رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثانى والاربعون 42 – بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثانى والاربعون 42 – بقلم نعمة حسن 

_٤٢_

~ دروب مأهولة بالأشواك ~

_________

بعد مرور أسبوع..

كانت فريال تستعد للخروج من شقتها حيث اتفقت مع فتون على الذهاب إلى أحد مراكز التجميل لإجراء جلسة شد تجاعيد حول العين بعدما نجحت فتون أخيرا في إقناعها للقيام بهذه الخطوة.

التقطت حقيبتها وخرجت وأوصدت الباب وبينما كانت منشغلة بتفحص حقيبتها اصطدمت فجأة بشخصٍ ما، فرفعت عينيها بتحفز لتتفاجئ بالدكتور ممدوح الذي كان مبتسمًا ببشاشة وقال:

_ مرحبا فلة. كيف حالكِ عزيزتي؟

ارتبكت وتوترت، ابتلعت ريقها وهي تشعر بالدماء وقد فارت بعروقها، ثم رفعت يدها إلى جبهتها تلقائيا وهي تنظر إليه بتوتر وقالت:

_ هل عدت ؟

أومأ ضاحكا وقال:

_ أجل. عدتُ للتو. 

واقترب منها خطوةً وأردف:

_ اشتقتكِ كثيرا.

اهتز بدنها وارتجف قلبها بشدة ولكن غضبها وحقدها عليه كان أكبر فنظرت إليه مستجمعة كل قوتها وحنقها منه وقالت بنبرة جامدة لا حياة فيها:

_أراك وقد عدت بدون العروس ؟! عساه خيرا ؟!

أومأ مؤكدا وقطب جبينه باستغراب وقال:

_ صحيح، ولمَ عليّ أن أصطحبها إلى هنا؟ 

رفعت حاجبها باستهجان وقالت:

_ ولمَ عليك أن تتركها هناك بمفردها؟ 

مط شفتيه بتعجب أكبر وقال:

_ ليست بمفردها، …

وقبل أن يستكمل حديثه ظهرت فتون التي كانت في كامل أناقتها وما إن رأت الدكتور حتى ابتسمت بمجاملة وهي تحاول إخفاء ضيقها منه وقالت:

_ حمدا لله على سلامتك دكتور.. لقد أنَرتَ العمارة.

نظر إليها ممدوح مبتسما بدوره وقال وهو يصافحها بود:

_ أشكرك سيدتي. على ما يبدو أنكما تستعدان للخروج، لذا لن أؤخركما.. عن إذنكما.

انصرف ممدوح بعد أن اختلس نظرةً نحو فريال التي أجفلت فور أن التقت أعينهما وأشاحت ببصرها بعيدا متصنعةً تجاهله، ثم نزلت الدرج هي وفتون وهما تتحدثان سويا فقالت فتون:

_ يا إلهي، يبدو مرهقا جدا، وكأن الزواج لم يلائمه أبدا.

كانت تلك الكلمات كالوقود الذي ألهب نيران الأخرى فأجابت بغضب أعمى وصوت حاد:

_ ذلك لأنه تزوج في سنه هذا من فتاة في عمر ابنه. بالتأكيد لن يواتيه الزواج. 

_ مسكين. ولكن أين هي زوجته؟ لدي فضولا جامحا حول رؤيتها.

نظرت إليها فريال نظرة ألجمت لسانها، وفتحت باب السيارة بصمت واستقلت مقعدها خلف المقود، ثم ركبت فتون بجوارها وهي تقول:

_ أنا لا أقصد مضايقتك فلة، على كل حال دعينا ننسى هذا الموضوع تماما. نحن الآن لدينا خططا كثيرة من شأنها أن تنسينا ما حدث منذ قليل، لدينا موعدا مع طبيب التجميل، وبعدها سنذهب للصالة الرياضية لكي نخرج جميع طاقتنا ونحرق كل همومنا بشكل جيد، وبعدها سنذهب لنرفه عن نفسنا قليلا ونتناول مشروبا باردا. نحن على موعد مع السعادة يا فتاة.

ابتسمت الأخرى بتهكم وأجابت بإحباط صرف:

_ أخطأتِ يا فتون، من نكون نحن حتى نواعد السعادة؟ نحن لا نواعد سوى الأحزان والهموم فقط.

ضربت الأخرى جبهتها بكفها بيأس وهي تردد :

_ يا إلهي، لقد عانيتُ حتى انتشلتها من حالة الاكتئاب التي غرقت بها لأسبوع كامل وبالكاد كنا نسير نحو طريقٍ يبعث على التفاؤل؛ فجاء طبيب الغفلة هذا وظهر أمامها ليعيدنا عشرات الخطوات حيث كنا من جديد ويضيع مجهودنا سدى. أشكو إليك قلة حيلتي يا الله.

__________

كانت تقبع فوق فراشها باستسلام، شاخصةً ببصرها في الفراغ من حولها، ليس فراغا ماديًا فحسب بل فراغًا معنويًا كذلك. فغياب قاسم عنها كان بمثابة غياب الروح عن الجسد تماما. منذ ذلك اليوم الذي قرر أن يغيب عنها بمحض إرادته الحرة وهي تعاني ، تبكي كل ليلة في صمت وتذرف كل الدموع حتى إذا ما أصبح صباح اليوم التالي ارتدت قناع الصلابة والجمود.

وحدهُ والدها هو من كان يعرف أن ذلك التماسك ليس حقيقيا، وإنما هو مجرد قناع مزيف تخفي خلفه انهيارها. أما والدتها فكانت تراقب ذبولها بصمت، ليس لأنها غير قادرة على عتابها ولومها والدخول معها في مشاحنات فارغة، ولكن لأنها تشفق على حالها أكثر من ذي قبل. وتلك الشفقة الجديدة على مشاعرها هي التي تمنعها من الخوض في تفاصيل ما حدث. على الأقل في الوقت الحالي.

_ حياة، ألن تتناولي فطورك حبيبتي؟ على الأقل من أجل طفلك.

تحدثت صفية بتلك الكلمات للمرة التي لا تعرف عددها، في محاولة بائسة منها لإقناع ابنتها لكي تتناول فطورها الذي تحمله منذ ساعة تقريبا، وعندما يئست من استجابة حياة نهضت وهي تحمل الصينية وخرجت من الغرفة في اتجاه المطبخ، وضعت الصينية ثم اتجهت نحو غرفة صالح الذي كان يجلس مهموما كذلك وقالت بغضب مكتوم:

_ هل هذا الحال يرضي الله ورسوله ؟ ابنتك تموت بالبطيء يا رجل! إلى متى سننتظر؟! 

نظر إليها بقلة حيلة عاقدا كفيه في تأمل، ثم تنهد بضيق وقال:

_ استدعِ حنان..

وقبل أن يستطرد قاطعته بحدة غاضبة وانفعال فقالت:

_ لن أتصل، ولا أريد رؤية وجهها ولا وجه أخيها مدى الحياة، أساسا هو سبب كل المصائب التي نزلت بابنتي. 

_ لا حول ولا قوة الا بالله.. عدنا لنفس النقطة.

_ نعم سنعود سيد صالح، إن لم يفكر ابن أخيك بأنانية ورعونة ويفعل ما فعله لما وصلت ابنتي لتلك الحالة أبدا. قم وانظر بنفسك. الفتاة تذبل أمام أعيننا يا صالح، تمتنع عن الأكل وأخذ أدويتها، لا شيء يجدي نفعا معها، لا توسل ولا بكاء ولا استعطاف، حتى جنينها لم يعد فارقا معها. قل لي يا صالح ما ذنب ذلك الجنين الذي سيموت في أحشائها بسبب حالتها تلك!!

نظر إليها محذرا بغضب وقال:

_ اصمتي يا صفية، اخفضي صوتك لكي لا تسمعك، ولا تلفظي ذلك اللفظ أبدا مهما حدث.

تهدل كتفيها بإحباط، ونظرت إليه بعجز ثم انفجرت باكية فجأة وهي تردد:

_ ابنتنا مسكينة يا صالح، إن رأيتها ستشفق عليها وستلعن غباء الغبي ذاك وتهوره، هل أُخبرك؟ ستلعن نفسك أيضا لأنك شجعته على قراره الملعون هذا. 

طأطأ رأسه أرضًا وللحظة شعر بوخز الضمير، ورق قلبه من أجل صغيرته، ولكنه لم يكن لينولها مرادها أبدا فنظر إليها محتدًا وقال:

_ لا، لن أندم أبدا، ما فعله قاسم هو عين العقل، والمفترض أن تكون ابنتك أكثر صلابة وتحملا لأنها تعرف منذ البداية ما كانت مقبلة عليه، خذيني إلى غرفتها حالا.

ساعدته حتى جلس على كرسيه المتنقل ثم ذهب إلى غرفة حياة، دخل وعينه مثبتة عليها وهي ترقد على فراشها مغمضةً عينيها فهمس إلى زوجته قائلا:

_ إنها نائمة، لا داعي لإزعاجها.

نظرت إليها صفية وقالت:

_ لا، هناك داعيا بالطبع، لا بد أن تتناول فطورها وأدويتها، علينا أن نجبرها إن لزم الأمر.

سار حتى استقر بجوار الفراش وظل ينظر إليها بشفقة وحزن شديد فقالت زوجته :

_ أرأيت؟ ابنتنا الزهرة الجميلة التي كان يقسم الجميع بجمالها، تحولت لشبح، لمجرد أنه غاب عنها لأسبوع تحولت لشبح، بالله عليك أخبرني كيف ستتحمل الستة أشهر الباقية حتى يخرج بسلامته من السجن؟ 

نظر إليها بتحذير مجددا وقال:

_ لا داعي لذكر تلك السيرة مرارا وتكرارا يا صفية، لديها ما يكفيها فلا تزيدي، هوني عليها إن استطعت وإن لم تستطيعي  فلا تزيدي همومها.

ومد يده يربت بها فوق كفها الممدودة بجوارها وهو يقول بحنو:

_ حياة، حبيبتي.. لقد شعرتُ بالجوع وجئت لأتناول فطوري معكِ، حياة .

لم تحرك حياة ساكنا، وكأنها لم تشعر بيده الموضوعة فوق يدها وتهزها فهزها مجددا بقوة أكبر وهو يقول:

_ ابنتي، لدي الكثير الذي أود الحديث معك حوله، وكما تعرفين لا أحد يفهمني مثلك، هيا حياة دعينا نتكلم ونحن نتناول فطورنا بالشرفة كما كنا نفعل سابقا وأنتِ طفلة.. حياة.

لم تجب فنظر إلى صفية مستفهما فبادلته النظر بقلق واقتربت من حياة وهي تهزها وتقول بصوت عال:

_ حياة، هيا حبيبتي.. حياة، ألا تسمعيننا؟ حياااااة…

تحركت حياة كالخرقة البالية بيديها فصرخت بفزع وهي تنادي باسمها وتقول:

_ حياة، ما بكِ حبيبتي ؟ هل تسمعينني؟

هدر صوت صالح مفزوعا :

_ أبلغي الطبيب حالا..

أمسك بيدها وأخذ يربت عليها بينما هرعت صفية نحو الخارج لكي تقوم بالاتصال بالطبيب الخاص بحياة وأبلغته بما حدث، ثم هرولت إلى الغرفة مجددا وجلست بجوار حياة وهي تبكي وتقول:

_ حياة حبيبتي ، ماذا بكِ يا أمي؟ صالح.. ماذا بها ابنتي؟ 

كان صالح يذرف الدموع وهو يمسح على شعرها وجسدها ويردد الرقية الشرعية بهمس من بين بكائه، بينما صوت بكاء صفية وانهيارها يعرقل انتباهه فكانت تقول:

_ هل أتصل بعزيز؟ هل أخبره لكي يطلب الإسعاف ؟ أخشى أن يتأخر طبيبها. هل أعد لها الماء المحلى، أم أنه لا يلائم وضعها، أخبرني صالح لماذا أنت صامت؟ حياة حبيبتي.. أجيبيني حبيبتي رجاءً.

عندما استمعت لجرس الباب كانت قد وصلت فورا وفتحت الباب بلهفة فأسرع الطبيب إلى الغرفة وبدأ بفحصها فورا بينما صفية تقف في الخلفية تردد على مسامعه آخر تطورات حالتها في الأيام القليلة الماضية وامتناعها عن تناول الطعام والأدوية، ولم تنسَ أن تخبره عن زوجها الفاشل عديم الإحساس بالمسؤولية الذي تخلى عنها في ظل ظروفها العسيرة تلك، وبينما هي تثرثر وتثرثر كان الطبيب قد أخرج من حقيبته محلولا وقام بحقنه في وريدها ثم قال:

_ الموضوع ليس خطيرا الحمد لله، الإغماء بسبب نقص التغذية والامتناع عن الطعام وتناول الأدوية كما قلتِ، لذا قمت بإعطائها محلولا مغذيا عِوضًا عن التغذية التي تحتاج إليها ، بمجرد أن يستقر معدل السكر في الدم ستبدأ باستعادة وعيها.

تمتم صالح يحمد الله فقالت صفية:

_ هل حالتها تلك بسبب سوء التغذية فقط ؟ أليس السبب هو الضغط النفسي الذي تعيشه.

مط الطبيب شفتيه بعملية وقال:

_ أكيد، على حسب قولك فالضغوط النفسية والعصبية التي تعيشها شكلت عاملا أساسيا في الوصول لحالتها تلك. 

نظرت صفية إلى زوجها وقالت:

_ أرأيت، هذا يعني أنه السبب وليس غيره.

هز صالح رأسه بيأس ونظر إلى الطبيب وقال:

_ وما العمل دكتور؟ بماذا تنصحنا حتى نستطيع انتشالها من تلك الحالة البائسة ؟

_ من الضروري أن تساعدونها على الاستجمام والاسترخاء والبعد عن البيئة المليئة بالتوتر والضغوطات لفترة لا بأس بها، ومن الضروري كذلك واللازم أن تلتزم بدوائها والتغذية السليمة حتى وإن اضطررتم إلى محايلتها كالأطفال.

بدأت حياة تستعيد وعيها شيئا فشيئا ، فتحت عينيها فهرولت نحوها أمها وجلست بجوارها وهي تقول:

_ حياة، هل أنتِ بخير الآن حبيبتي ؟

أومأت حياة بهدوء، ونظرت إلى الطبيب الذي يجلس بالقرب منها بتعجب وقطبت جبينها بتعب فقال:

_ حمدا لله على سلامتك حياة، لقد تعرضتِ للإغماء نتيجة لتعمدك الامتناع عن تناول الغذاء والدواء ، للأمانة العلمية علي أن أخبرك أن سوء التغذية ليس مضرًا بصحة الحامل والجنين فقط ، لا. إنه مضر بصحة الطفل فيما بعد كذلك ومن الممكن أن يعاني الطفل فيما بعد من عدة اضطرابات منها فرط الحركة وتشتت الذهن. ودائما تذكري أن جنينك هذا أمانة برقبتك. وعليكِ أن تصوني الأمانة.

ونهض بعد أن وصف لها عدة مقويات وعددا من المحاليل المغذية كي تستطيع تخطي تلك الوعكة وانصرف بعدما تمنى لها السلامة.

_____________

_ كفاكِ حنان، منذ الصباح وأنتِ تبكين.. يا إلهي لم أكن أعلم أنكِ قد تعلقتِ به بهذا القدر!

قالها عزيز وهو يحاول مواساة زوجته التي تبكي بحرقة بين ذراعيه كما لم تبكِ من قبل، ثم ربت على ظهرها وقال:

_ حبيبتي حنونة، لا زال لدينا كريم، أقصد أننا لن نكون وحيدين. وبالنسبة لصبر سأتحدث مع حسان وأخبره أن يحضره دوما لزيارتنا، في النهاية الطفل يحبنا ويحب كريم كذلك ولن يطيق البعد عنا. أرجوكي كفى.

_ تعلقتُ به كثيرا يا عزيز، لماذا يحدث معي كل هذا، هل أنا سيئة بهذا القدر؟ كلما أحببت شيئا فقدته.

ضمها إليه بقوة أكبر وقبّل أعلى رأسها وهو يقول:

_ لا حبيبتي ، أنتِ أجمل امرأة في الوجود، كل ما يحدث معنا ابتلاءات والله إذا أحب عبدا ابتلاه. لا تحزني حنان سيعوضنا الله.

هدأت قليلا، كفكفت دموعها ومسحت آثار البكاء عن وجهها ثم نظرت إليه وقالت:

_ إن شاء الله ، علينا أن نجلس مع صبر الدقائق المتبقية قبل وصول حسان. هيا بنا.

خرجا من غرفتهما واتجها نحو غرفة صبر ليستمعا إليه وهو يتحدث مع كريم بحماس ويقول:

_ أنا سعيد للغاية يا صديقي، لا أتخيل أنني بعد دقائق سأرى أبي بعد كل هذا الغياب. 

نكس كريم رأسه أرضًا بحزن وقال:

_ أنت محظوظ يا صبر لأنك سترى والدك الذي عاد من السفر، أما أنا فوالدي لن يعود أبدا.

زم الطفل شفتيه بأسف طفولي وربت على كتفه بدعم وقال:

_ ولكن والدتك ستعود، أنت لازلت تملك أمًا، نحن متعادلين يا صديقي. أنا فقدت أمي منذ الصغر ولكن والدي لازال معي، وأنت فقدت والدك ولكن والدتك موجودة. أرأيت كيف أننا متعادلين؟!

أومأ كريم بموافقة وقال بأسف صادق وتأثر حقيقي:

_ ولكني سأصبح وحيدا بدونك.

ابتسم صبر وقال:

_ لن أغيب، ستجدني موجودا هنا باستمرار وأنت أيضا ستأتي إلى بيتي، لا بد أن أعرفك بأبي، ستحبه كثيرا.

نظر كلا من حنان وعزيز إلى بعضهما البعض بابتسامة وصدح صوت عزيز قائلا:

_ هل حزمت أمتعتك يا فتى؟ أراك وقد جمعت أغراضك كلها. على الأقل دع لنا شيئا كتذكار منك أيها النذل.

ابتسم صبر ابتسامة عريضة وقال بحماس:

_ لن أغيب طويلا، لذا لا داعي للتذكار لأنكم لن تحتاجون إليه.

ضحكت حنان واقتربت منه ثم عانقته وقالت:

_ سأشتاقك كثيرا يا صبر.

نظر إليها الطفل مبتسما وقال:

_ وأنا لن أشتاقك.

نظرت إليه بصدمة فقال :

_ والسبب أنني كل يوم سأنظر إلى صورتك تلك.

وأخرج إطارًا خشبيًا صغيرًا يضم صورة حنان وطفلتها ” أسيل ” وقال:

_ أنا آسف، لقد أخذت الصورة بدون استئذان ، ولكني كنتُ أعرف أنكِ لن تمانعي ، سأتأمل صورتك أنتِ وابنتكِ الجميلة كل يوم قبل النوم. وسوف أدعو الله أن تنجبي طفلة جميلة مثلها مجددا لكي أتزوجها عندما أصبح شابًا.

ضحك عزيز ملء فمه وعبث بمقدمة شعره بينما ضمته حنان إليها وانفجرت باكية وقد حرك الساكن بأعماق قلبها.

ارتفع رنين جرس الباب فقفز صبر من بين ذراعي حنان وقال بفرحة عارمة:

_ إنه أبي.

ركض مسرعًا نحو الباب وفتحهُ وما إن رأى والده أمامه حتى قفز فوقه وهو يصرخ بحماس ويقول:

_ وأخيرا أبي، اشتقتك كثيرا.

ضمه حسان وأطبق ذراعيه حوله وهو ينتحب بصمت، وكلما حاول التكلم خنقتهُ العبرات فالتزم الصمت من جديد.. كان يضمه بين ذراعيه ويبكي ملتاعًا، لم يتخيل أن يكون اللقاء قريبًا بهذا الشكل، لقد كان مستسلما للأمر الواقع، مسلّما بحقيقة سجنه لثلاث سنوات ، ولم يتخيل أن يستجيب الله لدعواته ويفك أسره بهذه السرعة.

_ أبي، هل ستغيب مجددا؟ هل ستتركني وتسافر ثانيةً؟

هز حسان رأسه بالنفي وقال وهو يحاول كي يبرز صوته هادئا متزنا:

_ لا، لن أتركك مجددا أبدا حبيبي.

_ هل تعدني بذلك؟

_ أجل، أعدك.

عانقه صبر بقوة أكبر وهتف بحماس مشتعل:

_ يعيش بابا حسان، يعيــش.

كان الجميع يراقبون هذا اللقاء بفرحة ، حتى وإن اختلط بها الحزن والدموع ولكنها تبقى فرحة صادقة من القلب. فرحة بجمع شملهما وفرحة من أجل فرحة الصغير.

تقدم عزيز من حسان وعانقه بحب أخوي لم يفتر، فلقد كان كلا من قاسم وحسان وعزيز أضلاعا ثلاثة لمثلث طالما عُرِف بمثلث الرعب. كانوا مشهورين بصداقتهم وحبهم لبعض البعض قبل أن تنقلب حياتهم رأسا على عقب بفِعل شيطانٍ حاقد. حقد على أخوتهم وصداقتهم ودس سمه بحياتهم وهدم الأضلاع الثلاثة لتتبخر أسطورة مثلث الرعب تماما وتحل محلها أسطورة أخرى، أسطورة شيطان الحدادين.

بعد دقائق من الترحيب والضيافة قرر حسان أن يستأذن هو وولده على وعد باللقاء مجددا في أقرب وقت.

ودعت حنان صبر بالدموع وأخذت منه ميثاقا بالعودة سريعا، بعدما أعطته وعدا بأنها ستنجب له عروسا في أقرب فرصة كما أخبرها قائلا:

_ لقد أحببتك كثيرا خالتي حنونة، شعرتُ أنكِ أمي وأنكِ تحبيننا كأنكِ أمنا فعلا. وعرفت من خلال حديثي مع كريم أن ابنتكِ الجميلة هذه توفت، لذا عديني إن أنجبتِ فتاة جميلة مثلها سأتزوجها أنا وبتلك الطريقة سنصبح أنسباء ولن أبتعد عنكِ أبدا.

حينها عانقته حنان ووعدته، وهي تدعو الله بسرها أن تتحقق أمنية ذلك الصغير وأن يمن الله عليها بطفل يعوضها غياب طفلتها أسيل.

وفي الختام عانق صبر عزيز وودعهُ قائلا:

_ أراك قريبا حمايا العزيز، اعتني بحماتي جيدا.

أوصد عزيز الباب وهو لازال يضحك من تصرفات الطفل وحديثه الذي يبدو أكبر من سنه للغاية، ووضع ذراعه على كتف كريم متنهدا ثم قال:

_ وأنت يا كريم، ألا تريد أن تتزوج من ابنتي المستقبلية ونصير أنسباء؟

نظر إليه كريم بعينين متحمستين وكأن الفكرة قد راقته وقال: 

_ بالطبع أريد، ولكن في هذه الحالة عليك أن تنجب فتاتين كي يتزوج صبر إحداهما وأتزوج أنا الأخرى.

أعجزه رده عن الكلام ونظر إلى حنان التي كانت تبكي وفجأة تحول نحيبها إلى ضحكات عالية وهي ترى الاندهاش باديًا في عين زوجها وهو يقول:

_ يا إلهي، إما أنهما ليسا طفلين ، أو أنا من لم أكن طفلا.

______________

كان قاسم يجلس بزنزانته يسبّح كما اعتاد منذ اليوم الأول الذي دخل فيه السجن، كما كان يفعل تماما في المرة الماضية. ولكن الفرق بين المرتين فرقا شاسعا، في المرة السابقة كان مظلوما، كان يواجه قسوة السجن ومرارة الظلم، لذا كانت الأيام تزحف زحفًا مميتًا، أما الآن فهو على اقتناع تام أنه يستحق ما هو عليه الآن، يستحق أن يواجه مرارة البعد عن زوجته وطفله، لذا قرر أن تكون تلك الستة أشهر فترة تقويم لأخلاقه، تقويم لنفسه التي اتبعت هواها وحادت به عن الطريق المستقيم. وقرر أن يجعل له وِردًا يوميا من التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن. واثقًا وموقنًا أنه الآن يضع قدمه على أعتاب الفلاح، وأنه سيبدل الدرب المأهول بالأشواك الذي اختاره بإرادته سابقا إلى درب مكلل بالنجاحات، درب تفوح منه رائحة الحب والخير.

انفرج الباب الحديدي محدثًا صريرًا عاليًا ودخل حارس الزنزانة الذي نادى باسمه وقال:

_ قاسم الحداد، زيارة بمكتب المأمور.

أدرك قاسم أنه المحامي أو السيد أكثم، لم يتوقع زيارة حياة بالرغم من أن قلبه كان يتمناها بشدة، ولكنه يعرفها. يعرف حبيبته العنيدة جيدا. كما وعدته ستفي بوعدها. 

___ استرجاع زمني ___

وقف مكتوف الأيدي، ينظر إليها بعد أن سقطت مغشيا عليها بدون استيعاب، وكأنه لم يعِ ما حدث للتو ولم يره، التفوا حولها جميعا وهم يحاولون إفاقتها ولم يتحرك إلا عندما صرخت به شقيقته لكي يقترب؛ فاقترب مسرعا وكأنه تحرر من غفلته للتو، جثا على ركبتيه أمامها وأخذ يربت على خدها برفق وهو يقول:

_ حياة، أفيقي حبيبتي.. فليساعدنا أحدكم .

صرخ بالأخيرة بفزع وهو يضمها إلى صدره بخوف لم يسبق له مثيل، فشعر بها وهي تحرك رأسها بين ذراعيه فنظر إليها متلهفًا وقال:

_ كيف تشعرين، هل أنتِ بخير الآن؟ أخبريني بماذا تشعرين؟

تفاجأ بنظرتها الغاضبة، نظرة يفوح منها اللوم الصارخ، ودفعته بيدها بعيدا عنها بقوةٍ واهية وقالت:

_ لا تسأل، ليس من شأنك، طالما أنك تخليت عني بهذا الشكل وفكرت بأنانية فليس لك الحق أن تسأل عما أشعر به.

نظر إليها متعجبا وقال:

_ أنا آسف حياتي، أعرف أن تلك الخطوة ليست في الوقت المناسب لنا ولكنها في صالحنا تأكدي.

_ في صالح من؟ في صالحك أنت فقط يا قاسم المثالي، لا تتكلم عني مجددا لأنك لم تفكر بي وأنت تقرر قرارك هذا.

حاول تهدئتها فأحاط وجهها بكفيه فأبعدت يديه عنها وصرخت به بجنون:

_ لا تلمسني مجددا ، إياك.. أنت إنسان أناني ولم تفكر سوى بنفسك وبما سيجعلك راضيا وسعيدا، لم تفكر بنا أنا وطفلك وكيف أننا بحاجتك هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، أنت انتهيت من حياتنا يا قاسم. طالما أنك لم تجعلنا على رأس قائمة أولوياتك فنحن لن نجعلك جزءا من حياتنا أبدا. 

ذُهل قاسم من ردة فعلها وحديثها الذي يشبه الخناجر المسمومة التي تقذفها بوجهه، هم بالحديث ولكن العسكري أمره بالذهاب معه فورا، حاول إقناعه أن يمهله بعض الوقت ولكنه رفض، وأخرج الأصفاد وقام بوضعها بيده، حينها نظر قاسم إلى حياة وهو يتحرك قسرا برفقة العسكري وقال:

_ حياة، عديني أن تعتني بنفسك وأن تسامحيني.. عديني حياة.

نظرت إليه وهو يبتعد عنها ورأسه للخلف ونظره مثبت عليها وقالت بصوت عال حاد كي يصله بوضوح:

_ أعدك بألا ترى وجهي مجددا يا قاسم.

_______ عودة _______

خرج مع حارس الزنزانة إلى مكتب المأمور، دخل وكان الزائر كما توقع سيد أكثم. صافحا بعضهما البعض بحرارة وجلسا فترك المأمور لهما مساحة لبعض الوقت كي يجلسان بمفردهما.

_ كيف حالك قاسم؟

_ بخير سيد أكثم، لمَ أرهقت نفسك؟

_ لا عليك، جئت لأطمن عليك وأرى إذا ما كنت بحاجة لشيء .

_ أشكرك كثيرا ، أنا بخير، هل تعرف شيئا عن أهلي؟ هل لديك أخبارا عنهم؟

_ لا تقلق الجميع بخير، لقد اتصلت بعزيز وأخبرني أن كل شيء على ما يرام ، زوجتك تبقى ببيت والدها وشقيقتك تذهب لزيارتها من حين لآخر ، وفي الزيارة الشهرية سيكون عزيز وشقيقتك موجودين لرؤيتك.

أومأ بحزن ظهر جليًا على قسماته فقال أكثم:

_ قاسم، جلسة الحكم على عنبر كانت بالأمس، في الحقيقة لم أود إخبار عمك وزوجته لأني أعرف حالة عمك الصحية وخشيت أن يتأثر أو ينتكس،  ولكنني أخبرت عزيز.

أومأ قاسم مترقبًا ودق قلبه بتوتر بالغ فقال أكثم بأسف:

_ المحامي الذي وكلته لها أمها لم يستطع الحصول على حكم مخفف للأسف، لقد تم الحكم عليها بالسجن المشدد لمدة خمسة وعشرون عاما

أغمض قاسم عينيه بألم وكأنه تلقى صفعةً مدوية آلمته وتمتم بقلة حيلة:

_ لا حول ولا قوة إلا بالله.

_ برأيك هل أخبر والديها؟ 

فكر قاسم للحظات ثم تنهد وقال:

_ من المؤكد أنهما ينتظران الحكم ، في المقابل أنا أعرف أن عمي يتوقع ذلك الحكم ؛ لذا أرى أنه من اللازم أن يكونوا جميعا على علم بما حدث ، في النهاية لن يخفى عنهما الأمر طويلا.

أومأ أكثم موافقا وقال:

_ أنت محق، سأتحدث مع عزيز حول هذا الأمر ونرى ما يمكننا فعله، لدي خبرا سارا أيضا، لقد خرج حسان من السجن اليوم.

تنهد قاسم بارتياح وأومأ ثم قال:

_ الحمد لله ، لا بد أن صبر سعيد للغاية. 

_ أكيد، وأنت أيضا ستقضي محكوميتك سريعا وتخرج لتفرح بمولودك وتستقبله على يديك، لا تحمل همًا.

أومأ قاسم مؤكدا بشبح ابتسامة لاحت على شفتيه ثم قال:

_ كيف حال سيد حبيب؟ هل علم بأني عدت إلى أرض الملاعب من جديد؟

ضحك أكثم قائلا:

_ لقد أخبرته بما جرى معك وهو يشجعك ويحييك على تلك الخطوة الشجاعة ويقول لك ” طالما أنك راضيا الآن وتستطيع النوم باطمئنان فتأكد أن ما فعلته هو الصواب فلا تجعل نفسك الأمارة بالسوء تلومك وتذكر دوما أن الحق أحق أن يتبع “.

___________

في اليوم التالي.

خرجت سارة من شقتها ونزلت الدرج متجهة إلى الخارج فتفاجئت بقصي الذي يقف ساندًا ظهره على الجدار ويحمل بيديه وردةً حمراء يشم رائحتها وما إن رآها حتى وقف أمامها منحنيًا في حركة مسرحية وقال:

_ صباحًا شريفًا مولاتي.

ومد يده إليها بالوردة فالتقطتها وهي تضحك بتفاجأ وقالت:

_ يا إلهي، ما هذا؟ 

نظر إليها مبتسما واقترب خطوةً وهو ينظر بساعة يده وقال:

_ انتظرك منذ أربعين دقيقة، لماذا تأخرتِ؟ ألم تخبريني أن لديكِ موعدا في العاشرة؟ 

أومأت بتوتر وقالت:

_ صحيح، لقد تأخرت لظروف خاصة ، علي أن أتحرك حالا.

همت بالتحرك فأمسك بمعصمها وقال:

_ انتظري، سأقلك بسيارتي ، هيا.

_ لا.. 

قالتها على الفور وتابعت بتوتر:

_ أقصد لا داعي، السائق سيقلني. عن إذنك.

_ توقفي سارة، لم العجلة؟ ثم أنكِ لم تخبريني ما رأيك في هذه المفاجأة!

هزت رأسها باستفهام وقالت:

_ أي مفاجأة؟

نظر إليها بإحباط وقال:

_ أقول لكِ أني انتظرتكِ لوقت طويل، بالرغم من أن أصدقائي في انتظاري ولكني تجاهلتهم من أجلك، ووقفت على باب العمارة كبائع الحليب منذ الصباح الباكر وقطفت لكِ تلك الوردة ودسست لكِ بداخلها شيئا هاما.

نظرت إلى الوردة بيدها وقطبت جبينها وهي تكتشف لأول مرة تلك العلبة الصغيرة بلونها الأحمر، دق قلبها وقد أخبرها حدسها عما بداخلها فمدت يدها لتفتحتها وهي تنظر إليه وتراه ينظر إليها مبتسما وعيناه مثبتتان على خاصتها.

فتحت سارة العلبة فأصابها الذهول عندما رأت خاتم زواج بداخلها ، ونظرت إلى قصي الذي لازال متمسكا بابتسامته وقالت:

_ ما هذا ؟!

_ هل تتزوجيني؟ 

طفقت الدموع تسيل من عينيها وهي تختبر شعورا غريبا عليها لأول مرة، شعورا له مذاقا حلوا للغاية. ثم نظرت إليه وقالت:

_ لكن..

قاطعها قائلا:

_ أعرف ما ستقولينه، أعرف أنكِ لاتزالين صغيرة جدا، سنقيم حفل خطوبة صغير، وبعد أن تبلغي السن القانوني نتزوج. ما رأيك؟

نظرت إليه بتيه وقالت بتخبط وتلعثم:

_ ليس هذا كل شيء، لدي ظروفا خاصة أنت لا تعلم عنها شيئا.

_ أي ظروف هذة؟ بالنسبة لوالدك سأتحدث معه بالتأكيد، وإن لزم الأمر يمكنني أنا أسافر إليه كندا وأطلب يدك منه.

سالت دمعاتها مجددا بقلة حيلة وعجز، ثم أعطتهُ الخاتم والوردة وهي تفر هاربةً من أمامه وتقول:

_ أنا آسفة، لن أستطيع.

وتركته يقف هائما على وجهه، ثم استقلت سيارتها فانطلق السائق فورا، حينها كان قصي يقف مذهولا من ردة فعلها الغير مفهومة !

لقد ظن أنها تبادله نفس المشاعر بما أنهما يتراسلان منذ أسبوع تقريبا بصفة يومية وقام بالتلميح لها لأكثر من مرة ولم يجد منها الصد فظن أنه قبولا، لذا تجرأ وأقدم على تلك الخطوة لأنه لا يحب الطرق الملتوية أبدا فقرر عرض الزواج عليها، ولكن ردة فعلها تلك صدمته. فوقف يطالع الخاتم والوردة بتحسر، ثم ابتسم ابتسامة متهكمة وسار نحو سيارته، ثم ألقى الخاتم والوردة على المقعد بإهمال وانطلق في طريقه وهو يفكر ويحاول تخمين السبب في حالتها وتصرفها ذلك.

_________

كان حبيب يجلس في الانتظار، على أهبة الاستعداد وهو يخمن من سيأتي لزيارته اليوم، زوجته أم ابنته أم كلاهما معا. ليتفاجأ بسارة التي دخلت إلى قاعة الزيارة وهي يبدو عليها آثار البكاء واضحة، وفجأة ارتمت بأحضانه وانفجرت في البكاء بشدة وهي تقول:

_ أحتاجك بشدة أبي.

ربت حبيب على ظهرها بحنان وقال:

_ ماذا بكِ حبيبتي ؟ ما الخطب؟!

جلس وأجلسها بجواره وهو يضمها إليه ويمسح على شعرها ثم قال:

_ أخبريني سارة، ماذا بكِ؟ ماذا حدث ؟

نظرت إليه وهي تبكي بهدوء وقالت:

_ أنا لست ابنة جيدة أبدا أبي، أنا سيئة جدا.

_ لا، أنتِ لستِ كذلك حبيبتي ، أخبريني ماذا حدث معك؟

صمتت قليلا تحاول البحث عن كلمة افتتاحية تبدأ بها مأساتها ولكنها لم تجد، وكأن الكلمات غابت عنها في تلك اللحظة ، فأجهشت بالبكاء وهي تقول:

_ ليتك جواري، أنت غائب وقاسم أيضا دخل السجن، وأمي حزينة بما يكفي. لا أعرف إلى من سألجأ.

أمسك بذقنها وأرغمها على النظر إليه فقال:

_ حبيبتي ، أنا موجود دائما، المسافات لم ولن تكون حائلا بيننا، يمكنك التكلم معي.

نظرت إليه مبتسمة بانكسار، ثم مالت نحوه وقبلت خده وقالت:

_ أنت أعظم أب في الكون، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.

_ وأنتِ أعظم ابنة في الوجود سارة، أرجوكي لا تترددي في إخباري بما يشغلك.

_ لا تقلق أبي، أنا بخير، أحيانا ينتابني شعورًا بالانهيار مثلما حدث الآن، ولكنني أعود إلى رشدي سريعا .

_ من رشدي؟!

قالها متصنعا التعجب فنظرت إليه بصدمة وسرعان ما ارتفعت ضحكاتها فضحك بدوره وربت على رأسها بحنان وقال:

_ أتمنى أن يرزقني الله العمر المديد لكي أكون السبب في ضحكاتك الجميلة هذه مثلما كنت دوما السبب في بكاءك.

آلمتها كلماته فنظرت إليه وابتسمت ابتسامة حنونة وقالت:

_ وجودك بحياتي يكفي، مجرد حملي لاسمك خلف اسمي يشعرني بالأمان بابا.

امتلأت عينيه بالدموع واختنق صوته فحاول أن يخلق جوا لذيذا بعيدا عن البكاء والحزن فقال:

_ لقد ورثتِ أمك يا لصة يا ماكرة، أمكِ كانت دائما تستطيع الإيقاع بي في شباكها بكلماتها المعسولة، وها أنا أرى فتون الصغيرة أمامي.

ابتسمت فابتسم ونزلت دمعاته رغما عنه وأخذ يمسح على شعرها وهو يقول:

_ أتمنى أن يرزقك الله حظا أوفر من حظ أمك، ألا يتعلق قلبكِ بحبيب وينكوي بفقده، أرجو من الله أن يهبك السعادة التي لا يتخللها حزنًا ولا ينزعها فراقًا أبدا، وأن يهبك قلبا محبا صادقا يكتفي بكِ ولا يكتفي من حبك أبدا.

كانت كلماته بمثابة بلسم لجروحها ، دواءً لقلبها المتألم، دليلا لعقلها المشتت التائه. كانت هذه هي الزيارة المثلى في الوقت الأمثل.

__________

في المساء.

كانت فريال تجلس بالشرفة تتأمل المنظر من حولها، وكلما قفزت صورته إلى رأسها نفضت رأسها برفض وكأنها تطرده بعيدا. 

في تلك اللحظة ارتفع رنين هاتفها فنظرت به فإذ بها تجده هو من يتصل بها فتجاهلت الاتصال وأخفضت مستوى الصوت وعادت لحالة الشرود التي كانت عليها مجددا.

وبعد مرور خمس دقائق تقريبا، وبعد أن قام الدكتور بالاتصال بها مرات عديدة استمعت إلى صوت جرس الباب فنهضت لتفتح وهي تقول:

_ بالتأكيد هذه هي فتون..

فتحت الباب بحماس لتجده يقف أمامها وعلى وجهه أمارات التعب والإرهاق فقالت بتعجب:

_ أنت؟ ماذا تفعل على باب بيتي في هذه الساعة المتأخرة؟

نظر إليها متعجبا وقال:

_ أعتذر، ولكنني قمت بالاتصال بكِ مرات عديدة قبل أن آتي إلى بيتك في هذه الساعة المتأخرة ولكنكِ تجاهلتِ مكالماتي.

نظرت إليه بشوق ممزوج بالغضب وقالت بصوت حاد:

_ ماذا تريد مني يا دكتور ممدوح؟ وما سبب كل تلك المكالمات التي تجاهلتها أنا؟ 

_ ما خطبكِ يا فلة؟ ما سر تلك المعاملة؟

_ اسمي مدام فريال، لا تتعدى حدودك أبدا.

رفع حاجبيه متعجبا، وابتلع المسافة بينهما ووقف أمامها مباشرةً وهو ينظر إليها بشوق، فكانت تنظر إليه بشوق مماثل وتتفحص ملامحه عن قرب مهلك وهي تستمع إليه وهو يقول:

_ اشتقتكِ كثيرا جدا، أقسم أني اشتقتك بصدق.

ابتلعت ريقها بتوتر وقالت:

_ من فضلك ابتعد، وجودك هنا لا يصح أبدا، أنت مجرد جار ليس أكثر.

_ حسنا. سأصبح أكثر من جار، والآن. هل تتزوجيني يا فلة؟!

نظرت إليه بصدمة كبيرة وأخذت الكثير من الوقت لاستيعابها، ثم نظرت إليه بضيق وقالت بحدة:

_ بالطبع لن أقبل، كيف تجرؤ أن تعرض علي عرضًا كهذا؟

نظر إليها مصدوما وقال بغضب:

_ وما الذي يمنع؟

_ زواجك. زواجك هو ما يمنع. أنا لن أصبح زوجةً ثانيةً أبدا.

طالعها باستغراب وقال:

_ زواجي؟ عن أي زواج تتحدثين؟!

_ أرجوك لا تتصنع البلاهة يا دكتور، هيا اذهب صاحبتك السلامة. 

_ لحظة يا فلة، أنا لا أفهم شيئا، على ما يبدو أن هناك سوء فهم علي تصحيحه.

نظرت إليه بغضب أكبر وقالت:

_ وكيف ستصححه؟ هل ستطلقها؟!

_ أطلق من؟ ما هذه الحماقات التي تتفوهين بها؟ 

_ ليست حماقات يا دكتور، الحماقة فعلا هي وجودك هنا على بابي وعرضك الزواج علي وأنت متزوج منذ أسبوعين من فتاة أصغر وأجمل مني.

_ ماذا ؟؟؟ ماذا تقولين؟

وفجأة قهقه عاليا فازدادت وسامته وجاذبيته فقالت باستياء :

_ ما الذي يضحكك بهذا الشكل؟ من فضلك اذهب من هنا حالا.

نظر إليها نظرة متلاعبة وكلما اقترب منها خطوة رجعت إلى الخلف خطوتين وقالت:

_ هل جننت، ما هذه التصرفات الصبيانية؟

شمل ملامحها المحببة بنظرة سريعة وقال:

_ ألهذا السبب كنتِ تأخذين موقفا؟ لأنك ظننتِ أنني تزوجت!

ازدردت لعابها بتوتر وقالت بعدم فهم:

_ ظننت ؟! ماذا تعني بظننت؟ ألم تتزوج فعلا؟!

هز رأسه أن لا وهو لا يزال يحاصرها بعينيه ويربكها كما لو أنها فتاة في العشرين من عمرها فقالت:

_ كيف لا؟ أنت بنفسك أخبرتني أنك ستسافر من أجل حفل زفاف..

قاطعها وقال:

_ ولم أقل أنه حفل زفافي، أنتِ من أسأتِ الفهم.

_ ولكني رأيتك تقف بجوار العروس ملتصقان كهذا بكل حميمية والحب يشع من عينيكما إشعاعًا ..

أومأ وهو يضحك وقال:

_ بالتأكيد سيشع إشعاعًا لأنها ابنة أخي وأنا بمقام والدها وأنا من ربيتها كذلك.

نظرت إليه بصدمة وعينين متسعتين فأومأ مؤكدا ما قاله وأضاف:

_ نعم فلتي، هذه العروس ابنة أخي وليست عروستي، يا إلهي ما هذا العبث!

_ حقا؟ أليست عروستك؟

_ لا، أنتِ من ستكونين عروستي يا فلة.

أتم جملته ليتفاجأ بها وقد طوقت عنقه بذراعيها بفرحة وحماس وقالت:

_ يا إلهي أشكرك، أنا أحبك كثيرا ممدوح، أحبك كثيرا جدا.

ضمها إليه بقوة وأردف :

_ وأنا أحبك فلة، سأعتبر هذا العناق الحار إجابة منكِ على سؤالي وأذهب الآن إلى المأذون لتحديد موعد عقد القران.. لا بد أن نتزوج في أسرع وقت يا ذات رائحة الفل.

___________

يتبع..

حب_في_الدقيقة_التسعين!

• تابع الفصل التالى ” رواية حب فى الدقيقة تسعين  ” اضغط على اسم الرواية

أضف تعليق