رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الأول
الفصل الأول(ذكرى وفاة)
*قبل القراءة أود توضيح شيء هام…
ستجد الشخصيات كثيرة جدا ويصعب حفظها ولكن ليس عليك ذلك لأن أغلبهم شخصيات ثانوية،ولكن ليس جميعهم،ومع ذلك كل مع عليك ان تفعله هو التركيز على الأسماء التي تكرر كثيراً،هذا فقط ليس أكثر.
صلي علي رسول الله…
وقراءة ممتعة…
هنا،في قلب هذه الحارة الشعبية،التي تضج بالحياة وتنبض بالحكايات،يقف هذا المنزل العتيق شامخًا بستة طوابق،كل طابق منه يحمل في طياته قصةً وأسرارًا،تتشابك فيها الأجيال وتتلاقى فيها الأفراح والأحزان.
الطابق الأول ليس مجرد طابق،بل هو قلب العائلة النابض،حيث ورشة النجارة التي تُعتبر المهنة الأساسية للأسرة،ورثها الأبناء عن الأجداد،وصارت مصدر رزقهم وعنوان مهارتهم. صوت المطارق والمناشير يملأ المكان صباحًا،ليعلن بداية يوم جديد من الكدّ والعمل.
الطابق الثاني يحتضن كبير العائلة،الحاج محمد عمران،الذي تجاوز الثمانين من عمره،لكنه لا يزال يتمتع بصحة يحسده عليها كثير من شباب اليوم. رجل ذو هيبة ووقار،يجلس في شرفته كل صباح يحتسي شايه ويتابع بحكمة ما يدور حوله،وكأن الحارة كلها جزء من حكايته الطويلة.
الطابق الثالث يسكنه الابن الأكبر أحمد،ذو التسعة والخمسين عامًا،وزوجته منيرة،بعد أن استقل أبناؤهم الثلاثة “بلال،فادي،ويمنى” في بيوتهم الخاصة. ورغم هدوء الطابق بعد رحيل الأبناء،إلا أن أصداء ضحكاتهم وذكريات طفولتهم ما زالت تحوم في الأرجاء.
الطابق الرابع كسابقه،إذ يسكنه محمود،الابن الثاني للحاج محمد،والبالغ من العمر سبعة وخمسين عامًا. يعيش مع زوجتيه هبة ورفيدة،بعد أن تزوج أبنائه الأربعة؛ “عزت ونورهان” من زوجته الأولى،”مريم وكريم” من زوجته الثانية.
أما الطابق الخامس،فهو كئيب على غير عادته،بابه مغلق ونوافذه موصدة،بعد أن هجره صاحبه مصطفى،الابن الثالث للعائلة،عقب طلاقه وسفره إلى الخليج بحثًا عن مستقبل جديد. لم يتبقَ من وجوده سوى بعض الأثاث المغطى بالغبار،وصور قديمة تروي حكاية رجل رحل تاركاً ذكرياته هنا.
وأخيرًا،الطابق السادس،حيث يقيم الابن الأصغر داوود،البالغ من العمر خمسين عامًا،مع زوجته عبير وابنهما الوحيد موسى.
هكذا،يقف هذا البيت العتيق شاهدًا على حكايات أهله،بين الأفراح والمآسي،بين الذكريات والآمال،حيث تتداخل الأيام وتمضي الأعوام،لكن الروابط تبقى،كما تبقى جذور هذه العائلة ممتدة في أعماق هذه الحارة الشعبية،التي لا تعرف سوى الدفء والانتماء.
وها هي العائلة بأكملها مجتمعة بمناسبة الذكري السنوية لوفاة زوجة الحاج محمد الثانية سندس والتي تزوجها بعدما توفيت زوجته الاولي سعيدة التي أنجبت له أكبر أبنائه أحمد ومحمود، بينما باقي ابنائه الخمسة من زوجته الثانية سندس..مصطفي وداوود وسامية وسهير ودلال والتي لاتزال تسكن مع والدها فهي حتي الأن لم تتزوج مثل اخوتها ولكن اقترب موعد زفافها.
كان الجو في الطابق الثاني يغمره ضجيج الضحكات والهمسات بين الرجال والنساء الذين تبادلوا القصص والتجارب،بينما كانت روائح الطعام الشهي تتسلل من المطبخ إلى الأجواء. إلا أن ذلك كله لم يكن يعني له الكثير في تلك اللحظة.
كان يقف في شرفته،عينيه مثبتتين على الأولاد الذين يلعبون في منتصف الشارع في الأسفل. كانت لحظة هادئة، بعيدة عن الضوضاء،حيث تلتقي الذكريات بالأمل في مشهد غريب،يجسد السكون بين الماضي والمستقبل.
كان يراقب الأولاد بحماس،وكأن كل كرة يمررونها تمثل لحظة مصيرية،تنقله إلى عالم بعيد عن الواقع، لكن فجأة قطع تلك اللحظة الهادئة رنين الهاتف،فسحب يده من جيب عباءته البيضاء،وأخرج الهاتف برفق، ليجد اسم “سامي” على الشاشة.
وضع الهاتف على أذنه،وعاد ليواجه الصوت الذي سيفتح له باباً جديداً من الأحاديث،أو ربما يغير مسار تفكيره في تلك اللحظة التي بدا فيها العالم وكأنه يسير ببطء.
وصل اليه صوت صديقه يجيبه بنبرة هادئة:
“صباح النور..باين من صوتك انك رايق
مش زي كل سنة
”
“ده علشان مش قاعد معاهم بس
”
“ليه يابني مش النهاردة سنوية جدتك؟؟
”
ارتكز
موسى علي السور بكلا مرفقيه،ثم قال بصوت صبغه البرود:
“ايوه ياسيدي..النهاردة كانت السنوية الرابعة وروحنا وزورناها في المقابر..وبعدين وزعت أنا ولاد عمي الوجبات علي عيال الحتة زي كل سنة..وأديني دلوقتي قاعد في أوضتي
”
“وهما سابوك تطلع كده عادي؟!”
رد عليه موسى سريعاً وهو يشير على رأسه بسبابته:
“ياعم الحمدلله إن محدش شافني وأنا طالع ولا حد لاحظ غيابي علشان أنا دماغي بتصدع من كتر الدوشة”
“ربنا يكون في عونك يابرنس، دا أنت عايش في مولد.”
“حصل والله… المهم عملتوا ايه امبارح بعد مامشيت
؟؟
”
أخرج سامي زفرة هادئة ثم أجابه بصوت هادئ، متزن:
“مفيش، أنا كمان مشيت مع حسن وحسين وفضل محسن مع كارم وماخلصوش غير الفجر
”
عقد موسى بين حاجبيه وهو يقول متساؤلاً:
“ليه!!..اتأخروا كده ليه
؟؟
”
أتاه الرد سريعاً من سامي بإنفعال:
“علشان عيال فاضية ياموسى..فضلوا يلعبوا بابجي لحد ما الفجر قرب يأذن وبعدين افتكروا إن في شغل لازم يخلص فراحوا مكملينوا وبعدين مشيوا
”
“ده تلاقيهم نايمين لحد دلوقتي”
زفر سامي بضيق قبل أن يردف بنبرة أهدأ من سابقتها:
“اتصلت بكارم من شوية وماردش فاتصلت بأبوه وقالي إنه في سابع نومه
.
”
“ومحسن؟؟
”
“لا ده صحي من بدري وراح مع أخواته وأبوه للجامع علشان ينضفوه قبل الصلاة.”
“وانتُ مارُحتش معاهم ليه؟؟”
أجابه سامي بنبرة هادئة رتيبة:
“ماأنا رايحلهم أهو، خمس دقايق وهبقي عندهم…المهم علشان ماأنساش
احنا هنتجمع بالليل عالقهوة إن شاء الله، خلص المولد اللي عندك ده
وتعاللنا.”
“حاضر”
“تمام، سلام بقى علشان قربت أوصل.. عايز حاجة؟؟
”
رد عليه بنبرة هادئة:
“عايز سلامتك.. مع السلامة
”
أنهي المكالمة بهذه الكلمات، وعندما شرع في إعادة الهاتف إلى جيبه، رنّ من جديد فقلب الشاشة ليعرف هوية المتصل، وبمجرد أن رأى الاسم زفر بضيق وهو يردد:
“أوفف بقى”
زفر مجدداً
ثم أجاب قائلا بنفاذٍ صبر:
“أيوه ياخالو، ايه الموضوع؟؟ بتتصل ليه؟؟”
وصل له صوت الأخير يقول بإنفعال طفيف:
“انت فين يالا؟؟ أمك عمّاله تسألني عليك من ساعتها، اختفيت فين كده فجأة؟؟”
“وأختك بتسأل عليه ليه؟؟”
“يمكن علشان هي أمك ياعين أمك.”
وضع موسى يده علي رقبته وفركها ببطء، وهو ويتأفف فسمعه الأخير وأردف بحنقٍ:
“متأفأفش كتير، وقولي أنت فين
؟؟
”
”
فوق، في شقتنا ياخالو
.
”
“وبتعمل في شقتكم ايه ياحيلتها؟؟
”
“بلعب باليه”
نطقها بسخرية لاتخلو من البرود، مما أثار غضب الأخر فأردف بضيق:
“ده أنت ثقيل أوي”
“طب لمّ لسانك ياخالو، لمه بدل ماعمل حاجة ماتعجبكش
.
”
سأله الأخر بعدم إهتمام:
”
هتعمل ايه يعني؟؟
”
“هخليك تفركش ياكابتن قبل فرحك، تحب أعمل كده؟؟”
وصله زفرة قوية من الطرف الاخر فابتسم بسعادة ساخرة، قبل أن يصله صوت الأخير يردف بضيق واضح:
“انزل ياموسى، انزل علشان اللي هنا دول”
أغلق الهاتف مباشرة بعدما أنهى جملته، فضحك موسى عليه ثم أردف بسخرية:
“نرفوز أوي طاروقه ده”
أغلق هاتفه وأعاده إلي مكانه، ثم ولج الغرفة والتقط قبعة رأسه من على فراشه، وهمّ بالخروج من الغرفة قاصداً الطابق الثاني، وهو علي يقين بأن عقله لن يتحمل تلك الضوضاء في الأسفل بالإضافة إلي حديث الكبار المتكرر عن الزواج و… العمل.
_____________________
وصل إلي الطابق الثاني، فوجد باب الشقة مفتوح كالعادة في مثل هذه التجمعات، فولج إلي الداخل مردداً:
“السلام عليكم
”
ردوا التحية جميعاً، وكانت نبرة داوود أعلاهم، والذي طالعه بحدة قبل أن يسأله بصوت حانق:
“كنت فين ياسبع البرمبة؟؟”
جلس على إحدي المقاعد الفارغة وتحديداً بجوار عمه مصطفى، ثم أجاب بصوت هادئ لايخلو من البرود:
“كنت هنا”
“هنا فين ياض؟؟ أنت مشيت امتى أساسا؟؟
”
زفر بقوة وقال بتروٍ:
“كنت بره، ومشيت علشان جاتلي مكالمة وطلعت علشان أعرف أتكلم.”
“ماتقول كده من ساعتها. ”
“ماأنا قولت أهو”
زفر داوود بقوة، وقال بضيق وانفعال:
“لاحول ولا قوة إلا بالله.. برودك ده هيموتني في يوم من الأيام.”
تدخل مصطفى في تلك اللحظة مردداً برتابةٍ:
“اهدي يادواد، أنت عارف شباب اليومين دول بيحبوا يستفزوا ويعصبوا اللي قدامهم”
نظر موسى إلى عمه ثم قال بتهكمٍ:
“وحضرتك كلامك بيهدي أوي أوي ياعمي،ماشاء الله مسكن”
ضحك الشباب على تعليقه، لإدراكهم السريع ما يرمي إليه بهذه الكلمات، بينما قال الحاج محمد بجدية وهو يمرر أنظاره عليهم:
“بتضحوا علي ايه أنت وهو؟؟ وهو قال ايه يضحك؟؟”
توقف جميعهم عند الضحك وتحدث بلال_أكبر أحفاد العائلة_ بصوت هادئ لايخلو من التهذيب:
“ولا حاجة ياجدو، احنا ضحكنا بس علي طريقته مش أكتر.”
أومأ محمد بخفوت وقال:
“ماشي هاعمل نفسي مصدق”
تنهد بلال بخفوت ثم نظر صوب موسى وقال بنبرة هادئة:
“بقولك ايه ياموسى، ممكن تيجي معايا ثانية عايزك في كلمتين؟؟”
“كلمتين بس ولا زيادة علشان أعمل حسابي؟؟”
تدخل داوود في حديث مشيراً له بالانصراف
:
“ماتقوم ياض مع ابن عمك وانت سكت
!
”
نظر موسى صوب والده ثم أردف بضجرٍ:
“فهمت، انتوا طبخينها سوا.”
كاد داوود أن
يرد عليه لكن توقف عندما نهض بلال وتحدث مع الأخير:
“يلا ياموسى، تعالى نروح علي البلكونة.”
زفر موسى بقوة، ثم نهض بتثاقل وهو يردد
ببرود:
“ماشي نقوم، أمرنا لله وحده.”
نهض الاثنان وتوجها إلى الشرفة، وقفا جنبًا إلى جنب، مائلين على السور الحجري، كلٌّ في صمته، قبل أن يقطع بلال السكون بإخراجه عبوة سجائر من جيب قميصه الأزرق، انتقى منها واحدة وعرضها على موسى قائلاً بنبرة عفوية:
“خد!”
نظر موسى إلى السيجارة بين أصابعه، ثم رفع رأسه ورد بهدوء:
“لا، شكرًا.”
رفع بلال حاجبيه مستغربًا وهو يسأل:
“بطلت ولا إيه؟”
أومأ موسى إيجابًا قائلاً بصوت خفيض:
“آه… بطلت.”
ابتسم بلال نصف ابتسامة، وقال وهو يخرج القداحة:
“ماشي يا سيدي… ربنا يقويني وأبطل زيك.”
أشعل السيجارة وأخذ أول نفس بعمق، ثم أطلق الدخان ببطء، وعيناه ما تزالان معلقتين في الفراغ أمامه، قبل أن يسأل بصوت رتيب:
“انت عارف أنا جايبك هنا ليه؟”
رد موسى بابتسامة صغيرة، دون أن يلتفت:
“تقريبًا… يعني الفترة الأخيرة، أي حد منكم بيتكلم معايا يا عن الشغل، يا عن الجواز… وبنسبة كبيرة، أنت هتتكلم عن أول حاجة، لأنك أكيد مش هتكون جايبلي عروسة مثلاً.”
ضحك بلال بخفة، وقال:
“برافو عليك…خمنت صح.”
لم يرد الأخير الضحكة، بل قطع الطريق مباشرة، بنبرة جادة:
“طب خلينا نختصر… أنا مش عايز أشتغل.”
تغيرت نبرة بلال قليلًا وهو ينفث دخان السيجارة:
“ليه يا بني؟ لحد إمتى هتفضل كده من غير شغل ولا هدف؟ وأبوك هو اللي شايل كل حاجة؟”
رد موسى بنبرة واثقة، ولكن خالية من الحدة:
“لحد ما ربنا يسهلها.”
“يا سيدي ما هو ربنا مسهّلها… قدامك بدل الفرصة عشرة.”
أجابه موسى بلهجة جادة:
“أختار بين إيه؟ أشتغل مع أبويا في الورشة؟ ولا مع أبوك في السوبر ماركت؟ ولا أساعد دلال في الصيدلية؟”
“يا سيدي ولا ده ولا ده… تعال اشتغل معايا في المعرض.”
هز موسى رأسه ببساطة وهو يقول:
“لأ.”
“لأ ليه؟ اديني سبب مقنع.”
“السبب إني مش عايز… نفسي مش جاي معاها إنها تشتغل في ولا مهنة من مهن العيلة.”
أمال بلال رأسه قليلاً وهو يسأله:
“ولا مش عايز تشتغل مع حد من العيلة؟”
طالعه موسى للحظة ثم قال بصوت جاد:
“ما قلتش كده.”
“بس بتلمّح.”
زفر موسى بضيق وقال بهدوء ممزوج بنفاد الصبر:
“أنا لا لمّحت ولا قصدت يا بلال… تمام؟”
صمت بلال لثوانٍ، ثم رد بصوت هادئ:
“ماشي يا موسى… بس عايز أفهم ليه؟ ليه رافض؟ قدامك فرص كتير، ناس غيرك بتحلم بيها.”
رفع موسى عينيه نحوه وقال بجديّة واضحة:
“أهو انت قلتها… في غيري محتاجها
، ليه بقى ماتدورش علي غيري دول وتشغلهم؟؟… بص حواليك هتلاقي منهم كتير، كلهم مستنيين فرصة واحدة أو مصدر رزق علشان يعرفوا يعيشوا، فهما أولى مني بالشغل ده.. صدقني يابلال هما محتاجينه أكتر مني، يعني مثلاً ليه مانشغلش الشباب دول معاك أو مع أبوك أو مع عمي محمود أو مع أبويا بدل مني أنا؟!… غير إن في كمان بنات كتير بتبقى محتاجة شغل علشان تصرف علي نفسها، ليه مانشغلش واحدة فيهم مع دلال في الصيدلية؟؟ هما أولى مني بالشغل ده وبكتير كمان.”
“بس أنت كمان محتاج تشتغل، أنت ناسي إنك هتتجوز في يوم من الأيام؟ وقتها هتعمل إيه؟”
رد موسى بثقة غامضة:
“أنا عارف أنا هصرف على مراتي إزاي… وبكره تشوفوا إني هخليها ملكة وسطكم.”
نظر إليه بلال مستنكرًا:
“وهتعمل كده إزاي؟ هتسرق؟ هتنصب؟”
“بطريقتي.. هعمله بطريقتي،اللي محدش عارفها غيري.”
أطلق بلال تنهيدة ثقيلة وقال بهدوء:
“يا بني،انت بتتكلم كده لأنك مش مدرك حجم المسؤولية.”
“لا مدرك كويس… وشايف بعيني قد إيه انتوا بتتعبوا علشان تحافظوا على بيوتكم… أنا مش أعمى يا بلال.”
صمت لبرهة،ثم أكمل بنبرة أكثر جدية:
“سيبوني في حالي، أرجوك.”
“أنا ممكن أسببك… لكن الباقي مش هيسيبوك.”
أومأ موسى إماءة قصيرة وهي يررد بصوت هادئ، جاد:
“عارف… وأولهم أبويا وأمي، هيقعدوا يزنوا عليا لحد ما أوافق.”
“وهتتصرف معاهم إزاي وقتها؟”
“زي كل مرة… هاأخلع من الموضوع بشياكة.”
نظر إليه بلال طويلًا، ثم قال بنبرة جادة:
“زي ما بتعمل معايا دلوقتي… صح؟”
أومأ موسى بابتسامة صغيرة، وهو يرد بسخرية:
“آه… ارتحت؟”
“لا… مش هرتاح غير لما أشوفك مرتاح زينا.”
حرك موسى كتفيه وهو يرد ببساطة:
“ما أنا مرتاح أهو والحمد لله.”
“الحمد لله علي كل شئ محدش قال حاجة… بس خدها نصيحة من أخوك الكبير ياموسى، أنت لسه صغير يعني تقدر تغير حياتك وتبنيها من أول وجديد فياريت تبطل كسل وتحاول تتقدم شوية لقدام.”
وضع يده على كتف الأخير، ثم أضاف بنبرة صادقة:
“فاهم يا موسى؟”
أومأ موسى وقال بهدوء:
“فاهم يا بلال… وشكرًا على النصيحة يا ابن عمي.”
“العفو يا سيدي، وبلاش ابن عمي دي… احنا إخوات.”
ابتسم موسى ثم قال:
“ماشي يا أخويا… حلو كده؟”
ضحك بلال وهو يبعد يده عن كتفه:
“عال العال… يا اللي محيّر العيلة كلها، حتى العيال.”
قهقه موسى بخفة، وشاركه بلال الضحك… لكن انقطعت لحظتهما بصوت طفل صغير اقترب منهما وقال ببراءة:
“بابا… جدو بيقولكم يلا علشان الصلاة.”
ابتسم بلال لابنه وقال:
“ماشي يا زيزو… روح أنت واحنا جايين وراك.”
نظر لموسى الذي عقّب بابتسامة جادة:
“زياد شبهك أوي يا بلال.”
ضحك بلال وقال:
“مش ابني؟ طبيعي يشبهني.”
رد موسى بمكر ساخر:
“تصدق؟ ما كنتش أعرف… معلومة جديدة.”
انفجر بلال ضاحكًا مجددًا، وقال وسط الضحك:
“يلا بقى يا رخم علشان نصلي.”
“يلا يا أبو زيزو.”
غادرا الشرفة معًا، ليجدا باقي الشباب بانتظارهما، وقد سبقهم رجال العائلة إلى المسجد، انضم موسى إلى أبناء عمومته الأربعة، وزوج ابنة عمه مريم، وخاله طارق، ومضوا معًا في صمتٍ يملأه ألف معنى.
_____________________
انتهت خُطبة الجمعة وأُقيمت الصلاة، وبعد الفراغ من قضاء الفرض، دلف الحاج محمد مع عائلته إلى خارج الجامع، واتجهوا إلى البيت، حيث كانت النساء يُعددن الموائد للطعام.
وصلوا إلى البيت، وصعدوا جميعًا إلى الطابق العلوي، وعلى رأسهم الحاج محمد، الذي جلس مترئسًا المائدة، بينما جلس الرجال عن يمينه، والشباب عن يساره، برفقة الأطفال الثلاثة: زياد، ومنذر، ومازن… وفي غرفة أخرى مواجهة لهم، جلست نساء العائلة جميعهن لتناول الطعام.
شرع الحاج محمد في تناول الطعام بعد أن حمد الله على نعمه، خاصة نعمة اجتماع عائلته من أكبرها إلى أصغرها حوله.
مرر نظره على الجالسين أمامه،حتى وقعت عينه على أحد المقاعد الفارغة، فأغمض عينيه بضيق، ثم تنهد ونظر إلى ابنه داود، وقال بنبرة هادئة:
“فين ابنك يا داود؟”
ترك داوود الملعقة من يده، ونظر إلى جميع من على الطاولة، وكما كان متوقعًا، لم يجد ابنه بينهم، فقال:
“والله ما أعرف يا حج… ما شفتوش من ساعة ما طلع معانا من الجامع.”
نظر الحاج محمد إلى أحفاده ثم قال:
“حد يرن عليه، يشوفه فين؟”
أخرج بلال هاتفه من بنطاله وهو يقول:
“حاضر يا جدي.”
شرع بلال بالاتصال، لكنه قبل أن يصل إلى رقمه، سمعوا جميعًا صوت تشجيع مرتفع قادم من الخارج،بكلمات اخترقت الأذان:
“العب يا موسى…العب يا موسى…العب يا موسى!”
تفاجأ الجميع مما حدث،وتشنجت ملامح بعضهم، بينما ضحك البعض الآخر. أما داوود، فنظر إلى والده بخجل وقال:
“عن إذنك يا حاج…ثانية واحدة.”
نهض داوود من على المائدة، ولحقت به زوجته عبير من مائدة النساء، وتبعتهما دلال برفقة الأطفال الثلاثة، اتجهوا جميعًا إلى الشرفة المطلة على الشارع، فوجدوا موسى يلعب مع بعض الأطفال كرة القدم في منتصف الطريق.
كان موسى يمسك بطرف عباءته بفمه، بينما يلاعب الكرة بقدمه، حتى مررها إلى أحد الأطفال، الذي أعاد تمريرها له، وهمَّ بتسجيل هدف لكنه أخطأ، فزفر بضيق، وخاطبه أحد زملائه:
“يا موسى، كانت سهلة يا موسى!”
نزع موسى طرف العباءة من فمه، وأمسك به بيده، ثم قال بحنق:
“يا عم،مش عارف ألعب بسبب أم الجلابية دي!”
رد عليه طفل آخر:
“ما تقلع الجلابية وورينا اللعب على أصوله!”
أجابه موسى وهو يتأفف:
“كان على عيني والله… بس أنا مش لابس تحتها غير الملابس الداخلية! ترضى واحد بكاريزمتي يقف في نص الشارع بملابسه الداخلية؟!”
رد عليه الطفل ساخرًا:
“وهي كاريزمتك دي مش مانعاك تلعب مع عيال قُدّ رُبتك،يا عين أمك؟!”
تجمد موسى في مكانه للحظة ثم هتف ببلاهة:
“الصوت ده مش غريب عليا!”
أشار أحد الأطفال نحو الشرفة وقال:
“دي أمك يا موسى؟!”
رفع موسى رأسه إلى الأعلى، وطالع الواقفين ثم قال بدهشة:
“تصدق دي أمي فعلًا!”
وصله صوت والده داوود غاضبًا ومتوعِّدًا:
“اطلع يا روح أمك…قبل ما أنزل أجيبك بنفسي!”
رد موسى ببرود، مشيراً له بيده بالصبر:
“اهدَ على نفسك شوية يا حاج داوود…طالع أهو!”
“بسرعة يا أخويا!”
أومأ موسى بخفوت،مع ابتسامة مصطنعة:
“حاضر يا حاج.”
عاد الجميع إلى الداخل ما عدا دلال، التي بقيت تطالعه من الأعلى بسخرية،ثم قالت:
“ما كنت تقلع! خايف نحسد العضلات ولا إيه؟!”
نظر لها موسى باشمئزاز ثم قال بحنق:
“ادخلي جوه قبل ما أنادي على أبوكِ وإخواتك وخطيبك يلموكِ!”
“كل دول؟!”
انكمش وجهه بإمتعاض وقال
ساخرًا:
“ما انتِ حبايبك كتير بسم الله ما شاء الله.”
ردت بتحدٍّ، رافعاً إحدى حاحبيه لها:
“وطبعًا انت مش فيهم؟!”
أجابها ببرود ساخر:
“ده من حسن حظي طبعًا… يا دلال.”
تعمد مدّ حروف اسمها لاستفزازها،وقد نجح… فطالعتْه بغيظ وهتفت بحنق:
“رخم!”
بادلها النظرة وقال بنفس النبرة:
“مستفزة.”
دلفت دلال إلى الداخل مجددًا، وهي ترفع صوتها قائلة:
“أهو انتَ!”
زفر موسى بضيق،ثم أنزل عباءته من يده، وهمّ بالصعود للأعلى ليلتحق ببقية العائلة.
_________________
ولج
إلى الشقة حيث كان الجميع مجتمعين حول مائدة الطعام يتناولون الغداء
،
ألقى نظرة على الموجودين،ثم ألقى التحية:
“السلام عليكم.”
جذب انتباه الجميع،فردوا عليه التحية، فأومأ لهم بإيجاب، واتجه نحوهم، سحب مقعده وجلس عليه، ليصل إلى مسامعه صوت جده يهتف بنبرة جادة في باطنها سخرية واضحة:
“بتلعب مع شوية عيال يا ابن داود! هي حصّلت؟! بس أقول إيه بقى؟ ما أنت لسه عيل زيهم ومش ناوي تعقل.”
نظر موسى إلى جده ورد عليه بسخرية:
“حضرتك محسسني إني كنت بلعب قمار…دي كورة يا جدي، كورة! وبعدين، اللي كنت بلعب معاهم أصغر واحد فيهم عنده ١٢ سنة…عادي يعني.”
رد عليه جده سريعًا، ساخرًا من تبريره:
“آه… عادي يعني! وكورة يا جدي! الله يرحم لما كانوا بيخلوا أبوك الكورة!”
ترك داوود الملعقة من يده، وابتلع الطعام الذي في فمه بسرعة،ثم قال بضجر:
“ليه بس يا حج كده! قدام الكل ينفع يعني؟!”
نظر محمد إلى ابنه وقال:
“مش دي الحقيقة ولا إيه يا داود؟ نسيت لما كانوا العيال بيتلغبطوا بينك وبين الكورة بسبب قُصرك؟!”
انفجر إخوة داوود الستة ضاحكين، حتى زوجته لم تستطع أن تخفي ابتسامتها، بينما حاول الآخرون كتم ضحكاتهم احترامًا له. أما موسى، فاكتفى بابتسامة جانبية قبل أن يقول لجده:
“قولي يا جدي،وهو أبويا طالع قصير لمين؟ أصل هو الوحيد اللي قصير وسط إخواته.”
ابتسم محمد لحفيده، ثم أجابه بجدية:
“لأمه…الله يرحمها، سندس كانت قصيرة، وأبوك الوحيد اللي طلع شبهها..والحمد لله إنك ما ورثتش القصر منه، وطلعت طويل وفِرع زيي.”
ردّ موسى ضاحكًا:
“الحمد لله فعلًا.”
توقف عن الضحك ثم نظر إلى والده واستأنف حديثه قائلاً:
“لمؤاخذة يا حج.”
رد داوود ساخرًا:
“هي بقي فيها لمؤاخذة! جت عليك يعني؟!”
عاد الضحك يعلو المائدة من جديد، وقال أحمد من بين ضحكاته:
“معلش يا داود، إنت عارف إن كل قعدة زي دي لازم يتفضح فيها سر من أسرارنا احنا السبعة…زي ما حصل مع محمود المرة اللي فاتت، لما أبوك فضح موضوع الرسايل الرومانسية.”
توقف محمود عن الضحك بمجرد أن ذُكر اسمه، ونظر إلى أحمد بحنق وقال:
“فيه إيه يا أحمد؟! لسه فاكر؟! انسَ بقى وخليك محضر خير! وبعدين، ما تنسوش إن مراتاتي قاعدين.”
وضع أحمد يده على صدره وقال ساخرًا:
“آه صح! حقك عليا يا خويا، كان المفروض ما أنساش إنك متجوز اتنين! يعني حاجة زي دي نكدها الضعف بالنسبة لك! حقك عليا، ما تزعلش.”
رمقه محمود بنظرة متوعدة، بينما استمر أحمد في الضحك على رد فعله.
ولم يُنهِ هذه الحرب الباردة بين الإخوة سوى محمد الذي تنحنح وقال بنبرة جادة:
“يلا كملوا أكل…كفاية هزار لحد كده.”
أطاعه الجميع وعادوا إلى تناول طعامهم، بينما نهض موسى يستأذن ليغسل يديه، ثم عاد ليجلس مجددًا بينهم، يستكمل طعامه وسط جو يملؤه الألفة والمحبة، تتخلله كلمات مرحة بين الأشقاء وأبنائهم، تحت أنظار الحاج محمد…كبير العائلة الذي كافح طويلًا ليجمع هذه العائلة الكبيرة المتشابكة تحت سقف واحد.
__________________
مع مرور الوقت، انتهوا جميعًا من تناول طعام الغداء، وهرولت النساء لتنظيف المائدة، بينما تولّت بعضهن إعداد المشروبات وتقديم الحلويات للبقية.
كانت عبير قد انتهت من تحضير الشاي، وكانت تساعدها شقيقة زوجها_دلال_ في تجهيز الأكواب. بدأت دلال في سكب الشاي في الأكواب وتوزيعها على عدة صوانٍ ليسهل حملها. وما إن انتهت حتى حملت إحدى الصواني وتوجهت إلى الخارج لتقدمها للرجال.
وعند باب الغرفة، لمحها والدها، فالتفت إلى موسى وقال بحزم:
“روح شيل الصينية عن عمتك ياض.”
زفر موسى بضيق وقال متبرمًا:
“هو مفيش غيري؟!”
نظر إليه داوود وأمره بحزم:
“اسمع كلام جدك وقوم من غير نقاش.”
تأفف موسى، ونهض بتثاقل واتجه نحو دلال التي ناولته الصينية وهي تقول:
“لسه فاضل غيرها…أمك وعمتك هيجيبوه.”
تناول منها الصينية ببرود قائلاً:
“خليهم يدخلوها…ماتقرفونيش.”
ابتسمت دلال بخبث وقالت:
“إنت عمرك ما هتقول حاضر أبدا؟!”
رد ساخرًا، ووجه منكمش بإمتعاض:
“بقولها…بس بستخسرها فيكِ أوي يا دلال.”
صاح جدّه بحزم:
“اسمها عمتك، يا بغل!”
زفر موسى بضيق من التدخل الدائم، فالتفت إلى جده، كما فعلت دلال أيضًا، لينطق محمد بلهجة آمرة:
“اسمها عمتي دلال…مش دلال حاف.”
احتج موسى قائلاً:
“أنا عايز أفهم…مش معنى إن أنا اللي أقولها عمتي، وبلال وفادي والباقي بينادولها دلال عادي؟!”
أجابه جده بصرامة:
“علشان دول أكبر منها يا فهيم، وكل اللي أصغر منها بينادولها عمتي، ما عدا انت يا حمار!”
اقترب موسى من المنضدة الدائرية في منتصف الغرفة، ووضع الصينية عليها بانفعال، ثم قال بحنق:
“أصغر منها إزاي؟! إحنا مولودين في نفس اليوم! ازاي يعني أصغر منها؟!”
ضحك محمد وقال بثقة:
“لا يا حبيبي…مش في نفس اليوم، قلتلك أكتر من مرة، هي اتولدت بالليل، وإنت اتولدت تاني يوم الصبح..يعني في فرق بينكم ١١ ساعة.”
رد موسى بإصرار:
“أديك قولت…١١ ساعة بس! يعني ما تفرقش!”
ابتسم جده بمكر وقال:
“لا يا حبيبي بتفرق… الـ١١ ساعة دول مخلينها أكبر منك! يعني تحترمها، زيك زي غيرك، وتقولها ‘يا عمتي’، و’حاضر’، و’نعم’ ومن غير نقاش…سمعت؟!”
عض موسى شفتيه بغيظ،وتمتم:
“آه…سمعت.”
هز محمد رأسه راضيًا وأمره:
“كويس…روح هات باقي الصواني.”
زفر موسى بضيق، ثم أومأ بإيجاب وهو يجزّ على أسنانه قائلاً:
“حاضر.”
استدار متوجهًا نحو الباب، حيث كانت دلال واقفة تبتسم له بانتصار واضح، اشتد غيظه لرؤيتها، لكنه تمالك نفسه واكتفى بتمرير نظرة حادة كالسهم نحوها وهو يمر بجانبها.
أما هي، فاكتفت بتجاهل نظراته، وابتسمت بسخرية، ثم لحقت به نحو المطبخ وهي تحاول كتم ضحكتها.
_____________________
قبل غروب الشمس، انتهى ذلك التجمع العائلي، وغادر من غادر، وبقي من بقي…
عاد الأغلبية إلى منازلهم بعد يوم طويل كان شاقًا على البعض،خاصة النساء.
أما هو، فقد دخل شقته قبل والديه، وبدّل ملابسه إلى أخرى منزلية بعد الاستحمام. ارتدى بنطالًا قماشيًا أسود مع قميص بأكمام قصيرة باللون الأبيض، وحذاء رياضي أبيض، وقبعة بنفس لون البنطال.
خرج من منزله واتجه نحو الجامع القريب ليصلي صلاة المغرب، كان قد أُذن للتو حين دخل المسجد.
بعد أن أتم فرضه، خرج من الجامع وسار في طريقه متوجهًا إلى رفاقه، إلا أن صوتًا من شرفة الجيران أوقفه،وكان صوت خالته نادية،التي تسكن في الطابق الثاني.
“موسى…واد يا موسى!”
توقف موسى عن السير،ورفع رأسه ليرى مناديته وقال:
“نعم يا خالتي؟!”
“إنت رايح عند سامي؟”
أومأ بخفوت وهي يجيبها برتابة:
“أيوا.”
“طب بالله عليك،فكره يجيب سحور النهاردة علشان ماينساش،مش معايا رصيد عشان أرن عليه.”
“ولا يهمك، هاقوله يا خالتي نادية.”
ابتسمت له بامتنان ثم قالت برضا:
“ماشي،يا بني…ربنا يسهللك طريقك.”
“آمين… يلا،عايزة حاجة تانية؟”
“سلامتك يا عيون خالتك.”
ضحك موسى بخفة وقال بابتسامة هادئة:
“تسلميلي يا عيونك يا خالتي…يلا سلام.”
“مع السلامة.”
أومأ برأسه ثم تابع طريقه..لكن بعد دقائق قليلة،توقف في منتصف الطريق ودخل متجر (ماركت) عمه الكبير أحمد.
“السلام عليكم.”
ردا السلام كل من عمه الجالس على مكتبه،والشاب الذي يساعده في نفس اللحظة.
وقبل أن ينطق عمه بكلمة،كان موسى قد اتجه إلى ثلاجة المشروبات وأخذ عبوتين من مشروبه المفضل بنكهة الجوافة، ثم توجه إلى ركن المقرمشات، بحث بعينيه عن شيء معين، وعندما فشل في العثور عليه، نظر إلى عمه وقال بحنق:
“فين جاجور يا عمي؟”
أشار عمه بعينه نحو المكان المقصود وقال:
“قدامك أهو، يا بني، مش شايف؟”
“مش ده يا عمي، أنا عايز جاجور كريسبي شطة وليمون.”
“لا، ده خلص من مبارح.”
“خلصان إزاي؟!”
رد عمه بضجر:
“خلصان يا موسى.”
“طب هيجي إمتى؟”
أجاب محمد وهو يزفر بخفوت:
“بكرة.”
“بكرة إزاي يعني؟! يعني هستني لحد بكرة؟!”
زفر أحمد بضيق وقال بسخرية:
“معلش، تعالي على نفسك شوية، واستحمل يا حبيبي.”
“أمري لله، مضطر أستني…بس أمانة عليك، تعمل حسابي بكرة في كرتونة كاملة منه لوحدي.”
رفعت أحمد حاحبيه بدهشة خفيفة وقال مستنكراً:
“كرتونة كاملة؟!”
أومأ موسى برأسه وقال ببساطة:
“آه.”
سكت أحمد لوهلة، ثم تنهد وقال بقلة حيلة:
“حاضر…من عيني.”
اقترب موسى من عمه وقال بنبرة مرحة:
“تسلملي عينيك يا عمي يا غالي.”
التقط عبوتين من البسكويت عقب كلامته،ثم وضعهما مع عبوات العصير وأعطاهم لعمه قائلاً:
“عبيلي دول بقى يا عمي.”
تنهد أحمد وقال:
“تعال يا عوض،حطهم في كيس.”
نظر عوض إلى أحمد، ثم توجه إليه وقال:
“حاضر يا معلم.”
تناول عوض الأغراض، ووضعها في كيس بلاستيكي، ثم أعطاها لموسى الذي تناولها منه قائلاً:
“متشكرين يا عم عوض.”
“العفو يا سيدي.”
نظر موسى إلى عمه وقال بمرح:
“يلا، سلام عليكم.”
أوقفه عمه قائلاً:
“استني، رايح فين؟”
التفت موسى إليه وقال ببراءة:
“ماشي يا عمي، في إيه؟”
“فين الحساب يا حبيبي؟”
تنهد موسى وقال ببرود:
“الحساب وقت الحساب يا عمي…وبعدين، يعني هتاخد فلوس من ابن أخوك؟ ده كلام برده؟!”
أومأ أحمد برأسه وقال بجدية:
“آه هاخد…نفسي مرة أخد منك فلوس…ده أنت ولا مرة دخلت عليّ بجنية فضة يا ابن داود.”
“لا يا عمي، دخلت قبل كده.”
“طب فكرني يا حلو كده، علشان ناسي.”
“فاكر من ٣ سنين،لما جيتلك واديتك ٥ جنيه.”
سكت أحمد للحظات وهو يحاول تذكر تلك اللحظة، ثم هتف فجأة:
“آه افتكرت…الـ٥ جنيه اللي أمك كانت بعتاك تجيب بيها ولاعة..ووقتها خدت الولاعة ومعاها علبتين عصير، واتنين شيبسي، وواحد بسكوت.”
ابتسم موسى بخفة وقال:
“ما حضرتك فاكر أهو،وبالتفصيل كمان.”
أجاب أحمد بسخرية:
“ما هو حدث زي إنك تدفع لي فلوس ماينفعش يتنسي…يعني تاه عن بالي، لكن افتكرته.”
“طالما حضرتك فاكر ده، يبقى أكيد فاكر وعارف كويس إني مابَدَفعش فلوس…بس تعرف، أنا مش هزعلك يا عمي.”
أنهى موسى جملته ثم وضع الكيس البلاستيكي على مكتب عمه، أخرج محتوياته وضعها في جيوب بنطاله، ثم أعطى الكيس الفارغ لعمه قائلاً:
“اتفضل.”
نظر أحمد له في جهل وقال:
“إيه ده؟”
“قلت أوفرلك حق الكيس.”
نظر أحمد له في صمت للحظات، ثم قال بتهكم:
“لا بجد كتر خيرك…وفرت عليّا كتير.”
ابتسم موسى بخبث، ثم وضع الكيس على المنضدة، وأومأ لعمه قائلاً:
“طب استأذن أنا بقى.”
نظر له أحمد بسخط وقال:
“غور.”
“كنت هاغور كده كده…سلام يا عمو.”
التفت موسى وخرج من المحل على وجهه ابتسامة انتصار، بينما راقب أحمد أثره، ثم حرك رأسه بالنفي قائلاً:
“ربنا يكون في عونك يا داود…ده أنت مربي مصيبة متحركة.”
_______________
في الجهة الأخري..
سار موسى في طريقه ممسكًا عبوة العصير الأخيرة بعد أن انتهى من البقيةد اقترب من المقهى ورآى أصدقاءه جالسين على طاولة أمامه، فاقترب منهم بخطوات ثابتة، ولاحظه أولاً صديقه سامي الذي قال وهو يشير نحوه بعينه:
“البيه شرف، أهو!”
نظر الجميع حيث يشير،ورأوا موسى يقترب منهم، فسرعان ما ألقى كارم سيجارته على الأرض وأطفأها، ثم تناول كوبًا من الماء واحتسى منه.
وصل موسى إلى الطاولة، وسحب كرسيًا وجلس عليه بعد أن ألقى العبوة الفارغة في سلة المهملات القريبة منهمد ثم قال:
“إيه الأخبار يا رجال؟”
أجاب سامي بابتسامة خفيفة:
“كله تمام يا باشا، الحمد لله.”
أجاب موسى وهو يتناول كوب الماء على الطاولة:
“طب الحمد لله.”
احتسى موسى قليلًا من الماء ثم أعاد الكوب إلى مكانه، عندها تحدث حسن:
“كنت صايم اليوم ولا إيه؟”
نظر موسى إلى صديقه وأجابه:
“لا والله،معرفتش أصوم النهاردة بسبب التجمع العائلي المعتاد.”
قال حسن مبتسمًا:
“يلا، أنت صومت أصلًا ٨، ربنا يتقبل منك.”
أجاب موسى ببسمة هادئة:
“وإياكم يا شيخ حسن.”
التفت موسى إلى البقية وسألهم:
“صح، طلبتوا حاجة ولا لسه؟”
أجابه كارم أولاً:
“لسه، كنا مستنينك.”
“طب حد يطلب لنا حاجة يلا.”
نظر كارم نحو الباب ونادى على الصبي،بصوت شبه مرتفع:
“حودة، واد يا حودة!”
أجاب الصبي وهو يقترب منهم:
“أيوه يا كارم باشا، جاي.”
رحب بهم الصبي قائلاً:
“أهلاً بالسداسي، منورين، أؤمروا.”
ابتسموا له، ثم قال كارم:
“ستة شاي، سكر برة.”
أجاب الصبي، مشيراً على عينيه بحركة اعتيادية:
“من عينيا يا رجالة، ثواني ويبقى الشاي عندكم.”
ردّ سامي مبتسمًا:
“خد راحتك يا حودة.”
غادر الصبي ودلف للداخل،بينما نظر موسى إلى سامي وقال:
“مظبوط، خالتي نادية بتقولك ماتنساش تجيب السحور معاك وأنت جاي.”
تنهد سامي بقلة حيلة وقال:
“عايز أفهم، إزاي أنسى وهي مفكراني ٣ مرات قبل ما أنزل؟”
أجاب موسى بسخرية:
“مفيش مشكلة، بقى أربع مرات…عادي يعني.”
ضحك الجميع على تعليقه،وتحدث محسن إلى سامي:
“يا عم كل الأمهات كده، تحس أنهم ماعندهمش ثقة فينا، أو بالأصح ما عندهمش ثقة في ذاكرتنا.”
قال كارم وهو يطرق على رأسه بسبابته:
“قول نعم وخلاص علشان نريحهم، اسمع مني،ريح..تستريح.”
نظر سامي إلى كارم بضيق ثم تجاهله ونظر إلى موسى وقال:
“سيبك من السرسجية دول،خلينا في المهم.”
انكمش حاجبا موسى وقال بتساؤل:
“إيه الموضوع؟”
ألقي سامي نظرة على البقية ثم عاد إلى موسى وقال بنبرة خافتة:
“الفلوس بقت في حسابي.. بعتوا لنا المبلغ المتبقي اللي اتفقنا عليه.”
ارتسمت على وجوه الأصدقاء ابتسامة جانبية،وتحدث محسن بحماس:
“الله على الأخبار الحلوة.”
نظر سامي إلى محسن وقال بحنق:
“وطي صوتك!”
وضع محسن إصبعه على فمه مرددًا بنبرة أكثر هدوءًا:
“حاضر.”
استكمل سامي حديثه،بجدية:
“المهم، نقسم الفلوس وأحولها على حساباتنا؟”
أجاب موسى بسرعة:
“لأ.”
نظر الجميع باستغراب،فتابع موسى قائلاً:
“مش دلوقتي…نصبر شوية وبعدين نقسمهم.”
ردّ كارم متسائلًا:
“ليه بس؟”
نظر موسى إلى كارم ثم قال برتابةٍ:
“في سبب هأقولكم عليه بعدين.”
عاد موسى إلى سامي وقال:
“خلي الفلوس في الحساب زي ماهي لحد ما أقولك على الوقت المناسب.”
أومأ سامي بالإيجاب،وقال:
“زي ما تحب يا برنس، مفيش مشكلة.”
تأفف محسن ثم سأل موسى:
“طب على الأقل قولنا على المعاد؟”
نظر موسى إلى محسن وقال بنفاذ صبر:
“قولنا مش دلوقتي يا محسن…فُضوا السيرة بقى علشان محدش يسمعنا.”
قال آخر جملته عندما لاحظ اقتراب الصبي منهم،الذي تقدم نحوهم ثم وضع الأكواب على الطاولة قائلاً:
“أحلى ٦ كوبيات شاي لأجدع صحاب في المنطقة.”
ابتسم الجميع وقال سامي:
“تُشكر يا حودة.”
أجاب حودة:
“العفو يا سيمو…أسيبكم أنا بقى.”
دخل الصبي مرة أخرى، بينما بدأ الأصدقاء في احتساء الشاي،ووضع محسن كوبه على الطاولة بعد أن احتسى قليلاً منه وقال لموسى:
“ابن عمك لسه معدي بعربيته قبل ما تجي شوية.”
وضع موسى الكوب على الطاولة مرددًا ببرود:
“أهني واحد فيهم؟”
“بلال يا بني.”
“أيوه، كان قال إنه هيمشي بعد المغرب.”
تحدث حسين متسائلًا:
“كلهم مشيوا؟”
هز موسى رأسه سلبًا وقال:
“لأ، مش كلهم…عمتي سهير هتمشي هي وجوزها وبناتها بعد العشاء، وعزت هيبات هنا الليلة دي علشان يمني أصرت، والباقي فلسعوا.”
قال كارم ضاحكًا:
“المهم، المولد انفض مؤقتًا…ارتاح شوية علشان اليومين الجايين مفيش راحة يا برنس.”
“إنت بتقول فيها، ده أنا شايل الهم من دلوقتي والله.”
قال سامي بهدوء:
“يا عم، سيبها على الله… يومين زي غيرهم وهايعدوا.”
نظر حسن إليهم باستغراب ثم قال:
“إنتوا ليه محسسني إني داخل على أيام سودة؟ يا جماعة ده عيد وبعده فرح، يعني حاجة حلوة على فكرة…أما بالنسبة للتجمع، فكل واحد هيكون مشغول في حاجات كتير لدرجة ممكن ينسوا نفسهم.”
نظر موسى إليه وقال ببرود:
“ما أنا من الكل اللي هيكون مشغول على فكرة!”
قال حسن ضاحكًا:
“ده أنت معقدها قوي يا موسى.”
أجاب كارم مبتسمًا:
“يا عم، حط نفسك مكانه…فاهم يعني إيه تكون في وسط عيلة مكونة من أكتر من ٣٠ شخص وفي مختلف الأعمار، وكلهم داخلين في بعض؟ حاجة زي الخلطبيطة بالصلصة كده…ده مخلف ده وده مخلف ده، وده متجوز ده وده متجوز ده، وحاجة في غاية اللغبطة.”
نظر كارم إلى موسى وأردف بسخرية:
“إنت مش بتوه في وسطهم يا موسى؟”
رمقه موسى بنظرة صامتة استمرت لثوانٍ، مما أثار ريبة الجميع، ثم تحدث بنبرة جدية:
“من ساعة ما وعيت على الدنيا وأنا تايه وضايع وسطهم يا كارم.”
فهم الجميع ما يقصده، فتبادلوا النظرات في صمت، دون أن يتجرأ أحدهم على التفوه بكلمة قد تثير مشاعره، لاحظ هو صمتهم ونظراتهم تلك، فابتسم ابتسامة فاترة وقال:
“اشربوا الشاي قبل ما يبرد.”
أصغوا له،وتناول كل منهم كوبه، وهم ينظرون إلي الأخير الذي قال بسخرية:
“بلاش نكد والنبي…ما بحبوش.”
نظروا إليه باستغراب،لكن سرعان ما انفجروا في ضحك جماعي.
________________
بعد مرور القليل من الوقت،كانوا لا يزالون يجلسون في المقهى، يتبادلون أطراف الحديث في أمور مختلفة، منها الجاد ومنها المرح.
نظر حسن إلى ساعته ثم تحدث معهم:
“العشا قربت تأذن…يلا بينا.”
نظر سامي إلى ساعته أيضًا ثم قال مؤيدًا حديثه:
“ومالو…استنى بس نحاسب.”
نظر داخل المحل وشرع ينادي الصبي:
“حوده…يا حوده!”
أجابه الصبي من الداخل:
“أيوه يا سيمو، جاي!”
أتى الصبي ووقف بالقرب منهم، فنظر الجميع صوب موسى الذي تعجب من نظراتهم وسأل:
“في إيه؟ بتبصولي كده ليه؟”
أشار له كارم برأسه صوب الصبي بحركة بسيطة مرددًا:
“ادفع!..أنت اللي عليك الدور.”
قال موسى مستنكرًا:
“دور مين يا غالي؟”
“دورك يا موسى في الدفع المرة دي…إحنا متفقين إن كل واحد فينا يدفع مرة.”
حرك موسى رأسه نافيًا، مرددًا ببرود:
“أنا مفتكرش إني اتفقت على حاجة زي دي…مستحيل أصلاً أوافق على حاجة زي دي.”
“يعني مش هتدفع؟”
رفع موسى حاجبه بإستنكار وقال بصوت جاد:
“إنت مش عارف صاحبك ولا إيه يا كارم؟ من إمتى وموسى بيدفع؟! ادفع انت!”
زفر كارم بضيق وأسرع قائلاً:
“يا عم ادفع إيه بس! ده أنا جيبي مفيهوش غير عشرين جنيه.”
نظر كارم صوب محسن وقال:
“ادفع إنت يا محسن!”
“يا عم محسن مين! ده أنا على الله حكايتي.”
زفر كارم من جديد، ثم التفت إلى حسين الذي يجلس على يساره وقال:
“ادفع انت يا حسين!”
رد حسين بسخرية:
“آه…إن شاء الله، لما يبقى معايا فلوس أبقى أدفع.”
تنهد كارم بقلة حيلة ثم نظر لحسن وقال:
“طب ادفع إنت يا شيخنا!”
رمقه حسن بنظرة مطولة فهم منها المقصود وقال:
“فهمت…حالك من حال إخواتك.”
نظر كارم أخيرًا لسامي،وقبل أن يتفوه بكلمة، سبقه سامي قائلاً بهدوء:
“ولا كلمة…هدفع أنا وخلاص وأمري لله.”
نظر سامي إلى الصبي الذي كان يشاهد الموقف بضجر، وأخرج محفظته من جيب بنطاله قائلاً:
“حسابك كام يا حوده؟”
“تسعين يا سيمو.”
توقف سامي عما كان يفعله ونظر للصبي بصدمة قائلاً:
“تسعين ليه؟!”
رد حوده ببساطة:
“ستة شاي وواحد حلبة…يبقوا تسعين جنيه.”
صاح سامي مستنكراً:
“حلبة إيه؟! إحنا ما طلبناش غير شاي!”
نظر الصبي صوب حسين وقال:
“لا حسين طلب حلبة.”
التفت سامي إلى حسين الذي تهرب بنظراته،فصاح سامي بحنق:
“حلبة ليه؟ كنت بتولد؟!”
انفجر الأربعة بالضحك، بينما تحدث حسين دفاعًا عن نفسه:
“يا عم الواحد كان صايم طول اليوم، وكان محتاج يبل ريقه.”
سخر سامي قائلاً:
“تبل ريقك على قفايا صح؟”
ضحك الجميع مرة أخرى، بينما تدخل الصبي قائلاً:
“يلا يا جماعة حصل خير بقى.”
زفر سامي بضيق وأخرج ورقة نقدية من فئة المائة، وأعطاها للصبي الذي قال:
“ثواني وأجيبلك الباقي.”
رد سامي بلا مبالاة:
“براحتك يا عم.”
دخل الصبي إلى الداخل، بينما التفت سامي ينظر إلى حسين الذي كان مختبئًا خلف توأمه حسن.
لحظات قليلة وعاد الصبي وأعطى الباقي لسامي، لكن قبل أن يتناوله الأخير، أسرع موسى وأخذ المبلغ ووضعه في جيب بنطاله، قائلاً:
“تمام يا حوده.”
دخل الصبي المقهى مجددًا غير مدرك لما حدث، بينما نظر الجميع لموسى باستغراب، خاصة سامي الذي سأله:
“وده اسمه إيه بقى؟!”
حرك موسى كتفيه ببرود وقال:
“مفيش…باخد الفلوس اللي عليك.”
أشار سامي إلى نفسه مستنكرًا:
“أنا عليا ليك فلوس؟!”
أومأ موسى برأسه مؤكدًا:
“آه…فاكر من شهر لما كنت بتشترينا فطار؟ وقتها كنت عايز 6 جنيه فكة وأخدتهم مني.”
سكت سامي قليلًا،ثم حرك رأسه إيجابًا قائلاً:
“آه…افتكرت…ده أنت مبتنساش حاجة.”
رد موسى مبتسمًا بفخرٍ:
“بنسى اللي عليا،بس عمري ما نسيت اللي ليا.”
سخر سامي قائلاً:
“لا كده معقول شوية.”
ابتسم الجميع بينما مد سامي يده قائلاً:
“إيدك على الأربعة جنيه بقى.”
ضحك موسى وقال:
“مش معقول يا سامي! هتحاسب صاحبك على أربعة جنيه؟!”
رد سامي ساخرًا:
“ما أنت حسبتني على ستة جنيه! ولا فلوسك حلال وفلوسي حرام؟!”
ضحك موسى وقال:
“أنت هتقارن ستة جنيه بأربعة جنيه؟!”
نظر له سامي بغيظ ثم سأله بهدوء:
“يعني مش هترجع الباقي؟”
ربت موسى على جيب بنطاله وقال ببرود:
“اللي بيدخل جيبي مابيطلعش…وإنت عارف كده كويس.”
تنهد سامي بقلة حيلة وحرك رأسه ساخطًا:
“ده أنت جلدة!”
رد موسى بثقة:
“عارف.”
تدخل كارم ليفض النزاع قائلاً:
“خلاص يا جماعة…ماكانوش شوية جنيهات فكة اللي هايفرقونا.”
نظر حسن إليه باستنكار وقال بحدة:
“أنت لسه فاكر تهدي الوضع؟!”
ابتسم كارم قائلاً بمكرٍ:
“أصل أنا بحب المواقف اللي زي دي…بستمتع وأنا بشوفها.”
نظر له حسن بغيظ واكتفى بالصمت، بينما رمقهم حسين قائلاً:
“خلاص يا جماعة…حصل خير، يلا بينا نقوم نصلي.”
توجهت أنظار الجميع إليه كأنها سهام قد ألقيت صوبه،وقبل أن ينطق أحدهم، صدح صوت عبر التلفاز:
“لبيك اللهم لبيك،لبيك لا شريك لك لبيك…”
توجهت أنظارهم جميعًا نحو شاشة العرض في المقهى ليدركوا أنه إعلان لإحدى المؤسسات الخيرية قبل موعد الأذان.
نظروا لبعضهم البعض،واعتلت وجوههم ابتسامة مبهمة.
وفجأة،ودون مقدمات، صدح صوتهم معًا:
“الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا…لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده…لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون…الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، لا إله إلا الله.”
انطلقت ضحكاتهم بعدما انتهوا،وجذبوا انتباه الجالسين وبعض المارة بكلماتهم المتناغمة الخاصة بالأعياد.
توقفوا عن الضحك ولكن الابتسامات لم تختفِ، وعايدوا من حولهم قائلين:
“كل سنة وانتوا طيبين يا رجالة!”
“وانتوا طيبين!”
“عيدكم مبارك!”
رد سامي مبتسمًا:
“علينا وعليكم يا عمنا.”
التفت سامي لأصدقائه قائلاً:
“يلا بينا…نكمل في الجامع.”
ردوا جميعًا بحماسة:
“طبعًا!”
نهض الستة معًا وساروا في صف مستقيم يكاد يملأ عرض الشارع.
ثم نظر كارم إلى موسى،الذي كان يقف في نهاية الصف من اليسار، وقال:
“صحيح يا موسى…جدك هيدبح إيه السنة دي؟”
رد موسى ببرود:
“كل ما أسأله يقولي هدبحك إنت!”
انفجر الخمسة بالضحك،بينما طالعهم موسى بسعادة وبسمة واسعة شقت وجهه…فهم أصدقاؤه الأعز والأقرب إليه من نفسه، والذين تشهد الأرض على حبهم ودعمهم الدائم لبعضهم البعض.
________________
إنها فقط البداية…
كتابة/أمل بشر.
دمتم بخير.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.