رواية عهد الدباغ – الفصل العاشر 10
بمبنى تابع لوزارة الخارجية
دلف نديم إلى تلك الغرفة الخاصة بأحد المُدراء… تبسّم له باحترام، وأشار له المدير أن يجلس. بالفعل جلس… تبسم المدير قائلاً:
قدامي الملف الشخصي والوظيفي الخاص بيك يا نديم… ما شاء الله.
واضح إنك شخص رياضي، وكمان ملفك الوظيفي ممتاز… وده كان سبب قوي لترشيحك ضمن مجموعة من الشباب، سواء كسفراء، أو للعمل في السفارات المصرية بالدول الخارجية… وده طبعًا ليه حافز مش بس معنوي… لأ، كمان مادي.
اعتدل المدير في جلسته وتحدث بعملية:
إحنا محتاجين ندعم سفارتنا في الخارج بكوادر شابة في مجالات كتير… أهمها الشؤون القانونية.
عارف إن بعض المصريين في الخارج سواء رجال أعمال او مُغتربين
.. بيكون عندهم مشاكل قانونية، والمحامين الأجانب بياخدوا مبالغ خيالية… فوق كده انحيازهم الطبيعي لبلدهم…
إنت خريج بتقدير جيد، يعني فاهم قوانين كويس… وده الوظيفة اللى السفارات محتاجة له.
صمت المدير لحظة وهو يقلب في صفحات ملفه، ثم رفع نظره قائلًا بنبرة تحمل شيئًا من الجدية:
نديم… إحنا شايفين فيك فرصة..
فرصة تبقى إضافة قوية… مش بس لينا هنا، لكن للدولة برا…
والموضوع يستلزم مسئولية، التزام، وشخص عنده قدرة على اتخاذ قرار في وقت الضغط.
وأنا شايف إن ده كله موجود عندك.
انشرح صدر نديم قليلًا، لكنه أخفى توتره قائلًا باحترام:
تحت أمرك يا فندم… أنا جاهز لخدمة مصلحة بلدي فى أي مكان .
ابتسم المدير بإرتياح:
كويس… لأن الترشيح ده مش نهائي…
لسه فيه مقابلة أخيرة، ولجنة تقييم.
ولو عديتها… هنكلمك رسميًّا.
ثم مال عليه قليلًا وقال بنبرة أكثر دفئًا:
بس بيني وبينك… اللجنة هتعجب بيك.
خرج نديم من المكتب بخطوات محسوبة… أُغلق الباب خلفه بهدوء، لكنه شعر كأنه أغلق على مرحلة قديمة من حياته وفتح أمامه بابًا آخر تمامًا..
يسير في الممر الواسع للمبنى، لكن مازال تردُد صوت المدير برأسه…يترجل الدرج بخطوات أسرع وهو يحاول أن يسيطر على خليط المشاعر بين السعادة والرهبة التي تضرب قلبه…
وقف أمام باب الخروج الزجاجي، الهواء الشبة ساخن لفح وجهه شد نفس عميق… وابتسم لنفسه ابتسامة صغيرة واضحة، ذهب نحو سيارته وصعد إليها، عقله سابح بمُميزات تلك الوظيفة لو حصل عليها حقًا ستكون فرصة ذهبية، كمستقبل مادي وكذالك قيمة معنوية كبيرة… فى خضم ذلك الشعور صدح رنين هاتفه، أخرجه من جيبه نظر للشاشة ثم قام بالرد:
مساء الخير يا بابا،إيه ناوي ترجع القاهرة النهاردة ولا الغردقة جاية على هواك.
أجابه:
لاء مش هرجع أنا بتصل عليك عشان أقولك إن الجو هنا مُمتاز خدلك أجازة يومين وتعالي غير جو.
تننهد نديم قائلًا:
ياريت يا بابا،بس للآسف مش وقت أجازات،عالعموم إستمتع براحتك..
توقف للحظة ثم استطرد حديثه بمزح:
بس حاذر من الروسيات،إنت مش قدهم…بلاش طيش.
ضحك والده قائلًا:
طيش إيه بقي،انا بقيت عجوز،يلا خلي بالك من نفسك وبلاش تستغل غيابي وتقضي وقتك كله فى النادي تتباهي.
ضحك نديم قائلًا:
إطمن أنا مبقتش محتاج للتباهي،خلى إنت بالك من نفسك ومتهملش فى علاج السكر.
بعد لحظات أغلق الهاتف وهو يبتسم،لكن للحظات ظل بصره مُعلق بالهاتف على تلك الصورة.. فكر قليلًا لو حقًا أخذ تلك الوظيفة ماذا ستكون صفة “يارا الدباغ”
❈-❈-❈
بالشركة
نظر محسن لـ فاروق الذى دلف يبتسم قائلًا:
فاضي.
ازاح محسن نظارته الطبية ونحى الحاسوب قليلًا على طاولة المكتب ونهض قائلًا:
رغم مش فاضي، بس تعالي نتكلم فى شوية مواضيع خاصة بالشغل برضوا…هطلب لينا إتنين نسكافية،عارف إنك مش بتحب القهوة،وأنا ممنوعة عليا.
أومأ فاروق قائلًا:
لما بشرب القهوة بحس إنها بتعصبني، وكويس إنها ممنوعة عليكِ عشان أعصابك تهدى شوية.
ضحك محسن بغصه يعلم أن فاروق لا يود الإعتراف أن ذلك الأفضل لصحته،ليس لأعصابه كما يقول..
جلس الإثنين بالمقابل لبعضهما يتحدثان عن بعض الأعمال وكيفية إنجازها والإنتهاء منها… لكن فجأة أثناء ذلك فتح عليهما باب المكتب ودلف بلا إستئذان… نظرا الإثنين نحو كنان الذي دخل ببرود… تفوه محسن بعصبية مُصطنعة:
إنت إيه اللى دخلك المكتب بدون إستئذان، خلصت الشغل المطلوب منك.
نظر كنان نحو فاروق قائلًا!
قاعدين تشربوا نسكافية وأنا مسحول، هو مفيش فى قلوبكم رحمة، أنا مش أخوكم ولا إيه.
رد محسن بمزح مُبطن:
ولا إيه، إيه اللى جابك فين ملف الحسابات اللى قولت لك تراجعه.
جلس كنان على مقعد جوارهم، يتنهد بإرهاق قائلًا:
هو إيه اللى كل ما أقول لحد يقولي ولا إيه، هو انا مش إبن “محي الدين الدباغ” زيكم، ولا لاقيني على باب الغورية.
ضحك فاروق قائلًا:
لاء هتبقي على باب زويلة إنت عليك توصية من الدباغ الكبير نفسه.
وضع كنان يده حول عنقه قائلًا:
عاوزين تشنقوني يا أشرار، طب هو يقسي عليا، أبويا وبيربيني، أنتم أخواتي المفروض يكون فى قلوبكم رحمه.
ضحك الإثنين.. نظر لهما بتوسل مُصطنع:
القسط بتاع العربية قرب ميعاده مين فيكم هيسلفني القسط.
صمت الإثنين بمرح… نظر لهما قائلًا بصعبانيه مفتعلة:
هي الرحمة اتنزعت من قلوبكم.
أومأ الإثنين بتوافق… نظر لهما قائلًا:
طب ما تقسموا القسط عليكم إنتم الإتنين.
ضحك الإثنين، وتحدث فاروق بمرح:
وإيه يضمنا إنك هتسد لينا القسط، ولا كمان القسط الجاي تجي تتحنجل لينا.
نظر له محسن يومئ برأسه موافقًا على حديث فاروق، نظر لهما قائلًا:
بلاش تعاملوني بقسوة كده أنتم الإتنين عندكم أرصدة فى البنوك قد كده، إعتبروا القسط فوايد الأرصدة دي.
ضحك محسن قائلًا:
الأرصدة دي من شغلنا، إنت مفكر إن بابا بيوزع أمواله كده بالساهل… ده الدباغ الكبير.. إشتغل هي دى فرصتك تسدد الاقساط.
زفر نفسه بضغط قائلًا:
ماشي هشتغل، بس إدفعولي القسط ده بس.
نظرا الإثنين لبعض ثم سرعان ما تبسم محسن.. لاحظ كنان بسمة محسن فنهض من مكانه وتوجه اليه قبل رأسه قائلًا:
أنا بقول دايمًا الواد محسن أخويا حونين.
دفعه محسن بمرح قائلًا بغضب مُفتعا بضيق:
الواد محسن…وحونين.. بلعب معاك.. طب ماليش دعوة بقي..
قاطعه كنان يُقبل رأسه قائلًا:
خلاص بلاش كلمة الواد اللى بضايقك دي، يا بشمهندز.
ضحك فاروق بينما مازال محسن عابسًا بإصطناع..حتى أخرج كنان تلك الورقة من جيبه قائلًا:
الشيك بتاع القسط أهو هعمل عليه تظهير إنت اللى تدفعه.
إستهزأ محسن قائلًا:
والراجل صاحب محل السيارات إداك الشيك بسهولة كده بدون ضمان.
أجابه كنان بثقة:
ما أنا قولت له إن محسن أخويا هو اللى هيسدد مكاني،فهو إتعامل معاك قبل كده فعنده ثقة بقي… إنت كنت جايبها كاش، مش زيي غلبان… يظهر زي ماما ما بتقول”رزق البنات واسع”
ضحك فاروق بينما نظر له محسن بمرح قائلًا:
إنت هتقُر عليا ولا إيه.
نفي كنان ذلك قائلًا:
لا يا عم ربنا يبارك لك فى رزقك وفي بناتك الحلوين، كفاية بنتك الكببرة بتحترمني وتقولي يا أونكل مش غبية زي عمتها يارا مبتحترمنيش.
ضحك الإثنين وتحدث محسن:
فعلا يارا عندها حق.
تهكم كنان بنزق قائلًا:
دي غبية، تتعلم الذوق من رابيا، ولا فرح الرقيقة.. دي دبش وحاسس إنها هتعنس.. وهيتوقف حالي بسببها.
مازالت ضحكاتهم تصدح، لكن فجأة توقف فاروق عن الضحك، وتذكر قبل أيام حين رأي تلك القطعة المتورمة بعُنق فرح، سألها بلهفه سعد قلبها بها حين أجابته بتطمين:
يمكن حباية وهتروح لوحدها.
لكن لم يزول ذاك التورم بل زاد، لاحظ ذلك صباحً… نهض قائلًا:
إفتكرت حاجه مهمه، هسيبكم تهزروا مع بعض.
إستغرب الإثنين ذلك، لكن تحدث كنان بتأكيد:
أنا كمان هروح أخلص ملف الحسابات… يمكن قلب الحج محي يرضي عني، ويسدد هو بقية الاقساط من غير ما أتحوج للي يذلوني.
ضحك محسن قائلًا بتأكيد:
إنسي قلب الحج محي يرضي عنك مفيش قدامك غير تشتغل، مش كل قسط هتلاقي اللى يسده عنك.
❈-❈-❈
بالسيارة، قام فاروق بالإتصال على فرح، لكن الهاتف يُعطي رنين ولا رد، شعر بالتوتر قائلًا:
يمكن رجعت البيت وزي عادتها بتنسي الموبايل، أو عملاه صامت عشان ميزعكش ياسين.
قام بالإتصال على والدته بعد السلام بينهم سألها:
فرح رجعت البيت.
أجابته:
لاء، بتسأل ليه.
أجابها بتفسير:
مفيش كانت قالت لى إنها مش هتغيب عند أهلها… تمام، أشوفك المسا يا ماما.
لم يُطيل فى الحديث وأغلق الهاتف… عاود الاتصال على فرح، لكن رنين دون رد، حسم أمره سيذهب عند والدها كي يصطحبها الى أحد الأطباء يقوم بمعاينة تلك القطعة المتورمة.
…. ـــــــــــــ
بنفس الوقت
بعيادة أحد الأطباء
إنتهي الطبيب من معاينة فرح، دخل لرأسه شك بشيء، لكن لم يُفصح عنه قبل أن يتأكد
جلس خلف مكتبه، وفرح تقوم بهندمة حجابها بينما سألت عهد بلهفه:
خير يا دكتور، إيه سبب الكتلة اللى فى رقابة فرح… قبل كده كان عندها الغُدة وعملت عملية فيها..ممكن تكون ردت تاني عليها.
تحدث الطبيب قائلًا:
خير…، فعلا في حالات بترد عليها، عالعموم مقدرش أجزم قبل ما تعمل الآشعة والتحاليل دي.
خفق قلب عهد بقلق قائلة:
آشعة وتحاليل ليه.
أجابها الطبيب بنبرة مهنية لكن فيها لمحة قلق خافت:
عشان نطمن.
سكت لحظة ثم عاود الحديث:
الكتلة حجمها مش صغير، ومكانها حساس… وعلشان نستبعد أي احتمال مش مُريح، لازم نعمل شوية فحوصات دقيقة
“تحليل دم شامل، ووظائف الغدة، وكمان أشعة تليفزيونية ورنين لو احتجنا.
شحب وجه فرح، بينما رفعت يدها تلقائيًا لرقبتها تتحسس موضع الألم… بينما
عهد اقتربت منها خطوة كأنها تستمد القوة منها، لكنها لم تستطع إخفاء ارتجاف صوتها وهي تسأل:
يعني إيه… في احتمال تكون حاجة خطيرة.
رفع الطبيب نظره لهما، يحاول أن يبدو مطمئنًا قدر المستطاع لكنه لم يُرد الكذب:
مش عايز أسبق الأحداث… لكن لازم نكشف بدقة. ساعات بيكون تجمع دُهني… ساعات ارتجاع غدي، وساعات بيكون التهابات بسيطة. بس لازم نعمل اللي علينا الأول.
بلعت فرح ريقها بصعوبة، وسألت بخفوت:
وهعرف نتيجة التحاليل إمتى.
أجابها:
أغلبها خلال 24 ساعة… أول ما تطلع، تجيبها فورًا.
ثم أضاف وهو ينظر لـ فرح نظرة ذات معنى:
ولو حسيتي بأي صعوبة في البلع… أو التنفس… تيجي فورًا بدون انتظار.
خرجت الكلمتان كالصاعقة على عهد، فالتفتت لـ فرح سريعًا سائلة:
الوجع ده زي اللى حصل قبل كده
هزّت فرح رأسها نفيًا بكذب لكن في عينيها خوف لم تستطع إخفاءه…
وقفت عهد تسندها من خصرها وهي تقول للطبيب بصوت مخنوق:
هنبدأ في الفحوصات حالًا.
ابتسم الطبيب ابتسامة مطمئنة قدر ما استطاع:
تمام أنا معاكم… وكل خطوة هنمشيها سوا.
تبادلت فرح وعهد نظرة صامتة… نظرة تؤكد إن الخوف بدأ للتو.
….. ــــــــــــــــــ
بشقة والد فرح:
إستقبله كل من ميرفت وتوفيق بترحيب… تعامل معهما بود وإحترام، حتى أنه أخذ صغيره من ميرفت التي كانت تحمله… كان يبكي لكن حين حمله صمت.. نظر له توفيق بخطأ قائلًا:
الدم بيحن، ميرفت بقالها ساعة رايحة جايه بيه فى الشقة ويسكت شوية ويعيط تاني، معاه سكت.
استغرب فاروق ذلك سائلًا بإستفسار:
وفين فرح.
توترت ميرفت ونظرت الى توفيق بلوم، قائلة بتبرير:
فرح وعهد نزلوا مشوار قريب،زمانهم راجعين.
شعر فاروق بالضيق من ذلك لكن تبسم يومئ برأسه متفهمًا أو هكذا يبدوا
بعد وقت ليس بقليل
أمام باب الشقة وقفت فرح تلوم عهد:
نسيت أتصل على فاروق وأقوله إننا رايحين للدكتور.
تهكمت فرح قائلة:
لو واحد غيره كان هو أول واحد يخاف عليكِ،لكن هو طبعًا شغله أهم زي يوم ولادتك كده هيجي المسا عشان يطمن على ابنه لكن إنتِ.
صمتت عهد بعدما تلألات الدمعة بعيني فرح،تشعر بآسف قائلة:
خلينا ندخل، زمان ماما قلقت أكتر بسبب التأخير.
فتحت عهد باب الشقة
حين دخلن الى الشقة سمعن حديث من ناحية غرفة الضيوف، ذهبن نحوها، لوهلة تجمدت فرح حين رأت فاروق يجلس مع والديها يحمل صغيرهما على ساقيه، نظر نحوها نظرة غير مفهومة، ربما تضايق بالتأكيد علم أنها خرجت مع عهد دون أن تُخبره بذلك…
توقفت فرح عند المدخل وكأن قدميها التصقتا بالأرض. ازدردت ريقها بصعوبة، نظرات فاروق علقت بها لحظة طويلة… جعلت نبضها يتسارع
تقدّمت والدتها بخطوات خفيفة كأنها تُنقذ الموقف، تحدثت بمرح:
الحمد لله رجعتوا بسرعة قبل ما ياسين يبدأ يزن.
ابتسم فاروق لوالدتها، ابتسامة مهذبة، متحفظة… لكنها كانت كافية لتُشعل القلق في قلب فرح.
التفت لها مجددًا، صوته هادئ:
فعلًا ياسين زنان… مفيش غير مامته اللى بتعرف تتعامل معاه.
ارتبكت فرح بنفس الوقت دلفت عهد بعدما افسحت لها فرح… نظرت نحو فاروق تشعر بغضب منه، كيف لم يُلاحظ تلك القطعة المتورمة بعُنق فرح… للحظة كادت…
لم يُعلّق… فقط هز رأسه مرة واحدة، ببرود محسوب. .. وقف يُعدل ياقة قميصه، وملامحه ثابتة كعادته حين يكون غاضبًا ولا يريد إظهار ذلك أمام أحد.
حاول توفيق تلطيف الجو قائلًا:
بصراحة فرحت اوي لما لقيت فاروق ماسك ياسين كده، بقى عنده خبرة.
أومأ فاروق بابتسامة خفيفة بلا روح، دون رد
شعرت فرح بالحرج يتسلل لقلبها… عشرتها له الفترة الماضية أصبحت تعلم نبرة فاروق حين يكون متضايقً، تعلم أنه بالتأكيد غاضب من
خروجها دون إخباره ذلك .
… ـــــــــــــــــ
بعد وقت قليل بشقتهما بمنزل الدباغ
وضعت فرح طفلها فى مهده الصغير،شعرت بإرتباك حين إستدارت ورأت فاروق يدلف للغرفة بنفس الوقت صدح هاتفها ذهبت نحو حقيبة يدها وفتحتها، نظرت لشاشة الهاتف ثم لـ فاروق قائلة:
دي عهد هرد عليها.
ظل صامتً
بينما حين ردت فرح سمعت عهد تقول:
فرح انا فى زميلة مضيفوو معايا فى الشركه حصل عندها ظرف طارئ، وأنا هطلع الرحلة بكره الفجر بدالها، أوعي تنسي تروحي تشوفي نتيجة الآشعة والتحليل،وخدي ماما أو بابا معاكُ،
توقفت عهد للحظة ثم قالت بإستجهان:
أكيد جوزك مش فاضي،مشاغله كتير،يا عيني حتى مقدرش يقعد نص ساعة عندنا،وقته مشغول دايمًا بالصفقات المهمة.
نظرت فرح نحو فاروق الذي جلس على إحد المقاعد قائلة:
لاء مش هنسي،تروحي وترجعي بالسلامه وأكيد نتيجة التحاليل والآشعة كويسه.
آمنت عهد بأمنية قائلة:
ياارب هبقي اتصل عليكِ أعرف النتيجة إيه…يلا تصبحي على خير.
-وإنتِ من أهله.
آخر جملة قالتها فرح وأغلقت الهاتف وضعته على طاولة جوار الفراش.. عادت تنظر لـ فاروق الجالس بصمت، توجهت نحو خزانة الثياب، تشعر بتوتر من صمت فاروق.. أخرجت بعض الثياب تخصهما.. جلت صوتها أكتر من مره رغم ذلك خرج صوتها بحشرجة واضحة:
طلعت لك بيجامة.
زفر نفسه ونهض توجه نحوها أخذ منها المنامة بصمت… ثم بدأ فى خلع ثيابه ينظر لها لكن هي كعادتها أو طبيعتها الخجولة التي مازالت تُسيطر عليها، تنفس بقوة وأخيرًا قطع الصمت سائلًا:
كنت بتصل عليكِ ليه مردتيش.
أجابته بتفسير
كنت مع عهد.
شعر ببوادر نرفزه قائلًا!
وهي عهد قالتلك مترديش عليا.
ردت بتسرُع:
لاء طبعًا، بس أنا كنت عاملة الموبايل صامت.
؟
تنهد بقوة وجمود سائلًا:
ليه… وكنتِ فين مع عهد.
إبتلعت ريقها قائلة:
كنا عند الدكتور، عهد شافت الحتة الوارمة فى رقابتي وأصرت نروح للدكتور و..
شعر بغضب قائلًا بمقاطعة:
وإنتِ مبتقدريش تقولى لـ عهد لاء، وعادي طاوعتيها بدون ما تقوليلي.. تمام…
توقف للحظة ثم سحب نفسًا طويلًا قائلًا:
بصي يا فرح.. أنا أتربيت فى حارة شعبية، رغم بابا كان يقدر يعيشنا فى أرقى المناطق، وكمان درسنا فى مدارس خاصة، بس بابا عارف إننا
توقف للحظة، يمسح على وجهه ،قائلًا بنبرة صارمة لكن مخنوقة بضيقه:
بس بابا كان عارف إننا مش لازم ننسى أصلنا… ولازم نفضل مسؤولين عن أهل بيتنا. وأنا… مسؤول عنك.
تبقي معايا… مش مع حد تاني يا فرح.
مش طبيعي أسمع إن مراتي راحت لدكتور من غير ما أعرف، ولا حتى مكالمة.
رفع عينيه لها، نظرة غضبه ممزوجة بقلق واضح حاول يُخفيه خلف قسوة:
مكنش هيتعبك تتصلي عليا.
ارتبكت، قبضت على طرف ردائها بأصابعها قائلة بصوت خافت:
ماكنتش عايزة أقلقك… وخفت تزعل إني بخوف نفسي على الفاضي… فقلت أروح أطمن وخلاص.
ضحك ضحكة قصيرة كلها وجع، ثم تمتم:
تزعليني أنا ولا.ده طلب عهد.
اقترب منها ببطء، وصوته صار أهدى لكن أعمق:
فرح… إنتي مراتي.
مش ضيفه عندي… ومش واحدة بجاملها…
أقل حاجة… أقل حاجة… إنك تقولي.
مش عشان أتحكم… عشان أقلق عليك. فاهمة.
نظرت له، وشفتها السفلى ترتجف قليلًا، قبل أن تهمس محاولة تبرير خوفها:
أنا آسفة… والله ما كان قصدي… كنت خايفة بس.
رفع يدَه ببطء، مسك طرف ذراعها كأنه يثبّتها في مواجهة عينيه، قائلًا بهدوء غاضب:
وانا كمان بخاف… بس خوفي عليكِ مش بيخليني أهرب…
بيخليني أزعل، أتوتر.
سكت لحظة، نظر لرقبتها موضع الورم، واقترب أكثر ثم قال بنبرة أخفت حرارة الغضب لكن يزيدها القلق:
عالعموم قوليلي … الدكتور قال إيه
قال إن في حاجة.
هزّت رأسها بخفوت، لكن قبل أن تتفوّه بكلمة، قطع حديثها صوته الأشد حدّة منذ بدأ الحوار:
مش فاهم يعني الدكتور قال ايه.
توترت أصابعها وهي تُمسك طرف ملابسها قائلة:
قال… قال إنه محتاج يعمل تحليل وأشعة. بس… بس مش حاجة مؤكدة.
رفع حاجبيه بحدة:
وطبعًا التحاليل والآشعة عملتيها تحاليل معاكِ عهد
هو أنا إيه… ليا ولايا عليكِ ولا واحد غريب في حياتِك
تجمدت ملامحها من حدة صوته، فتمتمت معترضة بخوف:
ماهو عهد كانت معايا… وهي اللي أصرت…
قاطعها صارخًا:
وإنتِ لازم تسمعي كلام عهد أكتر من كلامي.
أنا مش ضد أختك … بس مينفعش هي تعرف عنك قبلّي
ده اسمه إيه.. اسمه إهمال.. ولا إيه.
ردت بصوت مرتعش لكنه حمل غصه خفيفه خرج صزتها مبحوح رغمًا عنها:
أنت بتضخّم الموضوع… أنا كنت خايفة، وخفت أقلقك.
لوّح بيده في الهواء بانفعال:
بتخافي تقلقيني
طب مفهوم القلق عندك إيه
عقلك فين يا فرح..
أنا جوزك أنا أول واحد لازم يعرف مش آخر واحد زي الغريب.
ارتجفت نبرة صوتها قائلة:
آخر مره.
اقترب منها خطوة… خطوة تُعطي لها الأمان قائلًا بثبات:
آخر مره إنت مراتي…
واللي بيتي وقلبي أمان ليها مش تروح وتلف مع أي حد حتى لو أختها.
القى الملابس التي كانت على الفراش بقوة، وصوته خالطه الغضب قائلًا:
تمام.
صمت لوهله…
الصمت الذي يسبق العاصفة…
نظراته ثبتت عليها، صدره يعلوا ويهبط، يحاول جاهدًا أن يحارب غضبه… يحارب نفسه… لكن كانت كلماته مختصره:
عشان حياتنا تستمر هاديه، ياريت تبعدي عهد عن حياتنا يا فرح.
قال ذلك وترك الغرفة… شعرت فرح برجفه لأول مره منذ زواجهم يتحدث معها بتلك الطريقة الجافة القاسية ولسبب لا يستحق كل ذلك الغضب.
بينما ذهب فاروق الى الغرفة الأخري، تمدد على الفراش يشعر بغضب من نفسه، يلوم نفسه، ما سبب عصبيته الزائدة تلك
تنفس بغضب وهو يتذكر نظرات عهد له كأنها تُشبه شِجارًا ولوم أنه عديم المسؤولية ناحية زوجته…
أم هذا شعور زائد منه ونظرة عهد
حيرة عقل… أم حيرة قلب
والاتهام المباشر:
إنت ضعيف يا فاروق، عهد نظرتها بتأثر فيك..
إفتكر عهد إنتهت من زمان…
وتبرير آخر:
بس مشاعرك مبتقدرش تتحكم فيها لما بتجي قدامك… مفيش غير حل واحد… عهد تبعد نهائي.
والسؤال:
إزاي
هتمنع فرح إزاي تبطل تجيب فى سيرتها.
والقرار:
هو ده الحل حتى لو وضع مؤقت.
❈-❈-❈
بعد مرور أيام
في قاعة واسعة ذات إضاءة عالية، جلس أعضاء اللجنة على طاولة طويلة.
كان في مقدمتهم سفير سابق، وشخص آخر مُلم بالقوانين..ومسؤول كبير من الخارجية.
دخل نديم… خطواته ثابتة، لكن في قلب صدى كطبول حرب.
جلس بإشارة منهم.
بدأ السفير الحديث:
نديم… قرينا ملفك كويس. عايزين نسمع منك… ليه شايف نفسك مناسب للمنصب ده
رفع نديم رأسه، صوته ثابت:
لأني قادر أواجه… وقادر أتحمل. وعندي استعداد أكون في ظهر أي مصري برة بلده.
وبرغم إني لسه في بداية الطريق… بس عمري ما اتأخرت عن مسؤولية ولا هتهرب منها.
نظر له الخبير القانوني بعين فاحصة يائلًا:
طيب… لو عندك ملف قانوني لمصري مُتهم ظلمًا… ومافيش أدلة كافية تضمن براءته، إزاي تتحرك
رد بسرعة، دون تردد:
أبدأ من الأرض. أسمع منه، أشوف المُلابسات، أطلب دعم من محامي محلي لكن أتابع بنفسي…
لو في نقطة ضعف… أحميه بالقانون…
ولو في ثغرة… أسدها…
بس ما سلمش رقبة مصري لمجرد إن القضية معقدة.
تبادل أعضاء اللجنة النظرات… إعجاب واضح.
ثم سأله المسؤول الأخير:
آخر سؤال، نديم… الضغط. التعامل مع الناس. الشغل اللي مالوش مواعيد.
شايف نفسك هتستحمل.
ارتسمت على فمه ابتسامة صغيرة لكنها ءات معنى:
اتعودت أشيل مسؤوليات قانونية … ومش أول مرة هشيل غيري.
نظر أعضاء اللجنه لبعضهم بصمت ثم تحدث احدهم:
شكرًا يا نديم… هنبلغك بالنتيجة خلال أيام.
اومأ براسه بصمت ثم توجه نحو باب القاعة ما إن خرج من الباب
حتى أخذ نفسًا عميقًا…
ولوهلة، لأول مرة، يشعر أنه كان أمام اختبار صعب لو تم قبوله فى تلك الوظيفه، ستكون نقطة بداية جديدة فى مستقبله.. سواء ماديًا أو معنويًا مُتناسي مشاعر قلبه الكاذبة، أو هكذا يعتقد.
❈-❈-❈
ليلًا
كانت ليلة صافية بجو دافئ
فى غرفة الضيوف جلست عهد تحمل صغير أختها نظرت لها قائلة:
كل مره بشوفه بحسه بيتغير عن اللى قبلها.
تبسمت فرح قائلة:
طنط اجلال بتقول الاطفال ملامحهم بتتغير بسرعة.
أومأت عهد بتوافق قائلة:
واضح كده، بقولك سيبك من ياسين، مفهمتش منك عالموبايل، قولي لى الدكتور قال إيه..عالتحاليل والأشعه.
توترت فرح لكن أخفت ذلك قائلة:
قال الأشعه كويسة .. إلتهاب ومع العلاج الورم هيخف… حاجه مش مهمه يعني.
تنهدت عهد براحه قائلة:
الحمد لله كنت قلقانه طول الرحلة وقلبي مقبوض.
تبسمت فرح بتلقائية قائلة:
تعرفي يا عهد أنا الوحيدة اللى فهماكِ صح دايمًا، قلبك طيب.. رغم لسانك الزالف وتباني مغرورة ومتكبره، وإنتِ مفيش أحن من قلبك، بس على اللى بتحبيهم… زي حُبك لـ ياسين كده، رغم عارفه خُلقك ضيق ومفيش طفل فى العيلة غير وإتخنقتي منه عكس ياسين، أول ما بتشوفيه وشك بتتغير ملامحه، وتنبسط.
ابتسمت عهد وهي تنظر الى ياسين قائلة:
أنا نفسي مستغربه الشعور ده ناحيته.. رغم بعترف أنا عدوة الأطفال الأولى، بس الواد ده خد قلبي من أول ما طنط إجلال حطته بين إيديا، حظه بقى.
ضحكت فرح، بنفس الوقت دخل كنان الغرفه وتبسم قائلًا:
عهد هنا بقالى فترة مشوفتكيش… بقولك إيه حظك، واضح إن حماتك هتحبك، أنا عامل حفلة مشاوي فى الجنينه حفلة إيه بقي إسألي فرح، انا انافس الشيف الشريني نفسه بس أنا سايبه ياكل عيش… إيه رأيك تنضمي لينا، العيلة كلها فى الجنينه.
ابتسمت عهد قائلة:
موافقة طبعًا، بس لازم أحكم بنفسي أولًا.
إبتسم كنان حين نهضت عهد، وتوجه الثلاث الى الحديقة الخلفية…
أغمض فاروق عينيه بضجر ممزوج بغضب مكتوم حين لمح عهد… كان حضورها ثقيلًا على صدره، وكأنها ببساطة اقتحمت لحظته التي كان ينتظر فيها أن يصفو مزاجه قليلًا… تنفّس بحدة، فتح عينيه ببطء، ورفع نظراته إليها نظرة قصيرة لكنها كافية لفضح استيائه.
على الجانب الآخر، كنان يُبالغ في الاهتمام بضيافتها، كأنها ضيفة شرف وليس مجرد زيارة عابرة.. ابتسم لها بود زائد عن الحد، وأخذ يشرح لها شيئًا لا أهمية له، فقط ليبدو كريمًا ومضيافًا.
وعهد
تجاوبت معه بقبول ناعم، ابتسامة خفيفة تهز رأسها كلما قدّم شيئًا، وكأنها تستثمر اهتمامه لم تلاحظ ما يتناثر من شرر في عيني فاروق.
وفاروق.. يُراقبهم من طرف عينه، فكاه ينقبضان، وكأنه يحاول السيطرة على أول كلمة لاذعة كادت تفلت منه..
لم يحتمل فاروق أكثر… اعتدل في جلسته قليلًا، مسح على ذقنه بخشونة وهو يحدق في كنان الذي ما زال يضه الضيافة أمام عهد وكأنها ضيفة ملكية.
تحدث فاروق ببرود قاسٍ:
كفاية يا كنان… ضيفتنا مش محتاجة كل ده.
التفت كنان نحوه ببطء، ابتسامة صغيرة مازالت عالقة على طرف شفتيه، قائلًا:
بعمل واجبي… عاوز تقييم لصنع إيديا.
ضحكت عهد قائلة:
الريحة لوحدها مش محتاجة تقييم أكيد الطعم هيبقي يجنن، أنا بحب المشويات.
كلماتها كانت هادئة، لكنها انغرست في صدر فاروق كشوكة.
زفر من جديد، هذه المرة بشكل مسموع، ثم وجّه إليها نظرة سريعة كأنه يحاول ضبط انفعاله.
نهضت عهد نحو كنان الذي يقف خلف الشواية… تحدثت برقة:
أنا ريقي جري خلاص… جوعت.
إبتسم كنان قائلًا:
ثواني وهجهز لك طبق مشويات تحلفي بيه.
إبتسمت عهد وكادت تقف جوار كنان… لكن بغضب تسرع فاروق ونهض قبض على عضد إحد يديها بقوة قائلًا بغضب:
رايحه فين بالولد، إنتِ معدومة المسؤولية الدخان بتاع الشواية ممكن يخنق الولد.
لم يقول ذاك فقط بل أخد ياسين من يديها بتعسف…
نظرت له بغضب قائلة بإستياء:
أنا كنت بعيدة عن دخان الشواية وكان ممكن تتكلم بذوق بس…
قاطعها بغضب قائلًا:
بس طبعًا الدلع والمياصة، اللى مش سايبنك تركزي فى صحة الولد.
نظرت له بعصبية ولم تستطع كبت غضبها، وتحدثت بغضب:
أنا لازم أمشي، واضح إن وجودي غير مرغوب فيه.
لم تنتظر عهد، وبالفعل بخطوات سريعة توجهت نحو مكان سيارتها… تكبت تلك الدموع بعينيها… نظر الجميع نحو فاروق بغضب ولوم، هو أفسد الليلة الصافية… لم يفهم حقيقة مشاعره أن تلك غِيرة، غير
محي وإجلال اللذان نظرا لبعضهما بآسف…
لحقت فرح بـ عهد التي صعدت للسيارة، يديها ترتعش فوق المقود…
بنفس الوقت بغضب لحقهن فاروق الذي توقف أمام أحد ابواب المنزل يحمل صغيره
كان المشهد ثلاثيًا
عهد بداخل السيارة يديها ترتعش تكبت دموعها
فرح تقترب من السيارة تبكي
فاروق يقف يحمل صغيره بعينان حادة
بنفس الوقت كان الصوت
-فرح
-عهد
-عهد
قالتها فرح بصوت مشروخ ومتحشرج بسبب البكاء
-فرح
قالها فاروق بحِدة ونبرة أمر… جعلها تتوقف تنظر نحوه للحظات قبل أن تعود وتنظر نحو عهد التي نظرت لها بإشفاق، وتحملت عدم النظر الى ذلك الأحمق المُتغطرس المُتعالي، والمتجبر، ولا تلوم فرح على وقوفها بالمنتصف، أو حتى إن إختارته هو طفلها…
فجوة وضعت بينهما والآن وجب علي عهد الإبتعاد… أو حتى الرحيل.
يتبع.. (رواية عهد الدباغ) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.