رواية وصية حب الفصل الثاني عشر 12 – بقلم نسرين بلعجيلي

رواية وصية حب – الفصل الثاني عشر

 

 

الفصل الثاني عشر

*وصيّة حب*

بقلم نسرين بلعجيلي

Nisrine Bellaajili

_الفصل الثاني عشر_

المساء كان تقيل، ريحة الشتا في الهوا والسماء غايمة كأنها مستنية حاجة تزعل.

في شقة منى، أم روان، كان الجو دافي، البنت الصغيرة “ملك” قاعدة على الأرض بتلوّن، ومنَى قاعدة في المطبخ بتحضّر شوربة خفيفة.

دقّ جرس الباب. منى مسحت إيدها في الفوطة وراحت تفتح. ولما فتحت الباب، إتفاجئت بوشّ قدريّة.

ملامحها مشدودة، وصوتها دايمًا داخل قبلها :

السلام عليكم.

منى :

وعليكم السلام يا حاجه قدريّة، خير؟

قدريّة دخلت كأنها صاحبة المكان، وسلوى وراها ماسكة شنطة صغيرة.

سلوى ابتسمت بخجل مصطنع وقالت :

– جينا ناخذ ملك شوية، تغيّر جو.

منى ابتسمت بحذر :

بس ياسر ما قالش حاجة، وملك لسه بتتعشى. في حاجة حصلت؟

قدريّة نظرت ليها بنظرة فاحصة وقالت بنبرة جافة :

لا، مفيش غير إن البنت دي بقت بتقضي وقتها كله عند بنتك. وانا مش مرتاحة للموضوع ده.

منى رفعت حاجبها بدهشة :

بنتي؟ تقصدي روان؟

قدرية :

– أيوه، بنتك. بنتك بقت لازقة في إبني لزقة مش مريحة. كل شوية مستشفى، وكل شوية مكالمات، وأنا ستّ فاهمة الدنيا كويس. إبني متجوز، مش ناقصاه واحدة تانية تقعد له على الباب.

منى اتسعت عينيها من الكلام وقالت بحزم :

حاجه قدريّة، لو بتتكلمي عن روان، فهي وقفت جنب سارة في مرضها وقفة شرف. وكل الناس شايفة كده. روان سايبة شغلها علشان صاحبتها، مش علشان جوزها.

قدريّة زفرت بقوة وقالت بنبرة مليانة استعلاء :

أنا ستّ كبيرة، مش محتاجة حد يشرحلي نوايا البنات. الطريق اللي بيبدأ بالحنية بينتهي بالخراب. خلي بنتك تبعد عن إبني يا منى، ولا هاضطر أتصرف بطريقتي.

منى صرخت لأول مرة :

بطريقتك؟! إنتِ بتتكلمي عن إنسانة واقفة بتخدم سارة وهي في المستشفى، حرام عليكِ الكلمة دي.

سلوى حاولت تهدي الموقف :

خالتي قصدها خير بس، ما تاخديش الكلام كده.

منى رفعت راسها وقالت بصرامة :

لا يا حبيبتي، أنا فاهمة كويس، بس قولي لخالتك إن الناس اللي بتخاف من الحرام ما بتمسكش في الناس الطيبة بالشبهات.

قدريّة رفعت شنطتها وقالت ببرود :

خلاص، ما تعصبيش نفسك، إحنا جايين ناخد البت ونمشي. ملك.. يلا يا حبيبتي معايا شوية عند تيتا.

ملك بصت لجدتها بخوف، بعدين بصت لمنى اللي حاولت تطمّنها :

روحي يا حبيبتي شوية وارجعي بكرة. مافيش حاجة.

قدريّة مسكت إيد ملك ومشيت وسلوى وراها، وسكوت منى كان بيقول ألف كلمة وجواها نار مش قادرة تطفيها.

الليل في بيت ياسر…..

الأنوار خافتة، والصالة فيها برودة غريبة. ملك قاعدة على الكرسي، عينها لتحت. قدريّة وسلوى قاعدين جنب بعض، بيشربوا شاي وبيتكلموا بصوت واطي.

قدريّة وهي تهز الكوباية :

والله يا سلوى، البنت شكلها خلاص. المرض بيخلص منها حتة حتة. أنا شفتها النهارده في المستشفى، وشّها أصفر، عظمها باين، شكلها بقت شبه الزومبي.

سلوى حركت راسها بتوتر :

فعلاً يا خالتي، لما شُفتها خفت منها. حسيت إنها خلاص مش فاضل فيها روح.

قدريّة زفرت وقالت وهي بتبصّ في الفراغ :

كل واحد بياخد نصيبه، بس أنا مش هسيب إبني يضيع بعد ما تموت مراته. لازم يبقى ليه بيت وستّ ترعاه هو والبنت.

سلوى سألت بخجل مصطنع :

تقصدي إيه يا خالتي؟

قدريّة حركت راسها وقالت بنبرة فيها برود :

أقصد لما سارة تموت، ياسر لازم يتجوز، وإنتِ أنسب واحدة. إنتِ من البيت، عارفة طبعه، والبت هتحبك بسرعة.

سلوى فتحت عينيها بدهشة :

خالتي! بتتكلمي كأننا مستنيين خبر موتها.

قدريّة بابتسامة متجمدة :

إحنا لا بنستنى ولا بنتمنّى، بس ربنا له حكمته. إستني شوية يا بنتي، إتكي على الصبر، وبعدين كل حاجة هتتظبط. ساعتها هتبقي زوجة محترمة، وياسر هيشكرك بدل ما يلومك.

سلوى ضحكت بخفوت وقالت :

الله يسامحك يا خالتي، كلامك يخوّف.

قدريّة بهدوء بارد :

الخوف ما بيغيرش القدَر. اللي مكتوب هيحصل، والليلة دي شكلها مش هتطول.

وما كانتش تعرف إن “ملك” سامعة كل كلمة. واقفة ورا الباب، إيديها بتترعش، وفي عينيها دمعتين كبار بيجروا على خدّها.

سمعت صوت جدتها بيقول :

لما تموت أمك، كل حاجة هتتظبط.

الجملة خبطت في قلبها زي رصاصة. جريت على أوضتها، قفلت الباب ورمت نفسها على السرير، وبكت وهي بتقول بين شهقاتها الصغيرة :

“ماما مش هتموت.. ماما وعدتني إنها هترجعلي.”

روايات نسرين بلعجيلي Nisrine Bellaajili

وصوت الساعة برّا كان بيكمّل العدّ،

كأنه بيحسب كم دقّة فاضلة لحد ما القدَر ينطق.

ليل المستشفى كان تقيل، الهواء ساكن والوقت ما بيتحركش، وسارة

نايمة على السرير كأنها بتصارع الحلم والواقع في نفس اللحظة. الجهاز بيصدر نغمة هادية “بيب… بيب” كأنه بيتنفّس مكانها.

روان قاعدة على الكرسي جنب السرير، وشّها شاحب من السهر، بس عينها مش بتسيب سارة لحظة.

الموبايل رنّ، إسم “ماما منى” ظهر على الشاشة.

روان مسحت وشها بسرعة وردّت :

ألو يا ماما؟

صوت منى كان عالي ومتشنّج :

إنتِ فين يا روان؟ هو إنتِ ناوية تفضلي في المستشفى كده كل يوم؟

روان :

– ماما، أنا مع سارة، حالتها مش مستقرة.

منى قالت بعصبية واضحة :

طيب إسمعيني، قدريّة جتلي النهارده بنفسها، وقعدت تقولّي كلام يرفع الضغط.

روان اتجمدت في مكانها :

قدريّة؟ راحتلك ليه؟ قالت إيه؟

منى بصوت غاضب :

قالتلي بالحرف: “قولي لبنتك تبعد عن إبني” أنا مش ناقصة مشاكل ولا كلام الناس.

الكلمة وقعت على روان زي حجر. سكتت لحظة، وبعدين قالت بنبرة متكسّرة :

قالت كده فعلاً؟

منى :

أيوه، وبالطريقة دي بالظبط، كأنك بتعملي حاجة عيب، ولا كأنك واقفة جنب واحدة بتموت. أنا سكتلها عشان ما أعملش خناقة في نص العمارة، بس والله يا بنتي دمي اتحرق.

روان حطت إيدها على جبينها، صوتها هادي بس فيه وجع :

ماما، سيبيها، هي ست كبيرة ومتوترة. أنا مش هردّ عليها، ومش هبعد عن سارة.

Nisrine Bellaajili

منى بصوت عالي مليان خوف أكثر من الغضب :

يا بنتي الناس ما بتشوفش نيتك، بتشوف الشكل. هو فيه عقل حيقول إن مطلّقة تقعد ليل نهار مع راجل متجوز في مستشفى؟ الناس هتتكلم يا روان، وحتى لو اللي بتعمليه خير، مش هيفهموه كده.

روان حاولت تهديها :

يا ماما، أنا مش واقفة هنا علشان ياسر، أنا واقفة علشان سارة، الست دي أختي. ولو مشيت دلوقتي، عمري ما هسامح نفسي.

منى اتنهدت بقهر وقالت :

إنتِ مش فاهمة يا بنتي، الدنيا مش رحيمة، والكلمة بتكسر سمعة في ثانية. إرجعي بيتك دلوقتي وخليهم يتصرفوا.

روان سكتت شوية وبعدين قالت بهدوء حزين :

ماما، ربنا اللي بيستر، مش الناس. وإنتِ عارفاني عمري ما كنت باهرب من الحق. خليكِ مطمنة، أنا بخير.

منى قالت بانفعال آخر لحظة قبل ما تقفل :

طيب، أنا قلت اللي عندي، وإنتِ حرة، بس خليك فاكرة كلامي.

المكالمة خلصت. روان فضلت ماسكة التليفون بإيد بترتعش، وعينيها لمعت بدموع مكسوفة.

لما رفعت راسها، لقت ياسر واقف على باب الغرفة. وشه تعبان، ونظرته مليانة قلق حقيقي :

روان… في إيه؟

صوته واطي، لكن كأنه جاي من جوّا القلب.

روان :

مافيش، كنت باكلم ماما بس.

ياسر :

واضح إن المكالمة وجعتك. حصل حاجة تخص أمي؟

روان بصّت للأرض وقالت :

ممكن ننزل الكافيتيريا؟ محتاجة أتكلم معاك شوية.

في الكافيتيريا….

الجو هادي، الضوء خافت وريحة القهوة مالية المكان. قعدوا قصاد بعض، وسكوت طويل سبق الكلام.

روان بدأت بهدوء صادق :

قدريّة راحت لماما النهارده. قالتلها بالحرف “قولي لبنتك تبعد عن إبني”. كأن وجودي هنا غلط، كأن وقوفي جنب سارة جريمة.

ياسر شدّ نفسه، حط إيده على وشه وقال بنبرة فيها وجع وغضب :

لا حول ولا قوة إلا بالله.. حتى بعد كل اللي شايفاه، لسه في قلبها قسوة.

روان بسرعة :

ما تزعلش منها يا ياسر، هي مش شريرة، بس متوترة، خايفة عليك، وخايفة من كلام الناس.

ياسر رفع عينه ليها :

وأنا خلاص، تعبت من الخوف ده. كل اللي بحاول أعمله إني أحمي سارة، لكن واضح إن حتى الخير بيتحسب علينا غلط.

روان قالت بهدوء :

الناس مش هتسكت، يا ياسر. بس إحنا لازم نكون أكبر من كلامهم. أنا هنا عشان سارة، مش محتاجة تبرير من حد، ولا أنت لازم تبرر وجودك.

سكت شوية.. بعدين قال بصوت واطي ومليان تقدير :

والله يا روان، وجودك هنا رزق. وسارة نفسها لو قامت، هتشكر ربنا عليكِ.

روان إبتسمت إبتسامة صغيرة حزينة :

هي أهم من الكلام والناس كلها. أنا باخد قوتي منها، وبخاف عليها أكثر من نفسي.

ياسر نظر ليها نظرة امتنان خالص :

إنتِ أختنا التانية يا روان. وصدقيني، محدش هيقدر يحرّف الصورة دي، لا أمي ولا الناس.

سكتوا، وسكون المكان كان أحنّ من الكلام. في اللحظة دي، الاثنين حسّوا إنهم على نفس الصف، مش ضد القدَر، لكن ضده بطريقتهم.

رجعوا بعدها الغرفة سوا، على ضوء خافت وريحة مطهر، وسكون لسه بيحمل وعد صغير جوّاه :

“مهما اتكلموا… الحق عمره ما يتهز.”

ولما رجعوا الغرفة، كان الليل واقف على أطرافه كأنه بيحاول يسمع نبضهم. سارة نايمة في سكونها، وياسر قاعد على الكرسي جنبها، وروّان على الناحية التانية، تسند رأسها على الحيطة وتصلي بصمت.

ولا حد فيهم قال كلمة… بس القلوب كانت بتتكلم لوحدها. كل قلب فيهم بيدعي، بطريقته :

ياسر بيدعي إنها تفضل..

وروّان بتدعي إنها ما تتألمش..

والليل كله بيدعي إن الرحمة تسبق الوجع.

وفي وسط التعب، كان في حاجة صغيرة بتنور بينهم زي خيط نور خافت بيقول :

“لسه الخير موجود، مادام في قلوب صادقة بتخاف على بعض.”

لكن في زاوية الغرفة، النوت بوك اللي تحت وسادة سارة كان مفتوح على آخر صفحة…

وكأن القدَر نفسه كان بيقرأ وصيّة قبل ما يكمّل الحكاية.”

يتبع ….

نسرين بلعجيلي

يتبع.. (رواية وصية حب) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق