رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الخامس والاربعون 45 – بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الخامس والاربعون 45 – بقلم نعمة حسن 

_٤٥_

~ الشهـد و الدمــوع ! ~

___________

خرج كريم وأغلق الباب خلفه ليتفاجأ بالليل الحالك الذي يعم الأرجاء مما أثار رهبته وخوفه وجعله ينظر حوله بذعر، حتى أن قدميه الصغيرتين أصيبتا بالرجفة.

وقف يتأمل المكان حوله لعله يعرف سبيلا للهرب من بين أحد الأزقة الضيقة المظلمة وفجأة انفرج الباب وظهر حسان الذي كانت تبدو الدهشة على ملامحه وفورا تبدلت إلى ارتياح وهو يضم كريم إلى صدره بخوف ويقول:

_ كريم، الحمد لله أني لحقت بك في الوقت المناسب، ماذا كنت ستفعل يا فتى!

قالها وهو يمسك بكتفيه ويهزه في عتاب هادئ وتابع:

_ هل كنت تنوي الهرب فعلا ؟! لا أصدق، كنت ستعرّض نفسك للخطر.

تحدث كريم وهو يبكي وقال بضيق وحنق طفولي:

_ لم أكن أنوي الهرب؛ كنت أريد العودة إلى بيتي فحسب.

نظر حسان إلى حالته بشفقة وأسف، ثم ربت على كتفه بمواساة وقال:

_ أعتذر لك لم أقصد مضايقتك ، ولكن على كل حال الوقت متأخرا جدا كما ترى ولن نتمكن من الذهاب إلى بيتك الآن، أعدك أننا سنذهب صباحا.

أومأ كريم باستسلام ودخل مع حسان مجددا فجلسا على الأريكة بغرفة الاستقبال الصغيرة وتحدث حسان قائلا:

_ هل أنت جائع ؟

هز كريم رأسه بنفي فقال حسان:

_ لا تعاند ، أنت لم تأكل شيئا منذ أتيت إلى هنا صباحا، سأحضر لك العشاء.

_ لا لست جائعا.

رد عليه حسان بإصرار:

_ لا أنت جائع ولكنك عنيد..

وأردف بعفوية وهو يتجه نحو المطبخ:

_ مثل والدك تماما .

انتبه كريم إلى ما قاله حسان وأثارت الكلمة فضوله فلحق به إلى المطبخ ووقف أمامه وقال:

_ هل تعرف أبي.؟!

أدرك حسان زلة لسانه ولكنه حاول تدارك الموقف ، ونظر إليه بهدوء وهو يصطنع الانشغال بتحضير العشاء فأجاب باقتضاب:

_ أجل، أعرفه.

_ أقصد هل كنتما أصدقاء ؟!

_ لا، ليس تماما . مجرد معرفة سطحية.

_ إذًا كيف عرفت أنه كان عنيدا ؟! 

ابتلع حسان ريقه وشعر وكأنه قد حُشر بالزاوية فنظر إليه وقال :

_ كنا جيرانا وتعاملنا سويا أكثر من مرة.

صمت كريم للحظات، ثم توجه إلى المقعد الموضوع بالجوار وجلس فوقه بصمت فزفر حسان بارتياح ظنًا منه أنه قد تخطى الأمر، ولكن كريم فاجأه بالسؤال الذي زلزل ثباته حين قال:

_ هل كان أبي يستحق الموت ؟!

اختنقت الكلمات بحلقه وشعر بالعجز وهو يتفحص ملامح الصغير الذي يستجديه بعينيه لكي ينفي سؤاله ، وأمام هذا الموقف الرهيب لم يسعه إلا أن يتنفس بهدوء وهو يحاول تهدئة نفسه ثم تساءل بارتياب:

_ لا ، من قال لك هذا ؟! 

أسقط كريم رأسه أرضا بحزن وقال:

_ إذًا لماذا قتلتهُ أمي ؟! 

_ يا إلهي..

تمتم بها حسان بتوتر وارتباك ثم اقترب منه وجثا على قدميه أمامه وهو يتطلع إلى عينيه الباكيتين ويقول:

_ اسمعني كريم، ما سمعته هذا ليس صحيحا ، الأمر ليس كما تظن أبدا. 

_ كيف إذًا ؟!

تملكهُ العجز وقلة الحيلة وهو ينظر إليه ولا يعرف كيف يجيب أسئلته التي تبدو إجابتها معروفة من قِبَله جيدا. ولكنه حاول التحايل على عقله الصغير عله ينجح في الخروج من هذا المأزق بطريقة تقنعه فقال:

_ الموت والحياة بيد الله سبحانه وتعالى وحده يا بني ، أنا مثلا.. زوجتي التي هي والدة صبر توفت وهو بعمر الثانية، كان طفلا بحجم الكف هكذا . هل يُعقل يعني أنني من قتلتها ؟! لا.. لقد انتهى أجلها بأمر من الله سبحانه وتعالى. هكذا والدك أيضا رحمه الله مات لمّا انتهى أجله بأمر من الله. 

لمعت عينيه وقد بدا عليه الاقتناع قليلا وقال:

_ هذا يعني أن أمي لم تكن السبب في موته ، لأن الموت والحياة بيد الله وحده. أليس كذلك ؟

أومأ حسان مؤكدا صدق الشطر الأخير من الجملة وقال :

_ صحيح. والآن هل ستأكل أم أنك لا زلت مُصرًا على العناد ؟

هز كريم رأسه بنفي وقال:

_ لا، سآكل.

اتسعت ابتسامة حسان وربت على رأسه بحنو وقال:

_ حسنا يا صديق، سأحضر لك العشاء ولكن أولا عليك أن تعدني.

هز كريم رأسه مستفهما فأجاب حسان:

_ عدني أنك لن تكرر فعلك الأحمق هذا مجددا، الحمد لله لقد أمسكت بك قبل الفرار وإلا لكنت الآن أبحث عنك في الطرقات المظلمة الموحشة المليئة باللصوص والمجرمين وسارقي الأطفال.

بانت الرهبة جلية في عينيه فأكمل حسان قائلا:

_ ثم أنك رجل ، والرجال لا تهرب، الرجال تواجه دائما. يعني .. أنت كنت تشعر بعدم الارتياح هنا .. حسنا كان عليك أن تخبرني وأنا كنت سأذهب معك إلى المكان الذي تريد الذهاب إليه. ولكن أن تتسلل من الغرفة كلص الدجاج وتخرج على أطراف أصابعك هكذا فهذا تصرف غير مقبول تماما.

ضحك كريم أخيرا عندما شبهه حسان بلص الدجاج مما أضحك حسان أيضا وشعر أنه قد فعل إنجازا كبيرا، ثم تمتم كريم وقال:

_ أنا أعتذر.

مد حسان قبضته المضمومة إلى كريم فضم قبضته كذلك وضرب بها قبضة حسان الذي قال:

_ وأنا قبلت اعتذارك يا صديقي، هيا بنا لكي نعد عشاءا رائعا .

____________

في تمام الثانية والنصف صباحا انتهى حفل عقد القران . 

فودع الجميع العروسين اللذان كانا يستعدان للانطلاق نحو الفندق الذي سيقضيان به ليلة عرسهما ومن بعد سيسافران في رحلة حول العالم .

صافحت حياة كلا من فتون وسارة فقالت:

_ لقد سررت برؤيتكما وقضاء ذلك الوقت الممتع برفقتكما ، أراكما على خير إن شاء الله.

ابتسمت فتون بود وقالت:

_ ونحن أيضا سعدنا برؤيتك حياة، أنتِ إنسانة لطيفة و ودودة جدا ، تستحقين رجلا رائعا مثل قاسم وهو أيضا يستحق زوجة جميلة مثلك.

حفرت كلماتها ألمًا إضافيا بقلبها ولكنها لم تظهر ذلك، فقط اكتفت بابتسامة وقالت:

_ شكرا سيدة فتون، هذا من ذوقك.

_ أنا لا أجاملك حياة، أنا أقول الحقيقة، قاسم له مواقف لا تنسى معنا، هو الوحيد الذي وقف معنا في غياب حبيب، نحن لن ننسى له ذلك أبدا.

ابتسمت حياة فخرًا بمواقف زوجها الشهم الذي لطالما رفع رأسها عاليا وقالت بسرور:

_ هو لم يفعل سوى الواجب .

أومأت فتون مؤيدةً وأردفت بثقة:

_ وهذا الواجب يُحتم عليّ أن أخبركِ شيئا هاما.. أنتِ هنا لستِ بمفردك. لديكِ أختًا كبيرة تدعى فتون، وأختًا صغيرة تدعى سارة. إذا احتجتِ لأي شيء فلا تترددي في طلب المساعدة. نحن لسنا مجرد جيرانا. نحن أهل.

كانت حياة على وشك البكاء من فرط تأثرها برقة و نبل موقف فتون وقالت بابتسامة منكسرة:

_ أشكرك كثيرا، وأعدكِ ألا أتردد في طلب المساعدة إذا احتجتُ إليها. أتمنى لكما أوقاتا سعيدة، عن إذنكما.

استوقفتها فتون وقالت:

_ إلى أين ؟!

_ سأستوقف سيارة أجرة .

_ لا داعي، هيا لنذهب سويا، طريقنا واحد .

طريقنا واحد ! هذه الجملة المكونة من كلمتين فقط شكلت لها ماضيا لن يُنسى ولو مر على ذكراه ألف سنة ! ماضٍ ليس ببعيد.. بُني عليه حاضرا غادرا .. انحدر بها فجأة نحو أنهارٍ من الشهد الذي غرقت بحلاوته ؛ وفي النهاية لم تجد نفسها إلا غارقة في بحر من الدموع .

أفاقت من شرودها على يد فتون وهي تهزها برفق وتقول:

_ حياة، هل أنتِ بخير ؟!

انتبهت ونظرت إليها مبتسمةً وهي تقول بهدوء:

_ نعم، بخير.

_ إذا هيا بنا، السائق ينتظر.

ركبن ثلاثتهن السيارة وتحرك السائق عائدا بهن إلى البناية.. طوال الطريق كن يتجاذبن أطراف الحديث بود، ويتحدثن عن أجواء الليلة الحماسية والحفل الصاخب، ويبدين آراءهن في تفاعلات بعض الشباب والفتيات، إلى أن انقضى الطريق ودخلت السيارة إلى المرآب لكي يصفها السائق.

نزلت حياة من السيارة لتتفاجأ بسيارة قاسم المصفوفة جانبًا فشعرت وكأن أحدهم قد شق قلبها إلى نصفين في الحال ؛ اقتربت من السيارة ووقفت أمامها وهي تتذكر ذكرياتهما سويا ؛ ذلك اليوم الذي تقيأت في السيارة وكان هو مراعيًا وحنونًا أكثر من اللازم وكان ينظف وجهها وملابسها بنفسه ، يومها أقسمت أنه أحن رجل بالعالم ، حتى وإن كان يستفزها وينجح في استثارة غضبها دائما ويُخرجها عن دائرة العقل والتحكم في النفس ولكنه سيبقى رجلها الأول وبطلها الهُمام.

هذه الذكرى جعلتها تنخرط في حالة من التأثر والاشتياق الجارف، فأسندت رأسها على السيارة ودخلت في نوبة بكـاء شديدة.. نوبة صعبة جرفت معها فيضان من المشاعر والذكريات الجميلة التي تقتلها ببطءٍ الآن.

اقتربت كلا من فتون وسارة منها وهما تحاولان مواساتها ولكنها مسحت دموعها سريعا وتظاهرت أنها بخير ثم قالت:

_ لا بأس، مجرد تأثر ليس إلا. على كل حال أشكركم جزيل الشكر. تصبحون على خير.

و فرت هاربة من أمامهم وصعدت إلى شقتها على الفور.

دخلت وما إن أغلقت الباب خلفها حتى انفجرت مجددا في نوبة بكـاء أعتى وأشد، كانت تتقدم من الغرفة وهي تكسر وتحطم كل ما تراه بطريقها حتى وصلت إلى فراشها فارتمت فوقه وهي تنظر إلى سقف الغرفة بشرود وتقول بتيه:

_ إلى متى ؟! إلى متى ستبقى فرحتي ناقصة ؟! إلى متى سأتذوق طعم الشهد ممزوجًا بالدموع !!

استمعت إلى قرآن الفجر وقد بدأ يصدح في الأرجاء فرفعت أكف التضرع وأخذت تدعو وتتضرع إلى الله لكي تمر الأيام سريعا بسلام وأن يرزقها رؤية طفلها سليما معافا في وجود زوجها لكي لا تكون فرحتها ناقصة.

وفجأة استمعت إلى صوت هاتفها يرن فأخرجته من الحقيبة لتصاب بالصدمة عندما رأت كم المكالمات الفائتة من والدها ومن رقم آخر غير مسجل لديها.

_ يا إلهي !! لقد اتصل أبي أربعًا وعشرين مرة !! 

أجابت الاتصال فورا وقالت بقلق:

_ مرحبا أبي…

ولم تستطرد ما بدأته إلا وقد قصف صوت والدها الجهور وهو يقول بغضب وانفعال لائم:

_ مرحبا حقا ؟!!! لماذا تفعلون بي هذا ! لماذا تُصرون على جعلي أنقم على عجزي وهذا الشلل اللعين الذي أقعدني وجعلني ذليلا مقيدا لا يسعني سوى أن ألجأ لهذا الهاتف الحقير. لماذا ؟!!!

ذُهلت حياة من انفعاله وصراخه المقهور وانتابها القلق حول حالته فتسائلت بخوف:

_ ما بك يا أبي؟ ماذا حدث؟

_ وتسألين يا حياة ؟! انظري بهاتفك ستعرفين ماذا حدث ؟ لقد اتصلت بكِ ما يقارب من عشرين مرة.. لو كان ميتًا في قبره لأجاب !!

زمت شفتيها باستياء وتحدثت بتوتر وهي تقول:

_ أنا آسفة يا أبي، أعتذر منك لم أسمع الهاتف، لقد كنت بحفل زواج جارتي…

ولم تكمل كلامها حيث قاطعها قائلا باستياء وانفعال متهكمًا:

_ حفل زواج ؟! حياتنا مقلوبةً رأسا على عقب وأنتِ تحضرين حفل زواج؟!

تسائلت بتعجب وقلق أكبر:

_ ماذا تقصد ؟ ماذا حدث ؟

لم تستمع سوى لتنهيدات والدها واستغفاره فعلمت أن الأمر جلل ولا يجب أن يستهان به أبدا فقالت بتوتر:

_ أبي، هل أنت بخير؟ هل آتي لعندك ؟

أجابها باستهجان واضح:

_ متى ستأتين ؟ الثالثة فجرا ؟ 

وتابع وهو منفعلا يُرغي ويزبد:

_ والدتك كادت أن تقتل حنان !!

_ ماذا ؟!!!!!!!

صرخت بها بفزع واعتدلت في مرقدها بتأهب وتحفز شديدين وتابعت بغير تصديق:

_ ماذا قلت يا أبي؟ كيف حدث ذلك ؟! وماذا حدث لحنان ؟! هل هي بخير؟!!

_ لا أعرف، عزيز يقول أنها بخير، تعاني فقط من عدة جروح وخدوش بسيطة، ولكني لا أصدقه، كريم أخبرني أنهما كانتا تتشاجران وصوتهما كان عاليا جدا ووالدتك كانت تصرخ بقوة..

_ كريم؟! وهل كريم كان شاهدا على ما حدث؟! يا إلهي، ما هذا !!

صمت صالح للحظات ثم قال باستدراك:

_ كريم !! لقد وعدتهُ أنني سأرسل أحدا ما لأخذه الليلة ولكني نسيت تماما، التهيتُ بكِ وبمحاولاتي العديدة للوصول إليكِ ونسيت وعدي للصغير.

_ وأين أمي حاليا ؟! ماذا فعلت ؟ كيف بررت ما فعلته؟ 

تجاوز أسئلتها وقال باقتضاب:

_ لا أعرف أين هي.

_ ماذا ؟! كيف لا تعرف أين هي؟

_ لقد طلقتها !

_ يا إلهي !! ماذا تقول ؟ هل أنت جادًا أبي؟

هتف بحنق وغضب فائضين:

_ طبعا جاد جدا، لقد صبرت عليها بما يكفي ، منذ اليوم الأول الذي تزوجتها به وهي تفتعل العداوات والمشاكل مع الجميع، دفنتُ رأسي بالرمال كالنعام كثيرا بسبب مواقف مخجلة ورطتني بها، تحملتها من أجلكما كثيرا، وتجاوزت أمورا بشعة من أجل الحفاظ على هذا البيت ولكن يكفي. انتهى، لقد طفح الكيل. طفــح الكيــل يا حيــاة.

كانت تسمعه وهي تبكي بانهيار وقلبها ينقبض أكثر كلما ارتفع صوته ثم قالت:

_ ولكن أمي لا تعرف غيرنا، أمي لا تملك أهلا ولا أصحابا، إلى أين ستذهب؟

أجابها بضجر ونفاذ صبر:

_ لا يهمني ، من الآن فصاعدا لن أكترث لأمرها. فلتذهب للجحيم حتى لن أهتم.

لم تُعقب وأجهشت في بكاء حار فهتف بها بعصبية وسأم:

_ وأنتِ لمَ تبكين؟ أليست هذه من كانت السبب في حزنك وبكائك دائما ؟ ألم تتركي البيت مرارا بسببها؟ ألم تخجلي من تصرفاتها مع زوجك وتمنيتِ لو أنها لم تكن أمك يوما، أليست هذه من تسببت في خراب حياة الكل؟!

أجابته بانهزام وهي تبكي وقد أصبحت خائرة القوى تماما:

_ ولكنها تبقى أمي !! مهما فعلت هي أمي.

_ ولكنها لا تعنيني من الآن. سأطلقها رسميا وأنا مستعد لإعطائها نفقاتها كلها مقابل أن تبتعد ولا أرى لها وجها مرة أخرى.

كتمت حياة غضبها وضيقها وهي تتمتم باستهجان واضح:

_ حسنا، ولكن بعد أن نجدها ونعرف إلى أين ذهبت.

_ لا تقلقي ، أمك لن تضيع، ستذهب إلى أي جارة من الجيران، وربما تجدينها تطرق على بابكِ الآن. 

مسحت على وجهها بضيق وأردفت بإيجاز:

_ حسنا أبي، مع السلامة.

وأنهت الاتصال دون انتظار رده حتى وهي تتمتم بذهول:

_ يا إلهي !! ما هذا الذي يحدث معنا؟! أين ذهبتي يا أمي ؟! أين أنتِ بربك !!

__________

كانت فريال تقف برفقة ممدوح أمام باب الغرفة الخاصة بهما في الفندق الذي سيمضيان به ليلتهما الأولى. 

تنظر إليه بابتسامة ساحرة وهي تراه يتفحص ملامحها بعشق كشاب مراهق شغوف بحبيبته ، ولما طال انتظارها وشعرت بغرابة الموقف حمحمت بحرج ثم قالت:

_ ممدوح، هل سنظل هنا ؟! ألن ندخل ؟

نظر حوله بانتباه ثم ضحك بارتباك وقال:

_ لا، لن نظل هنا بالتأكيد.

أومأت بموافقة ثم قالت:

_ هل أدخل بقدمي اليمنى كما تفعل العروس دومًا؟

اقترب منها بغتةً فأرجعت رأسها إلى الخلف بتفاجؤ من حركته المفاجئة، فوجدته ينحني ثم حملها على ذراعيه ونظر إليها مبتسما بحنان وقال:

_ لا، أنتِ اليوم ملكة، قدماكِ لن تلمس الأرض أبدا وإنما ستحلق بين السحاب.

ضحكت بسعادة فضحك بدوره فقالت:

_ هل نسيت مفتاح الغرفة ام ماذا أصابك؟ هل سنقضي ليلة عرسنا هنا على الباب ؟ المنظر يبدو غير لائق أبدا.

أومأ مبتسما وهو يثبت نظره على شفتيها اللتين تتحدثان بطريقةٍ تبدو مغوية فأشاحت بوجهها للجهة الأخرى بخجل فطري فقال:

_ فلة، المفتاح بجيبي، هل يمكنكِ إخراجه؟

انحنت للأمام قليلا وهو لازال يحملها ومدت يدها ولكنها لم تستطع الوصول لجيبه فقالت:

_ لم أتمكن منه، أنزلني.

قال وهو غارقٌ بالنظر إلى عينيها :

_ ها ؟!

ارتفعت ضحكاتها رغما عنها وقالت:

_ من فضلك أسرع، أخشى أن يفتح أحد النزلاء باب غرفته ويُمسك بنا ونحن في هذا الوضع.

_ و إذا ؟؟ نحن عروسين والدليل واضح، ها أنا أرتدي حلة بيضاء وأنتِ ترتدين ثوبا أبيضا، وترتدين قبعة العروس أيضا.

ضحكت وهي تشير إلى قبعة رأسها البيضاء وقالت:

_ هل أعجبتك القبعة؟

أومأ ضاحكا وقال:

_ جدا، وكأنكِ أحد أفراد العائلة المالكة.. لم أُخطئ عندما قلت أنكِ ملكة فعلا.

ضحكت عاليا مرة أخرى فقال:

_ ما بالِ هذا المفتاح وكأنه تأخر كثيرا.

نظرت إليه وهي تقاوم ضحكاتها وقالت:

_ قلت لك أنزلني وابحث عن المفتاح جيدا .

اقترب منها وقبّل أنفها قبلةً طائرةً وهو يقول:

_ لا، لن تنزلي، يمكنني أن أحملك بيدٍ واحدة وأبحث عن المفتاح باليد الأخرى.

_ حقا ؟!

_ طبعا ، لقد كنت أحصد الميداليات في رفع الأثقال عندما كنت شابا، ألن أتمكن من رفعكِ بيد واحدة؟! ثم أنكِ بحجم الغزال. يا غزال.

ضحكت وتشبثت بعنقه أكثر فأمسك بها بيدٍ وبالأخرى أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب ثم نظر إليها مبتهجا وقال:

_ لقد نجحنا.

ثم خطى خطوتين وقال:

_ اللهم إنا نسألك خير المولج وخير المخرج ، بسم الله.

دخل وأغلق الباب وهو لازال يحملها، ثم أضاء نور الغرفة ونظر إليها ثم أشار بعينه إلى الفراش فنظرت حيث يشير لتتفاجأ بفراشٍ مغطى بالفل الأبيض فنظرت إليه وعلى شفتيها ابتسامة معبرة وترقرق الدمع بعينيها فقال:

_ الفل للفل.

عانقته بقوة فقربها إليه أكثر وهو يقول:

_ أحبك كثيرا فلتي. 

_ وأنا أحبك أيضا.. أحبك كثيرا ممدوح.

قبل وجنتها ثم اقترب بها نحو الفراش ووضعها فوقه بخفة وقبّل جبينها بفرح وقال:

_ مرحبا بكِ في حياتي يا فلة. حللتِ أهلا ونزلتِ سهلا.

سالت دموعها بفرح فأحاطت وجهه بكفيها وهي تنظر إلى عينيه بابتسامة عاشقة وقالت:

_ لا يسعني سوى أن أحبك.

فأحاط وجهها بكفيه كذلك وهو ينظر إلى عينيها بعشقٍ خالص وأضاف:

_ وأنا لا أطلب أكثر من ذلك.

و قَبِلا بما قُسم لهما من العشق ، يستخلصا منه زادًا و زوادًا و شهدًا له مذاقًا ساحرًا ، يُغنيهما عن الإصابة بفقر الحب ونقص هرمون السعادة . شهدًا غنيًا بكل ما يحتاجه الإنسان لكي يعيش حياته راضيًا سعيدا ، و مُحِبًا !

_________

في مكانٍ آخر..

كانت فتون تقبع فوق فراشها بسكون تام ، تضم ركبتيها إليها وتسند رأسها فوقهما وهي تحاول جاهدةً لئلا تستسلم إلى فيضان المشاعر الذي يهدد دموعها بالانسياب.

دخنت العديد من السجائر حتى امتلئت المنفضة ببقاياها وامتلأت الغرفة برائحتها، ولكنها لم تهدأ ولم يسكت ضجيج قلبها.

مارست بعض التمارين الرياضية علها تساعدها في الالتهاء والانشغال عن الوساوس التي تنخر برأسها ، ولكنها لم تفلح في ذلك أيضا.

أمسكت بهاتفها تحاول الاتصال بأيًا من صديقاتها لعلها تلتهي في الحديث وتنصرف عن التفكير الذي سيودي بحياتها ولكنها تراجعت في آخر لحظة لأنها لا تجد ما تقوله أساسا.

لم تستسلم، بل خرجت من غرفتها وذهبت لغرفة ابنتها لكي تجلس برفقتها وتنتشل نفسها من تلك الحالة ولكنها تراجعت عندما استمعت إلى صوت بكاءها فعلمت أنها لديها ما يكفيها بالفعل فعادت تجر أذيال الخيبة مجددا إلى غرفتها وأوصدت الباب على نفسها من جديد.

ظلت تجوب الغرفة ذهابا وإيابا تبحث عن حل، تريد حلا لكي تتخلص من حالة القهر التي تقتلها بالبطيء وعندما خاب دليلها ونفذ صبرها أمسكت بالوسادة وكتمت بها صوتها وأخذت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة.

تصرخ .. و تصرخ.. و تصرخ.. 

لم يكن صراخا عاديا أبدا . 

لم يكن حتى انهيارا.

ولا انفجارا..

حالتها أبسط من ذلك بكثير.. لقد كان مجرد قهـر !!

ثمة مشاعر متشابهة، ما بين القهر والحسرة والمرارة ، الفقد والاحتياج والخذلان، الفشل والضياع والحيرة. كلها مرادفات تبدو في ظاهرها بسيطة ولكنها ليست كذلك. فما من شعور منهم إلا وأتبعه القهر ؛ وإذا شعر الإنسان بالقهر تبلدت كل مشاعره بالتدريج وفقد رغبته بكل شيء .

وهذا تماما ما كنت تشعر به ، فبعد أن ضعفت قوتها تماما بسبب كثرة الصراخ والبكاء جلست أرضا أمام السرير وأسقطت رأسها على حافة الفراش من خلفها وشخصت ببصرها في الفراغ من حولها بهدوء. 

ليس الهدوء الذي يسبق العاصفة ، ولا حتى الهدوء النابع عن الرضا ، إنما كان نابعا عن الاستسلام ! 

إنها الآن تستسلم تماما وتسحب يدها من كل شيء، لم تعد تطمح إلى شيء ولم يعد يعنيها شيئا في كل هذا الكون الواسع بُرمته.

لم تدرك أنها الآن تبكي إلا عندما أحست بسخونة دمعاتها وهي تسيل على خديها باستسلام يشبه حالتها تماما، فأغمضت عينيها بخنوع ، نزولا عند رغبة قلبها الذي لا يريد شيئا الآن سوى أن يبكي بصمت.

__________

في الصباح..

خرجت حياة من بيتها باكرًا وقصدت بيت والدها فورا، كانت تمني نفسها طوال الطريق أنها بمجرد أن تصل ستجد والدتها هناك. وفي أسوء تقدير ستكون قد باتت ليلتها لدى إحدى الجارات. هي تعرف أن أمها لا تستسلم ولا تتحول إلى ضحية بهذه السهولة.

صعدت إلى شقة والدها وفتحت الباب بمفتاحها الخاص ثم دخلت إلى غرفة والدتها أولا ولكنها كانت فارغة، توجهت إلى غرفة والدها الذي كان نائما وفزع عندما أحس بحركة بالقرب منه فإذ به يجدها فوق رأسه تماما فقال بذهول:

_ حياة، متى أتيتِ، كم الساعة الآن؟

_ الساعة الآن السادسة صباحا.

نظر إليها متعجبا وقال:

_ ماذا ؟!!! ولمَ خرجتِ من بيتك بهذا الوقت ؟!

نظرت إليه بضيق واستياء من اللامبالاة التي تفوح من حديثه وقالت بتوتر وعصبية:

_ لأن والدتي مختفية، ونحن لا نعرف أين هي ولا أين قضت الليلة الماضية!

زفر بضيق وقال:

_ قلت لكِ لا أكترث لأمرها ، وصدقيني لولاكِ أنتِ لكنت أنا أول من يبلغ عنها الشرطة بعد فعلتها النكراء هذه.

نظرت إليه بضيق وقالت بحدة:

_ خلاصة القول أنها لم تعد إلى هنا منذ أن خرجت.. أقصد منذ أن طردتها.

نظر إليها رافعا حاجبه بضيق واستياء وقال:

_ لا لم تعد، ثم ألا تلاحظين قلة التهذيب بطريقتك تلك؟

تماسكت قدر الإمكان لئلا تبكي وتنهار أمامه وهذا آخر ما تريده الآن وتمتمت باقتضاب:

_ أعتذر يا أبي، عن إذنك.

_ إلى أين؟ ابقِ معي اليوم.

_ ليس قبل أن أجد أمي. عن إذنك.

وخرجت مسرعةً وتركته في حالة تعجب من رد فعلها الغريب عليه، وهو الذي توقع أنها ستتقبل الأمر برحابة صدر ، خاصةً لأنها تعرف حجم معاناته مع والدتها منذ زمن. ولكن على ما يبدو كان مخطئا تماما.

وقفت حياة أمام بيت جارتهم السيدة ” تحية ” بحرج وتردد، كلما مدت يدها لتطرق الباب تراجعت بخوف وتوتر إلى أن استجمعت رباطة جأشها أخيرا ودقت الباب.

دقيقتان وانفرج الباب وظهرت السيدة تحية التي نظرت إليها بتفاجؤ وقالت:

_ حياة !! تفضلي يا ابنتي.

كانت نظرة الدهشة وتقطيبة الحاجبين على وجه السيدة كافية لأن تخبرها أن أمها ليست موجودة هنا فقالت:

_ أنا أعتذر منك خالتي، لقد أزعجتك.

_ لا أبدا حبيبتي، تفضلي.. عساه خيرا ؟

تلعثمت وترددت، لا تدري بما ستجيبها ولا كيف ستسألها عما جاءت لتسأل عنه، فبادرت السيدة بالحديث وقالت بقلق:

_ ما الخطب يا حياة؟ هل والدك أو والدتك بخير؟ تحدثي يا ابنتي.

_ أمي، ألم ترينها ؟!!

أحدث حاجبيها تقطيبةً متعجبةً وقالت باستنكار:

_ صفية؟! نعم لقد رأيتها اليوم صباحا، كانت تعبر الشارع ويبدو على وجهها الانفعال والغضب. ولم أرها بعدها.. ماذا حدث ؟ 

_ لا أبدا.  كل ما هنالك أنها تشاجرت مع أبي كالعادة وخرجت ولم تعد حتى الآن.

_ لا حول ولا قوة إلا بالله. إلى أين ستذهب؟! 

أمسكت حياة برأسها في تعب وأجابت:

_ لا أعرف، على كل حال أشكرك خالتي وأعتذر منكِ مجددا لأنني أزعجتك.. عن إذنك.

انصرفت حياة لتكمل رحلة بحثها عن أمها المفقودة؛ فطرقت أبواب كل الجيران بمنطقتهم، وفي كل مرة يتكرر المشهد نفسه ، يبدأ الأمر بتعجب صاحب المنزل لرؤيته حياة في مثل ذلك الوقت وينتهي بتمنياتهم لها بأن تجد ضالتها في أسرع وقت.

بعد مرور ساعتين كاملتين قضتهما حياة في البحث عن والدتها دون جدوى استقلت سيارة أجرة وقصدتها للذهاب إلى بيت حنان وعزيز.

_________

كان عزيز يجلس بجوار حنان، يساعدها في وضع كريمات التجميل التي وصفها لها الطبيب، ثم تركها ودخل إلى المطبخ وأعد كوبًا من العصير الطازج وقدمهُ إليها بابتسامة وقال:

_ تفضلي عصفورتي، ثلاث أرباعه من أجلك والربع الأخير من أجل صغيرنا.

أمسكت بالكوب وهي تضحك وتقول:

_ ما بالك يا زوجي العزيز وقد أصبحت رومانسيا للغاية، هل كل هذا الدلال لأنني أصبحتُ حاملا فقط ؟!

جلس بجوارها وأمسك بيدها وطبع فوقها قبلةً رقيقة ثم قال:

_ لا، كل هذا الدلال لأني اكتشفت أني متيمٌ بكِ، عندما رأيتكِ بتلك الحالة المأساوية شعرت وكأن أحدهم قد شق صدري واجتز قلبي منه ورماه أرضا. لا حرمني الله منكِ حنونة.

وضمها إليه فاستكانت بين أحضانه قليلا حتى استمعا إلى رنين جرس الباب فنظر كلا منهما إلى الآخر بتعجب فقال عزيز:

_ بالتأكيد هذا حسان. لقد أخبرني أنه سيمرر كريم إلينا في طريقه إلى المعرض. 

خرج عزيز وفتح الباب ليتفاجأ بحياة التي تقف أمامه شاحبة الوجه ، خائرة القوى ، وقبل أن تتفوه ببنت شفة كانت قد سقطت أرضا مغشيا عليها.

_ حياة !! 

هتف بها عزيز بصدمة وذهول ثم انحنى وحملها فورا ودخل بها إلى الغرفة الموجودة بها حنان التي صُعقت عندما رأته وهو يحملها بتلك الحالة وقالت بفزع:

_ حياة! ما بها ؟! ماذا حدث؟!

وضعها عزيز بجوارها على السرير ثم نظر إليها وهو يلتقط أنفاسه المتسارعة بفعل الصدمة وقال:

_ لا أعرف، فتحت الباب فوجدتها تقف ويبدو عليها التعب الشديد ، وفجأة سقطت فاقدةً للوعي. 

_ على الأغلب انخفض ضغطها ، أحضر لي جهاز قياس الضغط حالا.

دخل عزيز إلى الغرفة المجاورة وأحضر جهاز قياس الضغط الذي كانت تستعمله حنان في الأيام التي كانت تُمرض فيها عزيز بعد تعرضه للحادث.

أعطاهُ لها فقامت بقياس ضغطها ونظرت إليه بهدوء وقالت:

_ كما توقعت، ضغطها منخفض. سنحتاج لمحلول مغذي حالا يا عزيز .

_ حسنا، سأذهب إلى أقرب صيدلية وأحضره .

خرج عزيز مسرعًا وظلت حنان بجوار حياة ممسكةً بيدها وتمسح عليها بحنوٍ بالغ وهي تتطلع نحوها بأسى وأسف وهي تقول:

_ ترى ما الذي أوصلكِ إلى هذه الحالة يا حياة ؟!

بعد مرور ربع ساعة تقريبا.. كان عزيز قد أحضر المحلول وقامت حنان بتوصيله بوريد حياة التي بدأ ضغطها يرتفع شيئا فشيئا، مُستجيبا للسائل الذي تسرب إلى وريدها ، فتحت حياة عينيها ببطء وأخذت تتطلع حولها بتعب فشعرت بحنان وهي تمسح عن جبينها حبات العرق وهي تقول:

_ حمدا لله على سلامتك حياة، كيف حالك الآن؟

نظرت حياة إلى عزيز فتذكرت عندما فتح لها الباب وفقدت وعيها فورا، أمسكت برأسها بتعب وهي تعتدل لتجلس بالفراش وهي تقول:

_ أعتذر منكما، لقد أزعجتكما منذ الصباح.

تحدث عزيز بود قائلا:

_ أيُ إزعاجٍ هذا ؟! المهم كيف حالكِ الآن ؟

_ بخير ، غالبا هذا الإغماء حدث لأنني لم أتناول شيئا منذ الأمس، إضافةً لأني بذلتُ مجهودا كبيرا اليوم في البحث عن أمي.

نظر إليها كلا من حنان وعزيز بتعجب وقالت حنان:

_ ماذا ؟! ماذا يعني أنكِ كنتِ تبحثين عنها؟

شردت قليلا ثم نظرت أرضا بحزن وقالت:

_ لقد طلقها أبي، وبعد أن طلقها قام بطردها ولم يُراعِ حتى أنها لا تملك مكانا للذهاب إليه.

كان عزيز يحدق بها بذهول وقال:

_ غير معقول ! هل اتصلتِ بها؟

زفرت باستياء وقالت:

_ لم تأخذ هاتفها .

زمت حنان شفتيها بأسف شديد ونظرت إلى حياة وقالت:

_ أنا أعتذر يا حياة، نحن لم نخبر عمي بشيء صدقيني، كريم هو من أخبره بكل شيء.

نظر إليها عزيز في هذه اللحظة وقال بانفعال:

_ لمَ تعتذرين يا حنان ؟ حتى وإن كنا نحن من أبلغنا عمي فهذا رد فعل طبيعي جدا.

نظرت حياة أرضا بخزي وانكسار فقال عزيز بلهجة أخف حدة وانفعال:

_ أنا آسف يا حياة، لم أقصد مضايقتك أبدا ولكن الأمر يستفزني ويثير غضبي جدا. والدتك كانت ستتسبب في موت حنان لو أنني لم آتِ في الوقت المناسب.. ألم تكتفي بما جنيناهُ من وراءها إلى الآن ؟!

نظرت حنان إليه بتحذير فالتزم الصمت ودخل إلى الشرفة بينما قالت هي:

_ حياة، أرجوكِ لا تكترثِ لكلامه، أنا أعرف أنكِ لديكِ هموما تكفيكي، ولكن عزيز غاضب بشدة ومنزعج جدا لأني أجبرته على عدم إبلاغ الشرطة. أرجوكِ لا تحزني !

ابتسمت حياة وهي تحاول إخفاء حزنها وانكسارها وقالت وهي تربت على ذراعها:

_ أنا أتفهم موقفه ذلك وأقدره كثيرا حنان. وأقدر موقفكِ أيضا ولن أنساه أبدا. و أعتذر لكِ عما بدر منها . ولكني أعتقد أنها نالت جزاءها الآن.

حاولت حنان تخطي ذلك الأمر فقالت بابتسامة:

_ حياة، أنا حامل !

حدقت بها حياة بعينين متسعتين بذهول ورددت:

_ حامــل !! هل أنتِ جادة ؟!

هزت رأسها بتأكيد وقالت:

_ نعم، عرفنا عندما كنا بالمشفى أمس. حامل في بداية الشهر الثاني.

احتضنتها حياة بفرحة شديدة وقالت بابتسامة عريضة:

_ مبارك عليكِ حنون، لقد فرحت من أجلكما كثيرا. .

_ شكرا حياة ، أنتِ إنسانة جميلة بقلبٍ جميل. 

ابتسمت حياة ابتسامةً لم تصل إلى عينيها وقالت وهي تتفحص وجه حنان بشفقة:

_ هل هذه الجروح عميقة؟ 

_ لا، أغلبها جروحًا سطحية، وكما تعرفين الجروح السطحية تلتئم سريعا.

استوقفتها كلمات حنان لبرهة، وشردت بها بعيدا وهي تردد باقتناع:

_ صحيح، الجروح العميقة هي من لا تلتئم ، وحتى إن التئمت لا بد أن تترك مكانها ندوبًا لا تزول.

________________

كان صالح لا زال يجلس بسريره ، يشعر بالرغبة في دخول الحمام ، يشعر كذلك بالجوع وقد بدأ يتسلل إلى معدته. ولكنه لن يتمكن من مساعدة نفسه .

زفر بضيق شديد ناتج عن عجزه وحاجته، فقرر الاتصال بحياة ولكنه تراجع عندما تذكر طريقتها والتي كانت صادمة بالنسبة له فترك الهاتف من يده وهو يردد:

_ أموت من الجوع ولا أتصل بقليلة التهذيب هذه.

ثم أمسك بالهاتف وتردد في الاتصال بعزيز ولكنه تراجع مجددا وهو يقول:

_ لا، لا يمكنني الاتصال بعزيز، بالتأكيد سيكون مشغولا برعاية زوجته. لا ينقصه همي.

ثم زفر بقلة حيلة وأخذ يردد:

_ لا حول ولا قوة إلا بالله. وما العمل إذا ؟!

وفجأة استمع إلى صوت باب الشقة وهو ينفرج ثم يُغلق فجلس متأهبا ينتظر دخول إما حياة أو عزيز. وبالنسبة له كان مجيء حياة احتمالا ضعيفا.

ولكن كعادتها دوما لا يمكن لأحد توقعها ، دخلت حياة وقد بدا الإرهاق واضحا عليها وهي تقول:

_ أعتذر لأنني تأخرت عليك.

_ لماذا أتيتِ؟

قالها صالح وهو يتصنع الضيق والغضب فأحضرت كرسيه المتحرك واقتربت لكي تمسك بيديه وتساعده على الانتقال إلى الكرسي المتحرك ثم قالت بهدوء :

_ أتيتُ من أجلك أبي.

_ أبيكِ ؟! هل تذكرتِ للتو أنني أباكِ ؟! وعندما تعاملتي معي بقلة التهذيب تلك ألم أكن أباكِ؟

_ أعتذر منك.

قالتها بتعب وهي تساعده لكي يخرج بالكرسي من الغرفة، ثم توجه إلى الحمام فدخلت إلى المطبخ لكي تعد له الإفطار.

بعد دقائق كانا يتناولان فطورهما سويا ولكنه لاحظ شرودها ومنظر وجهها الشاحب وملامحها الباهتة فقال:

_ هل أنتِ بخير؟ ربما عليكِ زيارة طبيبك .

_ أنا بخير، مجرد إرهاق.

_ ابقِ معي هنا. لا داعي للتنقل بين هنا وهناك وأنتِ بحالتك تلك.

نظرت إليه طويلا حتى ظن أنها شردت ثم قالت:

_ لا أظنه قرارا صائبا يا أبي، أعتقد أنني أحتاج لكي أبقى بمفردي بعض الوقت.. سأمر بك يوميا أكثر من مرة لا تحمل همًا.

هز رأسه بصمت وكأن حديثها لم يَرُقهُ فقالت:

_ والآن علي أن أذهب، سأسأل بجميع المستشفيات ربما تكون قد مرضت أو أغمي عليها وتم نقلها إلى المستشفى. لا بد أن أجدها.

_ ستجهدين نفسك أكثر من اللازم.. أمك ليست عديمة العقل ولا صغيرة بالعمر. عندما تود الظهور ستظهر.. لا تُرهقي نفسك.

لم تعلق على ما قاله ونهضت ثم حملت حقيبتها وانصرفت. وبقي هو بمفرده يتأمل المكان من حوله بحسرة وشرود فسقطت دمعةً من عينيه ولكنه وأدها سريعا.

ارتفع رنين جرس الباب فتحرك بكرسيه المتحرك وفتح الباب ليتفاجأ بالممرضة حسناء تقف أمامه وعلى ما يبدو أنها متوترة وتتطلع بالمكان بارتياب فقالت:

_ مساء الخير.

_ مساء النور دكتورة.. تفضلي.

_ أعتذر لأنني أتيت مجددا ولكني مضطرة لأخذ أغراض مكتب التمريض التي تركتها هنا ، هذه عُهدة كما تعرف. وعندما أتيت في المرة السابقة قامت زوجتك بطردي فورا ولم أتمكن من أخذهم. أرجوك أن تعطني إياهم قبل أن تخرج وتطردني مجددا.

تنهد طويلا بضيق ثم قال:

_ وأنا لم يتسنَ لي أن أعتذر لكِ عما بدر منها. أعتذر منكِ . 

 تبسمت بحرج ثم قالت:

_ العفو منك يا حاج صالح. أنا أتعرض لمواقف كثيرة مشابهة لذلك لم أعد أكترث.

هز رأسه بتفهم ثم أفسح لها المجال لكي تدخل وهو يقول:

_ أعتذر منكِ سيتطلب الأمر أن تدخلي بنفسك، جهاز قياس الضغط والسكر موجودان بغرفتي. وحقيبة المستلزمات الطبية بغرفة الصالون أعتقد.. ولا تخافي ، هي ليست موجودة.

أومأت بموافقة ودخلت لكي تحضرهم سريعا ثم خرجت ووقفت أمامه لتشكره فقالت:

_ أشكرك كثيرا ، تمنياتي لك بالشفاء العاجل إن شاء الله.

أومأ بهدوء ثم نظر إليها لثوان طويلة ثم قال:

_ حسناء ، هل تتزوجيني ؟!

_________

يتبع..

حب_في_الدقيقة_التسعين!

• تابع الفصل التالى ” رواية حب فى الدقيقة تسعين  ” اضغط على اسم الرواية

أضف تعليق