رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الخمسون والاخير 50 – بقلم نعمة حسن
ـ ٥٠، الأخيــــر ـ
~ حب في الدقيقة التسعين❤️ ~
ــــــــــــــــــ
مر يومان على مصارحة حسناء لزوجها بخبر حملها، ومن يومها وهو يعتكف بغرفته وحيدا لا يخرج منها إلا للضرورة، بينما هي تنفرد بنفسها في الغرفة المجاورة ولا تحاول فرض وجودها عليه، انتظرت يوم، واثنان، وها هي في يومها الثالث لا تسعى لبدء الحديث معه وتنتظر أن يخرج هو من قوقعته ويذهب إليها ليفصح إليها عن سبب انغلاقه على ذاته منذ يومين.
ذلك السبب الذي سيشكل لديها فارقا كبيرا وعليه ستترتب أمورا أكثر، ولكن أولا وقبل كل شيء يجب أن تنتزع منه ذلك الاعتراف في أعجل وقت.
نهضت من سريرها ثم خرجت من الغرفة واتجهت إلى غرفته، طرقت الباب ودخلت لتجده يجلس هائما كما تركته قبل يومين، لم يختلف حاله كثيرا وهذا ما أشعرها بالخوف والارتباك أكثر.
ـ ادخلي حسناء.
قالها وهو ينظر إليها بدون تعبيرات واضحة فتقدمت منه وجلست على حافة الفراش بجواره فبادر قائلا:
ـ أعتذر منكِ، لقد طال انتظارك أعلم ذلك.
تنهدت براحة نسبية لأنه أعفاها من حرج البدء في الحديث ودخل في صلب الموضوع فقالت بهدوء:
ـ لا عليك.. كل ما يهمني أن أعرف سبب ردة الفعل هذه، لأن السبب مهم جدا وسيترتب عليه الكثير.
أطلق زفرة طويلة وتمتم مستغفرا ثم قال بحيرة:
ـ أعتذر أيضا لأنكِ رأيتِ مني ردة الفعل هذه، ولكني فوجئت، لا.. بل ذُهلت، لم أتوقع ما قلتِه، عندما رأيتُ حالتك تلك يومها ظننتُ أنكِ ستعترفين لي أنكِ وقعتِ في حبي وأصبحتِ لا تستطيعين الابتعاد عني، حتى أنني لُمت نفسي على طريقة التفكير هذه وقلتُ كيف لرجل خَرِف مثلي أن يتوقع مثل ذلك الاعتراف أساسا ! ولكنك خالفتِ كل توقعاتي بخبر حملك !
بدأت تبكي وهي تشعر بالاستياء من كلامه الذي أشعرها بأن القادم لا يبشر بالخير أبدا ثم تساءلت:
ـ ولمَ كل هذا الذهول؟ ألم تتوقع أن يحدث حمل بعد تلك المرة؟!
أجابها مباشرةً وبدون مراوغة:
ـ صراحةً لا. لم أتوقع ذلك أبدا.. كانت مرة واحدة ولم تتكرر ولم ألقَ لا بالا.
أجابته بحدة طفيفة ولكنها أخبرته بحجم الألم الذي تدفنه بصدرها:
ـ ولكن هذه المرة كانت كافية لحدوث حمل، هل ستخالف إرادة الله؟!
نظر إليها متألما ووضع كفه على يدها وأردف بهدوء:
ـ أعوذ بالله، طبعا لا.. اللهُ قدّر هذا وهو به كفيل، صدقيني حسناء أنا لستُ غاضبا أو منزعجا من هذا الحمل كما تعتقدين..
نظرت إليه باستنكار وقالت:
ـ إذًا لماذا تصرفت بتلك الطريقة عندما أخبرتك؟ الرجل الطبيعي كان سيحتضن زوجته ويهنئها.
أومأ مؤيدا وقال بتفهم:
ـ هذاا الرجل الطبيعي، وليس رجلا قد بلغ من العمر عمرا مثلي، الرجل الطبيعي لم يكن ليحمل هم طفلهُ هذا، أما أنا ؛ فما تبقى من عمري ليس بقدر ما مضى، لا أعرف هل سيهبني الله العمر لكي أراه عندما يولد أم لا؟! كم سنة سأمضيها معه؟! عشر؟! حينها سيكون هو طفلا في العاشرة ووالده كهل في الستين من عمره !! هل سأراه شابًا؟ هل سأموت وأتركه وحيدا دون أب وهو لا يزال رضيعا؟! كل هذه الأسئلة تنخر في رأسي ولا تتوقف، أنا لا أنام الليل حسناء، مر يومان.. تعتقدين أنني أنفرد بنفسي وأنام وأهنأ بالراحة، ولكن في الحقيقة أنني لا أعرف للراحة سبيلا من يومها !
أسقطت رأسها أرضا وطفقت تبكي بصمت ثم قالت بانكسار:
ـ أعتذر منك، لم أعرف يومها أن ما حدث بيننا سينتج عنه هذه الورطة وللأمانة أنا أيضا تفاجئت بهذا الحمل، ولكنني فرحت كذلك، اشتهيتُ كثيرا أن أحمل بطفل يقاسمني ما تبقى من عمري، شعرتُ أن هذا الحمل عوضًا من الله عما رأيته وعانيته طوال حياتي، لا يسعني التفكير في المستقبل والعمر وما تفكر به أنت، لا يسعني سوى أن أفكر بسعادتي ولهفتي لقدومه.
ثم نظرت إليه نظرة واثقة وقالت:
ـ لذا أنا آسفة، لا يمكنني التخلي عنه أبدا.
قطب جبينه مندهشا مما ألقتهُ إليه وقال باستهجان:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن طلب منكِ أن تتخلي عنه؟ أعوذ بالله من أن يجول هذا بخاطري أساسا.
شع الأمل من ناظريها وقالت بابتسامة مترددة:
ـ حقا؟ هذا يعني أنك لن تطلب مني اجهاضه؟!
هز رأسه برفض قاطع وقاله:
ـ أبدا لن أفعل ذلك، من أنا لكي آمرك بقتل نفس حرم الله قتلها؟! أعوذ بالله، هل هذا ظنك بي؟!
تنهدت بأسى ثم قالت:
ـ اعذرني يا صالح، ما رأيته بحياتي، و صنوف البشر التي تعاملت معهم، والضائقات التي تعرضت إليها جعلتني لا أميز الخبيث من الطيب، أصبح الجميع في نظري انتهازي ويركض خلف مطامعه فقط لا غير، لذا أعتذر منك لقد أخطأت تقدير الموقف.
هز صالح رأسه متفهما ثم قال بصوتٍ هادئ:
ـ أفهمك وأقدر ما تمرين به جيدا يا حسناء، على كل حال علينا أن نتخطى ما حدث ونستعد لما هو قادم.
أومأت بموافقة وقالت:
ـ متى سنخبر حياة؟!
ـ ليس الآن.. ليس قبل ثلاثة أشهر على الأقل.
ـ ولكنها ستستاء كثيرا إن علمت أننا تعمدنا إخفاء الأمر عليها.
ـ ابنتي وأعرفها، إن علمت سيزلّ لسانها أمام أمها وتخبرها، وإن علمت صفية لن يكون في صالحنا أبدا. لذا من الأفضل أن نتريث.
هزت رأسها بتفهم وتأييد ثم قالت:
ـ كما ترى.
ابتسم بحنان فطري لا يغادره أبدا ثم قال:
ـ والآن، علينا أن نذهب لطبيب النساء لكي يقوم بفحصك ووصف الدواء اللازم لكِ.
ابتسمت حسناء بابتهاج وأردفت:
ـ يمكنني أن أبتاع الدواء اللازم دون الحاجة لفحص الطبيب.
نظر إليها متعحبا وقال:
ـ لا، لا يجوز.. لا بد أن نذهب للطبيب ويفحصك لكي أطمئن عليكِ وعلى الطفل.
طالعته بابتسامة عريضة ممتنة ثم رفعت كفه الذي يستند فوق يدها وقبلت ظاهره وهي تقول برضا:
ـ لا حرمنا الله منك أبدا، ورزقك العمر الطويل لكي تربِهِ وتراه كما تحب.
اقشعر بدنه إثر هذه الدعوة التي لا يتمنى شيء الآن بقدر ما يتمناها، فأمسك بيدها وقبلها ثم ربت على وجنتها بحنان وابتسامته لا تغادره وهو يقول:
ـ آمـيــن.
ـــــــــــــــــــ
كانت حياة تغفو بسلام وإذ بها تصحو فجأة على صخب وصوت موسيقى غريبة بالخارج فأرهفت السمع لتكتشف أن هذا الصوت بالخارج إنما هو صوت أغنية شعبية رائجة صادفتها عدة مرات وهي تتصفح موقع الفيسبوك، ولكنها تعجبت من كون مصدر الصوت لا يتعدى باب الشقة، أي أن هذه الأغنية الهابطة بألحانها الصاخبة تصدح في أرجاء بيتها !
ـ ما هذا؟! بالتأكيد ليست أمي من تستمع إليها، وليس قاسم..
لم تستطع الجزم بخصوصه – فحتى وإن كان من رابع المستحيلات أن يستمع لهذا النوع من الأغاني – ولكن تصرفاته هذه الأيام أصبحت توحي بأنه سيفاجئها في كل يوم مرتين على الأقل.
التقطت رداءها سريعا ولبسته فوق قميص نومها ثم خرجت من الغرفة بحثا عن قاسم لتتفاجأ به – بالرغم من توقعها – يجلس أمام شاشة التلفزيون ويقوم بمشاهدة إحدى القنوات التي تبث الأغاني الشعبية ويرفع الصوت لأعلى مستوى وهو يتظاهر بالانهماك في مشاهدة الكليب المعروض أمامه.
استدارت حياة ونظرت إلى الشاشة لتجحظ عينيها عندما رأت الفتيات بالكليب يتراقصن وإحداهن تتلوى كالأفعى على كثيب الرمال أمام المطرب فقير الحياء، – وفقير الموهبة أيضا -، فنظرت إلى قاسم بصدمة ممزوجة بالغيرة ولكنه تجاهلها وانشغل بمتابعة الشيء الذي أمامه رغما عنه لكي يثير ضيقها فقط، وقد أدرك أنه نجح فعلا عندما اشتم رائحة الشياط تنبعث من حوله،حينها نظر إلى زوجته التي أمسكت ببطنها بتعب ونظرت إليه بعينين حمراوتين وهدر صوتها من أعمق نقطة في أعماقها المنهكة وقالت:
ـ ما هذا الذي تشاهده؟ بربك هل تنوي إصابتي بولادة مبكرة مثلا؟
نظر إليها وهو يحاول إخفاء توتره ثم قال:
ـ ماذا بكِ، لماذا تصرخين؟
ـ هل تسأل؟ ما هذا الذي تشاهده؟ منذ متى وأنت وقح هكذا وتحب مشاهدة هذه الوقاحة؟!
رفع حاجبه متعجبا وقال ببرود أثار ضيقها أكثر:
ـ هل هذا الانفعال كله لأنني كنت أشاهد التلفزيون؟
ـ بربك؟! أرجوك قاسم لا تتصنع الغباء ولا تستفزني أكثر.. ما هذا الذي كنت تشاهده؟
رفع كتفيه ببرود وأردف:
ـ كما ترين، مطرب يغني وراقصات يرقصن.
تضاعف غضبها وقالت وهي تضغط حروف كلماتها باستياء وتهديد خفي:
ـ ومنذ متى وأنت تحب مشاهدة الراقصات؟
ليجيبها هو وهو ينظر بعينيها بتحدي:
ـ أنا لا أحب مشاهدتهن إطلاقا، ولكن من حين لآخر يجدر بي اختبار مستوى العبث والجنوح لدي.
امتلأت عينيها بالدموع ولكنها صرفتهن سريعا وقالت ببرود مشابه:
ـ وطالما أنك تريد اختبار مستوى الانحراف لديك لمَ لم تطلب مني أن أرقص لك مثلا بدلا من مشاهدة الراقصات؟ أم أن زمار الحي لا يُطرب؟!
طالعها بتفحص، ولن ينكر أنها كانت تبدو مغوية جدا بتلك الهيئة، بدايةً من خُفها البيتي ذو الفرو، وساقيها الناعمين اللذان كشفهما قميص نومها بسخاء عندما انحسر للأعلى قليلا بفضل بطنها المنتفخ الذي أكسبها جاذبية طاغية.
ولكن قاسم لم يكن ليعترف بذلك خاصةً الآن، فنظر إليها متصنعا اللامبالاة وهو يقول:
ـ كنتِ سترقصين لي؟ كيف وبطنك يصل لحلقك بهذا المنظر؟! هيا حياتي اذهبِ وتمددي لكي لا تتورم قدماكِ كما أخبركِ الدكتور، هيا حبيبتي.
انفلتت أعصابها تماما وطالعته بغضب وحنق جدي شديد، ثم صرخت بأعلى صوتها وقالت:
ـ أنت إنسان بارد ومستفز، اللعنة على برودك الذي سيصيبني بجلطة يوما ما.
تجاهل صراخها ثم نهض ومر بجوارها، ثم مال نحوها وقال بصوت خافت ولكنه اخترق قلبها وحواسها جميعا:
ـ لا ترفعي صوتك حياة، وتذكري أننا لسنا بمفردنا، فوالدتك بغرفتها ومن المؤكد أنها تستمع إلينا الآن.
وتركها ودخل إلى غرفتهما فلحقت به وأوصدت الباب ثم اقتربت منه وهمست بنفس مستوى الخفوت:
ـ لقد فهمت، أنت تفعل هذا عمدا لكي تحثها على طلب المغادرة، أنت تطردها بالحيلة !
نظر إليها وقال بجمود:
ـ هذا بسببك، لأنني أراعي خاطرك ولا أريد إحزانك في ظروفك هذه، ولكن صدقيني لو كان الأمر يختلف لما ترددت لحظة في طردها.
أغمضت عينيها بغضب وأخذت شهيقا طويلا ملأت به رئتيها ثم نظرت إليه بهدوء وقالت بعجز:
ـ أنا أعتذر منك بالنيابة عنها، هل هذا يكفي؟
نظر إليها باستهجان ورفض وأردف بقوة:
ـ لا، لا يكفي حتى ولو اعتذرت بنفسها.. ولكني مضطر لعصر فدان ليمون فوق رأسي يوميا لكي أقبل بوجودها هنا من أجلك فقط، صدقيني حياة من أجلك أنتِ فقط.
وتركها وخرج من الغرفة ومن الشقة بأكملها دون أن يخبرها بوجهته كما تعود، فجلست هي على طرف الفراش بتعب وهي تحدث نفسها بقلة حيلة وتقول:
ـ يا إلهي متى سأتخلص من هذا الصراع الذي أعيش فيه؟! لقد سئمت.
استمعت إلى طرقات على باب الغرفة فنظرت لتجدها والدتها التي تقف وبيدها حقيبة على ما يبدو أنها حقيبة ملابسها، وقالت:
ـ صباح الخير حياة.
لم ترفع حياة عينيها عن الحقيبة ونهضت من مكانها ووقفت أمام أمها وهي تقول:
ـ أمي، إلى أين؟
نظرت صفية إلى الحقيبة بيدها وقالت:
ـ سأغادر، في النهاية لا يملك الإنسان منا سوى كرامته، وأنا لن أنتظر حتى يطردني زوجك من بيته، يكفي أفعاله التي تقول كل شيء.
لمست حياة جبهتها بتوتر وقالت وهي تنظر في كل مكان حولها عدا عيني أمها :
ـ أنتِ تخطأين الفهم ماما، قاسم لا يقصد ما فهمتيه أبدا.
نظرت إليها أمها بعتاب وقالت:
ـ بربك حياة ماذا سأنتظر منه أن يفعل أيضا لكي يثبت لي أنه مستاء من وجودي هنا؟ بالأمس كان يجلس ويشاهد التلفزيون وهو يرتدي سرواله الداخلي فقط وكأنه يستعد للسباحة، وطبعا اضطرني للبقاء حبيسة الغرفة طوال الليل، واليوم يجلس ويرفع صوت الأغاني ويواجهك بكل وقاحة أنه يشاهد الراقصات! وكأنه يقول هذا البيت بيتي ويحق لي فعل ما أريد واضربوا رؤوسكم بالحائط إن أردتم.
أسقطت حياة رأسها أرضا بخجل من تصرفات زوجها فشعرت صفية بحرجها والصراع الكامن بداخلها، فربتت على كتفها بحنان وقالت:
ـ لستِ مضطرة للمحاربة في كل الجبهات يا حياة، أنا وزوجك لن نتفق أبدا، هو لن يشعر بالراحة وأنا في بيته،وأنا لن أشعر بالراحة طالما أنا عالة عليه، لذا من الأفضل أن أبتعد.
نظرت حياة إلى أمها بعينين متوسلتين وقالت:
ـ هل ستتركيني في هذه الظروف؟ أنا أحتاجك بشدة.
ربتت صفية على وجنتها وقالت:
ـ طبعا لن أتركك حبيبتي، سآتي لزيارتك كل يوم عندما يخرج إلى عمله، طبعا مهما حاول فلن يستطيع منعي من زيارتك، وإن شعرتِ بأي تعب ولو بسيط هاتفيني فورا.
ـ ولكن.. أين ستبقين؟
ـ بشقة المعمورة، لم يعد لدي مأوى غيرها.
طالعتها حياة بتوتر ففهمت صفية أنها تريد اخبارها شيئا، بل واستطاعت تخمين ما ستقوله أيضا فقالت بخوف وترقب:
ـ ماذا بكِ؟ ما الخطب؟!
تنهدت حياة بعجز وحزن، ونظرت إلى أمها قائلة:
ـ لقد كتب أبي شقة المعمورة باسم حسناء..
ولم تكمل حياة ما بدأته حيث قاطعتها أمها وقد ضربت بكفها على صدرها بصدمة وهي تقول بحدقتين متسعتين:
ـ ماذا؟! ما هذا العبث الذي تقولينه؟ كيف فعل هذا !
وأسقطت الحقيبة من يدها أرضا ثم قالت بتحفز:
ـ لقد خَرِف وفقد عقله على الأغلب، سأذهب إليه وأرى كيف يمكنه فعل هذا؟ هذه الشقة من حقك أناِ وأختك فقط، هل ظن أنني مت ولم يعد لديكما من يبحث عن حقوقكما؟ أم أن السنيورة غافلته واستطاعت إخضاعه لرغبتها؟ كنت أعرف أنها طامعة وركضت خلفه من أجل المال هذه الحقيرة.
أمسكت حياة بيدها تحاول منعها من الخروج وهي تقول:
ـ لا، الأمر ليس كما تظنين إطلاقا، حسناء ٱنسانة جيدة صدقيني..
حدجتها صفية بنظرات جحيمية وقالت:
ـ أقسم بالله أتبرأ منكِ وأحسبُ أني لم ألدك من الأساس.
ـ حسنا حسنا أنا أعتذر منكِ أمي، ولكن من فضلك لا تخلقي مشكلة من العدم أرجوكِ.
صرخت صفية بوجهها بعصبية وهي تقول:
ـ عدم؟! أيُ عدم هذا يا غبية؟ تقولين كتب الشقة باسمها، وغدا يكتب بيت العائلة باسمها ويلقي بكِ وبأختك إلى الشارع..
ـ ما الذي تقولينه بربك يا أمي، أبي لا يفعل ذلك أبدا..
ـ لاااا، أباكِ لم يعد موثوقا منه أبدا، بعد أن تصرف مثل المراهقين وتزوج امرأة تصغره بعشرون عاما على الأقل أصبحتُ أتوقع منه أي شيء، ويا حبذا لو أنجب منها ولدا سينسى أنه له ابنتان وينثر الذهب أسفل قدميها.
تنهدت حياة بقلة حيلة وأردفت وهي تحاول تهدئتها:
ـ أنتِ تضخمين الأمر يا أمي، أولا ما تخشينه هذا لن يحدث أبدا، فأبي وحسناء لا يتعاملان كزوج وزوجته من الأساس.
نظرت إليها أمها بعدم فهم وقالت:
ـ ماذا يعني أنهما لا يتعاملان كزوج وزوجته؟ ماذا تقصدين؟
فسرت حياة بحرج وقالت:
ـ أقصد أنه.. يعني.. لم يتلامسا أبدا..
رجعت صفية برأسها للخلف بتعجب هزلي وهي تقول بتهكم:
ـ حقا؟ لا يتلامسان ولا يتعاملان كزوج وزوجته أليس كذلك؟
هزت حياة رأسها بتأكيد فقالت الأخرى باندفاع:
ـ ولماذا تزوجها إذًا؟! هل ليلعبان الغميضة؟ اللعنة عليكِ وعلى غبائك.
ـ يا أمي أرجوكِ، لقد أخبرتك سابقا أن أبي طلبها للزواج لأنه كان يريدها مؤنسةً لوحدته ليس أكثر.
نظرت إليها صفية بغضب واستياء وأردفت:
ـ يا أسفي عليكِ، تزوجتِ وبطنك يصل لأنفك كما قال التيس زوجك ولكنك لاتزالين ساذجة ومراهقة.
وتجاوزتها حتى إذا وصلت إلى الباب ففتحته وخرجت وهي تتمتم بسخط:
ـ لن أترك حق بناتي لك لكي تجامل به زوجتك الحسناء يا صالح الحداد، فإن كنت قد نسيت صفية فبعد اليوم أعدك ألا تنساها أبدا.
ــــــــــــــ
ـ حبيب أبو المكارم.
ـ أنا.
ـ لديك زيارة.
تشنجت نواصي فمه من شدة الابتسام ونزل من سريره يتعثر بحثا عن حذاءه لكي ينتعله ويخرج مسرعا ليرى من قد أتى لزيارته، فمنذ ستة أشهر كاملة لم يرَ لا زوجته ولا ابنته، بعد أن زارتاه وأخبرتاه أنهما ترغبان في السفر إلى تركيا لفترة ليست طويلة وستعودان مجددا، وكان كل شهر ينتظر عودتهما ولكنه يجد أكثم يخبره أنهما لم تعودان بعد، لدرجة أنه قد يئس من مجيئهما مجددا وظن أنهما ابتعدتا للأبد. ولكن هذه الزيارة جددت أمله وبعثت فيه الرغبة في الحياة من جديد.
هرول إلى قاعة الزيارات وهو يتذكر في هذه اللحظة اليوم الأول الذي قررت سارة الصفح عنه ومنحه فرصة ثانية وزارته في السجن، يومها كان يمر بنفس الموقف ويشعر نفس الشعور: اللهفة وكسرة الفقد والهجر.
ولكنه وصل إلى القاعة وأخذ يجول بناظريه بحثا عنهما ولم يجدهما، فتهدلت نواصي فمه التي سبق وتشنجت من الابتسام، وخاب أمله وتلاشت فرحته، ثم جذب انتباهه فجأة شاب طويل وسيم بعيون زرقاء يلوح له بيديه فقطب جبينه متعجبا وهو يتقدم منه حتى وقف أمامه فبادر الشاب بمصافحته بحرارة وهو يقول بحماس:
ـ مرحبا بك عمي حبيب، أنا قصي علم الدين، جار سارة والسيدة فتون بالبناية.
خفق قلبه متأملا من جديد ولكنه لم يستطع إخفاء قلقه ولهفته فقال:
ـ هل هما بخير؟ هل أصابهما مكروه لاقدر الله؟!
ابتسم قصي وأردف مسرعا:
ـ لا أبدا، هما بخير الحمدلله.
تنهد الآخر براحة ثم جلس وأشار إلى قصي قائلا:
ـ الحمد لله، تفضل.
جلس قصي ونظر إلى حبيب نظرة مطولة ثم قال:
ـ حضرتك تشبه سارة كثيرا.. نفس الملامح.
تعجب حبيب هذه المقدمة الغريبة ولكنه أومأ ببساطة وقال:
ـ هل تعرفها؟ أقصد هل أنتم أصدقاء؟!
هز قصي رأسه ولم يستطع منع ابتسامته التي ارتسمت بعرض وجهه كالأبله وقال بعفوية تطير لها الرقاب:
ـ نحن مرتبطان.
حلّق حبيب بحاجبيه عاليا في دهشة، وهو يتمنى أن يكون قد أصيب بالصمم فأخطأ ما سمعه، وقال متعجبا:
ـ ماذا تقول؟ مرتبطان؟! ماذا تقصد؟!
رأى قصي تجهم وجهه فاختفت ابتسامته وانطفأ البريق بعينيه وقال بصوت مبحوح:
ـ لا أقصد ما قلته بالمعنى الحرفي.
ـ إذًا بأي معنى تقصده؟
قالها حبيب بتحفز ولهجة جادة لا تقبل النقاش فكان يشبه الجزار الذي تقدم إليه أحدهم لطلب يد ابنته، ولم ينقصه حينها سوى أن يسن سكاكينه ويفصل عنق قصي عن جسده بكل أريحية.
ـ ااا.. أقصد أنني أحبها.. حبًا شريفًا والله.. وأتيت إليك لكي أطلب يدها منك.
تراجعت حدة حبيب قليلا وهمهم بتفهم وتأني ثم قال:
ـ هممم.. وهي؟ أقصد سارة، هل تعرف بنواياك هذه؟
أجاب قصي بوضوح يحسد عليه:
ـ أجل، لقد صارحتها وتعرف أني أحبها.
ـ وهي؟!
فهم قصي مقصده فقال بحذر:
ـ وهي تحبني.
صمت حبيب للحظات وأخذ يفكر فيما سمعه للتو وبينما هو شارد في بعض النقاط أجابه قصي بخصوصها إذ قال:
ـ أعرف أن سارة لازالت صغيرة، ولكن يمكننا إقامة حفل خطبة لحين إتمامها السن القانوني وبعدها نتزوج.
نظر إليه حبيب بضيق وقال:
ـ ما دخل السن القانوني بالكبر والزواج؟ هل ببلوغها السن القانوني هكذا أصبحت مسئولة ويمكننا أن نضع على عاتقها مسؤولية كبيرة كمسئولية الزواج وإنشاء أسرة! أنت تقدر الأمور بصورة خاطئة، السن القانوني هذا يؤهلك لاستخراج هوية شخصية، رخصة قيادة، وليس بالضرورة أبدا أن يؤهلك لتكون مسئول عن بيت وحياة كاملة.
أومأ قصي موافقا وتابع حبيب:
ـ وخاصةً سارة؛ فسارة تربت في ظروف مضطربة أظن أنك على علم بها بما أنك أتيت إلى هنا، هذه الظروف حالت دون السماح لي ولوالدتها بتربيتها وتنشئتها كما يجب أن يكون، ولا أعتقد أنها ستكون خطوة صائبة إن وافقت على طلبك الآن، فأنا لا أنوي تزويجها وأنا أجلس هنا مغلؤبًا على أمري، لذا علينا تأجيل التحدث في هذا الأمر لحين خروجي من هنا.
تساءل قصي متعجبا مستنكرا:
ـ بعد سبع سنوات؟!!
ـ لا، ست سنوات وأربعة أشهر إن شاء الله.
قالها حبيب وهو يمني نفسه بالفرج القريب بينما تنهد قصي بيأس ثم قال:
ـ أنا مستعد للانتظار، عام، اثنين، ثلاثة، عشرة، ولكني لن أفرط بها أبدا.
تنهد حبيب وابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال:
ـ وأنت لا تزال صغيرا أيضا، لا تجعل حماس الشباب يقودك إلى ورطة لا تستطيع الخلاص منها. تريث ولا تتعجل.
ـ صدقني سيد حبيب، أنا لست فتىً طائشا وأحب سارة كثيرا، وعلى استعداد أن أنتظرها ولو مائة عام حتى.
ضحك حبيب ثم نظر إليه بترقب وتساءل بهدوء:
ـ هل والدك يعرف أنك هنا؟! تزورني بالسجن؟!
صمت قصي قليلا فتنهد حبيب وقد أدرك غايته، بينما أسرع قصي يجيبه لئلا يسمح بحدوث سوء فهم فقال:
ـ لا لم أخبره، ليس لشيء إلا لأنه مشغول جدا هذه الفترة.
هز حبيب رأسه متفهما وقال بابتسامة عطوفة:
ـ كما أخبرتك يا بني، تريث ولا تتعجل، ولا تجعل حماس الشباب يقودك إلى ورطة لا تستطيع الخلاص منها.. هذه نصيحتي لك لكي لا ترجع خالي الوفاض.
ابتسم قصي بألفة، وبالرغم من أنه لم يحرز الهدف الذي أتى لأجله ولكنه يشعر بالسعادة والراحة لأنه أتى وتعرف على رجل متفهم – ولو بدا عليه عكس ذلك -، رجل أشعرهُ أنه والده الذي ينصحه ويقدم إليه يد العون.
نهض قصي وصافحه، وفاجأه عندما مال عليه وعانقه بود ثم نظر إليه مبتسما وقال بثقة:
ـ في الزيارة القادمة بإذن الله سيكون أبي برفقتي وسنقرأ الفاتحة.. عن اذنك.
وغادر قصي وترك حبيب يقف مذهولا، يضرب كفا بكف بتعجب من هذا الجيل المتمثل في قصي، الذي لا يمل ولا يعرف لليأس سبيلا.
ـــــــــــــــــ
اتخذت صفية طريقها نحو بيت العائلة بتحفز واستعداد للنزال والوصول إلى أي مدى لا يهم، المهم أن تثبت لهما أنها لن تتخاذل أبدا وتترك ابنتيها في مهب الريح.
صعدت وهي تلقي ذكريات اليوم الذي خرجت فيه من هذا البيت قبل ستة أشهر عن عاتقيها، حتى إذا وصلت أمام الشقة رفعت يديها وأخذت تضرب بهما بكل همجية وهي تقول:
ـ افتح يا صالح، لا بد أن نتحدث فورا.
استشعرت الهدوء الذي يلف المكان وهذا ما أثار غيرتها وغضبها أكثر وراحو تتخيل ما يجري بالداخل، لا بد أنهما ينعمان بلقاءٍ دافيء والشموع تزين الغرفة من حولهما والورود منثورة في كل مكان، ولكنها لن تترك لهما المجال لكي يهنأا أبدا، ستكون وتظل وتبقى كابوس حياتهم.
ـ افتح يا صالح، افتح الباب ولا تكن رجلا نذلا.. لا بد أن نتحدث بخصوص بناتك. ما فعلته هذا ليس في صالحهما أبدا، ولا في صالحك أنت أيضا، لأنني لن أسكت عن حقهما ولن أسمح لك أن تهبه للبرنسيسة صائدة الرجال هذه.. قلتُ لك افتح الباب قبل أن أكسره على رأسيكما يا عديمي الحياء.
كانت تتحدث إلى نفسها، بالفهل هي تتحدث إلى نفسها ولا أحد يسمعها أساسا، وأخذت تقول بجنون:
ـ حسنا، لن أبرح أرضي حتى يفتح الباب ونتحدث، سأريكم من هي صفية..
ثم جلست على الدرج ووضعت قبضتها أسفل خدها وهي تشعر بالحقد والغضب يكادان يفيضان من قلبها ويتغلغلان حتى يصلان إليهما بالداخل ويلتفان حول رقبتيهما حتى تفيض روحيهما إلى السماء.
وبينما هي تتخيل هذا السيناريو المرعب استمعت إلى صوت صالح الذي لن تخطئه أبدا وهو يتحدث إلى أحدهم ومصدر الصوت يقترب منها رويدا رويدا فعلمت أنهما لم يكونا بالداخل من الأساس، مما ضاعف لديها الغضب والكره تجاههما ولكنها تجاهلت مشاعرها تلك تماما ووقفت بتحفز حتى إذا ما رآها صالح وزوجته صُدموا وشلت الصدمة ألسنتهم.
ـ مرحبا بكما، هكذا يرحب صاحب الدار بضيوفه.
قالتها وهي ترسم ابتسامة صفراء متهكمة على وجهها الذي يشع بالاستياء، فنظر صالح إلى حسناء التي بادلته النظر بتعجب وأكمل صعود الدرج حتى وقفا ثلاثتهم أمام باب الشقة.
ـ ماذا تريدين يا صفية، لماذا أتيتِ؟
قالها صالح بجمود ووجهٍ خالٍ من التعبيرات فأخذت صفية تختلس النظر إلى غريمتها التي تقف بكل ثقة وإباء لا يعكس الخوف الرابض بداخلها ثم قالت:
ـ أريدُ حق بناتي، وحقي.
قطب جبينه متعحبا وقال:
ـ لا أفهم، تحدثي في الموضوع مباشرةً.
صرخت في وجههما بحدة وانفعال وقالت:
ـ ما الذي لا تفهمه يا حاج صالح؟ أريدُ حقي منك، لقد طلقتني وألقيت بي إلى الشارع ولم تفكر في إعطائي قرشًا واحدًا، أليس للمطلقة حقوق بعد طلاقها؟ أم أنك تنكرها ولا تعترف سوى بحقوق الزوجة الجديدة فقط؟
تنهدت حسناء بضيق وقد علمت أنها ستتدخل في الأمر بطريقة أو بأخري، وربما تكون هي الهدف أساسا.
ـ لا تتعدي حقوقك يا صفية، أنا أعرف ما لي وما علي جيدا، وحقوقك محفوظة ولقد أخبرت ابنتك بذلك منذ اليوم الأول الذي طلقتك فيه، ولكن ما حدث بعدها هو ما جعلني أنشغل عن التفكير في هذا الأمر، فلقد كنا جميعا نظن أنكِ متِ، ولكنكِ ها أنتِ ذا، حية تُرزقين.
رفعت حاجبيها باستهجان وهتفت بأعلى مستويات صوتها الغاضب الذي بالتأكيد سيخترق جدران البيت ويصل لجدران بيوت الجيران فقالت:
ـ نعم أنا حية أُرزق والحمد لله، ولكنها حية تسعى.
قالت الأخيرة وهي تشير بعينيها إلى حسناء التي اتسعت عيناها بذهول ونظرت إلى صالح ثم إليها وقالت بعصبية:
ـ إلزمي حدك يا سيدة، وإياكِ أن تفكري في مواجهتي أبدا لأنني أعدك أنكِ ستخرجين من هنا وأنتِ تتعثرين في كرامتك المُلقاة أرضا.
أصاب صفية ما قالته غريمتها بالضيق والنفور وتقدمت منها بتحفز وهي تقول:
ـ حقًا؟ هل أنتِ يا ممرضة الندامة يا خاطفة الرجال ومخرّبة البيوت من ستجعليني أتعثر في كرامتي؟! على الأغلب أنتِ لا تعرفين من هي صفية بعد!
وقف صالح أمام حسناء يقوم بحمايتها والحول دون وصول صفية إليها وهو يقول بعصبية وغضب هادر:
ـ لقد تطاولتِ علينا وتماديتِ كثيرا يا امرأة، هيا اذهبي حالا ولا ترينا وجهك مجددا.
تخصرت صفية بيديها بتحفز غاضب وقالت بغيرة عمياء:
ـ هل تحميها مني يا سبع الرجال؟ أقصد يا سبع الشيوخ، ماذا فعلت لك هذه الماكرة لكي تقنعك أن تتنازل لها عن بيت هو في الأساس من حق بناتك فقط، هل سحرت لك؟ نعم تبدو مشعوذة ودجالة واستطاعت إلقاء تعاويذها عليك.
غمغم صالح بضيق مستغفرا وقصف صوته مدويا وقال:
ـ هذه الأفعال من اختصاصك أنتِ يا صفية، حسناء إنسانة محترمة وخلوقة ولن أسمح لكِ بإهانتها أبدا.
أصابها اتهامه في مقتلٍ وأخذت تبحث عن رد تستطيع به رأب صدع كرامتها المهدرة فقالت بغضب أهوج:
ـ تقول أنها خلوقة، كيف استطاعت خداعك وإلقاء شباكها عليك إذًا؟ أم أنك أنت من أغويتها يا حاج؟ أجل أجل.. كان علي أن أُدرك منذ البداية أن اللص لا يحوم حول البيت الخَرِب أبدا، لولا أنها رأت منك الانحراف منذ أول يوم رأتك فيه لما نجحت في الايقاع بك أبدا.
ـ كفى، اخرسي.
قالها صالح تزامنًا مع صفعة قوية نزلت على خدها بكل غضب فشهقت بصدمة وهي تتلمس وجنتها المصفوعة بألم، ثم نظرت إلى حسناء التي تختبأ خلفه وعينيها تبث الرفض لما حدث للتو بكل صراحة، ونظرت إلى صالح الذي لم يبدُ عليه الندم فقالت:
ـ هل تضربني يا صالح؟ تضربني من أجلها؟!
ـ لا، أضربك لأنك سليطة اللسان وقليلة الأدب.
هزت رأسها بتوعد وهي تنظر إلى حسناء بتحفز ثم مدت يدها فوق كتف صالح الذي يتوسطهما حتى طالت حجاب حسناء فجذبته ومعه شعرها وهي تقول بقوة غاضبة فتاكة:
ـ حسنا، ليعرف كلا منا قدره جيدا..
صرخت حسناء عندما شعرت بأيدي صفية تكاد تقتلع شعرها من جذوره وحاولت التملص من بين قبضتها والابتعاد عنها ولكنها لم تنتبه وهي ترجع خطوات للخلف فانزلقت قدماها وسقطت من على الدرج..
تسمرت صفية أرضا وهي تشاهد حسناء التي تدحرجت فوق درجات السلم وهي تصرخ بأعلى قوتها حتى استقرت عند نهاية الدرج فاقدةً للوعي والدماء تسيل من أسفل رأسها …. و على جانبي قدميها!!!
ركض صالح صوبها مسرعًا وهو يقول مفزوعًا وقد فرت الدماء من عروقه:
ـ حسناء، يا إلهي.. حسنــــاء..
ونظر إلى صفية التي تقف في مكانها مذعورة :
ـ ماذا فعلتِ بها يا مجرمة، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ، المسكينة حامل.
ـ حامـــل !!!
نطقتها صفية بذهول وشعرت بالهواء يلتصق بحلقها من هول الصدمة، ونزلت درجات السلم وهي تشعر بأن قدميها ترتجفان بشدة حتى إذا مرت بجوار صالح أمسك بها وهو يقول:
ـ لن تهربي يا مجرمة، سأسلمك للشرطة وأرسلك إلى السجن، أقسم أنكِ لن تهربي هذه المرة يا صفية..
كانت صفية تجهش بالبكاء في هذه اللحظة وهي تشعر بالخوف وكأنها ستفقد وعيها وتتمدد بجوار حسناء جثة هامدة، فدفعت صالح بعيدا عنها فأفلتها نظرا لقوته الواهية في تلك اللحظة، ثم أسرعت بالفرار وهربت دون النظر وراءها.
خرجت إلى الشارع تركض بخوف هيستيري وهي تنظر حولها برؤية ضبابية بسبب الدموع التي تغشي عينيها، ثم اتجهت إلى الطريق العمومي وهي تركض كالهاربة من الموت لتصطدم فجأة بسيارة ظهرت أمامها من العدم وسقطت أرضا فاقدةً للوعي غارقةً في بِركة من الدماء.
ـــــــــــــــــــــ
كانت حياة تجلس والقلق ينهش قلبها ولم تجد بدًا من الاتصال بقاسم واخباره بما حدث:
ـ مرحبا قاسم..
ـ ما بكِ حياة هل ستلدين؟
قالها قاسم بلهفة فقالت:
ـ لا، ليس الآن.
ـ إذًا ما به صوتك؟ ما خطبكِ؟
ـ أمي.
صمت لثوانٍ ثم قال بهدوء:
ـ ماذا بها أمك؟
ـ خرجت منذ ساعة تقريبا وقالت أنها ستذهب لأبي، ولا يمكنني الشعور بالراحة أبدا، أخشى أن يكون قد أصابها شيء.
أجاب ببرود:
ـ لا تقلقي حياة فوالدتك لا يصيبها شيء أبدا، على كل حال سأتصل بعمي وأفهم منه ما جرى.
ـ لا، تعال وخذني ونذهب إليهم سويا..
ـ وما الداعي حياة؟ لقد ذهبت أمك إلى أبيكِ لتصفية الحسابات سويا على الأغلب، ما الذي سنفعله نحن هل هما صغار وسنفض النزاع بينهما مثلا؟
استمع إلى تنهيدتها الحارقة وصوتها المتعب وهي تقول برجاء:
ـ أرجوك قاسم، من فضلك.. لا أشعر بالراحة أبدا
تنهد وقال بقلة حيلة:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، حسنا حياة، تحت أمرك، استعدي سأصلك في خلال دقائق.
وأنهى المكالمة وهو يتظر إلى كلا من حسان وعزيز اللذان يجلسان أمامه وقال بنفاذ صبر:
ـ نعمة عدم وجود حماة في حياتكما نعمة لا تقدر بثمن، عليكما أن تشكرا الله ليلا ونهارا عليها.
ضحك حسان وعزيز كذلك فنظر إليه قاسم بغضب مصطنع وهو يقول:
ـ أنت لا تفعل، فوالدتي رحمها الله كانت بلسما يوضع على الجرح فيطيب.
أومأ عزيز مؤكدا وردد:
ـ رحمها الله.
استعد قاسم للانصراف وهو يجمع أغراضه ويردد بخفوت بائس:
ـ لكن أنا فقد ابتلاني الله بسيدة توضع فوق الجرح فتصيبه بالغرغرينة فورا.
انهار كلا من حسان وعزيز من كثرة الضحك بينما اقترب صبر الذي كان يرمي أذنه إليهم وسأل والده بفضول لا يتوقف وقال:
ـ أبي، ماذا يعني غرغرينة؟!
مسح حسان على رأسه وقال بحنو:
ـ عافاك الله يا حبيبي.
أمسك عزيز بياقة قميصه وهو يجذبه إليه بخفة ويقول:
ـ أنت يا ولد، ألم أخبرك أن تتوقف عن تلك الحركات وألا تتسمع علينا مجددا؟
ولكن صبر فاجأه كالعادة وابتسم ابتسامة واسعة وهو يقول مغيرا مجرى الحديث تماما:
ـ متى ستشرف عروسي؟
تناسى عزيز ما كان يقوله ونفخ صدره بابتهاج وقال مبتسما بزهو:
ـ في خلال أيام إن شاء الله.
صفق صبر بحماس وقال:
ـ أنتظر بحماس.
وتركهما وانصرف فنظر عزيز إلى حسان وقال:
ـ شعور أن يكون لديك ابنة يتهافت عليها العرسان قبل مجيئها أساسا هذا شعور غريب، ولكنه جميل.
ضحك حسان مردفا:
ـ صحيح، خاصةً وأن المنافسة بين صبر وكريم ستكون منافسة شرسة.
ضحك الآخر قائلا:
ـ تقصد منافسة غير شريفة، فالاثنان سيحاولان لفت انتباهها بشتى الطرق وأغربها، وهي ستجلس واضعةً قدم فوق الأخرى وتنتقي بينهم بكبرياء يشبه كبريائي تماما.. يا إلهي ما أحلى هذا !!
انفجر حسان ضاحكا وقال:
ـ أظن أنها ستكون مشكلة لا حل لها سوى أن تسرع وتنجب فتاة أخرى لكي تتكافأ الفرص.
ضحك عزيز وأخبره:
ـ فلتأتي الأولى بسلام وبعدها نرى ما يمكننا فعله بخصوص الثانية، الله كريم.
أومأ حسان باسما مردفا بثقة:
ـ ونعم بالله.
ـــــــــــــــ
وقف قاسم بسيارته أمام مدخل البناية فرأى حياة التي كانت قد استعدت ونزلت إليه مسرعةً، فتح لها باب السيارة المجاور له فجلست بتمهل وأغلقت الباب ثم قالت بتعب:
ـ إلى بيت العائلة فورا.
هز رأسه بيأس من رأسها اليابس ثم تحرك منطلقًا إلى حيث أمرته وهو يتمتم بحنق لم يفلح في إخفاؤه:
ـ هل هذا وقت افتعال أزمات؟! ألا ترى والدتك حالتك تلك؟ ألم يكن بمقدورها الانتظار لحين ولادتك حفاظا على هدوئك وإبقائك بعيدة عن التوتر والضغط؟!
لم تُجبه، وفسر هو صمتها بأنها لا تريد مجادلته الآن، ولكن الحقيقة أنها كانت تشعر بحركة عنيفة في بطنها يصل صداها لظهرها، ولكنها تجاهلت هذا الأمر وأغمضت عينيها تحاول البحث عن القليل من الراحة ولكنها صرخت فجأة عندما شعرت بتدفق الماء من داخلها بصورة غير طبيعية فنظرت إلى قاسم بفزع وهي تقول:
ـ قاسم، هذا ماء الولادة على الأغلب..
اتخذ منه الأمر لحظات حتى استوعب ما تقوله وهذا ما أصابه بالخوف والارتباك ونظر إليها قائلا:
ـ لا تخافِ، سنذهب للمشفى حالا..
نظرت إليه بصدمة وهزت رأسها برفض وقالت:
ـ لا، أنا لست مستعدة للولادة الآن أبدا، من فضلك لا تفعل.
كان يقود السيارة بسرعة جنونية وهو ينظر إليها بلمحة خاطفة، ثم إلى الطريق بلمحة أخرى بتشتت وهو يقول بارتياب:
ـ ماذا تقولين، لا بد أن نذهب للمشفى، هذه علامات المخاض.
انفجرت باكية وهي تتشبث بكلتا يديها بحافتي المقعد من أسفلها وتقول بخوف ورجاء:
ـ لا أرجوك، أريد أمي.. أرجوك قاسم أريد أمي حالا..
لولا ظروفها وما تمر به الآن لكان تصرف معها بقلة تهذيب ولكنه سيكون مراعٍ الآن فقط.. وحنون.. لا بأس، ففي النهاية من تتألم أمامه الآن هي حياته، ولا يسعه رؤيتها بهذا الشكل أبدا.
ـ حياة، اهدئي.. تنفسي حبيبتي ولا توتري نفسك من فضلك.. سنصل حالا.
أمسكت بيده اليمنى التي امتدت لتزيل دموعها وتشبثت بها بقوة، وبينما هو يقود بيده اليسرى جحظت عيناه ألمًا عندما شعر بأسنانها تنشب في لحم يده وهي تصرخ بألم مكتوم وتقول:
ـ لا أريد الولادة الآن، أريـــــدُ أمــــــــي !!!!
ـ من أين سأحضر لكِ أمك الآااااااااااااان !!!!
ـ أرجوك قاســــم… أرجوك لا تفعل بي هكذا.
قالتها وهي تسند رأسها على يده التي بحوزتها وتصرخ بقوة مما أثار توتره وارتباكه وشتت انتباهه فقال برجاء وهو على وشك البكاء:
ـ رجاءا حياة توقفي، تحملي قليلا حبيبتي..
شعرت حياة بضربات قوية أسفل ظهرها ورغبة في التقيؤ فعضت يده مرة أخرى بقوة أكبر جعلته يشعر بأن أحدهما ضربه على رأسه بآلة حادة، ولكنه لم يصرخ، لقد نسي أن يتألم هذه المرة فما يراه أمامه الآن من أهوال جعلت من صراخه لمجرد عضة أمرا تافها للغاية.
رفعت حياة ناظريها إلى الأعلى وهي تتوسل إلى الله وتقول ببكاء:
ـ يا رب ارحمني ولا تعذبني أرجوك..
وكتمت أنينها وبكاءها قدر استطاعتها مما جعل قاسم ينهار باكيا متأثرا بحالتها التي لم يسبق أن رآها أبدا.. ولكنه الآن بالذات أدرك لمَ الجنة تحت أقدام الأمهات.
صف سيارته أمام المشفى ونزل مسرعًا وهو يهتف بعلو صوته مستدعيًا أفراد طاقم التمريض الذين أسرعوا وبحوزتهم السرير النقال ثم أسرع صوب حياة وساعدها في النزول ومن ثم الصعود إلى السرير وبعدها أسرعوا بها نحو غرفة العمليات مباشرةً.
ــــــــــــــــــــــ
كان قاسم يقف أمام غرفة العمليات يتحرك في مكانه حركة مفرطة بخوف وقلق، وبيده ممسكا بهاتفه ويقوم بالاتصال بعزيز الذي أجاب:
ـ نعم قاسم؟
ـ عزيز، نحن بالمشفى، حياة تلد، وأنا… أنا خائف جدا.
قال الأخيرة بانهزام فقال عزيز باهتمام بالغ:
ـ حسنا لا تقلق قاسم، سأخبر حنان ونأتي إليكم حالا..
ـ لا.. لا تخبر حنان بذلك، كل ما أحتاجه هو ملابس للأطفال فنحن لم نحضر معنا شيئا.
ـ حسنا لا تحمل هم، سأحضر كل اللازم وأصلك بعد قليل، مع السلامة.
أنهى قاسم الاتصال وانتبه للمرضة التي خرجت من غرفة العمليات وتتحدث إليه وهي تقول باهتمام:
ـ هل أنت قاسم
ـ أجل، هل حياة بخير؟
ـ ولادتها متعسرة جدا ولا تتوقف عن الصراخ باسمك، هل ترغب في الوجود معها الآن؟
ـ بالطبع لو أمكن..
ـ اتبعني.
سار خلفها كما أمرته فدخلت إلى رواق ثم نظرت إليه وقالت:
ـ أفرغ ما بجيبك هنا.
وأشارت إلى طاولة صغيرة ففعل ما طلبته منه، ثم نظر إليها فقالت:
ـ اخلع حذائك وارتدي هذا الخف وهذا الجاون، ثم مر من هنا.
فعل كما أمرته ومر بداخل بوابة تشبه بوابة التفتيش بالمطار فأدرك أنها جهاز تعقيم ذاتي، ثم فتحت باب آخر فظهرت حياة التي ما إن رأته حتى صرخت باسمه في استغاثة عاجلة وهي تقول:
ـ قااااااســــم… ساعدني أرجوك.
هرول إليها ووقف بجوارها ممسكا بيديها فقالت وهي تبكي:
ـ لا تتركني أرجوك، أشعر أنني سأموت.
اقترب منها أكثر حتى بات لا يفصل بينهما شيء ونظر إليها وقال وهو يحاول منع دمعاته من السقوط:
ـ لا تخافِ، أنا معك وبجوارك دائما..
نظرت إليه وهي تبكي وتكتم ألمها وقالت:
ـ الأمر صعب، صعب جدا..
حينها هتف الطبيب بقوة:
ـ مدام حياة، طفلك سيتعرض للاختناق، خذي نفس عميق وادفعي!
كانت حياة تثبت عينيها على عيني قاسم الذي أومأ مؤكدا كلام الطبيب وهمس بخوف:
ـ هيا حياة، أرجوكِ..
حاولت بأقصى جهدها ولكنها صرخت بألم مميت ونظرت إلى قاسم وهي تبكي وقالت:
ـ لا يمكنني..
هنا هتف الطبيب بقوة أكبر قائلا:
ـ مدام حياة ساعديني، سأضطر لتوليدك قيصريا إن لزم الأمر.. هيا ادفعي بقوة
اتسعت عينيها إلى آخرهما وهي تصرخ برفض:
ـ لااا.. لا تفعل إياااااك…
شدت بكل قوتها على ساعدي قاسم الذي نظر إليها بقوة وقال:
ـ حياة، رددي خلفي..
أومأت وهي تأخذ نفسا عميقا فقال:
ـ بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
أغمضت عينيها وهي تردد ما قاله ثم قال وهو يبتسم لها بتشجيع:
ـ هيا حياتي، خذي نفس وادفعي..
فعلت كما أخبرها تماما وهي تكتم صرخةً لو انفلتت لأصابت طاقم التمريض والأطباء جميعهم بالصمم ولم تصمت إلا عندما استمعت لبكاء المولود وقد قلب الأرجاء صراخا ولكن الطبيب لم يمهلها فقال:
ـ مرة أخيرة.. خذي نفس وادفعي.
فعلت كما فعلت المرة الأولى ولكن هذه المرة استعانت بذراع قاسم الذي صار موشوما بعضاتها إلى أن تم الأمر بسلام وأعلن المولود الثاني عن قدومه بالبكاء، فقال الطبيب:
ـ ممتاز، حمدا لله على سلامتك.
حينها تنهدت وهي تشعر بارتخاء جميع مفاصل جسمها وتملكتها رغبة ملحة في النوم، فمال قاسم نحوها وهو يضم رأسها إليه ويقبل جبينها مبتسما واختلطت دمعاتهما وهو يقول:
ـ أحسنتِ حياتي، حمدا لله على سلامتكم..
ابتسمت بوهن شديد فمسح جبينها المتعرق بيده ثم طبع عليه قبلةً ثانية ونهض متجها نحو الممرضة التي شرعت في إلباسهما ثم لمحت قاسم يقف بجوارها على استحياء وهو ينظر إلى طفليه بابتسامة وأعين باكية فقالت:
ـ يمكنك ضمهما قليلا..
نظر إليها متفاجئا وقال بخوف:
ـ هل يجوز؟
ـ طبعا، هذا يكسبهم مناعة.. تفضل هذا هو الولد، وهذه الفتاة.
ناولته طفلين بحجم اليد، حملهما على ذراعيه وأخذ ينظر إليهما بحنين أبوي فطري، ثم ابتسم وسالت دمعاته وهو يردد:
ـ أحمدك يا ربي على عطاياك.
وتحرك نحو حياة ومال نحوها وهو يقول:
ـ حياتي، ها قد شرفت عين أبيها.
ابتسمت حياة بوهن وفتحت عينيها فرأته يقف مبتسما يضم طفليهما فقالت:
ـ “حلا “.
لم يسمعها جيدا فمال نحوها أكثر وقال:
ـ نعم؟ ماذا تقولين؟
رددت هي بخفوت مجددا وقالت:
ـ حلا.. سنسميها حلا.
ابتسم وهو ينظر إلى الطفلة ويقول:
ـ ما أحلاكِ يا حلا..
ثم نظر إليهما وهو يقول مبتسما بزهو وفرحة:
ـ “حلا” و “سند”.. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
ـــــــــــــــــــــ
بعد مرور شهر….
كان قاسم يجوب الغرفة ذهابا وإيابا وهو يحمل طفليه اللذان لا يتوقفان عن البكاء، ثم مال نحو حمام الغرفة وهو يتحدث إلى حياة الموجودة بداخله ويقول بحنق:
ـ حياتي، هل هذا هو حموم العيد؟! أولادك لا يتوقفون عن الصراخ، ألا تسمعين؟ أم أنكِ تمثلين أنكِ من سكان بنها؟!
وزفر بقلة حيلة وهو ينظر إلى ابنته التي تصرخ بأعلى صوتها وقال بتعجب:
ـ يا إلهي كم تشبهين أمك، لا تتوقفين عن البكاء أبدا.
ثم همس باستياء:
ـ مزعجة!
انفرج باب الحمام أخيرا وخرجت حياة التي تلف جسدها بمنشفة وشعرها بأخرى ونظرت إليه ببرود وهي تقول:
ـ هل هذا الضجيج لأنك تحملهم منذ ربع ساعة فقط؟
طالعها بافتتان وابتسم فأدارت وجهها وابتسمت عندما فهمت مغزى ابتسامته فقال متصنعا الجدية:
ـ ربع ساعة؟! وهل هذه الربع ساعة قليلة؟ يكفي أن اليوم هو دوري في المناوبة الليلية.
نظرت إليه بغيظ وحنق فائض وقالت بخيبة أمل:
ـ وكأنك تنوب عني فعلا، بالله عليك لا تستفزني فأعصابي مثارة بما يكفي.
اقترب منها وهي تقف أمام المرآة ثم قبّل أعلى كتفها العاري وقال بنظرة شغوفة:
ـ لا يوجد من هو أعصابه مثارة أكثر مني حياتي.. ما هذا الجمال والدلال كله، يا أرض احرسي ما عليكِ.
تعالت ضحكاتها الممتزجة ببكاء الصغيرين متزامنة مع طرقات باب الغرفة فنظر كلاهما لبعضهما البعض نظرة صامتة ولكنها تعني الكثير.
حينها أعطاها حلا وتقدم من الباب ففتحه فظهرت صفية التي تنظر إليهم بضيق فقال قاسم ببرود أصبح هو الراعي الرسمي في حوارهما سويا:
ـ عساه خيرا جدة صفية؟
طالعته صفية بغيظ وقالت:
ـ هل تتركان الطفلين لينفطر قلبيهما من البكاء وأنتما تتسامران وتضحكان؟ ثم لماذا تحمل الطفل هكذا كالبطيخة، من الممكن أن يلتوي ظهره.
ورفعت يديها إليه وهي تجلس على كرسيها المتحرك وأخذت منه سند وحملته برفق وهو يقف مسلوب الرأي أمامها ثم نظرت إلى حياة وقالت بانفعال:
ـ وأنتِ لماذا تقفين هكذا؟! هيا ارتدي ملابسك لا تزالين نفساء ومن الممكن أن تصابِ بحمى.
ثم نظرت إلى قاسم الذي يقف على باب الغرفة بوجه خال من التعبيرات وعادت بنظرها الى بنتها وقالت:
ـ سأعتني به ريثما تخرجين يا حياة، لا تلتهين بزوجك وتنسي الولد، هيا.
واستدارت متجهة إلى غرفتها فصفق قاسم الباب ونظر إلى حياة مبتسما وقال:
ـ لقد بدأت أصدق فعلا أن أمك هي عقابي في الدنيا على ما اقترفته.
ابتسمت وهي تنظر إليه وتتلمس بشرته بحنان وقالت:
ـ لقد اتفقنا ألا تهتم حبيبي، أمي لن تتغير هذه حقيقة علينا أن نسلم بها
أومأ بهدوء وقال:
ـ صحيح، على كل حال يكفيها ما نالها، لن نكون نحن والزمان عليها.
تنهدت حياة بأسى وقالت:
ـ الحمد لله، أخبرني، هل كلمت عزيز؟
ـ أجل، الدكتور أخبرهم أنها ستخضع لعملية ولادة قيصرية غدا.
ـ إن شاء الله.
نظر قاسم إليها مبتسما وقال وهو يتفحص وجهها باشتياق:
ـ حياتي، ما رأيك أن نترك حلا وسند برفقة الجدة صفية ونهرب سويا؟ ما بالي قد أهلكني الشوق يا حياتي، أشتاقكِ كثيرا..
طوقت عنقه بذراعيها ومنحتهُ قبلةً كانت بالنسبة له أكثر من مُرضية ولكنها لم تُرضِ الصغيرة التي ارتفع بكاءها فنظر إليها أبيها بسخط قائلا:
ـ أرجوكِ توقفِ عن المواء قليلا، توقفِ.
وعاد ناظرا إلى حياة التي تبتسم وقربها منه وهو ينظر إلى ثغرها ويقول:
ـ ها حياتي ماذا كنا نقول؟
“حيااااااااااة… هيا.. الولد يتضور جوعا”
بلغهم صوت صفية مخترقا كل الأبواب والحواجز فكتمت حياة ضحكاتها وهي تنظر إلى قاسم الذي ينظر إليها بيأس وقال:
ـ أمك بالخارج، وأولادك بالداخل، ولا حول ولا قوة لي إلا بالله.
ثم أعطاها البنت وهو يقول:
ـ سأذهب للمعرض، على الأقل سأجني منه المال، أما أنتم فلا أجني من وراءكم سوى الام الرأس.
وخرج من الغرفة فتقابلت عينيه بعيني صفية وناظرا بعضهما بتحدٍ ثم خرج من الشقة فتمتمت صفية بضجر وقالت:
ـ من بين رجال العالم كلهم لم تعشق المغفلة ابنتي سوى ابن الحدادين، اللعنة عليهم جميعا.
وكأن ما قالته لم يَرُق سند الذي عبر باكيا فنظرت إليه حيث كانت تحمله فقالت بحنان تكتشفه جديدا في نفسها:
ـ لاا… لا أقصدك يا حبيب جدتك. اللعنة عليّ أنا إن أردت.
خرجت حياة من الغرفة وهي تحمل حلا وتقبل نحو أمها مبتسمةً وقالت:
ـ صباح الخير ماما..
ـ صباح الخير حبيبتي، هيا أعطيني البنت وتناولي فطورك.
نظرت حياة إلى الطاولة حيث أعدت والدتها الفطور فقالت:
ـ لماذا ترهقي نفسك يا أمي، كنت سأعده بنفسي.
نظرت إليها أمها بعتاب وقالت:
ـ أين الإرهاق في إعداد بعض الشطائر وكوبا من الحليب أنا لا أفهم، لقد شُلت قدماي ولكن يداي لازالتا بصحة جيدة.. هيا تناولي فطورك سريعا لكي تُرضعي الصغار.
بدأت حياة بتناول فطورها وهي تنظر إلى أمها التي تداعب الصغار بحنان فقالت بابتسامة:
ـ أمي هل تحبينهم؟
أجابتها صفية دون النظر إليها:
ـ طبعا، أعز الولد.
اتسعت ابتسامتها وربتت على ذراع أمها بتقدير وقالت:
ـ ونحن نحبك كثيرا يا أمي.
شردت صفية قليلا ثم قالت وشعور بالذنب يخالجها:
ـ حياة، كيف حا?
• تابع الفصل التالى ” رواية حب فى الدقيقة تسعين ” اضغط على اسم الرواية