا للتو فقالت وهي تهزه :

_ صالح استيقظ، هناك مصيبة قد حدثت!

فتح صالح عينيه على الفور بهلع وقال:

_ ماذا حدث؟ هل حياة بخير؟ 

أومأت بنفي وهي تبكي فقال بخوف:

_ ماذا حدث لها، تكلمي .

_ حياة حامل!

ألقتها وأجهشت في بكاءٍ مرير بينما ظل هو يتطلع نحوها بصمت لدقائق وهو يحاول استيعاب ما قالته ثم نطق أخيرا بهدوء وقال:

_ حقا؟

نظرت إليه وإلى ردة فعله الهادئة بتعجب وقالت:

_ حقا؟! هل هذا هو كل ما تكرمت به؟! أقول لك ابنتك حامل ! ما هذا البرود الذي تتحدث به؟!

_ لا حول ولا قوة إلا بالله ، هل هي من أخبرتك ؟

أجابت وهي تهز رأسها بأسى:

_ لا، لقد أخفت علي خبر حملها، لأنها تعرف أني لن أقبل بهذا الحمل أبدا..

نظر إليها بنفاذ صبر وقال:

_ لن تقبلي؟ وماذا عساكِ ستفعلين؟ هذا أمر الله، وأمر الله نافذ.

_ ماذا دهاك صالح ؟ تتحدث عن الأمر بمنتهى البساطة ، أقول لك أنها حامل من هذا الفاسد! يا إلهي لقد تخلصنا منه بفارغ الصبر ، ما هذا النحس!

_ لا حول ولا قوة الا بالله ، لا تبالغي صفية لقد نفذ صبري منكِ، ما بكِ تتحدثين عن هذا الحمل وكأنها كانت معه في علاقة آثمة لا سمح الله ، قاسم زوجها وهذا الحمل حلال والحمدلله، ما سبب كل تلك الجلبة!

_ لم يعد زوجها، لقد طلقها.

_ سيردها، قاسم إن بلغه الخبر سيردها قبل أن تغرب شمس اليوم، أعرفه جيدا لا يتخلى عن قطعة منه أبدا.

ابتسمت بتهكم وقالت:

_ أنت محق، ولكنه تخلى عن حياة وطلقها يا زوجي العزيز ، ألم تكن غالية عنده بما يكفي كي يتمسك بها أكثر؟!

نظر إليها متعبا وقال بصرامة:

_ هذا يخصهما ، وأمر الحمل يخصهما، وإذا أرادت الرجوع إليه أو أراد هو ردها فهو أيضا يخصهما، لا تتدخلي بينهما مجددا، يكفي ما حدث بسببك.

نهضت عن الفراش كمن لدغها عقرب وقالت بحدة:

_ لا، ما تقوله هذا هو قمة السلبية والاستهتار، ما دمت حية وبصدري نفس يتردد سأقف بوجهها وأمنعها عن خوض هذه الحرب الخاسرة مجددا، يكفي أني خسرت واحدة، لن أضيع الثانية أبدا.

وخرجت من الغرفة دون أن تسمح له بالرد، وتركته يلعن عجزه وضعفه اللذان مكناها منه ومن الجميع بتلك الطريقة.

___________

أفاقت حياة من نومها على إثر صوت النقاش الحاد بين والديها ولكنها لم تستمع لما قيل ، كانت تشعر بالصداع والأرق لذا فتحت حقيبتها وأخرجت منها العلاج الذي وصفه لها الطبيب وبدأت بتناوله، فإذ بها تتفاجأ بوالدتها التي اقتحمت الغرفة فجأة وعينيها يتطاير منها الشرر.

نظرت إليها حياة بضيق شديد وهي تمسك بكأس الماء تتجرعه بتمهل ثم أسندته على الطاولة المجاورة لها وقالت بحدة:

_ للمرة الألف سأخبرك يا أمي أن هذا الباب قد صُنِع ليُطرق!

نظرت إليها أمها ببرود وغل مخفي وقالت:

_ ما هذا العلاج؟ ألم تقولي أنكِ ستشتريه لاحقا؟! 

أخفت حياة كيس الأدوية بحقيبتها ولكن والدتها اقتربت منها ونزعت الحقيبة من يدها وأخرجت الكيس، ثم أفرغت محتوياته على الأرض وهي تقول:

_ هذه كلها مقويات للحامل!

ابتلعت حياة ريقها بتوتر وطالعتها بضيق، ثم نزعت من يدها الكيس بغضب وانحنت لتجمع العلاج من على الأرض بينما استطردت صفية كلامها وقالت:

_ أنتِ حامل!!

نظرت إليها حياة بضيق، ثم تحدثت بصوتٍ حاد وقاسٍ:

_ أجل أنا حامل، هل لديكِ مانع؟

رمقتها باشمئزاز وقالت بغضب:

_ وقحة!

اتسعت عيني حياة بذهول وسال منهما الدمع فورا وهي تنظر إليها بصدمة وغير تصديق ثم قالت باستهجان:

_ وقحة؟! هل أنا وقحة؟! هل أنا وقحة لأني أخبرتك أني حامل؟!

_ وتكررينها؟! أنا حقا لا أعرف ما سبب دواعي فخرك وسرورك بهذا الحمل اللعين!

رفعت حياة سبابتها أمام وجه أمها بتحذير وهي تقول بغضب من بين دموعها الغادرة:

_ إياكِ أمي، لقد تجاوزتِ كل الخطوط الحمراء معي، قمتِ بسبّي وبسب زوجي وفرقتِ بيننا، فعلتِ كل ما أمكنك فعله لكي تهدمي حياتي وها أنتِ تنجحين، ولكن إياكِ والاقتراب من هذه المنطقة بالذات، حملي ليس لعينا أبدا ولن يصبح.

واستدارت حياة عنها تقصد الخروج من الغرفة فجلست صفية على الفراش وأخذت تصطنع البكاء وهي تقول:

_ يا إلهي أتوسل إليك، ماذا فعلت أنا وبناتي كي نملك ذلك الحظ البائس، لدي ابنتين كالورد ولكنهن فقيرات حظ مثل أمهن.

تنهدت حياة بفروغ صبر ونظرت لأمها التي أخذت تنوح وهي تقول:

_ الأولى لا أعلم مصيرها ماذا سيكون ، ولا أعلم ماذا سيكون مصير ابنها المسكين اليتيم ، والثانية تصر على السير عكس الاتجاه وكأنها تتحداني فقط من أجل إزعاجي.

ونظرت إلى حياة وقالت:

_ صدقيني حياة، أنا أحبك ابنتي، أقسم بالله أنا لا أتمنى سوى أن أراكِ سعيدة.

عادت حياة أدراجها وجلست بجوار أمها وأمسكت بكفها ثم قبلته وهي تقول بعينين دامعتين:

_ أنا أعرف ذلك أمي ، ولكن أرجوكِ لا تضغطي علي أكثر، أنا لست طفلة.

نظرت إليها أمها بتوسل وقالت:

_ حياة، أنتِ الآن تطلقتِ حبيبتي ، والحمد لله قد انقشعت الغمة وتخلصنا من قاسم سبب المصائب وسيدها، ما ذنب هذا الطفل ابنتي؟ ما ذنبه أن يولد ليحد والديه منفصلان، هل تريدين تكرار مأساة كريم؟ الطفل اليتيم الآن يعيش مشتتا، لا نعرف كيف سيكبر وأين سيربو، هل تريدين لابنك أن يكبر ويعيش نفس المأساة بين والدين كلا منهما بطريق؟

نظرت حياة لأمها بتعجب ، ولم ترد الاستسلام للتخمين الذي غزا عقلها للتو وأحسنت الظن فقالت:

_ لا أفهم، ماذا تقصدين؟

أمسكت صفية كفيها وهي تحاول السيطرة عليها وقالت بتعابير منكسرة:

_ تخلصي من هذا الحمل حياة، لا داعي للتمسك بطفل هذا الحاقد طالما أن الطرق قد افترقت بكما.

جحظت عيني حياة بصدمة شديدة وانعقد لسانها للحظات، ثم قالت بذهول:

_ ماذا؟ ماذا تقولين؟ 

وفجأة انهارت وأخذت تلطم وجهها بهيستيرية وهي تقول:

_ ماذا قلتِ؟ لماذا؟ لماذا تفعلين ذلك بي؟ 

هالت الصدمة صفية وذهلت لرد فعل ابنتها فحاولت تهدئتها ولكن حياة كانت قد خرجت عن مسار العقل تماما وانتابتها حالة من اللاوعي.

استمع صالح إلى صراخ ابنته مما أفزعه وأخذ ينادي باسمها ولكنهما لم تستمعا إليه فحاول التحرك من السرير وصولا إلى كرسيه المتحرك ليسقط أرضا بجوار الكرسي فأجهش ببكاء مرير وقد لفّته حالة من العجز واليأس.

كانت صفية تحاول الاقتراب من حياة لتهدئتها والسيطرة على حالة الانهيار التي انتابتها ولكنها لم تتمكن.

_ لماذا تفعلي ذلك بي؟ لماذا تكرهيني بذلك القدر؟ هل أنا لست ابنتك؟ ما كل هذا الحقد والكره بداخلك تجاهي ؟

_ حياة اهدئي ابنتي..

_ لست ابنتك، وأنتِ لستِ أمي من الآن فصاعدا ، أنا أكرهك، أكرهك وبشدة.

التقطت حياة حقيبتها وخرجت من البيت بتعب وإجهاد شديد، استوقفت سيارة أجرة وطلبت منه التحرك ليسألها السائق ببديهية:

_ إلى أين؟

_ لا أعرف، كل ما أريده هو الابتعاد عن هنا.

تحرك بها السائق فأخذت تبكي بانهيار مما أثار تعجب وشفقة الرجل ليتوقف بالسيارة وينظر إليها قائلا بعطف:

_ هل أنتِ بخير ابنتي؟

نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت:

_ لا، أنا لست بخير أبدا.

زم شفتيه بأسف وقال:

_ لا حول ولا قوة إلا بالله.. 

واستدار ليكمل طريقه متجها نحو محل بقالة بالجوار ونزل ليبتاع لها زجاجة مياه ثم ناولها لها وقال:

_ تفضلي.

التقطتها منها وشكرته ثم تجرعت منها جرعتين، وأخذت نفسا عميقا ثم قالت بهدوء نسبي:

_ من فضلك، اذهب لحي سان لوران.

أومأ موافقا وانطلق في طريقه ، فأمسكت بهاتفها وهي تفكر في الاتصال بقاسم ولكنها تراجعت، ستذهب إليه على كل حال وليكن الحوار مباشرا وجها لوجه.

_____________

كان قاسم يقف على الباب منحنيا ليصل لطول كلا من صبر وكريم وهو يحدثهما بابتسامة حانية وقال:

_ لا تقلقا يا رفاق، الخالة حنان ستحملكما فوق كفوف الراحة، إنها تحب الأطفال العفاريت مثلكما بشدة.

ونظر إلى صبر وقال:

_ أكيد هذا يسرك سيد صبر.

ابتسم صبر ملء فمه وقال بحماس:

_ في الحقيقة الخالة حنان شخصية مرحة وعطوفة جدا، لا أعرف كيف أنكما أشقاء؟!

ضحك عزيز الذي يتابع الحوار بصمت، بينما ارتفع حاجبي قاسم بدهشة وقال:

_ وأنا لا أعرف من أين لك بكل تلك الشقاوة؟

عدل صبر ياقته بفخر وقال:

_ ورثتها عن أبي.

ابتسم قاسم وهو يهز رأسه بيأس، ثم نظر إلى عزيز قائلا:

_ أنا آسف لكما عزيز، كان الله في عونكما.

ضحك عزيز وقال:

_ لا بأس، صبر ولد ممتاز، سأكون سعيدا برفقته.

أومأ صبر مؤكدا وقال:

_ لا شك في ذلك.

طالعه قاسم بغيظ ونظر إلى كريم وقال بابتسامة وهو يمسح على رأسه:

_ سأشتاق لرفقتك يا رجل، ولكن عمك الماكر يطمع في بقائك عنده لفترة، ولكن عدني أنك سترجع لهنا أنت وصبر مجددا.

أومأ كريم مبتسما وقال:

_ أعدك عمي قاسم.

ابتسم قاسم بحنان ومال عليه وقبله ثم قبل صبر وهمس في أذنه برجاء ساخر قائلا:

_ لا تكن عفريتا أرجوك، تصرف كطفل مؤدب على الأقل في الأيام الأولى فكما تعرف يا صديقي الانطباعات الأولى تبقى دائما، لا تجعلهم يأخذون عنك انطباعا أنك من عينة الأطفال التي تسير على الجدران وتتشبث بالثريات.

غمزه صبر وأشار له بإبهامه في علامة إعجاب وقال:

_ لا تقلق يا صاح، سأشرفك.

أومأ قاسم متنهدا بقلق وقال:

_ أتمنى ذلك.

اصطحب عزيز الطفلين وغادر، وبينما قاسم بصدد قفل الباب نادته فريال وهي تقول:

_ مساء الخير جاري العزيز.

ابتسم قاسم بهدوء وقال:

_ مساء الخير سيدة فريال، كيف حالك؟

_ بخير للغاية، حمد لله على سلامتك، كنت مختفيا منذ فترة.

أومأ موافقا وقال:

_ أجل، كنت خارج المدينة.

_ وأين زوجتك؟ ماذا كان اسمها؟

ابتسم باقتضاب وقال:

_ حياة .

_ أجل، أين حياة، هل هي بالداخل؟

وتجاوزته ودخلت متجهة صوب غرفة الجلوس وهي تقول:

_ دعني أدخل لأرحب بها..

نظر إليها متفاجئا وقال بحرج:

_ لقد دخلتِ أساسا، على كل حال مرحبا بكِ سيدة فريال ولكن حياة غير موجودة للأسف.

مطت شفتيها بأسف طفولي وهي تقول:

_ حقا؟ يا له من حظٍ عاثر! على كل حال يمكنني انتظارها، لا تعرف كم أتوق لرؤيتها ، أنت تعرف كم أحب التعرف للجيران الجدد وخاصةً النساء منهن، أهوى تكوين صداقات جديدة للغاية.

شعر بالحرج أكثر ثم قال:

_ أعرف ذلك، في الحقيقة أنتِ سيدة لطيفة وودودة جدا، ولكن للأسف الشديد حياة لن تعود اليوم.

وصمت للحظة ثم تابع سريعا:

_ ولا الغد، للأسف نحن ….

_ حياة!!

قاطعته وهي تنظر نحو الباب بتفاجأ ؛ فنظر حيث تنظر ليصطدم بحياة تقف أمامه وعيناها مثبتتان على فريال كالفهد الذي يستعد للانقضاض على هدفه.

قطب جبينه متعجبا من حالتها، فبالرغم من أنه لم يمر سوى يومان فقط على فراقهما ولكنه يشعر كأنه يرى إمرأة أخرى غير حياة التي يعرفها!

اقترب منها وأخذ يتفحصها مليا، لقد كانت عيناها حمراوتين متورمتين، ووجهها شاحب بشدة وكأنها لم تنم طوال الليلتين الماضيتين.

لم يسعهُ السكوت وهو يراها بتلك الحالة فتحدث بقلق وقال:

_ حياة هل أنتِ بخير؟

نظرت إليه والتمعت عيناها بالدموع فأمسك بيدها وأدخلها ثم ساعدها على الجلوس وهو يقول باهتمام:

_ ما حالتك تلك؟ أخبريني هل أنتِ بخير؟

كانت حياة تنظر إلى فريال التي شعرت أخيرا بالحرج ونهضت على الفور وهي تقول:

_ لقد جئت للتعرف عليكِ حيوتة ولكن على ما يبدو أنكِ متعبة للغاية، لذا سأعود في وقت لاحق.. عن إذنكم.

خرجت وسحبت الباب خلفها بينما جثا قاسم أمام حياة وهو يتفحصها بقلق وقال:

_ حياة، ماذا حدث وما سبب تلك الحالة ؟ هل عمي بخير؟ 

نظرت إليه بعينين خاويتين من الحياة وتحدثت بحزن وشفتين مرتجفتين وقالت:

_ الجميع بخير، ما عدا أنا.. أنا لست بخير قاسم.

تنهد بضيق وقال وهو ينهض واقفا:

_ حسنا هيا بنا لنذهب للطبيب حالا، على ما يبدو ذلك الطبيب الذي اصطحبتكِ حنان إليه لم يشخص حالتك التشخيص الصحيح.

أمسكت يده وهي تنظر إليه وهو يقف أمامها يطالعها من علوٍ وقالت:

_ لا أحتاج لزيارة الطبيب، أنت طبيبي!

اقشعر بدنه وابتلع ريقه بوجل وهو يرى الدمعات المتحجرات بعينيها تلمعن وزفر بخفة، ثم قرص بين عينيه بتعب وقال بجمود:

_ لماذا أتيتِ حياة؟

أمسكت بيده الأخرى وهي لازالت تطالعه بنفس النظرة الهائمة الباكية وقالت:

_ أنا آسفة.

تهدل كتفيه بإحباط وتمتم مستغفرا بقلة حيلة، ثم اتجه ليجلس بجوارها وظل ينظر أمامه بشرود إلى أن انتزعته من شروده حين قالت:

_ أعتذر قاسم، أرجوك سامحني.

تحدث على الفور وقال بنبرة قاسية:

_ هل أتيتِ من أجل هذا؟ من أجل هذا الكلام الفارغ؟!

نظرت إليه بصدمة وتفاجئت فقالت:

_ كلام فارغ؟

نظر إليها بغضب مكبوت وقال بنبرة عالية:

_ ماذا تنتظري مني حياة؟ أن أفتح لكِ ذراعيّ وأستقبلك بالأحضان مثلا؟ 

أجابته وهي تنظر إليه بضياع وتعب تجاهد كي لا يتمكن منها:

_ ولمَ لا؟ جل من لا يخطئ قاسم.. في النهاية كلنا بشر وكلنا نخطئ، أنت نفسك أخطأت ولا زلت تخطئ ، الجميع يخطئون.

_ ولكنكِ لستِ كالجميع حياة!

قالها وهو ينظر أمامه بوجوم وسقطت عبرة من عينه وتحشرج صوته وهو يتابع:

_ أنا وضعت ثقتي كلها بكِ، لم أتخيل يوما أن تصدقي أني من الممكن أن أتواطأ مع أختك لقتل عبدالله، لقد كنتِ أنتِ بئر أسراري منذ البداية. أتذكرين حياة؟ لقد فتحت قلبي لكِ وحكيتُ لك ما حدث معي منذ البداية، منذ اليوم الأول الذي رأيتكِ به وأنا أقول أنكِ غير الجميع، لذا عاملتك معاملة غير الجميع.

وأمسك بكفها وهو يضرب به فوق صدره، فوق موضع قلبه تماما وقال بحزن:

_ كنتُ دائما أعاملك بقلبي يا حياة!

أغمضت حياة عينيها وغام نظرها بين الدموع التي فاضت منها كشلالٍ منحدر، بينما تابع هو قائلا:

_ كل الثقة التي وضعتها بكِ انهارت لحظتها، عندما سألتني هل أنا من أعطيتها السم أم لا! كنت أتوقع أن تقفي بوجه الجميع وتؤكدين لهم أني بريء من هذه التهمة، كنت أنتظر أن تسانديني حياة، كنت أنتظر منكِ الثقة التي لا يتخللها شك أبدا.. ولكنكِ خذلتِني كما فعل الجميع.. وهذا أشد إيلاما عليّ، أن تخذليني وأنتِ التي كنت أشكو إليها من خذلانهم.

أمسكت كفه وشدت قبضتها فوقه وقالت:

_ ومع ذلك أنت سامحتهم، أنت دوما كنت رجل بقلب حنون مراعٍ، لقد منحتهم فرص ثانية، وأنا قاسم؟ ألا أستحق فرصة ثانية؟!

نظر إليها بانهزام واستسلام وقال:

_ للأسف حياة، لقد استنفذت كل محاولاتي، لقد أتيتِ متأخرة.

أغمضت عينيها وأسندت رأسها فوق كفيها وظلت تبكي بصمت، تبكي حزنًا ويأسًا، وتبكي ضعفًا وتعبًا، ثم نظرت إليه باستسلام وقالت:

_ قاسم، أنا متعبة بشدة.

_ وأنا لازلت عند رأيي، سأبدل ملابسي حالا ونذهب لطبيب…

قاطعته بلوعة ونفاذ صبر وقالت:

_ لن أذهب لأي مكان، كل ما أحتاجه هو البقاء هنا، بجوارك.

واقتربت منه أكثر حتى باتا متلاصقين ونظرت لعينيه بقوة وهي تبكي وقالت:

_ أنا أحتاجك، أرجوك لا تكن قاسيًا.

اهتز قلبه بين ضلوعه وكان على وشك الاستسلام ورفع الراية البيضاء ، وكيف لا وهي تسبل النظر إليه بعينيها الكهرمانيتين الباكيتين وتتوسله كي يبقيها بجواره، وهذا أحب ما على قلبه، ولكنه كان قد قطع وعدا على نفسه، الكل من الآن فصاعدا سواسية حتى حياة!

_ وأنا أيضا كنت أحتاجك حياة، ولكنك كنتِ قاسية.

_ كنت غبية، صدقني كنت غبية.. كنت مشوشة ومشتتة، أرجوك سامحني.

_ ولا تزالين غبية حياة، وستبقين غبية للأبد، وصراحةً القليل المتبقي لدي من طاقة لا يكفي لكي أتعامل مع الأغبياء مرة أخرى.

نظرت إليه بيأس وشعرت بالهوان والذل ثم ابتعدت عنه بصمت وجففت دمعاتها ثم قالت:

_ كما تحب، لن أضغط عليك أكثر.

ونهضت ليختل توازنها فجأة وسقطت مجددا فوق الأريكة فانحنى نحوها بفزع وهو يقول:

_ حياة ماذا بكِ؟

أسندت رأسها الذي يدور بها حول العالم الآن على الأريكة من خلفها وقالت بتعب:

_ أنا بخير.

_ لا، أنتِ لستِ بخير أبدا، سنذهب للطبيب حالا.

مدت يدها وأمسكت بيده وهي تقول:

_ لا، سأكون بخير..

ونظرت إليه برجاء أخير وقالت بوهن :

_ لو أنك تكون بجواري.

لم يحتمل قاسم نبرتها الباكية أبدا، فمهما حدث ستظل هي حياة، صاحبة المعاملة الخاصة، حياة التي كان ولازال وسيظل يستثنيها عن الجميع.

اقترب منها وضمها إلى صدره فجأة، وبقوة صدمتها، وأسند ذقنه فوق رأسها وهو يتأوه باشتياق بالغ ويقول:

_ أنا بجوارك دائما حياة.

أحاطت حياة خصره بذراعيها الناعمين ودفنت رأسها بأحضانه وانخرطت في نوبة بكاء أشد وأعنف، نوبة بكاء كانت لتفقدها وعيها لولا وجودها بين يدي قاسم.

ضمها إليه أكثر وأخذ يربت على ظهرها وهو يقول:

_ أنا آسف حياة، سامحيني.

غص قلبها أكثر وشعرت بالاختناق يقتلها وقالت بندم:

_ أرجوك قاسم لا تشعرني بالخزي أكثر، لا ينبغي عليك أن تكون متسامحا بهذا القدر! أنا من ظلمتك، سامحني.

أبعد رأسها قليلا عنه ومسح دمعاتها بإبهاميه وقبّل وجنتها بقوة مردفا:

_ لا، أنتِ لا تزالين صغيرة، صغيرة جدا.. كنتِ مشتتة ومحاصرة من قِبل والدتك وأفكارها، لذا ساوركِ الشك.. أنتِ محقة كلنا بشر وكلنا خطائين.

تشبثت بعنقه واقتربت بغتةً منه وحاصرت شفتيه بقبلةٍ مجنونة فما كان منه إلا أن استجاب لجنونها العاصف وأحاطها بذراعيه بتملك أكثر، ثم رفعها لتجلس فوق ركبتيه وهو لا زال مخمورًا بقبلتهما الدافئة، ثم ابتعد عنها ونظر لعينيها واقترب منهما ليقبلهما واحدةً تلو الأخرى وقال مبتسما بدفء:

_ اشتقتُ لهاتين الكهرمانيتين يا كهرمانة.

أسندت حياة رأسها فوق كتفه وقد وجدت ملاذها الآمن أخيرا وأغمضت عينيها بتعب شديد وهمست بالقرب منه:

_ قاسم، أشعر بالتعب الشديد.

أخذ يمسح على جسدها بحنوٍ ودفء افتقدته بشدة حتى أنها بكت من جديد فقال بخوف:

_ حياة، هل تخبئين شيئا عني؟ هل أنتِ بخير حبيبتي ؟ 

انقبض قلبها فجأة وابتعدت لتنظر إليه وهي تبكي وقالت:

_ هل أنا فعلا حبيبتك؟

أومأ بتأكيد وقال وهو يمسح على بشرتها بأنامله بلطف ويتفحص ملامحها بولهٍ تام:

_ أنتِ لستِ حبيبتي فحسب، أنتِ حياتي!

تقوست شفتيها كالأطفال وأخذت تبكي مجددا فقال بقلق وهو يحايلها بطريقة تليق بها:

_ حياة، لا تخيفيني أرجوكِ، ما سبب كل ذلك البكاء؟ 

_ ضمني قاسم أرجوك.

تعجب ذلك الانهيار العاطفي الذي أصابها فجأة وهمس بنبرةٍ دافئة:

_ تعالي حبيبي، سأضمك حتى تشفى جراحك حياتي، من اليوم ولآخر العمر لن نفترق أعدك.. والآن إهدئي أرجوكِ.

تكورت حول نفسها أكثر فكان يضمها كالدمية بين ذراعيه ويمسح على شعرها تارة، وعلى جسدها تارة ثم قال:

_ لا تبكِ رجاءًا.

_ قاسم، هل سامحتني؟ أم أنك تشفق علي لأني فقط متعبة؟

ابتسم ثم قبل رأسها وهو يقول:

_ لقد سامحتك حبيبتي، سامحتك لأن الآباء دوما يسخطون على أبنائهم وينزعجون منهم ويلجأون لخصامهم لتقويم تصرفاتهم أحيانا، ومع ذلك لا يكرهونهم أبدا، وأنتِ طفلتي حياة! 

ابتسمت وراحت تتمسح به أكثر كالقطة الوديعة ومدت أناملها تتلمس بشرته باشتياق فقال متلاعبا:

_ كوني طفلة مؤدبة حياتي.

ضحكت بفرحة فضحك ومال على وجنتها وقبلها بنعومة ثم قال:

_ أخبريني هل أنتِ بخير الآن؟

أومأت أن نعم فقال:

_ الحمد لله ، هل تنهضين لتأخذين حماما ريثما أعد طعاما لنتناوله سويا؟

أومأت برفض وهي تجوب تفاصيل وجهه بأناملها فالتقط يدها من فوق وجنته وقبلها وابتسم ثم قال:

_ اشتقتكِ حياة، اشتقتكِ حياتي!

_ وأنا اشتقتك كثيرا قاسم. 

بادر بتقبيلها مرةً أخرى فهمست إليه بنعومة مغوية وقالت:

_ قاسم..

فهمس إليها بنفس النبرة الدافئة:

_ يا حياة قاسم..

ابتسمت بفرحة واضطرب قلبها بعنف وتزايدت دقاته فأخذت تمرمغ أنفها بأنفه بمشاكسة غرامية وقالت:

_ أنت لم تحملني كأي عروس يحملها زوجها ليلة زفافهما، صراحةً نحن لم نَعِش تفاصيلا كثيرة يعيشها العروسين بيوم زفافهما.

أومأ بأسف وقال:

_ أنتِ محقة.

ونهض فجأة وهو يحملها على ذراعيه ويقترب بها نحو غرفة نومهما وهو يطالعها بنظراتٍ ملتهبة ثم أخذ يقلد نغمة الدفوف حين يزفون العروسين وهو يقول:

_ تن تاتا تن تن تن تن تن .. 

قهقهت حياة عاليا فضحك بدوره وهو يدفع باب الغرفة بقدمه ويقول ضاحكا:

_ الليلة ليلتك حياتي!!

_____________

يتبع

حب_في_الدقيقة_التسعين!

• تابع الفصل التالى ” رواية حب فى الدقيقة تسعين  ” اضغط على اسم الرواية

أضف تعليق