رواية التوأم والسحر الأسود الفصل الخامس 5 – بقلم رقية
التؤام_السحر_الاسود_5_
عزيزة، فتاة في التاسعة والعشرين من عمرها، تعيش تجربة حياة مليئة بالتحديات. فقدت والدها في حادث سيارة، مما ترك لها مسؤولية كبيرة في تربية أخوانها الصغار. كونها الأخت الكبرى، تتحمل عزيزة عبء رعاية ثلاثة من إخوتها: أختها الصغيرة التي تبلغ من العمر اثني عشر عامًا، و فتاتين توأم في التاسعة.
إلى جانب ذلك تعاني والدتها من مرض السكري، مما يزيد من الضغوطات التي تواجهها عزيزة. على الرغم من هذه الظروف الصعبة، تظل عزيزة قوية وعازمة على توفير حياة مستقرة لإخوتها، مع الحفاظ على توازن بين عملها كطبيبة ورعاية عائلتها، تعمل بجد لتكون قدوة لهم، وتعليمهم أهمية التعليم والنجاح، وتساعدهم في التغلب على التحديات اليومية. عزيزة تمثل مثالًا للصمود والتفاني، وهي تسعى دائمًا لبناء مستقبل أفضل لعائلتها رغم كل الصعوبات التي تواجهها.
في أحد الأيام، بينما كانت عزيزة تهمّ بإتمام مهامها في المستشفى، رنّ هاتفها فجأة. كانت والدتها على الطرف الآخر، وصوتها يرتجف من القلق.
طردونا، يا عزيزة… صاحب الشقة غير القفل وتركنا في الشارع! لم نعد نملك مأوى.»
جمد الدم في عروقها. لم تنتظر حتى تنهي المكالمة، خلعت معطفها الطبي على عجل، وغادرت المستشفى دون أن تنبس بكلمة لأحد. أوقفت سيارة أجرة بأصابع مرتجفة، وقلبها يطرق صدرها بعنف.
ما إن وصلت إلى الحي المتواضع، حتى وجدت والدتها وإخوتها الصغار متجمعين على درج العمارة، يحتضنون أنفسهم من البرد، وعيونهم تائهة بالذعر.
اقتربت منهم بخطى متسارعة، ثم توجهت فورًا إلى باب الشقة، وطرقت بعنف، تنادي على صاحبها. فتح الباب أخيرًا، لكنه لم يمنحها أكثر من نظرة قاسية قبل أن يغلق الباب في وجهها بعنف، قائلاً ببرود:
«ولا دقيقة زيادة. غادِروا، أو أتصل بالشرطة.»
وقفت عزيزة في مكانها، تكاد دموعها تسقط، وهي تحاول أن تخفي انهيارها عن والدتها. لم يكن معهم سوى بضع حقائب، ولا مال كافٍ ليقضوا حتى ليلة في فندق.
استجمعت قواها، وقبّلت جبين والدتها، ثم قالت بهدوء متكلف:
«سأعود سريعًا… لا تقلقي.»
عادت مسرعة إلى المستشفى، وكل ما يدور في ذهنها: “أمل… هي الوحيدة التي قد تساعدني الآن.”
عندما دخلت الكافتيريا، لمحَت أمل جالسة في الزاوية، تحتسي قهوتها بهدوء. اقتربت منها بخطى مثقلة، وجلسَت بجانبها، تحاول أن تبدو طبيعية رغم فوضى مشاعرها.
قالت بصوت خافت: أنتِ هنا… بحثت عنك في القسم، ولم تجدك
أمل : وضعت كوبها جانبًا، ونظرت إليها بقلق: : خير، ماذا يجري؟ هل الطبيب خالد وصل؟”
عزيزة: كلا، احتمال أن تلغى العملية اليوم.”
أمل : أوه حسنًا. إلى أين ذهبتِ؟ غادرت فجأة. هل كل شيء على ما يرام؟
رفّت جفون عزيزة، وابتلعت ريقها بصعوبة. كانت تعلم أن الكلمات القادمة ستكون ثقيلة… لكنها لم تجد سبيلًا غيرها.
ثم تنهدت بعمق، كأنها تحاول ابتلاع مرارة الواقع، ثم همست :”كانت عندي مشكلة طارئة.”
أمل: رفعت حاجبيها بقلقٍ خفيف.”مشكلة؟ عسى خير، طمنيني.”
عزيزة: نظرت إلى الأرض، وتكلمت بصوت خافتٍ متردد:
“أمي اتصلت بي… قالت إن صاحب الشقة طردهم من المنزل. تأخرنا عن دفع الإيجار لشهرين، ولم يعد يحتمل الانتظار.”
أمل: شهقت بدهشة ممزوجة بالأسى:”يا إلهي، هذا فظيع! وماذا فعلتِ؟”
عزيزة: هزّت رأسها بأسى:”لا شيء، حاولت التوسل إليه ليمنحنا فرصة… لكنه كان قاسيًا، لم يسمعني حتى.”
أمل: بصوت مكسور:”هذا مؤلم. وماذا تنوين أن تفعلي الآن؟”
عزيزة: نظرت إليها بعينين دامعتين وهمست:”لهذا السبب كنت أبحث عنك.”
أمل: تراجعت قليلًا في مقعدها، نبرة التوجّس تسلّلت إلى صوتها:
“تبحثين عني؟ لا تقولي إنك… تريدين مني التحدث إلى صاحب الشقة؟”
عزيزة: ابتسمت ابتسامة باهتة تحمل خجلًا وألمًا:”بالطبع لا. لكنك صديقتي الوحيدة، ولم أجد سواك ألجأ إليه.”
أمل: تنهدت، تداخل في صوتها تردّد واضح:”وكيف يمكنني مساعدتك؟”
عزيزة: تطلعت إليها برجاء:”هل يمكنك إقراضي بعض المال؟ أعدك، سأرده لك في أقرب وقت أستطيع فيه.”
أمل: صمتت للحظة، ثم قالت بنبرة حذرة:”لكن… كيف ستردين لي المبلغ وأنت لم تدفعي الإيجار منذ شهرين؟”
عزيزة: ارتبكت، ثم قالت بصوت مهتزّ:”ألا تثقين بي؟”
أمل : نظرت إليها بعينين جادتين:”الثقة ليست المشكلة يا عزيزة… لكن أنت تعيشين أزمة، وأنا أيضًا لدي التزامات. لا أستطيع أن أقدّم وعدًا أعجز عن تحمّله.”
عزيزة: خفضت عينيها، وابتلعت مرارتها بصوت مكسور:
“أفهمك… آسفة إن أزعجتك، لم يكن عليّ أن أطلب.”
أمل: نهضت، حملت كوب قهوتها بهدوء، وقالت دون أن تنظر إليها:”أنا آسفة… لكن لا أستطيع مساعدتك.”
ثم خطت مبتعدة، تاركةً وراءها صمتًا مثقلاً بالخسارة.
عزيزة : بقيت تنظر إلى الفراغ للحظة، كأنها تحاول فهم ما حدث للتو. خيبة الأمل تسللت إلى قلبها كظلّ ثقيل، لكنها لم تسمح لدموعها بالانهيار. كان عليها أن تواصل… بأي وسيلة.
وفجأة، تذكّرت مريضتها التي تنتظر دواءها. قفزت من مكانها كمن أيقظه واجبٌ مقدّس، واندفعت نحو الغرفة دون تردّد، كأنها تبحث عن بعض المعنى وسط كل هذا الانكسار.
كانت جيهان، مريضتها الستينية، تستلقي على سرير المستشفى بصمتٍ ثقيل. ورغم مرور أسبوعين على عمليتها الكبرى في القلب، لم يخفِ وجهها الضجر، وكأن الإقامة هنا أصبحت عبئًا لا يُحتمل.
كانت شقيقة نايف الكبرى، وعمّة إليزا، دون أن يعرف أي منهما ذلك بعد… والمصادفة كانت حبلى بأقدار لم تُكشف بعد.
دخلت عزيزة إلى الغرفة كعادتها، تحمل ابتسامة شاحبة فوق ملامح متعبة، وقالت بنبرة دافئة تخفي وراءها يومًا شاقًا:
“صباح الخير، سيدتي… كيف حالك اليوم؟”
رفعت السيدة جيهان عينيها إليها ببطء، وحدّقت فيها بصمتٍ كأنها تقيس صبرها بنظراتها. كانت النظرة هذه المرة أقل ترحيبًا من أي يوم مضى، وصوتها خرج كأنما يخترق الهواء بثقل:
“لست بخير… متى سيسمحون لي بالعودة إلى منزلي؟”
اقتربت عزيزة بهدوء، وقالت بلطفٍ مهنيّ:”حين تستقر حالتك تمامًا، ستعودين… وعد، سيدتي.”
لكن جيهان لم ترد، بل بدأت تتمتم بكلمات غير مفهومة، تحمل نبرة استياء مكبوت، وكأنها تناجي ضيقها الداخلي لا أكثر.
تابعت عزيزة حديثها محاولة التخفيف:”إذا تناولتِ أدويتك اليوم كما ينبغي، ربما يُسمح لك بالخروج في وقت أقرب.”
ردّت جيهان بعينين دامعتين، نبرة التمرد تخنق صوتها:”لا أريد أدوية بعد الآن… اكتفيت.”
رفعت عزيزة حاجبيها بدهشة، لكنها بقيت محافظة على هدوئها المهني:
“هذا ليس خيارًا يا سيدتي. حالتك لا تزال حرجة، والأدوية ضرورية. الامتناع عنها قد يعرضك للخطر.”
هزّت جيهان رأسها بعصبية وانفجرت:”قلت لك لا أريد! ألا تسمعين؟”
توقفت عزيزة لحظة، ثم قالت بنبرة جمعت بين الرجاء والصرامة:
“أرجوكِ، سيدتي… خذي أدويتك. هناك مرضى آخرون بحاجة لي، ووقتي محدود اليوم.”
ارتفع صوت جيهان أكثر، غاضبة، متوترة، كما لو أن شيئًا في أعماقها انهار فجأة:
“قلت لك لا أريد! اخرجي من هنا واتركيني وشأني، أفهمتِ؟!”
رغم أنها لم تكن في مزاجٍ يسمح بالتسامح، تماسكت عزيزة، وضبطت نبرتها حتى لا تُستفز، وقالت بهدوء:
“رجاءً، سيدتي… لا داعي لكل هذا الانفعال. أنتِ ما زلتِ تتعافين، وجرحك لم يلتئم تمامًا بعد.”
سادت لحظة صمت بينهما، انخفض فيها التوتر تدريجيًا، بينما ظلّت جيهان تنظر بعيدًا، تتنفس بعمقٍ كأنها تكبح دموعًا، وعزيزة وقفت تتأملها بحزن… لم يكن الرفض موجّهًا لها، بل للحياة كلها، لما آلت إليه.
وبينما كانت عزيزة تحاول بصبرٍ متآكل إقناع السيدة جيهان بتناول أدويتها، انفتح باب الغرفة بهدوء، ودخل أكرم، ابن جيهان، يُلقي التحية بنبرة دافئة خففت قليلاً من توتر الجو.
رفعت جيهان نظرها إليه، وعيناها تلمعان بشيءٍ من الاستنجاد وقالت بصوتٍ عالٍ:
“جيد أنك وصلت، بني… قل لهذه الطبيبة أن تتركني وشأني. لا أريد هذه الأدوية!”
اقترب أكرم منها سريعًا، وقال بنبرة هادئة لكن حازمة:
“ما هذا الكلام يا أمي؟ أنت بحاجة للأدوية كي تتعافي. لا يمكنك التوقف الآن.”
زفرت جيهان، واستدارت بنظرة غاضبة نحو عزيزة:
“قلت لك لا أريد! ثم إنني لا أحبها، إنها تجبرني على تناول الحبوب كأنها تحاول التخلص مني!”
تجمدت عزيزة في مكانها، ثم قالت بنبرةٍ امتزج فيها التعب بالإحباط:
“سيدتي… كيف يمكنك قول ذلك؟ كل ما أفعله من أجلك، ثم تتهمينني بهذا الشكل؟”
ومع تصاعد الأصوات، بدأت عزيزة تفقد رباطة جأشها. نظرت إلى أكرم وكأنها تبحث عن إنصاف، لكنه بدوره كان مرتبكًا، لا يعرف كيف يتدخل دون أن يؤجّج النار أكثر.
في تلك اللحظة، كانت إليزا تمر أمام الغرفة، وتوقفت فجأة حين التقطت أذناها أصوات الجدال. طرقت الباب برفق، ثم فتحته ودخلت بخطى ثابتة، ملامح وجهها تنم عن استغراب وقلق:
“ما الذي يحدث هنا؟ لماذا كل هذا الصراخ؟”
نظرت أولًا إلى عزيزة بحدة ثم أضافت:”تحدثي، عزيزة. ما الذي يدفعكِ لأن ترفعي صوتكِ بوجه مريضة؟”
أجابت عزيزة وهي تحاول ضبط أنفاسها:”أنا فقط أحاول أن أعطيها أدويتها… لكنها ترفض، بل وتتهمني بأني أريد التخلص منها!”
رمقتها إليزا بصدمة:”تتهمك؟!”
قالت عزيزة، وقد خرجت الكلمات من فمها دون تفكير:”لا بد أنها فقدت عقلها.”
فجأة، ساد صمت كثيف في الغرفة.
نظرت السيدة جيهان إلى إليزا بذهول، ارتسمت على وجهها علامات الاضطراب، وكأنها ترى شبحًا من الماضي. حدّقت فيها طويلًا، ثم تمتمت في داخلها: “نوف؟… مستحيل…”
كانت إليزا تشبه أختها الراحلة نوف بشكلٍ مذهل، لدرجة جعلت جيهان ترتبك، وكأن الزمن عاد بها إلى لحظة مؤلمة لم تُشفَ منها.
اقتربت إليزا منها، وابتسامة لطيفة ترتسم على وجهها:
“مرحبًا، سيدتي… كيف حالك اليوم؟”
السيدة جيهان : بادلتها ابتسامة مرتجفة، تحاول أن تخفي اضطرابها:”أنا بخير… وأنتِ؟ كيف..حالك ؟”
اقترب إكرام من والدته ببطء، وعيناه تتفحصان ملامحها المرتبكة، وقد تسرّب الشك إلى نبرته:”أمي… هل أنتِ حقًا بخير؟ ما الذي يحدث؟”
هزّت جيهان رأسها بترددٍ خفيف، كأنها تمثّل الطمأنينة لتغطي على اضطرابٍ داخلي:”نعم، نعم، لا تقلق يا بني…”
ثم التفتت فجأة نحو إليزا، وفي عينيها تساؤل خافت وارتباك غريب، وابتسامة حاولت أن تبدو طبيعية:
“ما اسمكِ يا عزيزتي؟”
أخذت إليزا نفسًا عميقًا قبل أن تجيب بثبات:”اسمي إليزابيث، سيدتي.”
ثم وجهت نظرها إلى عزيزة، وأضافت بنبرة حازمة دون أن ترفع صوتها: “سأتولى الأمر من هنا. يمكنكِ الانصراف الآن.”
غادرت عزيزة بسرعة، خطواتها كانت أشبه بالفرار، وهمهماتها المنخفضة تعكس استياءً مكتومًا، وكأنها تهرب من شيء لم تُرِد الاعتراف به.
بقيت إليزا واقفة، ثم اقتربت من السيدة جيهان وجلست على طرف السرير، تحدثت بلطف فيه حزم:
“دكتورة عزيزة أخبرتني أنكِ ترفضين تناول الدواء… هل هناك شيء يزعجك؟”
ترددت جيهان للحظة، ثم هزّت رأسها ونطقت ببطء:
“كلا، لا شيء… أنا بخير.”
مدّت يدها نحو الدواء، وأخذته بهدوءٍ مريب، لكن عيناها شردتا للحظة وكأنها في مكان آخر تمامًا.
كان إكرام يراقب كل شيء بصمت، لم يفوّت تلك النظرة، ولا تلك النبرة. همس لنفسه باندهاش:”ما هذا التغيير المفاجئ؟”
شربت جيهان الدواء دفعة واحدة، ثم وضعت زجاجة الماء جانبًا، وقالت بلهجة ضجرة:”متى يمكنني المغادرة؟ أريد العودة إلى منزلي… لا أستطيع البقاء هنا أكثر!”
أومأت إليزا برفق، تحاول تهدئة قلقها:”سيدتي، ما زال الوقت مبكرًا. الجرح لم يلتئم بعد… نحتاج فقط لبضعة أيام إضافية.”
ثم التفتت نحو إكرام بابتسامة آسفة ووجه هادئ:”أرجوك، لا تأخذ صديقتي على محمل الجد اليوم… أظنها تمر بيومٍ صعب.”
أومأ إكرام بتفهّم، وابتسم بلطف، وقد هدأ بعض التوتر في وجهه:
“لا بأس، أنا أتفهم ذلك تمامًا.”
قالت إليزا بامتنان:”شكرًا لك.”
تنهّدت السيدة جيهان بعمق، ثم وضعت زجاجة الماء جانبًا، ونظرت إلى إليزا بنظرة مغايرة، فيها شيء من التودد الدفين.
قالت بصوت خافت:”هل تعملين هنا دائمًا؟”
ردّت إليزا بابتسامة رقيقة:”نعم، سيدتي.”
صمتت جيهان للحظة، ثم همست، بصوتٍ امتزج فيه الحنان بالحزن:”هل لي أن أطلب منك شيئًا؟”
نظرت إليها إليزا باهتمام، وأجابت بثقة هادئة:”بالطبع، سيدتي. تفضّلي.”
قالت جيهان، بصوت أشبه برجاء ناعم يخفي خلفه وحدةً قديمة:
“هل يمكنكِ أن تأتي لزيارتي لاحقًا؟ فقط… إن كان ذلك ممكنًا.”
ارتسمت على وجه إليزا ملامح دهشة خفيفة، ثم ابتسمت ابتسامة دافئة، وقالت بإخلاص:
“بالطبع، سيدتي… إذا كان ذلك سيسعدك، فسأكون هنا.”
السيدة جيهان تنهدت بارتياح خافت، وملامح وجهها استرخت لأول مرة منذ أيام:
“نعم… ذلك سيسعدني كثيرًا.”
ابتسمت إليزا بلطفٍ دافئ، ثم قالت بأدب وهي تنهض من جوارها:
“حسنًا، أستأذن الآن… أراكِ لاحقًا، سيدتي. اعتني بنفسك.”
وغادرت الغرفة بهدوء، تغلق الباب خلفها بصمتٍ رقيق.
في الداخل، كان إكرام يراقبها بعينيه حتى اختفى ظلها خلف الباب. تردّد لحظة، ثم اندفع خلفها وكأنه يريد أن يسأل شيئًا… أو أن يعترف بشيء.
لكنه ما إن اقترب من الباب، حتى تجمّد في مكانه، حين التقط أذنه حديثًا متوترًا بين إليزا وعزيزة، لم يكن له أن يسمعه… لكنه أنصت.
كانت عزيزة تنتظر بالخارج، تسير ذهابًا وإيابًا بقلقٍ واضح، كأنها تتصارع مع نفسها، تقبض على كفيها وتفتحهما في عصبية. وما إن رأت إليزا، حتى بادرتها هذه الأخيرة بنبرة حازمة، ناعمة كحد السيف:
“ما الذي جعلكِ تصرخين بوجه المريضة؟ هل فقدتِ أعصابكِ تمامًا؟”
ردّت عزيزة بسرعة، والغضب المكبوت يتسرّب إلى نبرتها كاللهب تحت الرماد:
“إنها تتصرف كالأطفال! تتهمني أنني أحاول التخلص منها… بالله عليكِ، هل تصدقين هذا؟!”
أجابت إليزا بهدوءٍ فيه شيء من الحكمة والمواساة:
“عندما يكبر الإنسان، يعود كالطفل… يرفض الدواء، ويشكّ بكل شيء. لكن هذا لا يبرر الصراخ في وجه مريضة، خاصة في حالتها.”
ثم نظرت إليها بدقة، نبرة صوتها انخفضت، وصار السؤال أكثر حميمية وقلقًا:
“ماذا يجري معكِ يا عزيزة؟ تبدين مرهقة جدًا… هل هناك ما تخفينه؟”
خلف الباب، ظل إكرام واقفًا، قلبه ينبض بسرعة، وهو يستمع لتلك النبرة المختلفة التي خرجت من عزيزة… نبرة لا تشبه التي عرفها قبل دقائق.
وفجأة، لم تعد عزيزة قادرة على التماسك. انفجرت بالبكاء أمام إليزا، كأن دموعها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ أيام. قالت بصوت مخنوق، تتهدّج فيه كل كلمة:
“لا أعلم ماذا أفعل! كل شيء ينهار من حولي… كل شيء!”
تقدّمت إليها إليزا خطوة، نظرتها امتلأت بالحذر والقلق:
“ماذا تعنين؟ هل هناك مشكلة؟”
مسحت عزيزة دموعها المرتجفة بكفّها المرتبك، ثم تمتمت، وكأنها تُخرج سرًا أثقل كاهلها:
“نعم… هناك مشكلة كبيرة. قبل قليل، اتصلت بي أمي… قالت إن صاحب الشقة طردهم، وغير القفل… لأنني لم أدفع الإيجار منذ شهرين. حاولت التوسل إليه، لكن… لم يُرد أن يسمعني حتى.”
صمتت إليزا للحظة، والصدمة ارتسمت على ملامحها:
“ماذا؟! كيف يجرؤ على فعل ذلك؟ هذا تصرّف غير إنساني!”
انهارت عزيزة أكثر، وكأن كلمات إليزا كانت الشرارة التي حرّكت ألمها من جديد:
“لا أعلم ماذا أفعل… أخبريني أنتِ، بالله عليك، ماذا أفعل؟!”
نظرت إليها إليزا بثباتٍ ودفءٍ في آن، مدّت يدها وربتت على كتفها بحنان، وقالت بصوت مطمئن كضوء صغير في عتمة اليأس:
“لا تقلقي. بيتي مفتوح لكِ ولعائلتكِ. يمكنكِ البقاء معي حتى تجدي حلاً. لن تواجهي هذا وحدك.”
رفعت عزيزة نظرها إليها بذهولٍ لا يُصدّق، والدموع ما زالت تنزلق على خديها:
“ماذا؟ هل… هل تمزحين؟”
أجابت إليزا بحزمٍ دافئ:”لا، لست أمزح. أنا جادة تمامًا.”
ثم أضافت، وهي تنظر إلى عينيها بثقة صادقة:
“أين عائلتكِ الآن؟”
همست عزيزة، وصوتها يرتجف وكأنها تعترف بعجزها لأول مرة:
“إنهم… يجلسون على الدرج خارج العمارة. لا يعرفون إلى أين يذهبون…”
بدون أن تتردد، أخرجت إليزا مفتاح سيارتها من جيب معطفها، ووضعته في يد عزيزة، وقالت بحزم ناعم:
“خذي هذا المفتاح. اذهبي إليهم، واصحبيهم إلى منزلي. هناك كل ما يحتاجونه. ثم عودي إليّ فورًا.”
عزيزة: بتردد، وكأنها لا تصدّق ما تسمع تريدين مني أن آخذ عائلتي إلى منزلك؟
إليزا: بجدية وحنان لا تخفيه : نعم، وهل لديكِ حلٌّ آخر؟ تعلمين أنني أعيش وحدي منذ وفاة جدتي… يمكنك البقاء معي حتى نجد مخرجًا.
عزيزة: بعينين متسعتين، تكاد الدموع تتجمع فيهما ،أنتِ لا تمزحين… أليس كذلك؟
إليزا: بابتسامة خفيفة، تخفي وراءها قلقًا دفينًا :كلا، لا أمزح. هيا، لا تتأخري. سأتصل بالعم عمر وأطلب منه أن يفتح لكم الباب.
عزيزة: وقد بدا عليها الحذر ،ومن يكون العم عمر؟
إليزا: بصوت منخفض يحمل وجعًا قديمًا
قصته طويلة… باختصار، هو رجل عجوز تخلى عنه أبناؤه عندما كبر، وترَكوه يواجه الشيخوخة وحيدًا.
عزيزة: بنظرة مفعمة بالتعاطف هذا محزنٌ حقًا…
ثم مدت يدها وأخذت المفتاح من إليزا، قبل أن تعانقها بحرارة.
عزيزة: شكرًا… شكرًا لكِ من كل قلبي!
ركضت نحو الباب وغادرت مسرعة.
جلست إليزا بعدها بصمت، في ركن المقهى المعتاد، تحتسي قهوتها ببطء. عيناها تراقبان الشارع من خلف الزجاج، كأنها تبحث فيه عن شيءٍ ما… أو أحد.
بعد وقتٍ قصير، عادت عزيزة، تتنفس بعمق وكأنها وضعت همًّا عن كتفيها، وجلست أمامها مباشرة.
إليزا: وقد ارتفعت حاجباها دهشة ،عدتِ بهذه السرعة؟
عزيزة: بابتسامة يغلبها الامتنان : نعم… كل شيء سار على ما يرام. شكرًا لك مجددًا، لن أنسى هذا المعروف ما حييت.
إليزا، بابتسامة دافئة تملأ وجهها:”نحن صديقتان يا عزيزة… وهذا أقل ما يمكنني فعله.”
عزيزة، بعينين مشعتين بالإصرار:”أعدكِ، سأجد حلًا في أقرب وقت. لا يمكنني أن أكون عبئًا عليكِ.”
إليزا، وقد تبدّلت نبرتها إلى حزم مفاجئ:
“لا، لن تبحثي عن أي حلول. غدًا نذهب سويًا وندفع الإيجار، وبعدها ستنتقلين للعيش معي. الأمر محسوم.”
عزيزة، بذهول لا تُخفيه:”ماذا؟! إليزا أنتِ جادّة؟”
إليزا : بعينين لا تقبلان الجدل:”لن تذهبي أنتِ أو عائلتك إلى أي مكان. رأيتِ البيت… واسع وكبير، وأنا أعيش فيه وحدي. لا جدال بعد الآن.”
عزيزة : وقد ارتسمت على وجهها ملامح امتنان صادق:
“أنا محظوظة حقًا… لأن لديّ صديقة مثلك.”
إليزا، ضاحكة بخفة وهي تهزّ رأسها:”أنتِ تبالغين الآن!”
لكن قبل أن تُكمل عبارتها، تلتفت عزيزة فجأة، وكأن ظلًّا مرّ أمام عينيها، وتتسع عيناها بدهشة حذرة.
بصوت خافت، قالت وهي تُحدّق:”إنه… إنه قادم نحونا!”
إليزا، تلتفت بتلقائية:”من؟”
عزيزة، تهمس وهي ما تزال مذهولة:”السيد أكرم.”
إليزا، تعقد حاجبيها باهتمام:”السيد أكرم؟ من يكون؟”
عزيزة، وقد نظرت إلى إليزا بصدمة خفيفة:”أنتِ لا تعرفينه؟!”
إليزا، باستهجان صادق:”وهل يجب أن أعرفه؟”
عزيزة، تضحك بسخرية ممتزجة بالدهشة:”في أي عالم تعيشين، من لا يعرف عائلة زيدان؟ أشهر عائلة في المدينة! إنهم لا يُشبهون أحدًا… والسيد أكرم؟ قصة وحده.”
إليزا: تفكر قليلاً، وكأن الاسم مرَّ عليها وقالت سمعت بهذا الاسم من قبل… رجل أعمال، أليس كذلك؟
عزيزة: مندهشة أنتِ حقاً لا تعرفينه؟
إليزا: بلا مبالاة وما الأهمية؟
عزيزة : تتنهد بأسف مصطنع للأسف… إنه متزوج.
إليزا: بضحكة خفيفة لا تكوني سخيفة.
عزيزة: بهمس وكأنها تكشف سراً رغم أنني سمعت أنه منفصل حالياً عن زوجته.
إليزا: بدهشة كيف عرفتِ ذلك؟
عزيزة: بفخر عندما يكون الشخص مشهوراً، يسهل عليك معرفة حياته الشخصية.
إليزا : بجدية أو… ربما تقصدين التدخل في حياته الشخصية.
عزيزة : تدافع عن نفسها هم من يجعلون حياتهم كتاباً مفتوحاً للجميع! وفجأة يظهر أكرم، منشغلاً بهاتفه، لم يلاحظ وجودهما.
عزيزة : تنهض بسرعة، تقف في طريقه معتذرة آسفة يا سيد أكرم.
أكرم : يضع هاتفه في جيبه، يرفع عينيه نحو إليزا بابتسامة باهتة لقد اعتذرت صديقتك نيابة عنك، وقد قبلت الاعتذار.
عزيزة. : بتوتر شكراً، أعدك أنه لن يتكرر.
أكرم : بتفهم لا بأس، كلنا نمر بظروف صعبة أحياناً.
عزيزة : بامتنان شكراً على تفهمك.
أكرم : بلطف على الرحب والسعة. ثم يمضي في طريقه، بينما تعود عزيزة إلى مقعدها، تتنفس الصعداء. مرادفة بتنهيدة شكراً.
إليزا : بفضول على ماذا؟
عزيزة : تبتسم بخجل لأنكِ اعتذرتِ له نيابة عني.
إليزا : ببساطة لا داعي للشكر. ثم تضيف بابتسامة هل تناولتِ الإفطار؟
عزيزة : بضحكة متعبة في الحقيقة، أنا أتضور جوعاً! لكن ليس لدي وقت، يجب أن أعود للعمل.
إليزا: بتفهم حسناً، أراكِ لاحقاً. تنهض عزيزة بسرعة وتندفع عائدة إلى الداخل. بينما إليزا جالسه في كافتريا مستمتعة بقهوتها، يظهر فجأة سلطان، يسحب كرسياً بجانبها ويجلس بكل ثقة.
سلطان : بابتسامة مطمئنة مرحباً، إليزا.
إليزا : بلا مبالاة مرحباً.
سلطان : ذهبت إلى مكتبكِ ولم أجدك، أخبرتني عزيزة أنك هنا.
إليزا : بقلق طفيف هل كل شيء على ما يرام؟
سلطان : بجديّة أريد التحدث معكِ بخصوص موضوع مهم جداً.
إليزا : بتوتر حسناً، أنا أستمع.
سلطان : يخفض صوته ليس هنا.
إليزا : بفضول يزداد ما هذا الموضوع الذي لا يمكنك التحدث فيه هنا؟
سلطان : بتوسل أرجوكِ…
إليزا : صمتت للحظة، ثم قالت بنبرة تمزج بين الريبة والانجذاب”وأين تريد أن نتحدث؟”
سلطان : ابتسم، تلك الابتسامة التي طالما أربكتها، وقال بنبرة خفيفة:
سلطان: “ما رأيك أن نلتقي لاحقًا في المطعم المعتاد؟”
رفعت حاجبها، وابتسمت بسخرية خفيفة:
إليزا: “هل هذا… موعد؟”
ضحك بخفة:سلطان: “شيء من هذا القبيل.”
لكنها أشاحت بنظرها، وقالت ببرودٍ متعمَّد: “لا أعتقد أن هذه فكرة جيّدة.”
سلطان : يخفض رأسه أعلم أنكِ غاضبة مني لأنني لم أكن صريحاً معكِ، لكن صدقيني… الموضوع انتهى بالنسبة لي.
إليزا : بجفاف لا يهمني.
سلطان : يعود بعينيه إليها متفائلاً هل اتفقنا؟
إليزا : بلامبالاة على ماذا؟
سلطان : بثقة أن نلتقي لاحقاً.
إليزا : بتردد سأرى إن كنت أستطيع ذلك.
سلطان : بتوسل آخر أرجوكِ.
إليزا : بحزم لن أعدك بشيء.
سلطان : بنبرة جدية طالما أنكِ مصرة… قررت أن أفتح عيادة خاص بي، وأريدكِ معي.
إليزا : بدهشة لم تستطع إخفاءها عيادة؟!
سلطان : بهدوء وثقة : نعم، لهذا السبب أردتُ أن آخذ رأيكِ في الأمر.
إليزا : تفكر للحظة، قبل أن تعقد حاجبيها قليلًا: أعتقد أن الفكرة رائعة، لكن…
وقبل أن تكمل، ينطلق جهاز التنبيه الطبي المثبت على معطفه الأبيض، ليقطع حديثهما فجأة. يحدق سلطان في الجهاز لثوانٍ قبل أن يرفع رأسه بملامح جادة، ثم يقف بسرعة ، بلهجة مستعجلة ، يجب أن أذهب، أراكِ لاحقًا.
لم يمنحها فرصة للرد، إذ انطلق مسرعًا نحو قسم العمليات، تاركًا وراءه صدى خطواته على الأرضية اللامعة. أما إليزا، فراقبته للحظات قبل أن تزفر أنفاسها بهدوء، ثم عادت إلى عملها، تحاول أن تزيح التفكير في أمره جانبًا.
يمر الوقت سريعًا، وحين تدق الساعة الثالثة، تنهي إليزا دوامها قبل صديقتها عزيزة. تغلق جهاز الحاسوب الخاص بها، ترتب بعض الأوراق على مكتبها، ثم تلتقط حقيبتها وتخرج باتجاه المصعد. ما إن تصل إليه، حتى تسمع صوت خطوات مألوفة خلفها، فتستدير لتجد سلطان يلحق بها بعد أن أنهى دوامه هو الآخر.
سلطان : بفضول، وهو ينظر إليها بطرف عينيه هل أنتِ ذاهبة إلى المنزل؟
إليزا : تبتسم بتعب وهي تضغط زر المصعد: نعم.
سلطان : مبادرًا، وهو يضع يديه في جيب معطفه : هل تسمحين لي أن أوصلكِ؟ طريقي يمر من هناك.
إليزا : تبتسم بخجل، ثم تهز رأسها بأسف : يا ليت… لكن يجب أن أنتظر عزيزة.
سلطان : يضيق عينيه قليلاً قبل أن يضحك ساخرًا آه،صحيح… نسيت ذلك.
إليزا : بابتسامة خفيفة لا بأس.
يحدق بها سلطان للحظة، وكأنه يراقب ملامحها عن كثب، ثم يرفع حاجبه قليلًا قبل أن يسأل بنبرة هادئة: هل أنتِ بخير؟
إليزا : بصوت خافت، بالكاد يسمع نعم.
سلطان : يعبس قليلاً وهو يراقبها بقلق تبدين مشغولة البال.
إليزا : تزفر بهدوء، قبل أن تهمس بصوت تعب: ربما… فقط مرهقة قليلاً.
يحدق فيها لثوانٍ، وكأنه يحاول قراءة ما لم تقله كلماتها، لكنه لا يُطيل الوقوف. يزفر بخفّة، ثم يلوّح لها بإيماءة صغيرة قبل أن يغادر باتجاه مرآب السيارات.
أما إليزا، فتجلس داخل سيارتها تنتظر عزيزة، لكنها لا تلبث أن تغمض عينيها لبرهة، تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. تلقي نظرة خاطفة حولها، ثم تستند برأسها إلى المقعد، تشعر وكأن ثقلًا ما يسكن داخل صدرها، لكنها لا تملك ترف الغوص في التفكير الآن….
يتبع
• تابع الفصل التالى ” رواية التوأم والسحر الأسود ” اضغط على اسم الرواية