رواية طوفان الدرة – الفصل السادس والأربعون 46
قبل وقت قليل… بالمشفى
انسدل الستار بعدما فضح تعري الإثنان …
حدث الطلاق الذي تأخر كثيرًا كأنه كان سجنًا يستلذ الإثنين به، يُعاقب كل منهم الآخر بقيود
لم تُصدم سامية من نُطقه للطلاق بسهولة هكذا،كذالك عزمي لم يستصعب ذلك بل شعر كأن ثُقلًا انزاح عن صدرة،بعد مكوثه لسنوات جاثمً على صدره…
هكذا ظنوا أن إنفصالهما هو التحرير من دوامة ربما ينجوا كل واحدًا بنفسه،لكن ربما لا ينجو أحد وتسحبهم الدوامة الى القاع.
نظرت له نظرة أخيرة،نظرة حقد وكُره،قبل أن تذهب نحو باب الغرفة،تبادل معها نفس النظرات…كأن تلك السنوات التي تحملا بعضهما فيها،كانت حُكمً بالسجن وعليهما التنفيذ وقد حان وقت الإفراج…لسوء الحظ لم يكن الإفراج خلاصًا كما تخيلا، بل بداية لحكمٍ آخر، أقسى وأكثر وجعًا…
توجهت سامية نحو باب بخطواتٍ ثابتة تحمل بداخلها انهيارًا، وخلفها تركت بقايا حياةٍ كانت من البداية فوق الرماد
أما عزمي، فجلس على حافة السرير، يُحدق في الفراغ، يُحاول إقناع نفسه أنه انتصر أخيرًا، لكنه لم يشعر إلا بالهزيمة…
بنفس وقت فتح سامية باب الغرفة تفاجئت بـ طوفان فى وجهها يرفع يده كاد يطرق على الباب.. نظرت له بنظرة إزدراء، وهو تجاهل حتى الحديث… شعرت بكراهية لكن فضولها،كذالك ملامح طوفان الواجمة… جعلها ذلك تقف جوار باب الغرفة تتسمع على طوفان وهو يتحدث مع عزمي قائلًا دون مقدمات وبنبرة لوم:
قولى يا خالي إزاي إتعرفت على ابتهاج، أكيد كنت عارف ماضي والدها وجوزها الأولاني، وليه أساسًا اتجوزتها، كان فى غيرها تقبل تتجوزك فى السر قبل العلن…كان فين عقلك…مستحيل أصدق إنها شغلت قلبك .
شعر عزمي بوخزات قوية ليست فقط من ألم جسده بل ألم بل من كلمات ابن أخته التي اخترقت صدره كسهامٍ مُحكمة التصويب… زفر ببطء، مُحاولًا أن يحافظ على رباطة جأشه، ثم رفع نظره نحوه قائلًا بصوتٍ خافتٍ لكن مُحمل بالمرارة:
إنت فاكر يا طوفان إن الجواز دايماً بيكون بالعقل أو بالقلب…أوقات بيكون غلطة العمر، لما تلاقي نفسك مجبور تتحمل إختيار غيرك…
سكت لحظة، كأنه يبتلع غصّة قديمة قبل أن يُكمل:
زمان جدك فرض عليا سامية رغم إنه كان عارف إن قلبي مشغول بغيرها، إستخسر فيا السعادة…حتى هي كمان مكنتش تعرف اني بحبها وإتجوزت من غيري،رغم ربنا مكتبش لها الخلف بس كنت بشوفها سعيدة وراضية.
تعجب طوفان من ذلك سائلًا:
هي مين يا خالي.
تدمعت عين عزمي وراوغ قائلًا:
هي الماضي اللى إنتهي خلاص يا طوفان…تعرف أنا كنت بحقد عليك لما دافعت عن حُبك لـ درة قصاد نوح…حتى لما أتجوزتها حسيت بغضب من نفسي قبل منك…ليه معملتش زيك وإتحديت أبويا ورفضت سامية وقولت له إنى بحب غيرها ومش هتجوز غيرها…حتى لو كان رفض،حتى لو كان طردتني كنت هقوله
لا أموالك ولا صيت عيلة مهران جابولى السعادة… حتي مبقتش الكبير بتاع العيلة، محطوط واجهه، زي الزينة،
عارف مره واحد من العيلة لجأ ليا فى مشكلة وحليتها له،ووقت ما حب يمدح…مدح فيك إنت… هعترفلك فعلًا أنا كنت عارف كل حاجة عن ابتهاج…. عن أبوها، وعن جوزها الأول، وعن كل اللي اتقال عليها… بس كنت برضه شايف فيها ست مظلومة، دخلت لى من سكة انها ضعيفة ومحتاجة حماية… كنت مبسوط وانا موهوم إني أقدر أحميها من الدنيا، لكن الواضح إن اللي بيحاول يحمي كدابة مخادعة بينسى يحمى نفسه.
ثم تنحنح متعبًا، صوته اهتز قليلًا وهو يضيف:
أنا اتجوزتها مش عشان أتحدى الناس، ولا عشان أخبي، كنت فاكر السرية هتحميها من الألسنة… لكن الظاهر إن السر بيكسر صاحبه قبل ما يصونه.
ارتسمت على وجه طوفان نظرة متوترة، نصفها غضب ونصفها حيرة، ثم مرر يده فوق رأسه في حركة عصبية قائلًا بنبرة مشدودة:
تحميها!
تحميها من مين يا خالي من الناس ولا من نفسها الست دي ما خلتش حد إلا وأذته… وأنا آخرهم، وعندي يقين إنها هي اللى ورا محاولة أغتيالنا… إنت فاكر نفسك الوحيد اللي شاف فيها ضعف… لأ، دي شاطرة في الحتة دي… تعرف تلعب دور الضحية لحد ما تخليك تصدق إنك منقذها، وبعدين تمص دمك على مهل وده اللى حصل معاك…
تغيرت ملامح عزمي، بدا وكأنه تلقى صفعة معنوية، قائلًا بهدوء حزين:
قصدك إيه
اقترب طوفان أكثر من عزمي قائلًا:
ابتهاج خطفت درة..
جحظت عيني عزمي يحاول الاستيعاب لكن ذُهل أكثر حين استطرد طوفان الحديث بتأكيد:
وعملت تحالُف مع وليد إبنك.
صدمات صدمات
والاقسي والأقوي تهديد طوفان:
قسمً بالله لو درة شعرايه منها أتأذت ما هعمل حساب لأي صلة دم… أنا لما قدمت وليد للشرطة، كنت بحاول أنقذه، آخر فرصة لما يعيش قسوة السجن يفوق…. كنت لسه شايف في وليد بريق أمل صغير،
قلت يمكن يتراجع… يمكن يفوق قبل ما يغرق…
لكن أنت… أنت اللي غرقته بإيدك، يا خالي، لما إشتريت شهادة مرعي، كمان السلاح اللى إختفي، هو نفس السلاح اللى سبق وإنضرب منه رصاص على درة، ولما واجهت المجرم قالي إنه خد السلاح من ست كان فى وسيط بينهم… كان طبعًا مقصود، درة تتقتل بالسلاح ده وظهوره كمان كان هيثبت جريمة جديدة على وليد، خطة ذكية طبعًا.
كأن عزمي فقد النُطق، رغم شعور طوفان بالأسي من قسوة ما يقوله لكن هاجس الخوف على درة هو المُسيطر عليه… تنفس طوفان بجمود قائلًا:
خالي إنت أكيد على دراية بكل الأماكن اللى ممكن يكون فيها وليد، قولي يمكن أقدر أنقذه المرة دي… كمان أماكن ممكن الاقي فيها ابتهاج.
هز عزمي رأسه بألم وتحدث بخفوت وصدق:
لاء معرفش يا طوفان والله لو أعرف كنت قولت لك، حتى ابتهاج معرفش غير بيت ست قريبتها سابت ابنها عندها، كانت بتزورها على فترات.
رفع طوفان يديه يجذب شعره للخلف بقسوة، نظر نحو عزمي بآسف وكلمات قليلة قالها بتوعد:
وليد، ولا ابتهاج لهم أي دية عندي.
قال ذلك ولم ينتظر وتوجه نحو باب الغرفة بخطوات سريعة
حاولت سامية الاختباء بممر جانبي.. شعرت بالحقد اكثر من طوفان واعترافات عزمي انه كان يكن الحب لأخرى، صدق إحساسها… لكن لن تهتم بـ عزمي
فكرت بـ وليد لابد من تحذيره… خرجت مُسرعة الى المنزل لسوء الخظ أن السائق غادر، كادت تهاتفه ليأتي، لكن الوقت ليس لصالح وليد لن تنتظر، أشارت لأحد سيارات الأجرة توقفت لها، صعدت بها وأمرت السائق بالقيادة على أسرع سرعة لديه… وصلت الى المنزل صعدت مباشرةً الى غرفة وليد فتحتها كانت فارغة… هرولت بالنداء على الخادمة سائلة:
فين سيدك وليد.
أجابتها خرج من قبل ما إنتِ تخرجي، حتى أنا أستغربت خرج ماشي على رجليه من عكاز.
نهرتها ساميه وقفت تفكر، تستذكر الماضي حين كان يختفي وليد بعض الأماكن منها غرفة بحديقة المنزل… ذهبت لها فورًا كانت فارغة وقفت تتنفس بلهاث… تستذكر وتستذكر إهتدى عقلها… ذلك المخزن القديم الذي كاد يحترق به سابقًا قبل سنوات قليلة بعدما ذهب هو وصديق له، بعدما تشاجرا وأشعلا النيران ولم يستطيعان إطفائها، فرا منها باعجوبة… ربما هو هناك، إتخذت القرار ستذهب إليه وبداخلها أمل أن تعثر عليه قبل طوفان وتحذره.
******* ****** *****
بعد وقت قليل
إضطر طوفان للعودة الى المنزل ليأخذ سلاحه الخاص، تسحب بهدوء من باب خارجي مُطل على الحديقة حتى لا يلفت إنتباه من بالمنزل توجه مباشرةً الى تلك الخزنه فتحها وأخذ السلاح وضعه على خصره كاد يخرج من نفس الباب لكن سمع صوت قريب من الغرفة لفت إنتباهه فتح باب المكتب المُطل على بهو المنزل تفاجئ بدخول تلك السيدة ومعها شاب يضع ضماد حول رأسه… خرج من المكتب نحوهم، تسارعت تلك السيدة قائلة بتوسل ورجاء:
طوفان بيه أنا فى عرضك بنتِ زينة.
توقفت تلتقط نفسها بصعوبة، نظر طوفان نحو الشاب الذي تحدث بلهاث هو الآخر بتفسير:
أنا كنت بوصل زينة زي كل يوم ووقعنا فى فخ عالطريق، أنا آخر حاجه سمعتها قبل ما عقلي يغيب،سمعت واحد من الرجالة بيقول البيه أمرنا ناخد البنت نوديها الهنجر القديم،هما فكروا إني بسبب ضربتهم على دماغي موتت أو غبت عن الوعي ومع الوقت دمي هيتصفي وهموت بسبب الضربة وان الطريق زراعي وبقينا المسا والفلاحين أكيد روحوا بيوتهم، يعني محدش هينقذني بس ربنا كان رحيم فلاح شافني مرمي عالطريق فكرني عملت حادثه بسبب الموتوسيكل، وكان شهم قلع الشال بتاعه وكتم الدم وخدني عالوحدة، خيطوا دماغي وأول ما فوقت خرجت رغم انهم كانوا رافضين، بس أنا قلقان على زينة، أكيد اللى خطفها هو وليد أنا سمعت طرطشة كلام بينهم عن الهنجر القديم بنفس الوقت صدح هاتف طوفان، أخرجه من جيبه ونظر له سرعان ما قام بالرد ليسمع:
الموبايل اللى بعت رقمه رصدنا مكالمة منك، هبعتلك المكان فى رسالة فورًا.
أغلق طوفان الهاتف، بنفس الوقت إقتربت وجدان لاحظت ذلك السلاح على خصر طوفان خفق قلبها بقوة، تبادلت النظرات بين طوفان ووالدة زينة وخطيبها وذلك الضماد الذي حول رأسه ومنظر ملامحه الواضحة التعب…
تفوهت بإستفهام:
فى إيه يا طوفان، كمان درة فين مرجعتش لغاية دلوقتي.
صمت طوفان بنفس الوقت سمع صوت رساله على هاتفه فتحها سريعًا، ثم نظر الى وجدان ثم الى والدة زينة وخطبيها قائلًا:
لازم أمشي دلوقتي، من فضلك يا ماما ضايفيهم.
اعترضت وجدان امام طوفان بقلق سائلة:
قولى فى ايه يا طوفان، بلاش تسيبني كده قلقانه للفِكر السيء.
غصبً لم ينتظر وغادر مُسرعً، دون تفسير.
زاد القلق فى قلب وجدان بنفس الوقت حاولت تهدئة والدة زينة قائلة:
تعالى نقعد وقوليلي إيه اللى حصل.
جلست والدة زينة، تبكي بنواح وهي تسرد ما حكاه لها خطيب إبنتها، وأن المشكوك فيه الاول هو… وليد، بل يقين، دقائق ونهض خطيب زينة للرد على إتصال والدته،فى ذلك الوقت سردت والدة زينة لـ وجدان بعض من أفعال وليد مع إبنتها التي كانت تُخفيها عنها لكن صدفة أثناء حديثهن زلف لسانها، ومع إلحاح والدتها أخبرتها بعض من افعاله وإعتراضه لها بالطريق أكثر من مرة، وخوفها منه الذي وصل الى حد الإرتياب منه.
تنهدت. وجدان بآسف هامسه لنفسها:
للآسف وليد إتربي عالأنانية والإجرام بقي في مجرى دمه… كذالك تمنت أن يكذب قول والدة زينة.
.
❈-❈-
بأحد المخازن المهجورة أسفل بناية قيد الإنشاء…
كان حاتم على رأس قوةٍ أمنية تُنفذ مُداهمة خاطفة… لم يستغرق الأمر طويلًا، فالمجرمون فوجئوا بالهجوم ولم يجدوا فرصة لا للمقاومة ولا للهرب، كأن القدر نفسه أغلق الأبواب في وجوههم. كانت أسهل مهمة نفذها على الإطلاق.
بعد ساعات، في مبنى المديرية…
وقف حاتم أمام مكتبه، والابتسامة الهادئة تعلو شفتيه وهو يستمع إلى القائد يقول بمدح ظاهر:
عمرك ما خيبت توقعاتي يا حاتم… إنك تخرج في مهمة وإصابتك لسه ما التأمتش، ده كان تصرف مجنون، بس كالعادة طلعت قدها.
ابتسم حاتم بخفوت وهو يُعدل ياقة بدلته العسكرية قائلًا:
المهم إن العملية نجحت من غير خسائر يا فندم، الباقي كله سهل.
ضحك القائد وربت على كتفه قائلًا:
واضح إنك مش ناوي ترتاح أبدًا.
الراحة بعدين، يا فندم… لما البلد تبقى بخير.
ساد صمت قصير قبل أن يقول القائد بنبرة أكثر جدية:
على فكرة… في تكليف جديد جاي لك.
رفع حاتم حاجبيه بدهشة خفيفة:
مهمة جديدة بعد العملية دي على طول.
اجابه القائد:
أيوه، بس دي مختلفة عن كل اللي فات… فيها مدنيين، ومش كلها اشتباك وسلاح.
جلس القائد خلف مكتبه، قائلًا بهدوء:
مهمتك الجديدة يا حضرة الضابط
طبعًا وصلك إن فى عصابة لتجارة السلاح أكيد وصلك إن اللى بتقودها ست…وبيقولوا عليها “سيتهم”…فى معلومات وصلتنا إن الوكر اللى حصل فيه مداهمة الليلة و المجرمين اللى تم القبض عليهم تبعها،أنا عاوزك تتواصل مع وكيل النيابة وأكيد ممكن واحد من المجرمين يكون على صلة مباشرة بها ويديك معلومة توصلنا لها.
نهض حاتم قائلًا بحماس:
تمام يا أفندم هتواصل مع وكيل النيابة وإن شاء الله نوصل للست دي ونطهر المنطقة من تجارة السلاح.
تنهد القائد بآسف قائلًا:
للآسف صعب نوصل لنهاية مع تجارة السلاح.
اومأ حاتم بآسف هو الآخر قائلًا :
أهو بنحاول يا أفندم، وإن شاء الله الداخلية تسيطر وتبيد كل اللى بيخرج عن القانون.
*****……*****
بعد وقت قليل بمنزل والد حاتم
كانت بدرية تجلس في المنزل وحدها، تشعر بالوحدة والفراغ ينهش قلبها كما يفعل الندم حين يستيقظ الضمير متأخرًا… جلست على أحد المقاعد بالردهة
تتجول بنظرها في أرجاء الردهة التي تحفظ معالمها عن ظهر قلب، كل ركن في المكان يذكرها بمناسبة…او حدث ترك ذكرى
توقفت عيناها على صورة حسام الموضوعة على الحائط،شعرت بوجع قاسي فى قلبها سالت دموع عينيها حسرةً،رغم مرور وقت لكن ذلك الوجع لا يُنسي ويظل قسوته تنهش فى القلب،فُقدان ولدها ليس بالحدث الهين،الغدر أصابه وسفح قلبها…نظراتها مؤلمة وأمنية لو تحتضن وجهه بيديها ويبتسم لها،وجع لا يهدأ وليس له علاج سوا قبول مرارة القدر بل والتعايُش معها غصبً ….اخفضت وجهها للحظة تُجفف دموعها بيديها،رفعت عينيها مرة اخرى لكن عينيها ذهبت بإتجاه آخر.. لصورة أخري، لفظ قلبها بندم:
حاتم…
تنهدت بغصة وندم وتمتمت بصوتٍ مبحوح:
أنا السبب يا حاتم… أنا اللي خربت بيتك بإيدي.
أغلقت عينيها تستعيد اللحظات التي كانت تقف فيها بينه وبين زوجته، بكلماتٍ ظنّت حينها أنها “وجيعة قلب أم مقهور”، لكنها كانت سهامًا أصابت قلب زواجه… تستعيد بعض المواقف كانت قاسية وهي تحاول زرع القسوة ببكائها مرة، وتجبُرها مرات… قبول جود لجحودها كان ذلك تفهمً منها انها أم فقدت إبنها، لكن هي ماذا فعلت، الآن
كل جملة قالتها بغضب، كل قسوة زرعتها في صدره، عاد الآن ذلك يطعنها ألف مرة.
رفعت رأسها نحو السقف كأنها تبحث عن غفرانٍ من الله، أو ربما من زوجة ابنها التي ظلمتها…
تنهدت بعمق تلوم في نفسها تقول بندم:
يا ريت الزمن يرجع… كان زماني مش لوحدي، كان زمان جود معايا وكمان…
توقف لسانها بغصة مريرة فى حلقها، وهي يعود لذاكرتها لقائها مع جود قبل فترة وجيزة
[بالعودة لذاك اليوم التى تفاجئت جود بزيارة بدرية…
كانت كإسمها”جود”
إستقبلتها بترحاب بسيط كأنها نسيت أفعالها السيئة السابقة معها،أو هي كانت دائمًا هكذا تتعامل معها بسماحه
تُقابل غلاظتها بلُطف تُعطيها أعذار لقسوتها…
جلسن بهدوء،لكن هنالك ما غص فى قلب بدرية أكثر…هو همهمات مرح ذلك الصغير التى تحمله جود…
طفل رضيع يُشبه طوفان بالملامح…تدمعت عينيها، حاولت إخفاء ذلك، وحسرة أخرى سكنت قلبها… وبعقلها ندم لو كان تغير القدر وأكملت جود حملها… كانت الآن تحمل حفيدها
وندم لا يفيد الوقت نفذ…
حديث هادئ، ورجاء مُبطن من بدرية التى تبتلع حسرات قلبها وهي تتحدث لـ جود تُخبرها عن إصابة حاتم… كذالك حديثها المراوغ الذي أبي عقلها أن تطلب السماح والغفران مباشرةً… ربما ليس تكبُرًا بل ترقُب لرد فعل جود التى تعلمه مُسبقًا، ربما لم يعيشا معًا لفترة تسمح لهن بمعرفة خِصال بعضهن، لكن جود كانت عكسها… تُقابل الجحود بإبتسامه حتى إدعائتها الكاذبة كانت تتقبلها، ربما هذا ما أزاد فى قسوتها… تذكرت تحذيرات زوجها الذي كان ينهاها عن ذلك…دائمًا كان يرفض ذلك ويحاول تطيب خاطر جود ببعض الكلمات الطيبة،وجود كانت معه تلقائية بقلب طيب ورقيق،لكن لكل شخص طاقة تحمُل،أخطأت حين حاولت إعادة خطيبة حاتم الأولى أمامه حين شعرت ببوادر ميل حاتم لـ جود وأنها بدأت تجذبه لها برقتها وعفويتها،كذالك بحملها أصبحت تتوغل من نيل مكانة فى قلب وعقل حاتم…
ورنين جملة زوجها لها
“خسرتي واحد بالموت بلاش تخسري التاني بتدمير حياته مع مراته”
وصلت لذلك بخباثة هي من تدفع ثمنها…حاتم توغلت جود من قلبه وعقله
رقتها فازت أمام جحودها
وندم دفع ثمنه حاتم…لوعة قلبه،إبتعاده لفترات طويله عن المنزل،أصبح منزلها مثل المهجور لاوقات طويلة،تمكُث وحدها تتشارك مع الجدران غصات وحسرات قلبها…تنازلت اليوم عن جزء من كبريائها،لكن تذكرت شيء واحد هو “حاتم”إبنها الثانى والباقي لها…لا يهم كبريائها مقابل أن يعود ويبتسم كما كانت ترا فى عينيه حين كانت تستقبله جود بأبتسامة صافية،رغم أفعالها الخبيثة،غيابه عن المنزل التي كانت تستلذ به وقت زواجه من جود،أصبحت تمقته هي.. وهو أصبح المنزل له مجرد مأوي لبضع ساعات ويعود للـ الغياب
ندم…وندم…ولوعة فُقدان…كذالك حبسة جُدران أصبحت تخاف أن يذهب عقلها منها…
إعتذار بطريقة غير مباشرة لـ جود التي لم تستغل ذلك…بل بقلبها رحمة وتفهم.
ودت لو تسيل دموعها ربما يرتاح قلبها من ذلك الندم…
وتعود همهمات مرح ذلك الصغير تُذكرها بالقسوة التي دفعت ثمنها….
بنفس وقت حديثهن الهادئ دلفت درة الى الغرفة…
تفاجئت درة بـ بدرية وتحدثت بتفاجؤ:
عمتي!.
أغمضت عينيها للحظات حين أخذت درة صغيرها من جود تحمله تُقبله…
وخيال قديم لو كان ذلك حفيدها من” حسام” كما كانت تنتظر،لكنه القدر،عادت تفتح عينيها على همهمات تذمُر ذلك الصغير الذي إعترض وأراد البقاء مع جود…تبسمت درة له بحنان،أخذته جود مره أخري فأبتسم…وإبتسمت درة التى رحبت بـ بدرية ..لحظات
تنحنحت بدرية قلبها لا يتحمل أكثر من ذلك،نهضت قائلة:
ده ميعاد رجوع عمك من بره ولما بيرجع…
ماذا تقول أنه أصبح هو الآخر يميل للبقاء خارج المنزل… فلمن سيعود لها، ويجدها تبكي من الحسرات.
تبسمن لها وهي تغادر، ذهبت معها درة الى باب المنزل…
ربما أحبت درة وتمنتها كزوجة لأحد ابنائها، ربما كان هنالك نوايا طمع بقلبها، لكنها كذالك لم تكرهها يومًا… كانت تشعر تجاهها بمزيجٍ غريب من القبول والحذر، كأنها ترى فيها مرآةً لسنواتٍ مضت، وأُمنية لم تتحقق بسبب سوء القدر
وقفت درة عند الباب تتابعها بنظراتٍ غير مستوعبة ، نصفها شفقة ونصفها استغراب، بينما بدرية تمضي بخطواتٍ واثقة تخفي خلفها انكسارًا ثقيلًا لا يراه ولا يشعر به أحد غيرها.
عادت درة الى تلك الغرفة تبسمت لصغيرها قائلة بمرح:
كده يا نوح نسيت ماما، يا خسارة تعب تسع شهور ومعاهم كمان تنمُر باباك وخالك باسل عليا بسببك.
ضحكت جود وهي تُقبل نوح بمرح قائلة:
نونو حبيب عمتوا.
ضحكت درة وهي تنظر حولها قائلة بمرح:
إحمدى ربنا إن طنط وجدان مش سمعتك وإنتِ بتقولى”نونو”.
ضحكت جود هي الاخرى قائلة بصوب غليظ قليلًا تُقلد والدتها:
نوح راجل والرجاله مش بتدلع.
ضحكت درة قائلة:
والله هي السبب فى دلعه… بس سيبك قوليلي عمتي كانت عاوزه إيه، أكيد مجيها هنا له سبب.
سردت جود لـ درة ما حدث، فبدت على ملامح الأخيرة علامات الدهشة، لكنها سرعان ما نفضت عن رأسها، نظرت الى جود قائلة بنبرة هادئة يسودها الفضول:
وإنتِ هتعملي إيه يا جود…
حاتم صحيح ابن عمتي، وعمري ما كنت قريبة منه… دايمًا كان بعيد، من أول ما دخل المدرسة العسكرية وهو اتغير، المدرسة دي أثرت عليه، خلت شخصيته جافة شوية وطريقته في التعامل خِشنة… يمكن النوعية دي مبتعرفش تعبّر عن مشاعرها، وبيفضلوا الرسمية على العفوية بديه العذر طبعًا إنه كان سلبي، بس القرار في الآخر ليكِ… إنتِ الوحيدة اللي عارفة مشاعرك.
صمتت جود، عيناها تهربان بعيدًا نحو الفراغ، كأنها تبحث عن مبرر يريح قلبها.
بينما درة تنفست بعمق، قبل أن تبتسم بخفة قائلة بحنين:
كمان مش سهل نسيان أول دقة قلب… صعب…وصعب جدًا كمان..حاولت قبلك وفشلت وندمت…
نظرت جود لملامح درة وهي تتحدث كان بعينيها وميض مختلف وبسمة مختلفة وملامح أكثر بهاءًا وحالِمية،جال برأسها ذكرى يوم أطلقت درة الرصاص على طوفان وحديثها الجاف وحديث طوفان،كأنها فعلت ذلك كي توقظ بداخله التحدي فى العودة إليها،فهمت الآن درة حين أطلقت الرصاص على طوفان لم تكُن تقصد قتله،بل إيقاظ قلبه كي ينبض بها من جديد، كي تُعيد قلبه إليها يشتعل بالغرام كلما نظر إليها، أرادت أن تُذكره بأنها ليست امرأة يمكن أن تُنسى، وأن الحُب الذي كان بينهما لم ينتهي.
نشب صراع خفي بين عقلها وقلبٍها كانت تظنه، قد خمد
لكنّه لم يخمُد… كان فقط في هدنةٍ قصيرة،كأنه
ينتظر أن تمر أمامه بشائر الهوى من جديد،
وحين عادت، انتفض من سُباته،
اشتعل بنبضٍ قديم يحنّ لنسائم ربيعيّة تقترب.
يُقارن عقلها يُجادل، يُذكرها بالخذلان،
بينما قلبها يُعطي الأعذار، يفتح نوافذ الرجاء…
طوفان غفر لـ درة التي أطلقت عليه الرصاص،
غفر بعينِ العاشق لا بعقلِ الرجل،
أما هي… فما زالت تُوارب قلبها،
كمن تخشى أن يدخل النور فيفضح كم اشتاقت لدفئه… والقرار أصبح حائرًا بين فتح قلبها وإعطاء فرصة ثانية… أو تُغلقه على بقايا كبرياءٍ لم تعد تدري إن كانت تُنقذها أم تُدمرها… وربما لابد من أخذ خطوة، لكنها لا تعلم أهي خُطوة نحو النور، أم بداية سقوط جديد في هوة لا عودة منها… لكن لابد من سير تلك الخطوة… كي لا تندم لاحقًا.. ربما رجاء بدرية المُبطن يكون هو بداية جديدة]
عادت بدرية من ذكرى ذلك اليوم على صوت فتح باب المنزل نظرت نحوه، سُرعان ما كتمت حزنها فى قلبها وتبسمت وهي تنهض تتجه نحو حاتم ببسمة وقلق حقيقي وهي تقول بلوم:
لساك مُصاب يا حاتم هي الداخلية مفيهاش غيرك، لازم تهتم بصحتك.
نظر لها، بسمتها جعلت قلبه ينشرح عكس ما كان يشعر بالأسى والبؤس سابقًا حين كان يدخل المنزل يسمع نواحها وبُكائها.. بتلقائية تبسم قائلًا:
أنا بخير إطمني يا ماما ومش أول إصابة ليا.
ربتت على كتفه بحنان قائلة:
ربنا يحميك، على ما تستحمي هحضرلك عشا خفيف.
ابتسم لها بأسى، يلوم نفسه وهو يعلم جيدًا أنها تُعاني، وأنها اصبحت تعتاد أن تُخفي وجعها خلف بسمتها حين تنظر إليه… لديه يقين بأنها هي من أخبرت جود عن إصابته، وأنها السبب في تلك الزيارة إلى المشفى.
تنهد بعمق، ملامحه تشي بندمٍ صامت… جميعهم سقطوا في فخ سوء القدر، تشابكت خيوطهم داخل عاصفةٍ لم ترحم أحدًا…
لكن ربما… آن الأوان لترك الماضي خلفهم، مطويًّا تحت أنقاض ذلك الإعصار الذي بعثرهم يومًا، لعل في الصفح نجاة… وفي النسيان سلام.
❈-❈-❈
بالهنجر
بدأت النيران تشتعل، تتراقص ألسنتها كوحشٍ خرج من قيده، تلتهم كل ما تقع عليه…
بقايا آثار بعض المواد الكيماوية في الهنجر كانت كالوقود تُغذي اللهب وتزيده شراسة، فتصاعد الدخان كثيفًا يخنق الأنفاس، وارتفعت الحرارة حتى بدا الهواء نفسه يحترق… بسبب النيران إحترقت تلك الحِبال التي كانت تُقيد زينة، رفعت قدميها عن الأرض ثم أزاحت تلك النيران عنها،لكن بدأت شبة تختنق وعنفوان المقاومة لديها أمل… وقفت تنظر حولها ربما تجد منفذ للخروج من بين النيران…
نظرت نحو درة التى تسعُل بشدة…إنسانيتها كذالك ربما رد جزء من جِميلها عليها ، حايدت النيران وذهبت نحوها، نظرت لتجد الحبل قد التف حول رجلها بإحكام، وآثار احتراق خفيف بدأت تظهر على جلدها…بقدميها أبعدت تلك الحبال المُشتعلة عن أقدام درة كذالك حاولت إطفاء تلك النيران التى إشتبكت بذيل جلبابها…هي الأخري بدأت تسعُل من الدخان ودرة أصبحت تشهق وأنفاسها تنقطع بدأت تتنفس بصعوبة…
صوت اللهاث يتسارع، والعرق يتصبب من جبينها، بينما تمسك زينة بذراعها تحاول تهدئتها وإنقاذها قائله :
دكتورة درة خدي نفس عميق… بالله عليكِ ركّزي معايا.
لكن فجأة، شعرت زينة بشيء يشد ساقها…نظرت له سُرعان ما إرتعبت من منظره وهو يزحف والنيران إشتبكت بثيابه يضع يده على صدرة يحاول كتم الدماء… تحدث بلهاث:
مش عاوز أموت… أنا لازم أعيش…
سحبت زينة قدمها منه تنظر له بإشمئزاز، رغم منظره المُخيف والنيران تتزايد على جسده وهو لا يستطيع المقاومة…
صرخت زينة بذعر تنظر لـ
درة التى تشهق بشدة، تشعر بحرقة الألم تمتزج برعب غامض… كأن النيران تزيد فى الإشتعال حولهما أكثر كلما حاولت زينة إنقاذها.
بالخارج
صرخة طوفان كانت كفيلة بإيقاظ الغضب بداخله، وإيقاظ الشماته فى قلب ابتهاج التى تختبئ خلف أحد الأبنيه القريبة… تلمع عينيها وقلبها مُنشرح… هكذا أخذت بثأر والدها وزوجها وحِيرة أمرها من بعدهما، وتحملها غلاظة ذاك اللعين عزمي، كذالك لعين آخر أخلف وعده لها بأن يتحمل نفقات المحامين والدفاع عن والدها وأن مكانه شاغرًا… لم يكُن من الصعب عليها أخذ ذلك المكان… بعض من رجال والدها كونت عصابة كبرت دون إحتكاك مباشر أو ظهور لها… إنتقمت من ذلك الكاذب الذي ظن أنها سهلة المنال لكونها امراة… قتلته وعلى شأنها بذلك وأصبحت من الكبار، ساعدها عدم تعاملها المباشر مع معظم من يعملون لديها، كان هنالك وسيط وهي فى الخفاء، إشتدت قوتها، ولن تظل بالخفاء، إتخذت لقب”سيتهم”
أصبحت مثل فزاعة… تعلمت أن القوة هي من تحكُم… أخذت ثأرها من الجميع لم يبقي سوا طوفان… فشلت أكثر من مرة، لكن الآن أمامها طوفان يصرخ، وهو يتجه نحو باب الهنجر… ضحكت، وضحكت وظلت واقفه تنتظر لحظة التشفي الأخيرة
بينما طوفان يهرول نحو باب الهنجر…. أخرج سلاحه وكاد يصوب ناحية تلك الأقفال… لكن باللحظة الأخيرة، رفع جلال يده لتنطلق الرصاصة بالأعلى فى الهواء قائلًا بتحذير:
إنت فين عقلك يا طوفان عاوز تضرب الاقفال بالرصاص والنار قايدة، كده هتزودها، أنا معايا شاكوش فى العربية هجيبه بسرعه اوعي تتهور… هرول جلال نحو السيارة وفتحها وجذب ذلك الشاكوش كذالك سحب غطاء السيارة من باطن الخلفية للسيارة وتوجه نحو طوفان، خطف طوفان من الشاكوش وبدأ بالضرب على الأصفاد، حتى إستطاع فتح واحد، أخذ منه جلال الشاكوش قائلًا:
هات الشاكوش وخد نفسك شويه أنا هحاول أفتحه كاد يعترض طوفان لكن جلال بدأ بالضرب… توقف يلهث قائلًا:
الحمد لله القفل فتح… إنحني طوفان وجلال ولم يحذرا وقاما بوضع إيديهم أسفل ذاك الباب المعدني وقاما برفعه بسرعه… هبت السنة اللهب عليهما، كاد طوفان بلا تفكير أن يدخل لكن منعه جلال قائلًا.:
خد غطا العربيه لفه على جسمك قبل ما تدخل… بالفعل لف طوفان ذلك الغطاء حول جسده ودخل وسط النيران يصرخ بإسم درة، طقطقة النيران منعت صوت سعال درة الذي بدأ ينقطع… سمعته زينه التى بدأت هي الأخري تختنق، لكن صرخت قائلة:
طوفان بيه…
توقف طوفان يُميز من أين يأتى الصوت، والنيران والدخان يمنعان الرؤية، لكن تحدث بقوة… درة
أجابته زينة بصوت متقطع:
طوفان بيه…
ذهب نحو الصوت يحاول مُحايدة النيران بنفس الوقت دخل جلال خلفه بعدما آتي بمطفأة حريق السيارة…يحاول فقط إخماد ممر كي يساعد طوفان…
يتبع.. (رواية طوفان الدرة) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.