رواية بنات الحارة – الفصل الثامن والأربعون
الفصل 48
بقلم نسرين بلعجيلي
Nisrine Bellaajili
الفصل 48
في الحياة، دايمًا بييجي وقت نضطر نواجه اللي وجعنا، مش علشان إحنا أقوياء، لكن علشان ماعُدناش نقدر نهرب.
اللي اتكسر جوا أسماء كان أكتر من وجع، كانت حرب ما بين الخوف والرغبة في النجاة.
وفارس.. كان بيحارب حرب ثانية،
بين قلبه اللي اختار، وأهل شايفين الدنيا بالمستوى مش بالإنسان.
أما أم حنان، فكانت بتفتح باب الطمع من ثاني، نفس الطمع اللي خلى بنتها تدفع حياتها تمنه.
الوجع مش دايم، بس الغلط لو اتكرر بيتحول لقدر. وفي كل مرة بنفتكر إننا بنبدأ من جديد ربنا بيختبرنا : هل فعلاً إتعلمنا؟ ولا رجعنا نعيد نفس الغلط بإسم جديد؟
🩶 كلام نسرين :
فيه ناس بتخاف من الفقر، بس ما بتخافش من الطمع. وفيه ناس بتخاف من الوحدة، بس ما بتخافش من العِشرة اللي توجع.
الخوف الحقيقي مش من الناس، الخوف من لحظة نكتشف فيها إننا فقدنا نفسنا وإحنا بنرضيهم.
نسرين بلعجيلي
أسماء كانت بتحاول تتنفّس بعد ما الدنيا سكّرت عليها.
وفارس كان بيكسر سلاسل التفاهم الزايف.
وأم حنان كانت على الحافة بين الندم والطمع.
وكلهم بطريقتهم، بيدوّروا على راحة مش لاقيينها، لأن الراحة عمرها ما بتيجي من غير سلام داخلي.
في الآخر، اللي بيرضى، يعيش.
واللي بيطمع، يتحرق بناره.
نسرين Nisrine Bellaajili
أسماء طلعت من البيت، كانت أول مرة تطلع فيها لوحدها من بعد كل اللي حصل. الشمس نازلة بنورها الهادي، الشارع عادي جدًا، بس جواها كانت حرب. كل خطوة بتاخذها بتحس إنها بتمشي على أرض غريبة. كل وشّ راجل تعدّي عليه، قلبها يدق بسرعة، تتشنّج، تبصّ ناحية ثانية. مش قادرة تسيطر على نفسها، مش قادرة تصدّق إن الناس دي ماشية عادي كأن الدنيا ما حصلش فيها حاجة.
الهوى دخل في صدرها جامد، بس بدل ما يريحها، خنقها. إيديها بدأت تثلج، أنفاسها سريعة، قلبها بيخبط كأنه عايز يخرج من مكانه. عينها تدور يمين وشمال بسرعة، وكل جسمها بيرتعش. بدأت تحس إن الأرض بتميل، وإن الشارع بيقرب منها.
ده مش خوف عادي، ده Panic Attack. اللي هو انهيار جسدي ونفسي بيحصل فجأة، لما العقل يفتكر الخطر كأنه لسه بيحصل دلوقتي. التنفس يبقى سريع، اليدين تثلج، العرق يطلع، والرعشة تبقى لا إرادية. المخ يبعث إشارة إن فيه خطر، حتى لو مافيش خطر حقيقي.
أسماء وقفت مكانها، حطّت إيديها على صدرها، بتحاول تاخذ نفس.
صوتها كان بيتهدّج :
“أنا تمام.. أنا تمام.. مش هيحصللي حاجة.”
لكن عقلها ما صدّقش الكلمة. بدأت خطواتها تبطأ، ومجرد ما شافت راجل بيعدّي جنبها، رجليها اتخدرت، حسّت إن الدنيا بتسودّ، مدّت إيديها على الحيطة، بتنهج، مش قادرة تتحكم في نفسها. وبصعوبة، وصلت لمكتب أسامة. إيديها كانت بترتعش وهي بتفتح الباب. هو كان قاعد على المكتب، أول ما شافها، قام بسرعة وقال بقلق :
“أسماء! مالك؟ وشّك أبيض كده ليه؟”
ما ردّتش، كانت بتحاول تتنفس، صدرها طالع ونازل بسرعة، والدموع نازلة من غير ما تتكلم.
قرب منها بخطوات حذرة، صوته واطي وحنون :
“هدي نفسك يا أسماء، خذي نفس معايا، واحد.. إثنين. . تمام، كده.”
بس هي أول ما شافته بيقرب منها،
اتراجعت لورا بخوف، جسمها بيرتعش أكثر، وصوتها طالع متقطع :
“بلاش أرجوك، ما تقربش مني.”
إتجمّد مكانه، قلبه وجعه، رفع إيده بهدوء وقال بصوت فيه وجع حقيقي :
“تمام، مش هقرب، أنا هنا، بس طمنيني إنك بتتنفسي.”
فضل واقف بعيد، يتكلم بنبرة هادية علشان يرجّعها لأرض الواقع. صوته واطي زي الموج :
“بصي حواليكِ يا أسماء، إنتِ هنا، في الأمان، مافيش حد هيؤذيكِ،
خذي نفس عميق، وشوفيني كويس، ده أنا أسامة اللي معاكِ، اللي عمرك ما خفتِ منه.”
دموعها نزلت أكثر، قعدت على الكرسي قدام المكتب وهي بتحاول تستجمع نفسها، كل نفس بيطلع منها كأنه حرب صغيرة.
أسامة فضّل ساكت شوية، وبعدين قال بهدوء :
“ده طبيعي جدًا يا أسماء، اللي عندك ده إسمه Panic Attack،
مش ضعف، دي إستجابة من جسمك للخوف اللي لسه جواه.
بس مع العلاج هيروح.”
بصّت له بعينين مرهقتين وقالت بصوت واهي :
“أنا كرهت الخروج، كرهت الشوارع، كرهت الناس، كرهت نفسي.”
قرب خطوة صغيرة وقال بلُطف :
“لا، ما تكرهيش نفسك يا أسماء.
الخوف ده مش إنتِ، ده أثر الوجع.
وانتِ أقوى منه.”
إتنفسّت ببطء، مسحت دموعها بإيدها المرتعشة وقالت :
“أنا حاولت أكون قوية، بس لسه الوجع ماسكني.”
إبتسم وقال :
“القوة مش إنك ما تتأثريش،
القوة إنك تحاولي تكمّلي رغم الخوف.”
وسكتوا الاثنين، صوت أنفاسها بدأ يرجع طبيعي، لكن جوّه أسامة، كان بيحس بوجعها كأنه هو اللي بيعيش الموقف. المكتب كان ساكت بعد ما هديت، صوت المروحة الخفيف هو الوحيد اللي بيكسر الصمت.
أسماء قاعدة على الكرسي، جسمها لسه بيرتعش، وعينيها شبه هاربة، مش قادرة تبصّله.
أسامة واقف بعيد، مش عارف يمدّ إيده ولا يفضل مكانه، كل اللي جواه وجع مش مفهوم، وجع راجل بيشوف الخوف في عين مراته منه لأول مرة.
قعد بهدوء على الكرسي المقابل، صوته طالع واطي جدًا، بس كله صدق :
“أسماء، إنتِ بتخافي مني؟”
ما ردّتش، نزلت عينيها، تمسك المنديل اللي بين إيديها كأنه طوق نجاة. سكت لحظة طويلة، وبعدين كرر السؤال، المرة دي صوته مهزوز،
مش من العصبية، من الألم :
“قوليلي بصراحة، شايفاني زي الرجالة اللي أذوكِ؟”
الكلمة كسرت قلبها، بس لسانها وقف مكانه، ما عرفش يطلع رد. الصمت كان أقوى من أي كلام.
أسامة أخذ نفس ثقيل، قرب بخطوة صغيرة، وقال بصوت كله وجع وصدق :
“أسماء، أنا جوزِك. مهما كانت ظروف جوازنا، مهما كان السبب اللي خلانا نرتبط، إنتِ مراتي، ليكِ أمان عندي، مش خوف.”
نسرين بلعجيلي
رفع نظره ليها، عينه مكسورة، فيها رجولة حقيقية مش محتاجة إثبات :
“أنا فاهم خوفك، وعذرِك، بس النهارده أول مرة أحس إنك مش بس بتخافي من الماضي، إنتِ خايفة مني أنا.”
دموعها نزلت على خدّها بهدوء، رفعت راسها وبصّت له بعينين فيها وجع الدنيا كلها. قالت بصوت مبحوح :
“أنا مش خايفة منك يا أسامة، أنا بخاف من كل حاجة بقت تشبه اللي وجعني. كل صوت عالي، كل حركة مفاجئة، حتى الطيبة بقت تخوّفني.”
أسامة سكت لحظة، وبعدين قال بهدوء، بنبرة فيها وعد صامت :
“خذي وقتك، أنا مش مستعجل، بس إوعديني إنك هتحاولي تثقي تاني.”
أسماء بصّت له، ما قدرتش ترد، لكن في عينيها كان فيه أول شرارة أمان حقيقي من بعد العاصفة.
الجو في المكتب كان ساكت بعد كلامه الأخير، الهدوء ثقيل لدرجة إن صوت نفسها بيترجّع في ودانها.
أسماء كانت قاعدة على الكرسي، بتلعب في طرف المنديل بإيديها،
مش قادرة ترفع عينيها عليه.
أسامة قاعد قدامها، ساكت، مستنيها تتكلم. بس اللي طلع منها فجأة كان سؤال كسّر الصمت كله :
“هو.. هو إنت هتطلّقني إمتى؟”
أسامة اتجمّد في مكانه، رفع عينيه عليها بسرعة، صوته خرج مبحوح من الصدمة :
“إيه؟! بتسأليني كده ليه؟ إنتِ عايزة تتطلّقي يا أسماء؟”
رفعت راسها بخجل، وصوتها كان هادي بس موجوع :
“إحنا متفقين يا أسامة، وأنا مش ناسية. أنا فاهمة إنك راجل، وعايز واحدة نظيفة تدخل حياتك، مش واحدة مكسورة زَيّي.”
قاطعها بصوت عالي لأول مرة، نبرته فيها عصبية، بس مش غضب، وجع :
“أسماء! آخر مرة أسمع الكلمة دي منك. نظيفة، مش نضيفة؟! مين قالك إنك مش نظيفة؟ اللي اتظلم مش بيتلوث، اللي اتظلم بيطلع منه نور مش وساخة.”
اتخضّت من شدّة صوته، بس هو قرب منها بهدوء وقال بنبرة أهدى،
نظراته مليانة صدق وحزم :
“أنا مش عيل، أنا راجل، وعارف أنا بعمل إيه. جوازنا يمكن جه في ظروف صعبة، بس ده ما يمنعش إنه حقيقي. مش لازم يبقى حب عشان يكون حقيقي، ممكن يبقى احترام، أمان، ستر.. وكل ده مش قليل.”
أسماء كانت بتسمعه، بس قلبها كان بيرتعش بين خوف وارتياح غريب.
قالت بصوت خافت :
“بس يمكن أنا السبب في تعبك،
يمكن وجودي بيذكّرك بكل اللي حصل.”
مدّ إيده ناحية المنديل اللي في إيديها، ما لمسهاش، بس قرب كفاية يخليها تحسّ بالأمان وقال بهدوء :
“كلنا في فترة وحشة يا أسماء، ويمكن ربنا جمعنا علشان نساعد بعض نعدّيها. مش علشان نكمل الوجع.”
نزلت دمعة من عينها، مسحتها بسرعة وقالت :
“أسامة، إنت مش بتخاف مني اني اعمل ليك مشاكل في حياتك ؟”
إبتسم وقال بنبرة فيها دفء وصدق :
“الخوف بييجي من الغدر، وإنتِ أكثر واحدة اتوجعت من الغدر.
فإزاي أخاف منك؟”
الكلمة نزلت على قلبها زي البلسم. فضلوا ساكتين لحظات، بس الصمت المرة دي كان فيه طمأنينة مش خوف.
أسامة بصّ في عينيها وقال كأنه بيحاول يخفف الجو :
“إتفقنا بقى، من النهارده مافيش كلام عن طلاق، فيه شغل، وعلاج، وحياة جديدة. مافيش “أنا لوحدي” بعد النهارده.. فيه إحنا.”
إبتسمت بخجل بسيط، ونظرتها ليه كان فيها لأول مرة بداية تصديق إنها ممكن تطمن تاني.
أسماء فضلت قاعدة بعد ما خرج من المكتب، الصمت رجع يغطي المكان،
وصوته لسه بيرنّ في ودانها :
“مش لازم يبقى حب عشان يكون حقيقي، ممكن يبقى احترام، أمان، ستر.”
قعدت تمسك طرف الطرحة، تلفها في إيديها وهي مش عارفة تفكّ الكلام ده. هل يقصد إن الجواز ده هيفضل كده مؤقت؟ ولا هو بيتكلم عن بداية حقيقية؟
قلبها دقّ بسرعة، مش من خوف المرة دي، لكن من ارتباك ما بين الرجاء والشك.
همست لنفسها بصوت خفيف جدًا :
“هو يقصد إيه؟ يعني إحنا لسه على اتفاقنا؟ ولا.. ولا هو بيفكر بطريقة تانية؟”
Nisrine Bellaajili
قامت تمشي ناحية الشباك، النور داخل بهدوء، والهوا بيحرّك شعرها اللي خرج من تحت الطرحة. بصّت في المراية قدّامها، شافت وشّها اللي بدأ يتغيّر، فيه لمحة حياة بعد تعب طويل، لكن كمان فيه حيرة كبيرة.
قالت بصوت خافت كأنها بتحكي لروحها :
“أنا مش عايزة أتعلّق بحلم جديد، بس كمان مش قادرة أنكر إن فيه حاجة بتتغيّر.”
خذت الورقة اللي كتبها ليها الصبح،
قلبتها بين إيديها، وبعدين حطتها على صدرها بهدوء، وقالت همسًا وهي تبصّ للسما :
“يمكن تكون البداية، أو يمكن أنا بس اللي فاهمة غلط.”
وسكتت.. بس نظرتها ما كانتش زي الأول، كان فيها نقطة نور صغيرة،
نقطة خوف، ونقطة أمل.
كانت الشقة في حي راقٍ، الهدوء اتكسر بصوت فارس وهو بيتكلم بعصبية، وعروقه باينة في رقبته :
“أنا مش فاهم تفكيرك يا ماما، مش إنتِ على طول بتزنّي عليا أتجوّز؟”
رفعت أمه عينيها من الفنجان، صوتها كان فيه حِدّة وست سنين تربية راقية بتتكلم.
“أيوه تتجوّز، بس بنت ناس، بنت من عيلة ليها وزنها.”
فارس وقف قدامها، صوته هادي لكن فيه إصرار غريب :
“وزينب بنت محترمة.”
ماهيتاب قاطعت الحوار، نغمتها فيها استعلاء متعلّم :
“بس فقيرة.”
إبتسم فارس إبتسامة فيها وجع وقال بهدوء :
“الفقر مش عيب.”
ماهيتاب ضحكت بسخرية :
“لا يا فارس، عيب. بص إنت فين وهي فين؟ وإنت بنفسك قلت إنها ساكنة في حارة، وكمان بتبيع في محل. إستنى، مش هي دي البنت اللي كانت بتعملي الأوردر لما رُحت معاك؟”
ردّ فارس بثبات، نظراته ولا اهتزّت :
“أيوه، هي.”
رفعت حاجبها وقالت باستهزاء واضح :
“ذوقك بلدي جدًا. يا ماما دي مش حلوة خالص.”
إلتفت لها فارس، صوته اتبدّل فجأة،
هادئ بس حاسم، كله كرامة :
“ماسمحلكيش تتكلمي عليها كده.”
أمه حطت الفنجان على الترابيزة، صوته عمل دوشة صغيرة كسرت الصمت. قالت وهي تبصّله بنظرة فيها استغراب وسخرية :
“لا والله؟ ده شكلك واقع لِشوشتك يا فارس.”
إبتسم فارس، لكن في عينيه صدق وجنون الحب. وقال :
“أيوه ماما، أنا بحب زينب. عارفة يعني إيه بحبها؟”
صوت أمه ارتفع فجأة، فيه رُعب من فكرة كسرت كل توقعاتها :
“البنت دي غير مناسبة ليك، وأنا مش موافقة على الجوازة دي.”
مدّ فارس إيده على الترابيزة واتكأ بإصرار :
“مش موافقة إزاي؟ وإنتِ حتى ما تعرفيهاش؟”
ردّت بسرعة، صوتها مليان عناد :
“ومش عايزة أعرفها.”
سكت فارس لحظة، بس في نظرته كان واضح إن المعركة لسه في أولها، وإنه مش ناوي يتراجع المرة دي.
الشقة كانت كلها توثر، ولا صوت غير نفس فارس وهو بيحاول يسيطر على عصبيته. أمه قاعدة قدامه، وإيدها ماسكة الفنجان بتاعها كأنها بتمسك نفسها بالعافية،
وماهيتاب واقفة وراها متفرجة على المعركة.
فارس قال وهو بيبصلهم الإثنين :
“كفاية بقى كلام، أنا قررت.”
أمه بصت له بحدة:
– “قررت إيه؟”
إتنفس فارس بعمق وقال بثبات :
“أنا هتجوز زينب، وده قراري.”
ماهيتاب شهقت :
“إيه؟! إنت بتتكلم بجد؟”
فارس بص لها ببرود وقال :
“أيوه بتكلم بجد، دي حياتي وأنا حرّ فيها.”
أمه رمت الفنجان على الترابيزة، والصوت رنّ في الأوضة :
“إنت جنّيت يا فارس؟ تتجوز بنت من الحارة؟ بنت ما عندهاش لا أصل ولا عيلة؟”
فارس ردّ بهدوء غريب خلى الكلام يوجع أكتر من الصريخ :
“عندها أصل أكثر من ناس كثير بنعرفهم، وعندها كرامة وشرف مش بيتباع ولا بيتشترى. وزينب بنت ناس غلابة بس نظيفة، وأنا بحبها ومش هتراجع.”
ماهيتاب قالت بعصبية :
“يا فارس دي مش من مستوانا.”
ضحك وقال :
“المستوى؟ هو إحنا مين عشان نقيس الناس بالمستوى؟ أنا راجل، وقراري اتاخذ. هتجوز زينب، سواء وافقتوا، أو لأ.”
أمه وقفت وقالت بصوت عالي :
“لو عملت كده، إنساني يا فارس.”
بصّ لها، صوته هادي لكن قاطع :
“أنا عمري ما كنت عاق يا ماما، بس المرة دي هاسمع قلبي، مش كلام الناس.”
وسابهم وخرج.
الباب اتقفل وراه بصوت خبط وجع كل اللي في الأوضة.
ماهيتاب بصت لأمها وقالت بصدمة :
“هو يا ماما هيتجوزها بجد؟!”
الأم ردّت بصوت واطي وهي بتحاول تمسك دموعها من القهر :
“هيعملها يا بنتي، شكل الحب المرة دي لعب في دماغه.”
في البلد…..
البلد كانت ساكته بعد المغرب، ريحة الطين والمطر ماليه الجو، والنور الخافت طالع من مصباح قديم عند باب البيت.
أم حنان كانت قاعدة على المصطبة وشها باين عليه التعب، إيديها مشغولة بخرز السبحة، بس قلبها مشغول بولاد بنتها اللي لسه ما شافتهمش.
وفجأة، سُمِع صوت عربية وقّف قدام الباب. قامت ببطء، ومسحت إيديها في طرف طرحتها، ولما الباب اتفتح، دخل عصام شايل طفلين صغيرين ملفوفين في بطاطين بيضا.
صوتها خرج وهو بيرتعش من الصدمة :
“يا ساتر يا رب، دول التوأم؟!”
عصام قال بصوت مبحوح، مكسور زي قلبه :
“أيوه يا أم حنان، خرجوا من المستشفى، بس أنا.. أنا مش عارف أعمل إيه بيهم.”
الست قامت بسرعة، دموعها نزلت أول ما شافت وشوشهم الصغيرة. مدّت إيديها تاخذهم، حضنتهم على صدرها وهي بتعيط :
“اللهم صل على النبي، دول نسمة من ريحة حنان. يا حبيبتي يا بنتي، حتى بعد موتك سبتيلنا نورين من نورك.”
عصام وقف قدامها حيران، صوته بيتهدّج :
“أنا ماليش في التربية يا أم حنان، ماليش في الأطفال ولا في اللبن ولا في البكَا. أنا شايفهم قدامي مش عارف أتعامل معاهم، تعالي معايا الفيلا، عيشي هناك، إنتِ وجوزك والعيال. دول أولاد حنان، ليهم مكانهم عندي.”
أبو حنان كان قاعد جوّه، سمع الكلام، خرج بخطوات ثقيلة وصوت خشن :
“لا يا عصام، الأولاد دول مش هيروحوا فيلا ولا قصور. دول هيفضلوا هنا، في بيت أمهم، بين أهلها.”
عصام بصله وقال بتعب :
“بس يا عمّي، الفيلا أمان، العيال ليهم حق يعيشوا كويس، مش هيعرفوا يكبروا هنا في وسط القهر ده.”
أبو حنان هزّ راسه بإصرار :
“أنا مش طماع، أنا عايزهم يعيشوا بين ناس يعرفوا ربهم، مش في بيت كله ظُلم ونفاق. الفلوس ما بتعوّضش حضن أم.”
أم حنان كانت ساكتة، بس عينيها راحت ناحية عصام، وصوتها واطي بس واضح فيه طمع وأمل قديم :
“بس، الفيلا كبيرة يا أخويا، والعيال هناك هيعيشوا مرتاحين، ولا لبسهم هيتعبني ولا أكلهم، وكمان نفسي أشوف القصور دي من جوّه، يوم واحد بس.”
أبو حنان بصّ لها بحدة :
“إنتِ جنّيتي؟! نسيتي إن بنتك اتدفنت عشان الناس دي؟”
دموعها نزلت وهي تقول بتردد:
– “بس يا راجل، دي ولادها، يعني دمّها هناك. أنا مش رايحة أعيش لنفسي، رايحة عشانهم.”
عصام قرب منها وقال برجاء :
“أنا مش هظلمهم يا أم حنان، أنا غلطت في بنتك، أيوه، بس مش هسيب ولادي يضيعوا.”
الجو سكت، صوت الريح بس هو اللي كان بيملأ المكان، وأم حنان بصّت للتوأم وهي تمسح دموعها، بين الخوف من الرجوع والحنين للمكان اللي ضيّع بنتها.
قالت أخيرًا وهي تبصّ في الأرض :
“إديني يوم أفكّر، يوم بس.”
عصام سابها ومشي، وساب وراه ألف فكرة في دماغها.
وأبو حنان دخل البيت ساكت، عارف إن مراته خلاص النار القديمة في قلبها لسه ما انطفتش، وإن الفيلا بالنسبة ليها مش بيت، دي غلطة تانية بتستناهم على الباب.
“الطمع زي النار، كل ما تطعميها، تكبر وتولع أكثر. واللي بيجري وراها، يا يضيع نفسه، يا يحرق اللي حواليه.”
اللهم طهّر قلوبنا من الطمع، واكتب لنا الرضا بما قسمت، واجعل رزقنا بركة مش عدد، ونجّنا من فتنة العين اللي تبص للي في إيد غيرها، ومن نفسٍ لا تشبع، وقلبٍ لا يقنع.
آمين يا رب العالمين.
يا ترى ام حنان هتعمل ايه في نظركم ؟؟؟
مع حبي و تحياتي ليكم
نسرين بلعجيلي
يتبع.. (رواية بنات الحارة) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.