رواية ارض الدوم – الفصل السادس
كانت أفكارها طول رحلتها الطويلة تدور كالمطاحن داخل عقلها، جسدها ما يزال يرتجف، وذكرياتها ما تزال تدور في رأسها، تجلس في السيارة بجسد متجمد ووجه شاحب مصدوم وأعين متسعة بوجع، والدموع تغطي كامل وجهها .
الجميع حذرها منه، الجميع أبصر حقيقته، الجميع رأى ما يخفيه خلف ملامحه الوسيمة وكلماته الراقية، الجميع فعل، عداها …
سقطت دموعها أكثر وصوت صراخ أحمد يوم وافقت على زواجها ما يزال يرن في أذنها وهو يحرك يديه في الهواء بجنون .
” بتقولي ايه يا نورهـــــان ؟؟ ده ؟! بعد كل اللي اتقدموا ليكِ ؟؟”
“ وماله ده يا أحمد ؟!”
اشتد جنون أحمد وهو يقترب منها لتتراجع خوفًا، مما جعله يتوقف بصدمة وقد شعر بالعجز وهو يلمح الانبهار الصارخ في عيونها بصورة ” عادل ” التي يرسمها أمام الجميع .
” مش شبهك يا نورهان، مش شبهنا، الراجل ده عمره ما هيكون الراجل اللي يقدرك ويسعدك، يا نورهان أنتِ اختي وأنا مش حابب أنك توصلي لمرحلة تكرهي فيها نفسك بسبب الحيوان ده، ده مريض مش بيحب يشوف حد فوقه، وهينزلك لسابع أرض عشان تكوني دايما أقل منه ”
رفعت عيونها له باكية تستغل حبه لها :
” مين قالك كده يا أحمد ؟؟ عادل انسان محترم و…”
” كل ده صورة راسمها عليكِ، بالله عليكِ يا نور لو ليا مكانة في قلبك ما تعملي في نفسك كده، أنتِ تستحقي احسن منه، تستحقي اللي يدوس على نفسه بالجزمة عشان بس تبتسمي، مش اللي يدوس عليكِ عشان يستريح ”
خرجت من شرودها والدموع تزداد، جسدها يهتز على المقعد الخلفي للسيارة وهي تبكي بصوت شبه مسموع، بدأ يرتفع شيئًا فشيء حتى أخرجها السائق من دوامة حسرتها بشفقة :
” ده الآخر يا مدام مش هقدر اكمل من الترعة اللي قدام، بس عامة العنوان اللي حطتيه مش بعيد، ممكن تعدي الجسر واسألي ”
هزت نورهان رأسها وهي تفتح حقيبتها بيد مرتجفة، تخرج أموال لم تعدها، حتى وإن أرادت بسبب ضبابية الرؤية .
هبطت من السيارة تتحرك صوب الجسر وهي تنظر حولها بخوف وقد بدأ الظلام ينتشر في المكان، تتحرك عليه ببطء وحذر، وصوت شهقاتها يرتفع، كل خطوة تأخذها في حياتها يثبت غبائها، ما كان عليها المجئ لهذا المكان، ما كان عليها أن تغامر بالقدوم دون معرفة أحدهم، لكن فكرة عودتها للمنزل بهذا المظهر كانت مستبعدة، كانت في أمس الحاجة لوجود أشقائها جوارها، وكأنها تبحث عن سند تبكي عليه .
أخذت تسير وهي تستدل بالموقع الذي أرسله لها جدها، ومن حسن حظها أن منزل المريدي كان يقع على أطراف القرية، ولم تحتج للبحث طويلًا، فقط سألت البعض ولم يساعدها سوى بعض الأطفال الذين أشاروا لها على الطريق ونظرات الفضول تحلق حولها، سارت حتى أبصرت المنزل الذي كانت تراه طوال الوقت في صور جدها القديمة .
وبمجرد أن ابصرته تحركت صوبه بأقدام مرتجفة وصوت بكائها يزيد وحزنها يطفو أكثر، ولم تكد تتحرك صوب البوابة الداخلية حتى ابصرته .
في اللحظة التي أبصرت أول شخص منهم هتفت باكيــة وهي تنتفض من القهر :
_ مســـلــــم .
اتسعت عيون مسلم مهرولًا صوب نورهان في اللحظة التي انهارت بها بين أحضانه باكية، وصوت أحمد صدح من الخلف بصدمة ورعب كبير :
_ نورهــــــان ؟!
رفعت نورهان عيونها عن حضن مسلم وهي تبصر شحوب وجه أحمد الذي بمجرد أن أدرك حقيقة وجودها حتى هرول صوبها بسرعة يجذبها بعنف غير مقصود من أحضان مسلم، يمرر عيونه على جسدها ووجها وهي تقف باكية أمامهم وشعور الخزي يملئها، تنظر له بندم وكل ما استطاعت نطقه هو :
_ كان عندك حق يا أحمد، داسني يا أحمد، داسني عشان يستريح .
في اللحظة التي انتهت بها من كلماتها ارتفعت سبة نابية لاول مرة تخرج من فم أحمد الذي اسود وجهه بقوة وهو يبصر وجه شقيقته وهيئتها وبدون كلمة واحدة انطلق بخطوات مهرولة صوب الباب وهو يصرخ :
_ قسمــــًا بالله لكون قاتله، والله العظيم ما هرحمه.
ولم يكد يعبر البوابة حتى هرول له حاتم والذي كان الوحيد في هذه اللحظة واعيًا، وقد غمرت موجة غضب الجميع، حيث هرول بسرعة كبيرة صوب أحمد وهو يمسك جسده بصعوبة يصرخ برعب من ملامح أحمد :
_ أحمد استغفر ربّك، مش هيك بتتأخذ الحقوق يا أخوي. استغفر واهدَ وروّق، خلّيك تفكّر بعقلانية .
لكن أحمد كان يحاول الإفلات من يد حاتم وهو يناضل للتحرك صوب عادل والتخلص منه، ويحيى الذي خرج من صدمته بما حدث لشقيقته، هرول بسرعة كبيرة صوب أحمد يعين حاتم على تقييده :
_ أحمد اهدى، أهدى هتروح فين دلوقتي يا بني آدم أنت ؟؟
ضربه أحمد وهو يصرخ بقهر :
_ هروح فين يعني ؟؟ هروح اطلع عين اللي خلفوه، اقسم بالله ما هسيبه يتهنى لحظة .
صمت قبل أن يتحدث بانكسار وهو يشير على نورهان التي كانت في هذه اللحظة تبكي بين أحضان مسلم :
_ ده ضربها، ابن الـ …أيده معلمة على وشها يا يحيى، ضرب أختي، استقوى عليها.
امسكه يحيى بيد مرتجفة من شدة الغضب، ولو أخبره أحدهم أنه سيكون صوت العقل في موقف كهذا لأنفجر ضاحكًا، لكن مظهر أحمد كان مرعبًا، ليصرخ يحيى بيأس وخوف من تهور أحمد :
_ هي أختنـــا برضو، ما هي أختنـــا يا أحمد، وأقسم بالله ما هنسيب حقها، بس أنت أهدى، أحمد أهدى الله يكرمك .
كان أحمد يحاول الإفلات من بين يديّ يحيى وحاتم الذي كبله بسرعة يستغل طوله الذي يماثل أحمد، ويحيى فقط يقف أمامه يردد بقهر وهو يمسك بين يديه وجه أحمد يجبره على النظر له :
_ أهدى والله هناخد حقها، بس أنت أهدى .
كل هذا ومسلم فقط يضم له نورهان وهو يربت على رأسها بهدوء وحنان شديد، ونورهان فقط منهارة من رؤية ما حدث لأحمد، تتمسك بثوب مسلم بخوف مما يحدث .
بينما مسلم فقط يربت عليها بهدوء شديد يُحسد عليه، والجحيم مشتعل داخل صدره، ويقسم بالله لولا وجود نورهان في هذه اللحظة، لكان ذهب إلى ذلك الوسخ ووضع رصاصته في صدره وصدر كل من يعترض طريقه .
أما عن عيسى فقد كان يقف جوار نورهان ومسلم وهو يمسك يد نورهان ينظر لها بخوف يحاول تهدئتها مبصرًا ارتجافها :
– خلاص يا نونو مفيش حاجة، احنا هنا كلنا، والله اروح استناه قدام شغله واعدي عليه بالتوكتوك .
ابتسمت نورهان من بين بكائها، لتشعر بمسلم يبعدها عنه، مانحًا إياها لعيسى هاتفًا بهدوء :
_ خدها جوا يا عيسى واحنا هنحصلك .
وعيسى بالفعل ضمها له بحنان وهو يجرها بالاجبار للداخل يحاول التحدث بما يضحكها، وفكرة أن أحدهم أذى اختهم كانت تخنقه، وآه لو تعلم نورهان أنه لم يكن يمزح حين أشار لرغبته في دهس زوجها أسفل عجلات التوكتوك الخاص به .
راقب مسلم تحرك أخته للداخل، نورهان العزيزة والتي كانت تصغره بعام واحد، لتكون اختًا له ولجميع اشقائه بالرضاعة .
تحرك بسرعة صوب أحمد الذي كان يصرخ بصوت جهوري في المكان :
_ مش هستنى ثانية واحدة يا يحيى، ولا ثانية هستناها وأنا شايف أختي جاية بالمنظر ده، والله اعلم ايه اللي وصلها للحالة دي، ويا عالم كانت أول مرة يضربها ولا لا.
لم يكد يحيى يتحدث حتى تدخل مسلم وهو يدفعه جانبًا بملامح وجه ربما ظهرت جامدة بعض الشيء، لكن ذلك الحريق المستعر في عيونه، لم يكن يدعم الصورة الجامدة بالمرة .
جذب أحمد من ثوبه بغضب وهو يقربه منه بعنف :
_ هتعمله ايه ؟!
_ هقتله.
وكانت كلمة مباشرة دون ذرة تفكير، بينما مسلم ابتسم بسمة صغيرة، يمد يده لحافظة سلاحه، يخرجه منه ومن ثم رفع كف أحمد ليضعه به :
_ اتفضل روح اقتله وضيع عمرك عشان واحد زبالة ميستاهلش، خلي اختك تضرب نفسها بالجزمة كل يوم أنها لجئت ليك .
نظر أحمد صوب المسدس بين يده يضغط عليه بقوة، وصوت مسلم يصدح في المكان بنبرة مظلمة :
_ بتعرف تستخدم المسدس ولا اقولك تستخدمه ازاي؟
رفع أحمد عيونه لمسلم بقهر وعجز، ليجذبه مسلم لأحضانه بقوة وهو يربت عليه، وأحمد أنهار صارخًا بوجع بين أحضانه:
_ أختــــــي يا مسلم، أختــــي…
_ حقها هيرجع، وأقسم بالله هيرجع بزيادة يا أحمد، حتى لو كان آخر حاجة هعملها في حياتي كلها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمجرد أن أبصرت ابتعاد جميع الرجال عن المكان الذي كانت تختبئ به، حتى لم تشعر بقدمها وهي تهرول بجنون خارج منزلها .
تهرول صوب وجهة تعلمها، ولا تصدق أن قذارة عز الدين وصلت به لهذه النقطة، يود إحراق المنزل بمن فيه ؟؟ يقتلهم ؟!
ارتجف قلبها برعب كبير وهي تركض لا تهتم بالنظرات صوبها، تدرك أن نهاية ما تفعله لن تكون جيدة، لكنها لا تستطيع الجلوس بينما تراقب أحدهم يخطط لقتل آخر، خاصة لو كان ذلك الآخر هو رجل يكره قومها و ساعدها مرات، رجل قد كان يمثل لها سبيلًا للخلاص .
أول من مد لها يد العون .
ركضت بسرعة وهي تنحرف في طرق ملتوية تدرك أنها ستوصلها بشكل أسرع صوب بيت المريدي، تدعو ربها ألا يكون عز الدين قد سبقها لهم .
وبمجرد أن لاح المنزل أمامها حتى اتسعت بسمتها وهي تزيد من ركضها، أكثر حتى شعرت بالانفاس تنحسر عن صدرها، واخيرًا وصلت وقبل التحدث بكلمة سقطت ارضًا بقوة بسبب تعرقلها لينتفض جسد مسلم نحوها بسرعة وخوف قبل أن يدرك حتى من سقط، يردد دون إدراك لما يخرج منه :
_ بســـم الله .
لكن يده التي كادت تلتقطها توقفت في منتصف الطريق حين أدرك ما الجميع، ابتلع ريقه يبصرها تتحدث بصوت مرتفع جعل الاربعة في الخارج ينظرون نحوها بصدمة .
_ جايين…..ورايا…..عزالدين…عزالدين .
كانت تصرخ وهي تشير للطريق خلفها وانفاسها الضحلة لم تساعد في إخراج الكلمات بشكل صحيح، تبتلع ريقها بصعوبة، وضربات قلبها تعلو، تحاول موازنة أنفاسها لخروج جملة كاملة، وقد كان أول من انتبه لها هو مسلم الذي شعر بالغضب فجأة يتحرك صوبها أكثر بتحفز :
_ عزالدين مين ؟؟ وعمــلك ايــه ؟!
وقد كان هذا أول ما خطر على رأسه، أنها تستنجد به من ذلك الرجل الذي أشارت إليه في حديثها المتقطع، تستنجد به من رجل، ربما هو نفسه من جاءت مرتعبة منه بالصباح .
رفعت رايانا رأسها له بسرعة ليتجمد جسد مسلم من الرعب المتكون في عيونها، ولم يدرك أن ذلك الرعب في هذه اللحظة، لم يكن على نفسها، بل عليهم .
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشير للطريق :
_ عز الدين جمع رجال البارو وجايين يولعوا في البيت ….
وفي ثواني تجمد المكان حول الأربعة رجال وقد توقف أحمد عن الصراخ والحركة ونظر بسرعة صوب مسلم الذي شعر بدمائه تغلي مما يحدث، وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة واحدة ابصروا أجساد تقترب من بداية الطريق، ظلال غير واضحة لكنها كانت كافية لتخبرهم نية هذه الظلال .
وقبل أن يفكر أحدهم فيما يحدث حوله، هرول مسلم بسرعة صوب رايانا يجذبها من يدها بحدة جعلتها تنهض دون كلمة واحدة وهو يهرول بها صوب المنزل يدخلها بعيدًا عما سيحدث، يخفيها عن الجميع ولا يدرك السبب .
ألقى بها في المنزل حيث كان يجلس عيسى يربت على نورهان يتحدث بصوت حاد :
_ عيسى خليك هنا وخد بالك من الاتنين، اوعى حد يقرب منهم، على جثتك يا عيسى فاهم ؟!
وعيسى لم يفهم ما يحدث، لكنه نهض فورًا يومأ بطاعة وهو يتحرك بسرعة صوب الباب يغلقه خلف مسلم لا يفهم ما يحدث، يستدير صوب رايانا التي كانت شاحبة الوجه تتنفس بصوت مرتفع وهي ما تزال تنظر صوب الباب بعدم فهم لما حدث منذ ثواني .
لقد ….لقد ….فكر بها وبسلامتها وسط كل شيء ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الخارج تحرك يحيى بسرعة صوب الجزء الخلفي من المنزل مع حاتم تاركًا احمد مع مسلم لتولي البوابة الأمامية .
ومسلم فقط اخرج سلاحه وهو يجهز وعيونه مثبتة على الطريق يبصر رجال يتحركون صوبهم يحملون الكثير من العبوات البلاستيكية، إذن الفتاة لم تكذب .
وفي الخلف كان حاتم يجهز سلاحه هو الآخر وهو ينظر له بدقة يتحدث بجدية ليحيى :
_ يحيى ضلّ وراي، بالله عليك لا تتهوّر! خلّينا نمـ…
لكن قبل إكمال جملته وجد يحيى يميل لتحطيم مقعد قديم وسط الاغراض التالفة التي كانت تملئ الساحة الخلفية للمنزل.
حطم المقعد واستخلص منه أحد أقدامه، يحركها في الهواء ببسمة واسعة :
_ حاتم بيك دخيلك لا تاكل راسي، اللي يجي على وشك ليك واللي يجي قدامي ليا، اتفقنا ؟؟
ابتسم حاتم له بسمة صغيرة وقبل صدور كلمة الاتفاق من فمه أبصر ظلال تتحرك بخفة في الخلف، وقد بدأت رائحة وقود تملئ المكان، إذن بدأوا بالفعل في تنفيذ خطتهم .
وقبيل التفكير في الخطوة التالية كان يحيى يركض بجنون وهو يظهر من خلف الجدار، وفي لحظة سمع حاتم صوت اصطدام العصى برأس أحدهم وصرخة مرتفعة تعلو في المكان .
ليبتسم وهو يدس المسدس بجيبه وقد قرر خوض المعركة بطريقة يحيى لتقليل الاضرار، انتزع قدم المقعد الثانية وهو يتحرك خلف يحيى ليبصر الأخير يكاد يحطم رؤوس كل من يقابله .
_ والله ما بستغرب إشي… بالأخير أخو مسلم….
وعند مسلم نفسه، أبصر بالفعل تحركهم صوب الجهة الخلفية وكأنهم يبحثون عن الظلام للأنتهاء مما يريدون، البعض منهم كان بالفعل قد وصل للساحة الخلفية، والبعض الآخر كان يدور حول المنزل، ربما بحثًا عن نقطة عمياء .
ومسلم كان اسرع له من اكتشافه لتلك النقطة، فجأة وجد الرجل نفسه ممدًا ارضًا وقد سُحق وجهه بالارضية الترابية الخشنة، وجسد ثقيل يشرف عليه، حاول رفع عيونه ليبصر ما حدث وصوت صراخه الفزع يخرج منه بلا هوادة، لكن قبل أن يرفع رأسه كان مسلم قد طحنها بالفعل في الأرض ليسقط الرجل دون كلمة إضافية .
ولم يكد مسلم يتحرك عنه حتى شعر بضربة قوية على رأسه من الخلف، تأوه بصوت مرتفع ولم يكد يستدر له، حتى هجم أحمد على الرجل من خلفه وهو يجذبه بعيدًا عن مسلم خانقًا إياه من رقبته بعنف شديد .
ومسلم أخذ ثواني يحاول فيها التوازن والتماسك بسبب الدوار الذي أصابه، قبل أن ينهض ويمسك أحدهم ينكب عليه بضربات جعلت الأخير يفقد إحساسه بوجهه، وكأن مسلم قد وُضع بقفض قتال مرة أخرى ويقاتل لأجل حياته .
ومن بين الضربات أمام عيونه أبصر أحدهم يركض للخلف وهو يحمل سلاح لذا نهض بسرعة كبيرة يستند على السور الخارجي .
يخرج سلاحه بسرعة وثواني فقط حتى تماسك مجددًا ، يركض صوب الرجل الذي انحرف للساحة الخلفية ورفع سلاحه بسرعة يوجهه صوب ظهر حاتم، وبلا مقدمات صدح صوت رصاصة في المكان بأكمله…..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الداخل انتفضت رايانا في وقفتها التي لم تتحرك منها منذ تركها مسلم، بينما نورهان نهضت بسرعة وبرعب وهي تتحرك صوب الباب تصرخ بخوف، لولا عيسى الذي أوقفها بسرعة :
_ أنتِ رايحة فين ؟؟
_ أبعد يا عيسى فيه صوت ضرب نار برة، أبعد خليني اشوف حصل ايه .
لكن عيسى رفض التحرك من أمام الباب يشير لها بالعودة :
_ لا طبعًا محدش منكم انتم الاتنين هيتحرك من هنا لغاية ما مسلم والكل يرجعوا، أكيد مش هسيبكم تخرجوا في الـ
وقبل إكمال كلماته سمع الإثنان صوت الفتاة أخيرًا وهي تشير صوب نافذة في البهو تطل على الجزء الخلفي :
_ فيه …فيه حريــــق .
وفي ثواني اتسعت العيون ونسي عيسى كل شيء وهو يفتح الباب ويندفع بسرعة صوب الخارج صارخًا بعدم فهم يتحرك صوب الساحة الخلفية، تتبعه رايانا التي لم تتوقف لثانية وقد ارتجف صدرها برعب من إمكانية نجاح خطة عز الدين، وتلاشي أملها وأمنها.
بينما ظلت نورهان في مكانها حتى وجدت نفسها وحيدة لتركض خلفهم .
وبمجرد أن وصل الثلاثة للجزء الخلفي في المنزل ابصروا الجميع يحاولون إطفاء النيران التي بدأت تلتهم الأثاث القديم بأكمله والذي كان الوقود يفوح منه .
توقفت أقدام رايانا ثواني قبل أن تهرول مجددًا صوب المنزل والجميع يركض في جميع الاتجاهات لإبعاد باقي الاثاث الخشبي عن الحريق حتى لا يمتد للمنزل نفسه .
حدث كل شيء في لحظة واحدة فبمجرد أن خرجت رصاصة مسلم لتصيب ذراع الرجل استغل رفيقه انشغال الجميع بالرصاص واشعل في إحدى الطاولات الممتلئة بالوقود، ومن ثم هرول يتبعه الباقيين بسرعة كبيرة .
تحركت رايانا داخل المنزل وهي تبحث بعيونها عن شيء يساعدها في إطفاء الحريق، وكان أول ما وقع عيونها عليه بعض الأغطية القديمة التي كانت تغطي الاثاث قبل تنظيف المنزل .
حملت واحدة وهي تسعل بقوة بسبب الغبار الذي يقبع فوقها، ومن ثم ركضت للحريق تقفز من بين الجميع صوبه وهي تضرب الغطاء بالاثاث المشتعل.
تحاول إطفاء الحريق ويدها ترتعش، والمثير للسخرية، أن هذه المرة هي الأولى التي تحاول إطفاء حريق وليس اشعالها.
لحظات قبل أن يبصرها مسلم لتتسع عيونه، وهو يركض صوبها يجذبها من خصرها بعيدًا عن الحريق ينتزع منها الغطاء صارخًا بغضب وتوبيخ :
_ ابعــــدي من هنــــا، عيســـــى …
نظر عيسى صوبهم برعب ليفهم فجأة ما حدث، لكن رايانا نظرت له بشر من صراخه لا تفهم سبب صراخه :
_ أنا بحاول أساعـــــد.
_ بقولك ابعدي من هنا، اخرجـــي .
اشتعل وجهها بغضب شديد تبتسم له بضيق وقد شعرت برغبة قوية في دفعه داخل الحريق والقهر يملئ صدرها وقد ظنته لوهلة أنه مختلف عن الجميع .
دفعته بقوة وغضب وكأنها تنفس عن ضيقها في تلك الدفعة التي لم تكن شيء بالنسبة له، سوى أنه نظر لمكان يدها بضيق وغضب كبير ولم يكد يتحدث بكلمة، حتى قالت وهي ترفع عيونها له بشر :
_ أنا اللي غلطانة، كنت سيبتكم تولعوا كلكم، أنت زيك زيهم، تستاهل اللي بيحصل ليك .
رماها مسلم بنظرة مميتة، قبل أن يتحرك ليخمد الحريق تاركًا إياها تقف في مكانها وهي تراقبه بقهر .
ولم تكد تتحرك حتى أبصرها، ليهتف باسم عيسى مرة ثانية :
_ خدها ودخلها البيت هي ونورهان، اخلص يا عيسى .
وبالفعل تحرك عيسى صوبها وهو يشير لها بالتحرك، لترفع إصبعها محذرة إياه الاقتراب :
_ إياك تلمسني وإلا والله لأندمك على …
لكن عيسى جذبها من ثوبها مع نورهان بقوة للداخل :
_ صدقيني أي كان اللي هتعمليه مش هيجي حاجة جنب اللي مسلم هيعمله فيا .
وكانت المرة الثانية التي ينطق اسمه أمامها، لتدرك في هذه اللحظة أن هذا الرجل الغريب المخيف كان …مسلم .
تحركت معه وهي تنظر لمسلم الذي بدأ يحرك الجميع لإخماد الحريق .
والأخير رمقها بقسوة وتحذير أن تسير مع عيسى، لتبعد عيونها عنه بغضب شديد .
نورهان جوارها تنظر للجميع بخوف شديد من تعرض أحدهم للأذى .
ونعم كان هذا استقبالًا حافلًا لها هنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان التوتر يعلو في المكان بشكل مريب، وقد جلس عز الدين مقابل عمه ومعه والده ينتظر وصول الرجال له بالخبر الذي ينتظرونه .
يقضون ليلتهم في دار الاجتماعات خارج منزل البارو .
ومن ثم تحدث الأخير بصوت قلق بعض الشيء :
– خايف اللي أنت باعتهم دول يغلطوا في حاجة ويلبسونا كلنا مصيبة يا عز الدين .
رفع له عز الدين رأسه بعدما كان منشغلًا بهاتفه، يبتسم له بثقة كبيرة :
_ متقلقش كل شيء جاهز، ومن ثم احنا بس هنولع في البيت ونمشيهم مش هنأذي حد يا بارو .
هز البارو رأسه ولم يبصر بسمة عز الدين التي علت وجهه، ويبدو أنه لم يدرك ما يدور داخل رأس ابن شقيقه، ولا شقيقه نفسه الذي كان يتابع ما يحدث ببسمة واضحة مخيفة .
مال على ابنه يهمس بصوت منخفض :
_ قولتلك متقولش ليه على الخطة ده جبان وهيبوظ لينا الدنيا كلها .
رفع عز الدين عيونه للبارو الذي تحرك يقف جوار النافذة وكأنه يترقب عودة جنوده من الحرب منتصرين .
_ عمي ده آخر شخص تشيل همه، اطمن أنت كمان لسه دوره جاي في القايمة، بس خلينا نخلص من أحفاد المريدي دول وافوق ليه .
فجأة ابصر عز الدين انتفاض جسد عمه الذي تحرك عن النافذة يهتف بجدية :
_ رجعوا اهم، افتح الباب ليهم بسرعة يا عز قبل ما حد يلمحهم وتبقى مصيبة .
تحرك عز الدين بسرعة صوب الباب وهو يفتحه مفسحًا الطريق أمام رجاله، لتتسع عيونه بصدمة وهو يبصر عودتهم محطمين تقريبًا وأحدهم قد تلقى رصاصة في ذراعه .
_ ايه ده ؟؟ ايه اللي حصل ده ؟!
تحدث أحد الرحال وهو يساعد رفيقه المصاب في الجلوس على مقاعد المجلس :
_ منعرفش يا باشا احنا اول ما وصلنا لقيناهم مستنينا وكأنهم كانوا عارفين أننا رايحين، وعينك ما تشوف إلا النور، فيهم واحد عامل زي التور الهايج نزل ضرب فينا، والراجل اللي كان بيكلم البارو في الساحة ده شكله مجنون نزل ضرب في رضا لما كسر دماغه، وبعدين ضرب سمير رصاصة في دراعه.
كان عز الدين يسمع ما يقال بأعين متسعة وقد ظهر الهلع واضحًا على وجه البارو الذي تحدث بصدمة مشيرًا للرجل المصاب :
_ وأنت جايبه هنا ليه يا متخلف أنت، كنت روحوا بيه لأي حكيم يعالجه أنت عايز تجيب لينا بلوة ؟!
مال عز الدين يتجاهل كلمات عمه، يقترب من رجاله الجالسين بانهزام:
_ يعني الموضوع فشل ؟!
ابتلع الرجل ريقه ينفي برأسه :
_ احنا قبل ما نهرب ولعنا في شوية كراكيب ورا البيت كنا رمينا عليهم بنزين، ولو حظنا حلو فممكن في خلال دقايق تمسك الحريق في البيت .
ابتسم له عز الدين بسمة صغيرة وهو يربت على كتفه :
– ادعي يكون حظكم حلو عشان أنتم مش مستعدين للي ممكن اعمله فيكم لو طلع حظكم وحش وشوية الكلاب دول علموا عليكم بالمنظر ده من غير فايدة .
_ هنعمل ايه يا عز الدين ؟!
رفع عز الدين رأسه لعمه وقد سأم منه ينفخ بضيق :
_ هنستنى لما نسمع خبر منهم يا عمي، اطمن كل حاجة هتمشي زي ما عايزين ولو اضطريت اخلص عليهم واحد واحد وادفنهم بايدي في البيت .
ختم حديثه وهو يشرد أمامه وقد انتشر الغضب في صدره، وكرامته ما تزال ترتجف تحت وطأة يد مسلم، يقسم بالله أن يذيقهم مرارة الاقتراب منه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
دخل الجميع للمنزل منهكين بمجرد أن اخمدوا الحريق بصعوبة، وقد تعرض جزء كبير من الساحة الخلفية للدمار قبل أن يسيطروا على الحريق .
تنفس مسلم وقد شعر بكامل بدنه ينتفض من الغضب، تجرأوا ووصلت بهم القذارة لهذه النقطة، جاءوا يحرقون المنزل بمن فيه دون أن ترتجف بهم عضلة، ولولا ستر الله عليهم وحضور تلك الفتاة لما كان أحدهم انتبه لما يحدث إلا حينما ينتهي كل شيء .
وعلى ذكر تلك الفتاة كان أول شيء يقع عيونه عليه بمجرد دخوله مع الجميع، بدأت الأجساد تتساقط بقوة ارضًا، و نورهان تنظر لهم بخوف تطمئن أن الجميع بخير حتى وصلت لمسلم تتلمس ذراعه بخوف :
_ أنت بخير يا حبيبي ؟؟
ابتسم لها مسلم بحب وهو يضمها له بحنان يربت على ظهرها بلطف، ثم مال يقبل رأسها:
_ أنا بخير يا نونو، متقلقيش كلنا بخير .
تحدث يحيى بصوت مرهق وهو ممدد على الأريكة :
_ كداب ده نص دراعه اتحرق.
نظرت له نورهان بخوف، ومسلم فقط يحاول ابعاد ذراعه عنها، وهي مرتعبة تبحث عن إصابته، وكل ذلك يحدث تحت أعين رايانا التي كانت تحدق فيما يحدث أمامهما بمشاعر مختلطة، مشاعر ترأستهم غيرة صغيرة لعدم حصولها يومًا على حنان كذلك الذي يصدر من مسلم للفتاة التي لا تعلم هويتها له، لم يسبق لها أن ضمها والدها بهذا الحنان، لم يسبق أن ربت أحدهم على ظهرها بهذه الطريقة .
فجأة نظر مسلم صوبها بنظرة وترتها خوفًا أن يكون قرأ مشاعرها الداخلية بسهولة، لكنه فقط ردد بهدوء :
_ شكرًا ليكِ يا….
صمت مسلم ثواني قبل أن يقول بهدوء :
_ فروشكا.
نظرت له رايانا بعدم فهم ليبتسم لها بلطف :
_ مش ده اسمك برضو ؟؟
تشنجت ملامحها :
_ فروشكا ؟؟
هز رأسه لها بهدوء شديد وهو يساعد نورهان للجلوس، ومن ثم مر بنظره على الجميع :
_ الحمدلله كل شيء عدى على خير بستر ربنا ومساعدتك، وفي الواقع أنا مش عارف غرضك من ورا المساعدة دي ايه، لكني ممتن ليكِ، فشكرًا جدًا .
ختم كلامه وهو يقف أمامها، بينما هي رفعت عيونها له تنظر لعيونه بتشوش، وقد كانت هذه سابقة في حياتها، رجل يشكرها على شيء فعلته له، أو شخص بشكل عام سعيد من شيء فعلته وهي من اعتادت أن تنال دعوات وتقريع وغضب لما تفعل طوال الوقت .
ابتسمت بسمة واسعة جعلت أعين مسلم تلتمع يبتسم بدور بتعجب لسبب تلك البسمة الواسعة وكأنه للتو أعطاها وسام .
_ لا عادي، مفيش شكر ولا حاجة، أنا أي حاجة ضد عز الدين بتفرحني .
تعجب من كلماتها بشدة :
_ ده نفسه الشاب اللي كسرت ليه دراعه ؟!
_ أيوة هو نفسه عز الدين، هو يبقى …
صمتت قبل أن تتحدث بهويته، تخشى أخباره أنه ابن عمها، رغم علمها أنه ربما خمن هويتها بسبب وجودها في منزل البارو، لكنها تفضل اللعب في الجزء الأمن.
_ هو إنسان مش كويس ومحدش بيحبه هنا غير البارو لانه هيمسك القبيلة من بعده، وعشان كده طايح في الكل .
_ وأنتِ ؟!
كان سؤال مجهول الهوية لترفع عيونها له بعدما كانت تحفضها لتخفي الحقيقة التي تلمع بوضوح في عيونها :
_ أنا ؟!
_ أنتِ من ضمن الكل اللي طايح فيهم ؟!
ارتجف صدر رايانا تبعد عيونها عن بسرعة تنظر صوب الجميع لتبصر اهتمامهم ونظراتهم صوبها وترقبهم لهذا النقاش، مسلم يومًا لم يبدي اهتمام لأحد، حتى حاتم استغرق الأمر منه سنوات طويلة كي يصل لمكانة لدى مسلم تؤهله ليكون شخص هام يخشى عليه مسلم .
لكن هذه الفتاة لم يستغرق الأمر منها ايام حتى لتجعل مسلم يسير خلفها يلملم مشاكلها .
ورغم رغبتها القوية في قول نعم، رغبتها الطاغية في البكاء أمامه أن عز الدين كابوسًا لها، إلا أنها ابتسمت تقول ببساطة :
_ ميقدرش يعمل كده .
رفع مسلم حاجبه، ولم يضغط عليها قبل أن يتحرك يلقي بجسده على المقعد :
_ عرفتي منين حوار الحريقة ده، وليه ساعدتيني ؟؟
حركت رايانا عيونها بين الجميع وقد كان شعور أن تكون مراقبة من جميع الأعين شيء مزعج، لذا تململت في وقتها تقول بجدية :
_ أنا بس …برد ليك جميل الصبح وكمان …زي ما قولتلك اي حاجة ضد عز الدين أنا معاها .
ولم تكد تتحرك حتى أوقفها مسلم بهدوء :
_ فروشكا …
توقفت وهي تتنفس بصعوبة من كلمته تلك تستدير نصف استدارة له، ليبتسم هو لها يطمئنها وقد شعر أن هذا أقل ما يرد به جميلها :
_ شكرًا تاني، ولو حصل واحتاجتي شيء احنا كلنا هنا متتردديش أنك تخلينا نرد جميلك ده .
شردت ببسمته، تتنفس بصوت شبه مسموع، تتحرك بسرعة خارج المنزل وقد كان آخر ما وصل لمسامعها صوت عيسى الصغير الذي تحدث بجدية :
_ رجعنا للبداية، هناكل ايه أنا جعان ومفيش أكل و….
ومن ثم ابتعدت عنهم تسير في طريق عودتها للمنزل تدعو ربها ألا يكون والدها أو أحدهم قد شعر بغيابها، لكن فجأة توقفت في منتصف الطريق وهي تتنفس بضيق شديد، تنحرف لطريق آخر تسب نفسها :
_ والله اخرتها الليلة على ايد البارو يا رايانا ..
توقفت أمام منزل صغير لطيف تحيط به حديقة صغيرة، ومن ثم رفعت يدها تطرق بقوة .
وداخل المنزل .
انتفضت من مكانها على الأريكة وهي تركض صوب الباب الذي كاد يتحطم تحت وطأة الطارق تركض برعب في أرجاء المنزل تحمل أول سكين ابصرته ومن ثم فتحت الباب بغضب تنظر صوب الطارق بتهديد، قبل أن تنزل يدها تنظر بصدمة وعدم فهم لرايانا .
_ راي ؟! بتعملي ايه دلوقتي هنا ؟؟
دخلت رايانا المنزل بسرعة وهي تدفعها مغلقة الباب خلفها متحدث بجدية وهي تتحرك صوب المطبخ :
_ عندك اكل هنا ؟!
نظرت سافا في أثرها بصدمة كبيرة تتحرك معها صوب المطبخ :
_ هما حرموكِ من الأكل في البيت ؟؟
اقتحمت رايانا المطبخ وهي تخرج كل ما يقابلها من الاطعمة، ونعم كانت سافا تمتلك الكثير بالفعل، فبسبب حالتها واضطراب الطعام الذي تعاني منه، كانت الفتاة تحتفظ بالكثير من الأطعمة المتنوعة في منزلها .
_ محتاجة مساعدتك نجهز شوية وجبات كده .
_ شوية وجبات ؟؟ أنتِ اتعديتي مني ؟؟
كانت تتحدث بشك وسخرية وهي تبصر الكثير من الطعام يرتص أمامها في المطبخ، قبل أن تبدأ رايانا في تسخينه وهي تتحدث بتردد :
_ مش ليا الأكل.
_ أمال لمين ؟!
تركت رايانا الطعام ليسخن وهي تنظر للأطباق أمامها تدعي انشغالًا بالطعام :
_ ده لـ ..لـ
_ رايانا أنتِ بتخوفيني، لمين الأكل عملتي ايه تاني يا كــــــارثة أنــــــتِ ؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعدما هدأت الأجواء في المنزل، شعر حاتم أن وجوده أصبح في هذه اللحظة ثقيلًا مرفوضًا لوجود شقيقتهم، لذا نهض بهدوء يتنحنح .
_ بما إنه الأمور تمام، رح أروح أقعد برا شوي و…
قاطعه مسلم وهو ينظر له بجدية يدرك جيدًا ما يفكر به صديقه :
_ استنى يا حاتم لو سمحت .
_ ما بزبط هيك يا مسلم… بظنّ إنكم كعيلة لازم يكون عندكم خصوصية شوي. رح أستنى برا لحد ما تخلصوا .
ابتسم له مسلم يجذبه ليجلس بحنق :
_ اقعد يا حاتم هنتفق بس على النظام بعدين اخرج زي ما تحب .
نظر حاتم لهم بخجل وهو يجلس مجددًا، بينما نورهان ما تزال ساكنة في احضان أحمد الذي ورغم أنهم اخمدوا حرائق المنزل، إلا أن حرائق صدره لم يخفت لهيبها حتى ولو بذرة واحدة .
تنفس بصعوبة وهو يسمع صوت مسلم يردد بجدية :
_ حاتم هتفضل في اوضة الضيوف اللي تحت هنا معلش لغاية ما نرتب ليك الملحق اللي برة .
وحاتم تفهم الأمر يهز رأسه بهدوء موافقًا :
_ لو بدّك… بنام برا اليوم، ما عليك منّي .
_ لا البيت كبير، نورهان هتاخد اوضة في الدور التاني وأحمد ويحيى ياخدوا الاوضة اللي جنبها، وانا وعيسى هناخد اوضة الضيوف اللي جنبك تحت هنا، هنمشي الدنيا لغاية ما نشوف هنعمل ايه .
كان يتحدث ومن ثم استقرت عيونه على جسد نورهان التي كانت ما تزال دموعها تهبط ببطء، تتمسك بشارة شقيقها بحزن، ومازالت الأحداث تتوالى داخل عقلها .
وحاتم وجد أنها فرصة مناسبة للأنسحاب، يتحدث بصوت منخفض :
_ رح أروح أدور على ميّ… وإذا لقيت أكل بجيبه، ما رح اتأخر .
هنا لم يصر عليه مسلم الذي أبى أن يطلع غريب _ ولو كان رفيق روحه_ على أسرار أخته .
بمجرد خروج حاتم تنهد مسلم ينظر صوب نورهان بلطف :
_ احكي يا نورهان، قولي اللي حصل بالضبط وعايز من الاول عشان اشوف هنعمل ايه في الحيوان ده .
ارتجف جسد نورهان، يتحدث يحيى بضيق بمجرد أن رأي دموعها تسيل مجددًا:
_ تقول ايه يا مسلم، كل حاجة واضحة، جوزها ده اساسا زبالة، من أول ما اتجوزها وهو كل يوم يطلع ليها بحاجة تنزلها سابع أرض، أمرها تسيب شغلها، واجبرها تقطع علاقاتها بصحاب كتير ليها تحت مسمى غيرة، ولولا الملامة كان قالها تقطع علاقتها بينا احنا كمان .
زادت دموع نورهان وهي ترتجف بين أحضان شقيقها، وكلمات يحيى كانت صحيحة بشكل مرعب، كانت غبية لتمرير كل ما فعله معها طوال هذه السنوات .
تحرك مسلم بهدوء حتى استقر أمامها ارضًا على ركبتيه، يبصر رأسها المستند على صدر أحمد يربت عليه بحب :
_ ليه يا نور، ليه تستحملي كل ده ؟؟ حبتيه ؟
ازدادت دموع نورهان بقوة وهي تنفي برأسها تهمس بصوت مذبوح :
_ اتوهمت إني بحبه يا مسلم، قبل الجواز كنت موهومة ومنبهرة بيه، بس …بس بعد ما عاشرته حسيت إني عمري ما حبيته لحظة، بس …
– بس ايه ؟؟
_ خفت، خفت اشتكي أو اتكلم بكلمة يتقال إن ده اختياري واني السبب فيه، خوفت اتقل على اهلي وادخلهم في مشاكلي، وهو …هو مكانش بالسوء ده، لغاية ما …
صمتت وازدادت دموعها ليجن أحمد وهو يرفع رأسها له :
_ لغاية ما ايه يا نورهان ؟؟
انفجرت نورهان في البكاء وهي تدفن وجهها بين يديها :
_ خاني وطلع بيجيب ستات بيتنا يا أحمد، ولما واجهته ضربني لولا الجيران لحقوني بالعافية كان زمانه مخلص عليا .
ارتجفت يد أحمد التي كانت تضم شقيقته وعيسى نظر لها بحزن وهو مازال يربت على رأسها بلطف :
– معلش يا نور والله العظيم ما يستاهل ضفرك، أنتِ كنت حاجة كبيرة على واحد زيه .
لكن نورهان بكت أكثر من كلماته، إذ بدا أن الجميع أبصر قذارته الداخلية حتى الصغير عيسى، الجميع عداها .
أبعدها احمد بهدوء شديد وهو ينظر لمسلم الذي ما يزال جالسًا ارضًا متجمدًا :
_ اظن كده خلصت يا مسلم، أنا هرجع القاهرة، ومش راجع غير لما أخد حق اختي .
ولم يكد يتحرك حتى أمسك مسلم يده بعدما نهض :
_ استنى بس يا أحمد وكل اللي أنت عايزه هيحصل، بس أصبر عشان ضربه مش هيطفي ناري.
نظر له يحيى بغضب :
_ امال هتعمل ايه يعني يا مسلم هتسيبه يضرب اختنا بالمنظر ده ونسقفله ؟!
ابتسم مسلم وهو ينظر لنورهان يهتف بصوت خافت غريب ومخيف :
_ معاكِ اكونت الفيس بتاعه يا نور ؟؟
نظرت له نورهان بعدم فهم والجميع ارهف السمع له، بينما هو تحرك بهدوء صوب حقيبته يحضرها ملقيًا إياها على الطاولة أمامه، يفتح حاسوبه سريعة وبنقرات عالمة فتحه ثم رفع عيونه لها :
_ ايه اسم الاكونت بتاعه ؟؟
لم تفهم نور ما يريده ورغم ذلك تحركت مع الجميع يلتفون حوله بفضول شديد تهمس لمسلم باسم الصفحة الخاصة بزوجها على التطبيق، وضربات قلبها تعلو بقوة .
ومسلم ينقل خلفها الحروف بمهارة شديد لتظهر له عدة نتائج أخذ يحركها أمام عيونها حتى أوقفته وهي تشير لصورة تعلو الشاشة :
_ دي …هي دي صفحته .
ابتسم مسلم بقوة وهو يدخل صفحته بسرعة يتحرك بها وهو يأخذ بعض المعلومات منها، يتحرك بين الصفحات ويبحث عن أمور كثيرة والشاشة أمامه تتغير بسرعة كبيرة .
ولا أحد يفهم ما يحدث، وعيسى فقط يراقب بانبهار كبير يتحدث ليحيى :
_ أخوك بيعمله عمل على ضهر الكيبورد .
ويحيى فقط ابتسم بسعادة رغم أنه لا يفهم ما يحدث والجميع يراقب الشاشة في انتظار نتيجة ما يحدث .
أما عن مسلم فقد اغلق التطبيق الأول وفتح آخر وأخذ يدخل بعض الاكواد، بها يصنع اشياء غير مفهومة .
قبل أن يتحدث بجدية دون رفع عيونه عن الشاشة حتى :
_ هو سؤال غريب شوية، بس أحمد قال إنك كنتِ زميلة ليه في شركة الترجمة، تعرفي ايميل الشغل بتاع جوزك ؟!
نظرت له نورهان ثواني قبل أن تهز رأسها ببسمة واسعة :
– أيوة اعرفه لأن الشركة معتمدة نظام الايميل الثابت، بمعنى إن الايميل عبارة أول حرف من اسم الشخص واسم والده، بعدين @ اسم الشركة، وهو اسمه عادل مرزوق، وكنا شغالين في شركة اسمها روشينا .
ومن ثم أخذت تخبره حروف اسم الشركة ليكون دقيق، وهو أخذ يكتب خلفها قبل أن تتسع بسمته وهو يراقب ما ظهر له على الشاشة .
وفي ثواني بدأ يكتب كلمات سريعة بلغة جهلها الجميع، لكن هي فقط من علمتها، وكيف لا وهي كانت غارقة بها …الروسية .
أما عن يحيى فقد فتح عيونه بانبهار :
_ ده شكله هيطلع عمل بجد ولا ايه ؟؟
وبعد عشر دقائق تقريبًا انتهى مسلم من كتابة بعض الكلمات وجهز بريد الكتروني متكامل استطاع دسه داخل شركة العمل الخاصة يعادل، وقد أشار لجميع المديرين والموظفين في البريد ومن ثم ضغط على كلمة إرسال.
ثم خرج منه يتحدث بهدوء :
– رقم جوزك واتس .
ونورهان جلست جواره تخبره الرقم بحماس شديد، وهو ينقل خلفها الرقم، ومن ثم دخل بسرعة ارسل له رسالة بها رابط صغيرة وكتب عليه رسالة رسالة صغيرة .
” عادل ايه اللي بيحصل ده؟؟ أنت عملت ايه ؟!”
كانت رسالة صغيرة ومحاولة أصغر أما أن تنجح ويوفر عليه عناء اختراق ملفه الشخصي بطرق قد تأخذ وقت طويل، أو يتجه لخطة ثانية .
صمت وهو يراقب الشاشة والجميع حوله مسلوبي الأنفاس يتابعون ما يحدث بترقب وقد بدأت ضربات القلب تزداد كما لو أنهم ينتظرون هدف فريقهم المفضل في الثانية الأخيرة في المبارة .
وما هي إلا دقائق وظهرت علامة قراءة على الرسالة، وجاءهم رد عادل فورًا .
” حصل ايه ؟! وأنت مين ؟؟ فيه ايه ؟!”
لكن مسلم لم يجيبه وترك الفضول والخوف يلعبون به، وشخص مر بحالة انفصال وفضيحة داخل بنايته سيمتلك من الريبة والخوف ما يجعله يتناسى كافة الاحتياطات ويضغط على رابط مجهول من رقم غريب .
وقد كان .
اتسعت بسمة مسلم بقوة حينما ضغط عادل بالفعل على الرابط الذي أرسله له، ودون ثانية انتظار كان يسحب جميع بيانات عادل لحاسوبه، محادثاته صوره والكثير والكثير مما يخفي على هاتفه، دقائق حتى أصبح مسلم يمتلك نسخة من كافة بياناته .
وكل ما استطاع عيسى النطق به بعد رؤيته لما حدث :
_ أنا عايز اللينك اللي بعتّه ليه ده يا مسلم .
نظر له يحيى بضيق وهو يركز بنظراته على الشاشة أمامه:
– بقولك ايه يا باشمهندس، هو أنا ممكن اجيبلك اكونت حد كده تفرمت أمه ؟!
_ مين بالضبط ؟؟
اتسعت بسمة يحيى الخبيثة وهو يهتف بجدية :
_ عميد الكلية .
ابتسم مسلم له وهو ينتهي مما يعمل عليه يهز رأسه بيأس منهم، وبعد خمسة عشر دقيقة أخرى كان مسلم قد انتهى مما يريد وقد ظهر خط تحميل أمام الجميع يراقبونه بفضول وبعد ثواني انتهى ليضغط مسلم ضغطه اخيرة، وفي لحظات أبصر الجميع ما فعل ..
محادثات خارجة مع بعض السائحات، تهديد لبعض النساء، صور فاسقة مع الكثير من النساء، الكثير والكثير من المحادثات مع زملاء العمل حول فساد الشركة، سب في كل المديرين وكل الموظفين وغيرها من الأمور التي حصل عليها من هاتف عادل، وأخرى كانت من صنع يده .
كل ذلك تم نشره على الصفحة الخاصة بعادل نفسه، وتم إرسالها في مجموعات العمل الخاص، والبريد الإلكتروني الذي أرسله للجميع يعبر به عن كرهه لجميع من بالشركة ورغبته في المغادرة بعدما حصل على فرصة أفضل مع منافس اكبر.
اتسعت بسمة مسلم وتنهد براحة وهو يغلق حاسوبه بهدوء شديد ينظر للجميع الذي ابتعدوا عنه بخوف شديد وأخذوا جانبًا، وقد أخرج عيسى هاتفه بسرعة ينقر عليه بأعين متسعة جعلت أحمد يتساءل بعدم فهم :
_ بتعمل ايه يا عيسى .
اجاب عيسى بجدية وهو ينظر للهاتف بتوتر :
_ هعمل بلوك لمسلم من عندي .
أطلق مسلم ضحكات مرتفعة عليه بينما يحيى ضرب رقبته بسخرية :
_ وهو مسلم هيعمل ايه بالشات ” محادثة ” بتاعك مع رابطة سائقي تكاتك حي المقطم ؟؟
_ يعمل ولا ميعملش اقسم بالله ما هفتح أي لينك اخوك يبعته ليا تاني، اقولك أنا هبيع التليفون واجيب نوكيا وابقوا وروني هتاخدوا منه ايه .
ارتجف فم نورهان إشارة لرغبتها في البكاء قبل أن تلقي نفسها بين أحضان مسلم وهي تهتف بسعادة وتأثر :
_ ربنا يديمك ليا يا مسلم وميحرمنيش من أي حد فيكم يارب .
_ تمام ده ردك على موضوع الخيانة يا مسلم، بس موضوع أنه ضربها ده مش هعديه .
كانت كلمات أحمد الذي هدأ غضبه قليلًا ربما، لكن صدره ما يزال مشتعلًا بالضيق والعصبية والكره، فرفع له مسلم رأسه مبتسمًا ومين قالك أن الموضوع هيعدي كده يا أحمد ده بس كان رد على بهدلتها كل السنين اللي فاتت وأنه ضيع حلمها، إنما موضوع الضرب ده لسه .
هز يحيى رأسه موافقًا :
_ بالضبط مش احنا اللي نسكت على ضرب الحيوان ده لأختنا عشان واحدة من الشارع مـ…
_ روسية.
كانت كلمة قاطعت بها نورهان حديث يحيى، لينظر لها الآخر ببلاهة :
_ ها ؟؟
_ كان بيخوني مع روسية يا يحيى تخيل ؟؟
ابتسم يحيى بحسرة وضيق وعلت عيونه نظرة وكأنه على وشك البكاء :
_ مش عايز اتخيل والله عشان هزعل اوي إن الروسية وافقت على جوزك وأنا كنت ببعت ليهم هاي بيبلكوني .
نظر له مسلم وهو يردد ببسمة ساخرة :
_ وأنت كنت بتبعت ليهم هاي ليه ؟؟
_ ها …اه .. أصل كنت يعني …بنمي اللغة معاهم، سمعت إن سوق الروسيات ..قصدي يعني سوق الترجمة الروسي ماشي دلوقتي و… احنا في ايه ولا في ايه يا مسلم بتقولك خانها مع روسية، احنا نروح ليه بكرة نديله العلقة التمام لغاية ما يعترف على مكان الروسية .
زاد اهتمام عيسى بحديث شقيقه يتساءل بفضول :
_ واحنا هنعمل ايه بالروسية ؟؟
_ هتجوزها انتقامًا للي عمله حبيبها في أختي.
نهضت نورهان وانقضت بالضرب على يحيى الذي أخذ يصرخ مبعدًا إياها عنه بصعوبة وهي مصرة على تشويه ملامحه باظافرها :
_ يا ختي كنتِ اتشطرتي على جوزك بدل ما عينه زاغت للمستورد.
لم يهتم أحمد بما يفعلونه، بل كان شاكرًا لاستفزاز يحيى لاول مرة، إذ صرف انتباه شقيقته عن حسرتها وقهرها، ينظر صوب مسلم بجدية :
_ هنروح بكرة ليه ؟؟
هز مسلم رأسه بجدية وهو يتمم بصوت منخفض وتفكير :
_ هنروح كلنا بكرة ونسيب عيسى هنا مع نورهان لغاية ما نشوف هنعمل ايه لجوزها، ومش هنرجع غير وهو مطلقها.
اعترض عيسى على حديثه بقوة يقول بجدية :
_ لا مش هقعد هنا وأنتم بتضربوه هناك، دي اختي زي ما هي اختكم، ولا أنتم مستقلين بيا ؟!
زفر أحمد بضيق :
_ مينفعش نسيب نورهان هنا لوحدها، يعني لو اخدناك معانا مين يفضل معاها ؟؟ أو ناخد نورهان نفسها معانا وخلاص
ثواني وسمع الجميع صوت طرق بسيط على الباب المفتوح، وصوت أنثوي يصدح بنبرة خافتة بعض الشيء .
_ السلام عليـــــكم ….
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ ها ايه رأيك ؟؟
رفعت عيونها لوالدها وهي ترفع الاكواب عن الطاولة بعدما رحل الضيوف، ليسارع والدها يستفسر عن رأيها في ” العريس ” الذي احضره لها كي يكون أداة في يده يضحد بها احاديث جميع أهالي القرية .
رفعت عيونها لوالدها ولم تتحدث بكلملة فهي في جميع الأحوال، لن يغير رأيها من رأي والدها شيئًا، مجرد ” تحصيل حاصل “كما يقال .
لكنها أجابت بهدوء :
_ كويس .
سار والدها خلفها صوب المطبخ وكأنه لم يعجب بردها هذا، يتمنى نظرة رضى تصلح بعضًا من جلد ذاته وقلقه عليها :
_ كويس بس ؟؟ الراجل الصراحة زي الفل، مش باين عليه سن ولا غيره ومش طالب أي حاجة غير أنك تكوني مبسوطة .
تركت ” كارا ” ما بيدها على الطاولة وهي تنظر له بأعين موجوعة مكسورة :
_ بس أنا مش مبسوطة يا بابا .
توتر والدها وشعر بالعجز لأجلها، ما بين نارين كان، كاد أن يبكي بعجز، ابتلع ريقه وهو يحاول التبرير لنفسه أمام نفسه قبل التبرير لها .
_ يابنتي أنا مش باقي ليكِ العمر كله، ونفسي اطمن عليكِ، وأنتِ شوفتي بنفسك اللي حصل، ومفيش راجل ممكن يفكر يـ
_ مش عايزة يا بابا، مش عايزة اتجوز هنعيش أنا وأنت وبس و….
_ ولما اموت اسيبك لمين يا كارا ؟؟ يابنتي ريحي قلبي أنا اقسم بالله فيا اللي مكفيني، وكمان الراجل مستعجل وانا حددت معاه الفرح بعد اسبوعين فجهزي نفسك وده آخر كلام يا كارا .
ختم حديثه تاركًا إياها تقف في المكان وهي تراقب رحيله بدموع، تسقط ارضًا مستندة بظهرها على الجدار، تضم رأسها بين يديها تشعر بالمكان يضيق بها، وانفاسها أصبحت ضحلة أكثر أكثر.
أغمضت عيونها باكية :
– يارب مش هستحمل تاني، كفاية الحياة اللي عيشتها مع الاول، مش هستحمل أكثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استدار الجميع صوب الباب يبصرون الفتاة نفسها مع أخرى تقف جوارها تفوقها طولًا، مع شعر أحمر اللون وعيون خضراء باهتة بعض الشيء وملامح حادة أكثر من رايانا .
وجوارها كانت رايانا بخصلاتها السوداء الغجرية تضم لصدرها حقيبة وهي تنظر ارضًا بهدوء، تحاول أن تجد مدخلًا لما جاءت لأجله، لا تدرك سبب ما فعلته، لكنها فعلت في النهاية وأتت، ربما اشفقت عليهم .
وربما أرادت…بكل يأس وإثارة للشفقة ألا تخسر الشخص الوحيد الذي اهتم بها، تشتري وده ربما، لا تدري لكنها تتصرف بطيش بدافع الشعور بالانتماء لظل يحميها .
ابتلعت ريقها وهي تنظر بتوتر صوب سافا لا تعلم كيف تتحدث، لكن سافا لم تهتم وهي تتحرك داخل المنزل بهدوء شديد حتى وصلت للبهو حيث يجلس الجميع تضع الحقيبة التي كانت تحملها على الطاولة أمامهم، ومن ثم عادت تأخذ الحقيبة التي بيد رايانا منها تضعها كذلك جوار حقيبتها .
ثم استقامت تبتسم بكل بساطة وبرود :
_ بالهنا والشفا يا جماعة وليلة سعيدة .
وبهذه البساطة انتهت حديثها وهي تتحرك صوب الباب تجذب ذراع رايانا التي كانت تسير وهي تنظر لهم بتوتر وبسمة صغيرة، بينما الجميع ما يزال لا يفهم ما حدث الآن.
وكادوا يخرجون من المكان لولا صوت مسلم الذي خرج دون شعور والذي شعر بتسرعه فجأة بعدما خرجت كلماته دون حسبان :
_ فروشكا لحظة .
توقفت رايانا بسرعة، بينما استدارت لها سافا بتشنج تهمس بعدم فهم :
_ فروشكا ؟!
توترت رايانا وهي تستدير لتبصر مسلم يتحرك صوبهم وهو يردد بجدية وعبوس صغير :
_ كنت …حابب اعتذر ليكِ عن اللي حصل قبل ما تمشي وعصبيتي عليكِ وقت الحريق، وكمان أشكرك مرة تانية على مساعدتك و… على الأكل اللي جبتيه .
صمت وهو لا يدري ما دفعه لإيقافها أو التحدث معها، لكن كل ما يعرفه أنه كان يشعر بالذنب للصراخ بوجهها بعد مساعدتها لهم، والمثير للغضب أكثر أنه لم يتذكر صراخه بوجهها إلا بعدما انتهى مما يؤرقه بشأن عادل :
_ تعبتي نفسك، احنا كنا اكلنا ومش مضطرة تعملي كده .
مالت سافا برأسها وهي تنظر للخلف صوب الجميع الذي تحركوا صوب الاطباق يفتحون علب الطعام بلهفة وجوع، والجميع كان المقصود بهم عيسى ويحيى وأحمد .
_ اه ما هو واضح فعلًا، معلش اعتبرها وجبة خفيفة قبل النوم .
استدار مسلم صوب الخلف ليبصر ما يفعلون فاغمض عيونه بضيق :
_ الله يسامحكم .
وأحمد الذي أدرك أن الجميع ينظر إليهم اعتدل بسرعة وهو يخرج هاتفه بسرعة يدعي انشغالًا به فأطلقت سافا ضحكة مرتفعة عليه، جعلته يرفع عيونه بها لاول مرة منذ دخلت .
فبُهت وجهه حين غمزت له غمزة صغيرة مبتسمة بسمة ملتوية، لتتسع عيونه وهو يراقبها بصدمة، بينما هي اتسعت بسمتها أكثر له فابعد عيونه عنها مغتاظًا ….مفتونًا، يستعيذ ربه من فتنتها للمرأة.
أما عنها فابتسمت بسمة صغيرة وهي تهتف بنبرة رقيقة :
_ بالهنا والشفا يا جماعة .
استدارت صوب رايانا وهي ترى أن مسلم لديه ما يتحدث به، ولثواني أبصرت عيونه التي كانت لا تتحرك عن رفيقتها رغم حضورها القوي، سافا والتي كانت تتفوق على نساء الغجر اجمعين بمظهرها وجسدها ودلالها، تليها رايانا بالمظهر، لكن الغريب أن هناك من قاوم سحرها لحساب رايانا، وهذا .. أسعدها وبشدة .
على المكر ملامحها وهي تميل على أذن رايانا تهمس لها :
_ هنتظرك برة يا …فروشكا .
ختمت حديثها ترفع عيونها صوب أحمد الذي كان ما يزال يراقبها متسع الأعين فابتسمت له بسمة أخيرة وهي تتحرك بدلال للخارج، تاركة إياه يتابعها بأنفاس مسلوبة من جرأتها ومظهرها الناري .
يسمع عيسى يردد بانبهار:
_ طلع الغجر عندهم ساحرات بجد ..
انتبه مسلم لرايانا وهو يردد بجدية :
_ كنت طالب منك خدمة .
تفاجئت رايانا من كلماته وتوترت وهي تعود للخلف تتحرك أكبر مسافة بينهما، وشعور القلق داخل صدرها في حضور البشر ما يزال ينغزها.
_ مني أنا ؟؟ خدمة ايه ؟؟
أبصر في هذه الثانية تراجعها ليعلم داخله أن هناك ما يسبب القلق لهذه الفتاة، لكنه رغم ذلك تحدث بهدوء شديد وهو ينظر بعيدًا عنها وكأنه يجبر عيونه على عدم الخضوع في مظهرها أو تأملها لفترة أطول من ثواني غير محسوبة .
_ بكرة أنا وأخواتي مضطرين نرجع القاهرة، فكنا يعني …بصي أنا معرفش حد هنا ممكن اثق فيه غيرك ياخد باله منها لغاية ما نرجع .
كان يتحدث وهو يشير صوب نورهان التي كانت تصارع عيسى في هذه اللحظة على قطعة طعام، ومن ثم عادت لمسلم مجددًا تهتف بذهول :
– بتثق فيا أنا؟؟
_ معرفش حد هنا غيرك والكل بيتمنى لينا الأذى، ومش هقدر اخدها معانا القاهرة بسبب شوية حوارات، فلو تقدري تفرغي نفسك بكرة تكوني معاها هكون شاكر ليكِ .
شعرت بقلبها ينتفض من كم المشاعر التي هاجمته دون مقدمات، شخص ينظر لها نظرة آدمية، نظرة شخص موثوق به، وليس شخص تخفي اطفالك منه، شخص يراها …. إنسان يستحق التعامل بآدمية .
ارتجفت شفتيها وهي تشعر بالصدمة مما قال، وهو لم يفهم للحظة ما يحدث يقول بسرعة :
_ لو حابة تجيبي صاحبتك اللي كانت معاكِ برضو مفيش مشكلة .
وحسنًا ربما كان متهورًا حقيرًا، كي يأمن على شقيقته مع امرأة لا يعلم لها من هوية، بل ويشك أنها ابنة عدوه، امرأة من قوم يتمنون موتهم كل ثانية، لكن أولم تثبت مرات عديدة أنها أهلٌ للثقة ؟؟
شعر فجأة بتسرعه وقد فكر لثواني في سحب نورهان معهم للقاهرة وتركها مع عائلتهم، لكن قاطعته رايانا عن أفكاره وهي تهز رأسها بلهفة:
_ أنا…موافقة أكيد متقلقش أنا هكون معاها …طول اليوم .
كاد يسحب عرضه لولا رؤيته للمعان عيونها، لمعان ذكره يومًا بلمعان عيونه حينما ترك له والده يومًا يحيى ليعتني به وحده، مرددًا أنه يثق به، وأنه أصبح رجلًا يستطيع الاهتمام بشقيقه، نفس اللمعة، لمعة الشعور بالتقدير .
وشعور خانق داخله منعه من إلغاء عرضه المتهور، يهز رأسه بجدية وهو يتنحنح :
_ تمام، احنا هنتحرك بكرة الصبح .
_ هكون هنا من الصبح .
كانت تتحدث ببسمة واسعة وسعادة غريبة حاولت اخفاءها وهي تتحرك للخلف :
_ أنا همشي عشان اتأخرت على البيت و…
ولم تكد تستدير حتى أوقفها مجددًا :
_ فروشكا .
نبض قلبها مجددًا لذلك الاسم الغريب الذي يسميها به منذ أطعمته الفَروشكا، نظرت له بترقب ليقول بهدوء وتوتر لا يدرك سبب رغبته في قول تلك الكلمات، لكنه أراد ببساطة قولها، خاصة وقد أبصر في هذه الفتاة طفلة صغيرة تسعى للاهتمام.
خرجت نبرته حنونة لطيفة كما لو كان يتحدث لنورهان :
_ عايزة حاجة من القاهرة اجيبها ليكِ معايا ؟؟
وحسنًا إن سقطت الآن ارضًا باكية بحسرة فلن يلومها أحدهم، كان هذا أول فعل إنسان واشدهم رقة يصدر من شخص تجاهها، ربما لأنه لا يعرفها، ولا يعلم ما يتداوله الجميع عنه .
ربما لأنه لم يبصر رايانا التي تظهرها للجميع، أو ربما لأنه أبصر رايانا التي يصر الجميع على غض الطرف عنها .
منعت دموعها بصعوبة تخفض رأسها تنفي رغبتها في شيء بحركات بسيطة، ومن ثم هتفت بكلمة خرجت مصحوبة بغصة مختنقة باكية، تعجبها مسلم :
_ شكرًا .
تحركت بسرعة صوب الباب، لكن ما كادت تخرج منه حتى توقفت للمرة الثالثة بعدما أمسكت بالمقبض بقوة حتى شعرت بكفها يكاد يتمزق .
تستدير ببطء لتراه ما يزال يحدق فيها باهتمام، نظرت له ثواني قبل أن تهمس بصوت متردد خجل :
_ هو أنت….ممكن …تشتري ليا حاجة فعلًا ؟!
تعجب مسلم تغييرها لرأيها، لكنه فقط هو رأسه ببساطة يجيب دون تفكير مبتسمًا بتشجيع بعدما أبصر ترددها وخجلها، وقد نسى مجددًا القاعدة الواحدة التي وضعها قبل مجيئهم هنا .
_ اتمني .
تتمنى ؟؟ الغريب أن لا أحد سابقًا اهتم بما تتمناه هي، لا أحد من عائلتها فكر يومًا فيما ترغب هي به، وها هو مجرد غريب وضع بها ثقته وساندها، ويسألها ما تتمنى .
فركت يدها تنظر في عيونه التي كان يحاول ألا ينظر بها لها، تهمس بصوت منخفض بحلم قديم ظنت أنه تلاشى مع هموم حياتها، لكن سؤاله اعاده لها، وهي لم ترغب في إضاعة فرصة حصولها على ما تريد .
_ فيه …بلورة كده بتكون فيها عروسة بتنور وفيها تلج بيتحرك فيها و…. أنا هدفعلك تمنها، لو قدرت تجيبها ليا و…
قاطعها ببسمة صغيرة لطيفة :
_ تأمري، اعتبريها معاكِ .
اشتد احمرار وجه رايانا وقد نظرت له نظرة في هذه اللحظة يقسم بالله أنها سترافقه سنوات في أحلامه، ومن ثم منحته بسمة صغيرة تهز رأسها بحماس شديد :
_ شكرًا ليك .
وما كادت تتحرك حتى أوقفها للمرة الرابعة والأخيرة ربما لهذه الليلة :
_ هتكون المرة الأخيرة اللي أسألك فيها اسمك ايه ؟!
توقفت تجيبه وقد استدارت له نصف استدارة تبتسم بسمة صغيرة :
_ فروشكا .
_ أنا مسلم .
منحته بسمة صغيرة تهز رأسها بإيجاب، ثم همست :
_ عارفة.
ومن ثم غادرت بسرعة المكان تاركة إياه يحدق في ظهره بفضول قاتل، هذه المرأة غريبة و…مثيرة للاهتمام .
نظر خلفه للجميع ليجد أنهم كانوا قد انقضوا بالفعل على الطعام، فرك خصلاته بتعب وهو يتحرك يلقي بجسده على الأريكة يسحب إحدى علب الطعام صوبه يراقبها بصمت وكأنه يبحث فيها عن أثر صاحبتها، ومن ثم شرع يتناول الطعام في اللحظة التي دخل بها حاتم وهو يردد بجدية :
_ ما لقيت أكل نقدر نعتمد عليه، والناس هون غريبين بصراحة، بس جبت شويّة تسالي ومَيّ… استنى! هاد دجاج هنيك؟؟ بتاكلوا دجاج؟؛
ابتسم مسلم وهو يشير بيده صوب الطاولة :
– أنجز قبل ما يخلصوا على الأكل .
تحرك حاتم بسرعة يسحب علبة طعام له، ليبصر نورهان تأكل مع الجميع فتراجع بخجل من التصرف بوقاحة أمامها، لكنها ابتسمت بسمة صغيرة وهي تدفع علبة صوبه تضع بها قطعة دجاج وهي تردد بصوت خافت :
_ بالهنا والشفا .
سحب العلبة بخجل وهو يجلس جوار مسلم الذي رفع حاجبه بسخرية من رفيقه يتحدث بصوت منخفض :
_ كل يا حاتم، كل واتغذى عشان بكرة عندنا مشوار مهم .
_ عن أي مشوار بتحكي؟
_ صد رد للقاهرة.
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية ارض الدوم) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.