رواية عازف بنيران قلبي الفصل الثاني والثلاثون 32 – بقلم سيلا وليد

رواية عازف بنيران قلبي – الفصل الثاني والثلاثون

البارت الثاني والثلاثون

البارت الثاني والثلاثون

اللهم استرنا فوق الارض وتحت الارض ويوم العرض عليك

قالوا لي انسي هواك

انسي دموعك معه

كيف لي انسى

كيف لي انسى من ادمنته

هل يمكن ان يشفى مدمن

من ادمانه

هل ممكن انسى من دق له قلبي

كيف انسى

وهو يجري في دمي

كيف اشفى

من دقات سكنت القلب

كيف اشفي

من قلب هو قلبي

كيف اشفى

من ادماني

وهو يجري في دمائي

هل يوجد من شفى من الادمان

في الحب

هل من طبيب يشفيني من من احب

لاوالله هذا ادمان ليس له مثيل

لانه ليس له دواء

ودوائه في عدم الابراء

من ادمانه

❈-❈-❈

بمنزل عاصم المحجوب وخاصّة قبلَ الحنّاء بأسبوعٍ ..استيقظت ليلى على ألمٍ أسفل بطنها، وشعرت بالتقيؤ..أسرعت إلى مرحاضها، وظلّت تتقيأ حتى خارت قواها وجلست على أرضية الحمام.. دلفت درة تبحث عنها وجدتها تخرج من المرحاض بجسدٍ منهكٍ ، والعرقُ يغزو جبينها..جلست على مخدعها وجسدها يرتعش..ملست درة على خصلاتها وأرجعت بعضها المتمرد

-حبيبتي مالك؟! ليه جسمك عرقان ومتلّج كدا ؟؟

جذبت منشفةً ورقيةً تمسح بها عرقها الذي ظهر على وجهها وعنقها مردفةً بصوتٍ منهكٍ:

-شكلي أخدت برد من المكيّف..هشرب حاجة سخنة وأروق دلوقتي

قامت درة بإعدال فراشها

-طيب حبيبتي ارتاحي وأنا هعملك مشروب كويس..أومأت برأسها تربّت على ذراعها

-حبيبتي هتعبك معلش

وضعت درة قبلةً على جبينها وتحدّثت:

-تعب إيه يامجنونة، نسيتي كنتِ بتعملي إيه معايا وأنا في الثّانوي

فردت جسدها وابتسمت لها قائلةً:

-مفيش بين الأخوات جمايل ياعبيطة..قهقهت درة وخرجت وهي تمازحها

-لا عندي لازم يكون جمايل وطلب كمان

وضعت كفيها على أحشائها مبتسمة

-يارب ماتوجعنيش عليه المرادي، اللهم اجعله لي قرة عين، وارزقني إياه سالمًا معافي يارب العالمين..أطبقت على جفنيها متألمةً

-ياترى هتعمل إيه ياراكان لما تعرف ؟، بس تفتكر أقولك دلوقتي عشان ترجعني بس عشانه، لا مش أنا ال أرجع لجوزي عشان الولد

تنهدت متوجعةً عندما تذكّرت آخر لقاءٍ بينهما قبل مجيئها عند والدها، بعد خروجها من مكتبه في ذاك اليوم الذي رأته مع نورسين، خرجت إلى زينب

-ماما زينب فرح درة بعد أسبوعين، وماما محتاجتني معاها الأيام الجاية،فهضطر أروح أقعد عندهم، طبعًا حضرتك عارفة زعل بابا ومقاطعته ليا بسبب إني رفضت أروح أقعد عنده

ربّتت زينب على كفّيها قائلة:

-باباكي عنده حق متزعليش منه، وأنا لو منّه مكلمكيش..أغمضت ليلى عيناها متنهدةً بحزنٍ

-طيب ياماما دا لو أنا لسة بنت، دلوقتي أنا كنت متجوزة ومعايا طفل، غير شغلي، يعني أسّست حياة، ومش هنكر حقّ بابا، بس كفاية عليه مسؤولية لحدّ كدا، هو هيرجع يقولي مينفعش تنزلي تشتغلي المجتمع مش هيرحمك إنتِ كنتِ أرملة، وبعدين مطلّقة والعيب ومش العيب وبكدا هنتعب بعض، غير طبعًا ابنك الديكتاتوري ال هيرفض الفكرة أصلًا، سحبت نفسًا طويلًا خرج من رئتيها متحررًا من نيران حزنها وآلامها على حياتها

راقبتها زينب بتعمّق ثم تحدّثَت :

-أنا عارفة راكان ديكتاتوري، زي ماأنا عارفة إنك شعنونة وهبلة ومحكمتيش عقلك، يابت دا بيقولوا إن كيدهن عظيم، معرفتيش تعملي زي فرح ال راجعة بولد وتقولي خدي حفيدك بكلّ بجاحة، وإنتِ الهبلة ماشاء الله معرفتيش حتى تخلي جوزك في حضنك ومفيش غير ابنك طلّقني ومش عايزني وكرامتي

اتّسعت عيناها متلألأةً بالدّموع وهي تشير لنفسها

-أنا فعلًا هبلة عشان رخّصت نفسي وحبيت راجل كل شوية في حضن ست، أنا فعلًا هبلة ياماما ورغم ال عمله روحت لحد عنده وقولت له أنا آسفة وتعالى نرجع لبعض، انسدلت عبرة على وجنتيها أزالتها بكفّها المرتعش وهي تنظر إلى زينب

-إحنا تعبنا بعض كتير، والأفضل إنّنا نبعد عن بعض، وقبل ماتقولي حاجة دا مكنش قراري، وبدل هو حكم بكدا يبقى دا الصّح، وأنا رافضة تمامًا ارجعله تاني

وقف خلفها وحاوط مقعدها بذراعيه بعدما خرج من مكتبه واستمع لحديثهما، دنى بجوار أذنها

-وأنا لو عايز أرجّعك دلوقتي هرجّعك يامدام

دفعته بقوّةٍ حتى انزلق ذراعه من المقعد واصطدم متأوّهًا

-يابنت المجنونة، إنتِ غبية..استدارت له بجسدها

-بص يااسمك معرفش مخترعينه من ايه، أنا ال أقرّر حياتي بعد كدا، يعني لا إنت ولا غيرك، وبدل ما إنت كل شويّة في حضن عورسين زفت دي روح شوف مين ال كان عايز يخطف أمير، قولت عليا قبل كدا غبيّة ومبفهمش وإزاي أخدت دكتوراه في الهندسة، مع إن التّعايش في الحياة مالهوش علاقة بالشهادات، إنّما أنت ماشاء الله في حكم شغلك وكل مصيبة بتقابل مصيبة وحضرتك محلك سر ، من يوم ماسليم مات الله يرحمه لحد أسبوع لما أمنك اخترق ودخلوا بيتك في وسط أمنك وكاميراتك وبرضو كانوا هيخطفوا ابني..نهضت تقف بمحاذاتهِ

-روح لم فشلك وبعد كدا احكم على حياتك الشخصية.. اقتربت تنظر بداخل عيناه بنظراتها الناريةِ وتحدّثت بثباتٍ

-أنا مش هرجعلك ياراكان حتى لو إنت عايز كدا، أنا مش الوايتنج بتاعتك وقت ماتحبّ ووقت ماتغضب، تحرّكت بشموخٍ إلى أن وصلت أمامه ولم يفصل بينهما إنشًا واحدًا وأكملت

-روحتلك وإنت بكل جبروت قولت لا، أنا بقى بقولك لا ومليون لا

جزّ على شفتيه ثم اتّجه لوالدته التي تشير بعينها بالهدوء، فجذبها بقوّةٍ حتى اصطدمت بصدره هامسًا

-هو أنا قولتلك تعالي نرجع عشان تتنفخي كدا

اشتعل غضبها واحتدّت نظراتها واختنقت أنفاسها من حديثه الذي أدمى قلبها، فثارت روح الأنثى بداخلها وحاولت التملّص من قبضته القويّة ولكنها فشلت فتنهدت قائلةً :

-إنت بقيت ماضي واندفن، وحياتي أنا هأسّسها بعيد عنك

حاوطها بذراعيها حتى رفعها من خصرها لتصبح بمستواه هامسًا

-مالكيش حياة بعيدة عني يالولة..لكمته بقوّةٍ ، وزينب تكتم ضحكاتها عليهما

اتّجهت ليلى بنظراتها إليه، كانت تمارس أقصى درجات ضبطِ النفس كي لا تلكمه بقبضتها في وجهه وتحطيم فكّه، ورغم ذلك رسمت ابتسامة وأردفت

-دا في قانون أبو جلمبو سلملي عليه تمام، خليك فاكر قولت إيه..دنت منه حتى اختلطت أنفاسهما قائلةً :

-بكرة تيجي راكع ورافع الراية البيضا وأنا مش هعبّرك..قالتها وهي تضغط بحذائها ذو الكعب العالي على قدمه، تحمّل الألم حتى احمرّ وجهه وأصبح عبارةً عن كتلةٍ ناريةٍ وهو يحاول أن يسحب قدمه من تحت حذائها وهي تتصنع الإسناد عليه مردفةً :

-معلش دوخت شوية، ماهو إنت زي جوزي طول ما أنا في شهور العدة، قالتها باستخفاف، ثم تحرّكت بعد لحظاتٍ بعدما اتجهت لوالدته

-أمير أمانة عندك ياماما زينب، ولو تعبك عرفيني وهبعت درة او ابن عمي ياخده

-ياخدك ربنا ياختي، قالها وهو يجلس يجذب الولد من بين ذراع والدته

استدارت متحركةً ، هياخدنا كلنا متخافش، بس مترجعش تعيط..قالتها وهي ترمقه بنظراتها المتألمة، ثم استدارت متحركة للخارج دون حديث ولكنها توقفت قبل خروجها عندما صاح بصوته المرتفع

-مش مسمحولك تغلطي طليقتي الجميلة، أي غلط لو بسيط مش هرحمك..تراجعت بعض الخطوات وهي تنظر إلى زينب قائلةً :

-عرّفي ابن حضرتك ياماما زينب مبقاش له سلطة عليا، وهو لسة قايل بلسانه ال بيحدف عنب دا أنا طلقيته، يطلع ينزل أنا طليقته، ولو جالي زاحف كدا عشان أرجعله مستحيل، وبالمناسبة أنا بدور على بيت تاني، عشان وقت ماتخلص شهور عدتي مفيش رابط هيكون بينا، غير أمير ودا هيكون بالاتفاق مع حضرتك..تمام ياحضرة المستشار

هب من مكانه متجهًا إليها، نهضت زينب عندما وجدت نظراتُ ابنها التي لا تبشر بالخير، وحاولت إيقافه

-راكان حبيبي ممكن تهدى، ليلى عندها حق..دفع المقعد حتى سقط واتّجه إليها

-سمعيني كدا كنتِ بتقولي إيه!!

دنت منه وهي تغرز عيناها بعينيه قائلةً بصوتٍ متمهلٍ

-بقول هطلع من جزيرة علي بابا والأربعين حرامي، باي باي ياطليقي

قالتها وتحركت للخارج بشموخ أنثى متجبرةٍ ذات كبرياء، وصلت لسيارتها تضع كفيها على صدرها قائلةً بصوتٍ مكتومٍ متألّمٍ

-ايه الراجل المتجبّر دا، مش قادرة حتى أدعي عليه تنهدّت

استمعت إلى صياحه:

-شوفتي ال زعلانة عليها أهي رمتني بنت المحجوب، جلست زينب تضمّ الولد الذي ارتفع صياحه من صراخ عمّه

-اتجنّنت خوّفت الولد، وبعدين هي مغلطتش، إنت لسة عايز منها إيه

❈-❈-❈

خرجت من شرودها عندما جلبت لها درة المشروب..دلفت إليها قائلةً

-عملتلك مشروب سحري إنّما ايه هيخليكي تجري للصبح..ابتسمت ليلى بتهكّمٍ

-لسة مشروب الأعشاب دا، حرام عليكي يابنتي

أمسكته وبدأت ترتشف منه إلا أنّه أثار معدتها، وبدأت معدتها تؤلمها فنهضت سريعًا تتقيّأ بألمٍ

وقفت درة قاطبة جبينها متسائلةً :

-ليلى مالك حبيبتي..اقتربت متسائلةً:

-معدتك بتوجّعك للدّرجة دي، طيب الأعشاب ممكن تهدّيها..رفعت كفّيها أمامها، ونهضت تضمّ أحشائها وهي تهزّ رأسها

-بطني وجعاني، شكل البرد شديد، هنام شوية وأقوم كويسة..دثّرتها درة بغطاءٍ خفيفٍ، ثم أغلقت الإضاءة وخرجت ..أغلقت عيناها متألمةً

-آه مش قادرة أتنفس..همست بها لنفسها وهي تضع يديها تمسد أسفل بطنها، ثم تنهّدت وانسدلت دمعةٌ عبر وجنتيها

راكان محتاجاك أوي، تعالى بس ضمّني، ووعدْ هنسى كل حاجة.

قالتها وهي تبكي بصمتٍ من شدّةِ آلامِها التي تشعرُ بها.

شعرتْ بأنّ الغرفةَ تدورُ بها، ممّا جعلها تُغلقُ عينيها، تهربُ من قوّةِ انسحابِها لتلك السحابةِ السوداءِ.

❈-❈-❈

بمزرعة نوح

جلستْ تُسجّلُ بعضَ الأعمالِ التي ترتبطُ بأعمالِها.

قاطعها دُلوفُ يحيى إلى مكتبِ نوح:

– فين نوحْ يا أسما؟ ليه ما بيرُدّش على التليفونات؟!

نهضتْ أسما، متّجهةً إليه، قابضةً جبينَها:

– أهلًا دكتور يحيى، نوح… معرفش، خرج من ساعة تقريبًا ولسّه ما رجعش.

جلسَ على الأريكة، يمسحُ على وجهِهِ بألمٍ يفتكُ بجسدِهِ، فتحدّثَ:

– اتّصلي عليه، خلّيه يجيلي ضروري يا بنتي.

قالها وهو يفكُّ رابطةَ عنقِهِ.

اقتربتْ منه أسما وهي تسأله:

– حضرتك كويس؟ أجبلك مِيّة؟

أومأ برأسِهِ عندما فَقَدَ الحديثَ، فأسرعتْ تجلبُ له بعضَ المياهِ.

– اتفضلْ اشربْ يا دكتور.

رفعَ كفّيهِ المرتجفَينِ حتى يأخذَ الكوبَ، ولكنه سقطَ منه، وتغيّرَ وجهُهُ وأصبحَ شاحبًا كشحوبِ الموتى.

اتجهتْ تجلسُ على عقبيها أمامَهُ، وقامتْ بفتحِ زرِّ قميصِه:

– حاولْ تاخدْ نفسْ بهدوء، اتنفسْ بهدوء لو سمحتْ.

أمسكتْ هاتفَها، وقامتْ بالرنينِ على زوجِها:

– نوحْ، تعالى بسرعةْ على البيت، الدكتور يحيى هنا وشكلُهُ تعبان.

قالتها، وقامتْ بالاتجاهِ إليه.

أمسكَ كفّيها وتحدثَ بصوتٍ متألمٍ:

– اقعدي يا أسما، أنا كويس، ربنا يباركْ فيكِ يا بنتي.

ربّتتْ على كفّيهِ، ونظرتْ إليه:

– حضرتك كويس؟ حاسسْ بإيه؟ أنا هتصلْ بدكتور، حضرتك لازم نطمنْ.

هزَّ رأسَهُ بالنفي:

– أنا كويس، عايزْ نوح بس.

ظلّتْ تدلّكُ في كفّيهِ:

– هيجي إن شاء الله، مش هيتأخرْ عليك.

وصلَ نوحٌ بعد قليلٍ، أسرعَ متجهًا إلى والده.

نهضتْ أسما من مكانها، فجثا نوحٌ أمامَهُ:

– بابا، مالك يا حبيبي؟! إيه اللي حصل؟!

رسمَ والدُهُ ابتسامةً على شفتيهِ بعدما وجدَ لهفةَ ابنِهِ عليه، وهو يهزُّ رأسَهُ قائلًا:

– أنا كويس يا حبيبي، كنتُ عايزْ أتكلمْ معاك شوية، شكلِ السكر عالي شوية.

قامَ نوحٌ بقياسِ الضغطِ والسكرِ:

– إيه ده يا يحيى باشا؟ السكر عالي جدًا، وكمان ضغطك! ارحمْ نفسَك شوية يا بابا من الضغط ده، والله الدنيا ما تستاهلْ كل اللي بتعمله.

– أنا هعمله سلطة فواكه، وعصير فريش من غير سكر، بلاش القهوة دي.

ابتسمَ لها نوحٌ وهو يَغْمِزُ بطرفِ عَيْنِهِ، رفعتْ حاجبَها بسُخرية، فاقتربتْ تهمسُ له:

– أنا بعملْ للدكتور يحيى، مش ابنه.

قالتها وخرجتْ سريعًا من أمامِهِ.

ظلَّ ينظرُ لخروجِها وهو يزفرُ بغضب، حتى لاحظَهُ والده.

استدارَ لوالده:

– مالَكْ يا بابا؟ وإيه فِكركْ بيا؟

أشارَ له بالجلوس.

جلسَ نوحٌ بمقابلتِهِ.

– آخر مرة كلّمتْ مراتكْ إمتى؟!

ضَيَّقَ عينَيْهِ متسائلًا:

– سلامةْ نظركْ يا دكتور! مراتي لِسَّه داخلة حالًا!

مسحَ يحيى على وجهِهِ وهو يعتدلُ:

– قصدي راندا…

اشتعلتْ عيناهُ كجمْرَتَيْنِ من اللّهبِ الحارق، وصاحَ بغضب:

– وبَعْدْهالك؟! كل ما أقولْ إنكْ اقتنعتْ ترجعْ تِحرَقْ دَمِّي تاني؟!

اسمعْ يا دكتور، أنا مش متجوزْ غير واحدة بس، وهي أسما.

وعلى فكرة؟! سليلةُ الحسبِ والنسب؟! هدخلْها السجنْ قريب، وإياكْ تِوقفْ قدّامي.

الست دي عاملتْها بما يُرضي الله، بس هي اللي طَلَعِتْ حقيرة.

حضرتكْ متعرفْش حاجة يا دكتور!

نهضَ يحيى، وملامحُهُ يكسوها الحزنُ، أمسكهُ من كتفِهِ، وتنهدَ بحرقةٍ شديدة:

– فيه حاجة لازمْ تعرفْها، وتتأكدْ منها إنت كمان.

توقّفَ يطالعُ والده، منتظرًا حديثَه.

حَمْحَمَ يحيى، يسحبُ نفسًا مطوّلًا، ثم تحدّث:

– أنا عملتْ تحليلْ DNA للبيبي، هي هتولدْ خلال أسبوعين، دا كان آخر كلام للدكتور معايا.

صمتَ لبعضِ اللحظات، يسحبُ نفسًا ويزفرُه بهدوء، ثم أردفَ وهو يطالعُ ابنَه:

– خلّيتْ حدّ موثوقْ منه يعملْ للبيبي تحليل، عشان شوفتْها مرة قاعدة مع شابْ بطريقةْ مَعَجَبْتْنِيش.

مِنْ حَقِّي أطمنْ يا ابني على إن كان حفيدي ولا لأ.

جلسَ نوحٌ، يمسحُ على وجهِهِ بعنفٍ، حتى كادَ أن يُمزّقَ جلدَه، مردفًا:

– مش صحّ يا دكتور اللي عملتُه.

مش صحّ أبدًا.

ومش معنى إنها تِكَلِّمْ شابْ، يبقى نِرْمِيها بالمحصنات!

ومهما كنتْ واثق، مكنشْ ينفعْ تعملْ حاجة من اللي عملتُه.

هي بكرة تولد، وكنتُ هعرفْ الوَلدْ ابني ولا لأ.

بلاشْ تحُطْ ثِقتَكْ في حدّ.

تنهّدَ ورفعَ بصرَهُ لوالده.

راندا طمّاعة، بس مش من النوع اللي يبيعْ نفسُه وشرفُه.

أنا عارفْها كويس، هي بتحبْ الفلوس، آه، بس مش عديمة شرف.

إحنا لينا بنات يا دكتور، بلاش نطعنْ في شرفْ حد.

أنا آه، طلّقتها قبل ما تحملْ، بس دا ما يخلّهاش تخونْ.

بدليل إنها كانت عندي من فترة، وبتْهَدِّدني بصور أسما عشان أرجّعها.

يعني لو هي ماشية زي ما حضرتك عايز تفهّمني، مكنتش جاتلي.

مش كدا ولا إيه، يا دكتور؟

❈-❈-❈

بمشفى يونس البنداري

خرجَ من غرفةِ العملياتِ، متجهًا إلى مكتبِهِ، يستمعُ لسكرتيرةِ مكتبِهِ:

– فيه عملية الساعة سبعة، يا دكتور، وكمان عندنا أربع حالات طبيعي، وكمان…

توقّفَ، يرمقُها بنظراتٍ تحذيرية:

– إيه يا بنتي؟ ناقصْ تقوليلي ستاتْ مصر كلهم حواملْ، والطَّلَقْ ما بييجيش غير هنا؟

اسكتي! كفاية كدا. ابعتي للدكتور محمود، ودكتورة أمل.

هو مفيش غيري في المخروبة دي؟!

قالها وتحرّك، وهو يتمتم:

– يخربيتِكْ، غبية! وبيقولْ عليّا دكتورْ فاشل!

هو فين؟! ييجي يشوفْ طوابير العيش اتنقلتْ عندي هنا، بس على شكل بلونات!

دلفَ إلى مكتبِهِ، وجدَ سارة تجلسُ بانتظاره.

دلفَ مُنهكًا، اتّجهَ بنظرِهِ إليها، فتحدّثَ ساخرًا:

– دا إيه؟ السما اللي بتحدفْ نسوانْ من كل مكان؟

ابتسمَ متهكمًا بعدما وجدَ نظراتِ الحزنِ بعينيها:

– آسف، كوين سارة، السما بتحدفْ بنات!

إيه اللي فكّرك بيا بعد خمسينْ سنة مقاطعة؟

ما كنتُ مرتاحْ الكام شهر دول…

آهةٌ مُلتاعةٌ، بنبرةٍ مُرتعشةٍ، وعينَيها مُترقرقتانِ بدموعٍ، قائلةً:

– كان نفسي يكونْ ليا أخْ يفهمْني الصحّ من الغلط…

تعرفْ أنا بكرهْ سيلين وسلْمى أختك ليه؟

عشانْ لما بيغلطوا، بتْعاقبُوهم.

منكرشْ إني السببْ في انحرافْ سلْمى لبعضِ الوقت، لولا تدخُّلِك، كانت زمانها زيّي، بس هي لحقتْ نفسَها.

آه، تربيتْنا من أمهاتْ بيشتركوا بصفةِ الطمع، بس الفرق إنكْ حاميتْها، ووقفتْ لها، حتى مهمّكشْ جدّك، وضربتْها، ومنعتْها من الكلية.

أنا جاية أبرّئْها النهاردة.

تركتْ عبراتِها تغسلُ وجهَها، كما يغسلُ المطرُ قلوبَ البشر…

اتجهتْ تقفُ بمقابلتِه، تستندُ بظهرِها على المكتب:

– أنا اللي بعتْ الرسايلْ لحمزة، سلْمى مالهاش دعوة.

وأنا اللي بعتْ الصورْ لخطيبتُه.

كنتْ عايزة أَنتقِمْ من درّة، وأبعِدْها عن حمزة، عشان نورْ ابنْ خالتي.

وكنتْ عايزة أخلي سلْمى نُسخة مني، بتجري ورا واحدْ مرتبط وبيحبْ خطيبتُه، عشان نظرةْ الاحتقارْ اللي بشوفها بعيونَك ليا.

أطبقتْ على جفنيها، وانسدلتْ عبراتُها بغزارة، مُكمّلةً حديثَها:

– أنا السببْ في اللي حصلْ لليلى وسليم.

روحتْ قلتْ لسليمْ إن ليلى بتحبّ راكان…

شهقةٌ خرجتْ منها، وهي تضعُ كفّيها على فمِها، وأكملتْ بقلبٍ يتمزّق:

– سمعتكْ وإنتْ بتكلمْ راكان، وهو بيقولكْ مش قادرْ يتحملْ يشوفْها في البيت بعدْ ما عرفْ حملَها.

بس وحياةْ ربنا، مكنشْ قصدي أبدًا إنه يموت.

أنا قلتْ كدا، وهو راحْ لها زي المجنون، وبعدها عملْ حادثة، حتى معرفشْ هو قالها إيه.

نزلتْ كلماتُها عليه كالصاعقة، حتى شعرَ بانسحابِ الأكسجين من الغرفة…

نصبَ عودَهُ بهدوءٍ مميت، واقتربَ منها، وعقلُهُ يرسمُ الكثيرَ من السيناريوهات، حتى كادتْ أن تفتكَ به.

دنا منها، وجسدُها يرتجفُ من البكاء…

-– قولتي إيه؟!

إنتِ قولتي لسليم إن ليلى بتحبّ راكان؟!

يعني سليم مات، وهو وهو…

قالها بتقطّع، ولم يشعرْ بنفسِه إلا وهو يجذبُها من خصلاتِها ويدفعُها بقوّةٍ إلى الجدار، حتى سقطتْ على الأرض، وشهقاتُها ترتفعُ تدريجيًا.

ثارَ كالمجنونِ بالغرفة، وبدأ يركلُ كلَّ ما يقابلُه، حتى لكَمَ المكتب، فانشطرَ الزجاجُ مُتهشّمًا، وهو يصيحُ بصوتٍ غاضب:

– آه يا حقيرة!

اتّجهَ إليها وأمسكها، يجرُّها:

– إمتى الكلام دا يا بِت؟ يعني قبل ما يموتْ بكتير؟!

هزّتْ رأسَها وهي تبكي بصوتٍ مرتفع:

– يوم ما عملْ حادثة الصبح… أنا… أنا كنتْ مضايقة من راكان، عشان أهانني، فحبيتْ أنتقِم منه…

لقيتْ سليم راجع من برّة، كان سهران…

قالتها بلسانٍ ثقيل، وقد تذكّرتْ ذاك اليوم:

– سليم! إيه دا يا سلّوم، بقيتْ تسهر برّة؟

بس أنا لو مكانك، مكنتشْ قعدتْ معاهم في مكان واحد، وخصوصًا بعد ما عرفتْ نذالتهم.

ضيّقَ سليم عينَيه متسائلًا:

– هم مين دول؟ أنا كنتْ سهران مع واحد صاحبي، ونمتْ في مكاني، ما حسّيتشْ بنفسي.

مطّتْ شفتيها، واقتربتْ منه:

– يعني مش زعلان عشان عرفتْ إن أخوك ومراتك على علاقة ببعض؟!

صفعةٌ قويّةٌ على وجهِها، من هولِ ما استمع إليه.

– اخرصي! اتجنّنتي يا متخلّفة؟

شاربة إيه على الصبح؟!

اقتربتْ فرح، تضمّ أختَها، وثارتْ في وجهِه:

– القلم دا مش المفروض سارة اللي تاخده!

القلم دا المفروضْ مراتك المحترمة اللي عاملة فيها شريفة!

شعرَ كمن تلقّى ضربةً موجعةً بخنجرٍ مسموم، فتسارعتْ نبضاتُه، وكأنّ كلماتِها كسكّينٍ على عنقِه.

فجذبَها بعنف، يتحدّثُ بصوتٍ كفحيحِ أفعى:

– اخرصي يا جَزمة!

مفكّرة مراتي قذرة زيّك؟

أوعي تفكّري إني ما افتكرتش ليلتنا وإنتِ بتسحبيني لأوضتِك…

أنا افتكرتْ كل حاجة، افتكرتْ قذارتك يا بنت عمي، وإنتِ بتخلّعيني هدومي!

أطبقَ على عنقِها، وتحوّلتْ عيناهُ إلى اللّون الأحمر:

– شربتيني إيه يومها؟

خلّاني أفقدْ نفسي وأتعامَل معاكي كدا، يا قذرة!

دفعته سارة صارخة، وهي تصيحُ به:

– محدّش عمل فيك حاجة!

إنتَ اللي عرفتْ خيانة مرَاتك!

فحبيتْ تردّْلها القلم!

روحْ ربّي مرَاتك يا باشمهندس، وبعدين تعالى حاسبْنا.

مراتك اللي عايزة تربية!

قالتها بطريقةٍ تجعلُ الشيطانَ يتعاطفُ معها.

تراجعَ بخطواتِه للخلف، وهو يبصقُ عليهِنّ:

– قرفتْ من نفسي بسبب بنات زيكم!

إزاي إنتوا بالقذارة دي؟!

قالها وتحركَ سريعًا، كطائرٍ ذبيح، مُكبّل الأرجل، مقطوع العنق، عندما شعرَ بصدمتِه التي تخطّت الحدود، فصاحَ يركلُ كلّ ما يقابله…

ابتسمتْ فرح، وهي تردفُ:

– إنتَ ملكي أنا وبس يا سليم.

ثمّ اتجهتْ تقفُ بمقابلة سارة، تجذبُها:

– إيه الكلام اللي سمعته دا يا بِت؟

ليلى وراكان؟!

نهارك إسود!

ملقتيش غير راكان وتتبلّي عليه؟!

ابتعدتْ بنظراتِها عن أختِها، وتصنّعتْ المفاجأة:

– معرفش إزاي قولتْ كدا…

بس حبيتْ أفشّ غليلي، لما لقيتْهم بيشتموا فيكي، مقدرتشْ يا فرح، فقولتْ أي كلام وخلاص!

ضربتْ فرح على وجهِها:

– يخربيتِك يا سارة!

دا ممكن يروحْ يقولْ لراكان، ويحصلْ مجزرة بينهم!

أنا فكّرتْ الكلام حقيقي، فقولتْ أردّ عليه.

يارب ما يروحْشْ يقوله…

عارفة؟

لو راكان عرف، هتكون آخرتنا يا حلوفة!

خرجتْ سارة من ذكرياتها، تنظرُ إلى يونس، المتجمّد بوقفتِه:

– أنا ما قولتشْ لحدّ، حتى فرح وماما ما عرفوشْ حاجة والله،

ورغم تأكيدي من حبّ أبيه راكان لليلى، ما رضيتش أتكلم،

والله أنا ما كانش قصدي سليم يعرف،

ما عرفش إيه اللي خلاني أقوله،

مع إنّي ما شفتشْ حاجة وحشة من ليلى…

بقلبٍ يحملُ كثيرًا من الألم، وعيونٍ تنفجرُ من الاشتعال، ونبضُه يتسارعُ حتى شعرَ بانسحابِه، فاقتربَ، ونزلَ يجلسُ على عقبيه بمقابلتِها:

– وليه جاية تعرفيني بعد أكتر من سنتين؟

ليه جاية، يا قذرة – على رأي سليم – تحكي لي؟

أمسكتْ كفّيه، وهي تبكي…

عايزاكْ تسامحني، أنا ما عملتشْ حاجة في الليلة إياها، إحنا بس… اتصوّرنا، مش أكتر،

قالتها بتقطّع وصوتٍ غيرِ مفهوم، وتابعتْ بإبانةٍ بعد أن ابتلعتْ ريقَها الجاف:

– ماما كانتْ عارفة مين اللي خطفْها، وكانتْ عارفة مكانهم، بس من مين؟ معرفش.

هي قالت: لازم سيلين ترجع وتكون مقتنعة إنك ويونس على علاقة مع بعض!

كفاية ليلى أخدتْ نصّ الورث، مش هتخلي سيلين تاخد الباقي…

هوى على مقعدِه، وهو يضعُ رأسَه بين راحتيه:

– يا ربي أعملْ إيه؟

هو فيه ناس كدا؟

كنا عايشين مع تعابين!

أرجعَ خصلاتِه، ويمسكُها بعنف:

– أعملْ إيه لراكان؟

ولا أعملْ إيه؟

دا لو عرف، هيموّتْها.

شعوره هيكونْ إيه لما يعرف إن أخوه مات، ومفكّره خاين؟!

ظلّ يمسحُ على وجهِه بعنف، قائلًا:

– يا ربي عليك يا راكان!

بعد دا كله، وتطلعْ في عشقِك خاين لأخوك؟

كدا كتير عليك يا ابن عمي…

رفعَ بصرَه إليها، ينظرُ بغموضٍ ، ثم أردف:

– قومي تعالي…

ولو عايزة أسامحِك، هتعملي زي ما هقولك…

وإياكِ حد يعرفْ تاني!

❈-❈-❈

عندَ راكان بمكتبِه بالنيابةِ، كان يُراجعُ بعضَ النقاطِ الهامّةِ في القضيّةِ، دلفَ إليهِ حمزةُ، جلسَ أمامَه:

– عرفتْ إنّ نور بيزورْ عايدة ليه؟

اعتدلَ يستمعُ إليهِ بتركيزٍ.

– عايزينْ يضغطوا عليكْ بالولد،

يعني لو ما كتبتْش على فرح، قالْ إيه؟ هيتجوزْها نور،

وطبعًا إنتْ تدخلْ زي ما عملتْ مع ليلى، وتقولْهم إنّ ابنْ أخوكْ أولى ببيتْ أبوه.

مطّ شفتيه للأمام، وهزّ رأسَه متسائلًا:

– يعني عايزينْ يساوموني؟

(صمتَ ثم أكملَ)

– عرفتْ إزاي الكلام دا؟!

وضعَ أمامَه هاتفًا، ورفعَ كفيه:

– افتحْه، وانتْ تعرفْ…

فتحَ الهاتفَ، واستمعَ إلى حديثِ عايدةَ:

– يعني هنعملْ خطوبة فشنك كده يا نور؟

ما تخافْش، أنا بعد ما فكرتْ في سارة، لقيتْ فرح أحسن،

عشان فرح معاها الولد، وخصوصًا بعد ما راكان عمل التحليل، واتأكدْ.

مسحَ نور على ذقنِه، ورفعَ بصرَه قائلًا:

– وليه دا كلّه؟

ما تطلبوا حقّ الولد يا خالتو،

ما أعتقدْش إنّ راكان هيظلِمه، وخصوصًا إنه ابنْ سليم، واخدْ كل حاجة،

يعني لو مش عايزْ، ما كنشْ اتجوزْ ليلى وكتبْ كل حاجة.

رجعتْ عايدة بجسدِها، وتحدثتْ غاضبةً:

– هيدّيله إيه غير شوية فتافيت؟

سليم كتبْ كل حاجة للزفتة ليلى،

غيرْ حقه في جدته وجدّه،

دا أنا سألتْ جلال، بيقولّي ليلى تعادلْ راكان في الشركة!

أنا مش عايزة فتافيت لابنْ بنتي،

عايزاه يكونْ له حق زيّه زيّ ابنِه التاني.

اقتربَ نور، وهمسَ إليها:

– هو الولد فعلاً ابنْ سليم، ولا حضرتكْ دخلتي في التحليل؟

ضحكتْ بتهكُّم، ورفعتْ يديها:

– تفتكرْ واحد زي راكان البنداري يتلعبْ عليه؟

دا تعبان!

غيرْ عملْ التحليل في كلّ معاملْ مصر.

ريّح نفسك، الولد ابنْ سليم، ما تخافْش.

بنتي الغبيّة كانتْ بتموتْ فيه.

ودلوقتي جاية تقولي: مش عايزة حاجة!

أنا أهمّ حاجة عندي كانتْ سليم.

الفلوس ما تهمنيش،

ولا التانية اللي معرفش مالها،

بقتْ كلها شعارات،

وتقولي: ما تستنوشْ مني حاجة أساعدْكم بيها،

وكل شوية تقولي: دمرنا حياةْ ولادْ عمي عشان شويةْ فلوس…

(انتهى التسجيل.)

رفعَ راكان رأسَه إلى حمزةَ

الستُّ دي طلعِتْ أخطرَ ممّا توقّعتُ،وحاسسٌ إنّها هتعملُ حاجةً كبيرةً، بسّ معرفشْ إيه هي،

اللي تنجحْ تخلّي سليمْ يعملْ علاقة كاملة مع بنتِها، وهو متجوّزٌ وبيحبُّ مراتو، يبقى لازمْ نِخافْ منها.

لازمْ أدخلْ جوا دماغها السُّمّ دي، وأعرفْ ناويةٌ على إيه.

المهمّ، سيبْك من عايدةَ وبلاويها،

وقولّي: آسر بيروحْ عندْ حماك؟

ويالا، لمّ الدورْ واعملْ الفرحْ، لازمْ تخليهْ بعيدْ كده.

قهقهَ حمزةُ، يغمزُ بطرفِ عينيهِ:

– لولةُ وحشتْك؟ طبْ ما كنتْ تتلمّ من الأول،

لازمْ تعملْ فيها عنترةَ بن شدّاد!

رجعَ بجسدِه، يتّكئُ على المقعدِ قائلًا:

– لازمْ من دا يا حمزةُ، ليلى بتيجي عندي وبتضعف،ممكنْ تدوسْ عليّ عشانِ الكلّ، لازمْ نعرفْ قيمةَ بعضْ لمّا نِبعدْ.

مش هخبي عليكْ، أنا هموتْ وأشوفها دلوقتي،من وقتْ ما راحتْ بيتْ أبوها،وحاسسْ إنّها بعيدةٌ عنّي بقالها كتيرٍ أوي.

ربّتَ حمزةُ على كفّهِ وتحدّث:

– راكان، اللي بتعملهُ مش صحّ،خلي بالكْ يا صاحبي،

البُعدْ يخلّيها تجفَى عليكْ،وخصوصًا إنّي شايفها قافلةٌ على نفسها طولَ الوقت.”

أومأَ برأسهِ وتحدّث:

– قريبٌ إن شاءَ الله،وشكرًا على تدخلكْ في موضوعِ عاصم كمان، معرفشْ ليه كان مُصرّ إنّها تقعدْ معاه.”

نهضَ حمزةُ وطالعه:

– بسْ هو سكتْ لبعدِ الفرحْ، عشانْ أقنعتُه إنّها لسه بشهورِ العدّة، وقتْ ما تخلّصْ شهورِ العدّة، مشْ هيسيبها،

الأستاذُ عاصمْ مش هو اللي يسيبْ بنته تعيشْ لوحدها،

فياريتْ تشوفْ هتعملْ إيه.”

أومأَ برأسِه، وأجابَ.

ربَّنا يُسهِّلْ، المُهِمْ إنتْ عَدِّي على جاسرْ وادّيلهُ التِّليفونْ دا، وخَلِّيهْ يُراقبْ نورْ من بعيدْ، عشانْ مشْ مُرتاحْ له.”

توقَّف فجأةً واستدارَ إليه قائلًا:

“ولا أنا، وشاكِكْ إنّهُ هو ورا الراجلْ اللي كانْ بيُراقِبْ، عشانْ رقمُهُ كانْ مُتْسَيِّفْ،

بسِّ ابنِ الذَّكيَّةِ ماسِحْ كُلّ التَّسجيلاتِ اللي عليه.”

“ماتخافْش، أنا طَلَبتْ من الشَّركةِ كُلّ الاتِّصالاتِ المُتَعلِّقةِ بالراجلْ دا.”

توقَّف حمزةُ لدى البابِ قائلًا:

“هستناكْ بكرةْ في حفلةِ العذوبية، وهَشوفْ لكْ عَروسةٍ جديدةٍ، متخافش.”

ألقاهُ راكانُ بالقَلَمِ:

“إمشي ياحَيَوان!”

قهقهَ حمزةُ قائلًا:

“اللهُ يرحَم، فينَكْ يا نُوحْ؟ كنتْ مُظبّطنا.”

قالها وهو يتحرّكُ للخارجِ.

…………

ليلةُ حفلِ الحِنّةِ التي تُقامُ بمنزلِ عاصم، ارتدتْ ليلى فستانًا باللّونِ الأحمرِ،وتركَتْ خُصْلاتِها تنسدلُ على ظهرِها باعتبارِ أنّ الحفلَ خاصٌّ بالسيداتِ، بينما ارتدَتْ دُرّةُ فُستانَها باللّونِ الورديّ،ووَضَعَتْ بعضَ اللّمَساتِ التّجميليّةِ الخفيفةِ على وجهِها، حتّى ظهرَتْ بطَلّةٍ تُبهِرُ الموجودين.

قامَتِ الفتياتُ بفتحِ بعضِ الأغاني الشعبيّةِ التي تراقصْنَ عليها،وكانَتْ ليلى تجلسُ بجوارِ أختِها تنظرُ بهاتفِها، تتمنّى لو أنّهُ يُهاتِفُها ولو عن طريقِ الخطأ.

لمْ يمرَّ دقائقُ، وإذا بها تستمعُ لوالدتِها:

راكانْ برّة، جايبْ أميرْ، بيقولْ مشْ مُبطّلْ عياطْ، وعايزكْ،

معرفشْ إزاي جالكْ قلبْ سايْبةِ الولدْ كلّ يومْ والتاني هناكْ.

هبّتْ سريعًا مُتّجهةً للخارجِ، أوقفتْها والدتُها:

إيه؟ هتخرجي كده؟ فستانكْ ضيّقْ، وكمانْ شَعركْ؟

ماتنسيشْ إنّهُ بقى طليقَك يا مدامْ ليلى!”

جذَبَتْ وشاحَها، ووَضَعَتْهُ بعشوائيّةٍ،وتحرّكتْ للخارجِ ودقّاتُها تتقاذفُ بين أضلعِها،حتّى أجزمتْ لو أحدُهم توقّفَ بجوارِها،

لاستمعَ لدقّاتِها.

وصلَتْ إليه، كانَ يُوَاليها بظهرِهِ، وهو يحملُ أمير ويتحدّثُ بهاتفِه،

ابتسامةٌ شقّتْ ثغرَها من مُجرّدِ وجودِه أمامَها بهذه الهيبة،

تمنَّتْ لو ألقتْ نفسَها بأحضانِه،

ولكنْ، كيفَ لقلبِ الأنثى أن يغفرَ لرجلٍ أهانَ أنوثتَها؟

دنتْ حتّى أصبحتْ خلفَهُ مباشرةً،تسحبُ كمًّا من رائحتِه التي أقسمَتْ حينها أنّها أعادتْ رُوحَها المفقودة.

استدارَ إليها بعدما شَعَرَ بوجودِها، تجمَّدَ جسدُه، وتوقَّفَ لسانُه عنِ الحديثِ،

حتى أغلقَ هاتفَهُ دونَ أن يشعرَ، أسبوعًا كاملًا لا يراها،

أسبوعًا كاملًا أقسمَ أنَّهُ لم يرَ فيهِ شمسًا، بل توقَّفَتْ حياتُه بالكامل.

كانتْ كاميراتُهُ التي زرعَها في كلِّ أركانِ منزلِها تُبقيه صابرًا على فِراقِها،

ولكنْ، منذُ بدايةِ ذاكَ الأسبوعِ، وجافاهُ النومُ، بل تركتْهُ روحُهُ وفارقتْه.

ارتجفَتْ شفتاها وهي تُطالِعهُ باشتياقٍ، ورغمَ ذلكَ سيطرتْ على نفسِها قائلةً:

هوَّ عيّطْ ولا إيه؟ دا لسه ماشي الصبحْ!

كانَ يُدقِّقُ النظرَ بملامحِ وجهِها الذي بدا عليهِ بعضُ الشُحوبِ،

تمنّى لو جذَبَها، وأروى روحَهُ المفقودةَ بقُربِها،

ودّ لو يقُصُّ لها أنّ حياتَهُ أصبحتْ صحراءَ قاحلةً، وجحيمًا مستعِرةً،

فالفِراقُ أصبحَ نيرانًا تلتهمُ أحشاءَه.

دنا منها وهمسَ لها:

انتِ مابتكليشْ ولا إيه؟ وشّكْ أصفَرْ ليه؟

جذبتْ أميرَ وهي تُعانِقُهُ وتُقبِّلُه، ثمّ أجابتْهُ بهدوءٍ وهي تبتعدُ بنظرِها عنه:

لأ، محرومة، عندك أكلْ تبعتُهُولي؟

ورغمَ سعادتها الداخليّةِ من حفظِه لكلّ تفصيلةٍ بها،

إلّا أنّها أجابتْهُ بتلكَ الطريقةِ التي جعلتْهُ يجذِبُها بقُوّةٍ إليه،

ليضعَها بجوارِ شقِّه الأيسرِ تحديدًا، موضعِ نبضِه، قائلًا:

هنا وجَعْ بسببِكْ، مشْ عارفْ أتنفَّسْ مِنُّه.”

رفعتْ بصرَها إليه، فكانتْ قريبةً منهُ حتى اختلطَتْ أنفاسُهُما،

فأجابته:

مشْ أكترْ مِنِّي… أنا كدا مُرتاحة، خليكْ بعيدْ عنّي.”

تعلَّقتْ عيناهُ بعينيها، وتحدَّث:

يعني هتفضَّلي على طولْ في بيتْ بابا؟”

حاولتْ استجماعَ نفسِها وتوتّرَها من قربِه، ابتلعتْ ريقَها بصعوبةٍ حينما حاوطَها بذراعَيه،وأنفاسُهُ تضربُ بشرتَها حتى احمرّتْ وجنتاها، فتزلزلَ كيانُها، دفعتْهُ ببطءٍ رغمَ تمنّيها ألّا تترُكه، قائلةً :

أيوة… وأنا قولتْ لكْ قبلْ كدا، ياريتْ تمشي، عشانْ محدّشْ يسوءْ الظنْ بينا.”

دنا حتى قطَعَ قانونَ المسافاتِ بينَهما، واختلطَتْ أنفاسُهما،

ثم همسَ بصوتٍ أجشٍّ منخفض:

– إنتِ تقولي اللي عايزاه، وأنا أعمل اللي عايزاه،

واللي عايزه حالًا… حاجات كتير.

قالها وهو يرفعُ إصبَعَهُ لوجنتيها، يُلامِسُها بخفَّة،

توردَتْ وجنتاها، وشعرتْ بحرارتِها تسري من لمسته.

فابتسمَ عليها قائلًا:

– إيه، قلبتِي طمطاية ليه كده؟

مَكنتشْ أعرف إنّ الخدود دي هتِحلُو كده،

دي عايزة تتاكلْ على فكرة… وأنا موجود.

دفعتْهُ بقوّة، وأشارتْ بسبابَتِها صارخةً:

– ابعِد عنِّي يا راكان، أنا مشْ هرجعلكْ تاني!

قطّبَ جبينَهُ، وسحبَ نفسًا من تبغِهِ ثم نفَثَه بوجهِها،

عيناهُ تحدِّقان بجمودٍ، وقال بسخريةٍ لاذعةٍ:

– هو إنتِ على طولْ بتحلَمي كده؟

هو أنا قولتْ لكْ هرجّعك؟!

جذبتْ ابنَها الذي كان يُوزّع نظراتِه بينهما ببراءةٍ وارتباك،

وضربتْ أقدامَها بالأرضِ، تقول بانفعالٍ:

– معرفشْ إيه اللي جابَك، كنتُ مرتاحة مِنك،

يالا… من غير مطرود!

استدارَ للمصعدِ دونَ حديثٍ آخر،بعدما فقدَ السيطرةَ على نفسِه،

❈-❈-❈

باليومِ التّالي

كانتْ تَجلِسُ بالغُرفةِ تُلاعِبُ ابنَها وهي تَضَعُ كَفّيها على أَحشائِها:

ـ ياربّ ارْزُقني المَرّادي بِبِنتٍ وما تِكونش شَبْه حَزَنبول أبوها.

ابْتَسَمَتْ بِخِفّةٍ، تَتَذَكَّرُ مَلامِحَ وَجهِه، هامِسَةً لِنَفْسِها:

ـ مَجْنونة أنا عَشان أَرفُض بِنت قَمَر زيّ أبوها.

أَغْمَضَتْ عَيْنَيها مُبْتَسِمةً:

ـ ياربّ تِطْلع شَبْهه، عَشان تِجَنِّن الوِلاد، زي ما أبوها جَنّن أمّها…

قاطعَها دُخولُ دُرّة، وهي تَفْرُكُ بِكفّيها:

ـ لولو! حَبيبة قلبي، عاملة إيه؟

ضَيَّقَتْ لَيلى عَيْنَيها، مُتَسائِلةً:

ـ مالِك يَا دُرّة؟ مِحتاجَة حاجة؟ دُخولِك ده وَراه حاجة… طَلَب مَثَلًا؟

جَلَسَتْ بِجوارِها على الفِراش، مُرْدِفَةً:

ـ أنا نِسِيت شِوَيّة حاجات هنا، ولازِم أروح الشقّة، عَشان بُكرا يوم طَويل للتَّجهيز، وبعد بُكرا هنسافِر عَشان الفَرح هيكون في بلدِ حَمزة، ومِن هناك هنسافِر بَرّه و…

وَضَعَتْ كَفّيها أمامَها:

ـ باااس، كِفاية، دي كُلّها طَلَبات! عايزة إيه أَعملهولِك؟

سَحَبَتْ كَفّيها واتَّجَهَتْ لغُرْفَتِها:

ـ الشَّنطة دي تِروح شِقَّتي، وكَمان تِظَبّطي هُدومي اللّي في الشَّنطة اللّي هناك، وكَمان فيه شِوَيّة حاجات عايزة تِتْحَطّ في مَكانها، يعني ساعِتَين بالكِتِر وهتكوني هنا.

وعَلى فِكْرة، مَرَات عَمِّك جَتْ بَرّه، وعامِلة أُنْشودة في ابنها، وشامّة ريحة إنّه جاي، وطبعًا التِّنّين لو عَرَف، هتبقى مَجْزَرة، و…

ـ بااااس، الله يِخْرِبِيت صَرَعْتيني، وفَصَلْتِي اللّيلة، وإحنا لِسّه في أَوَّلها، حاضِر، هَروح أَتزفَّت وأَعملّك كُلّ حاجة، بس وَحياة حَمْزة، لو رَجَعْت وَلْقيت زِفْت آسر هنا، لأُوَلَّع فيكِي إنتِ وَحَمزة!

اقْتَرَبَت دُرّة وهي تُطلِقُ ضَحَكاتٍ صاخِبةً، قائلةً:

ـ عَلى الرَّغم ما عَرَفش ليه بْتِحْلِفي بِحَياة جُوزي؟ الأَولى تِحلِفي بِحَياة طَليقِك، أو ابنِك… بس مش علينا! رُوحي يالا، عَشان التَّخطيط ما يِضيعش.

ضيَّقَتْ عَيْنَيْها مُتَسائِلَةً: “تَخْطيط إيه يا بِتّ؟”

اِسْتَدارتْ وَأَمْسَكَتْ عُبْوَةَ المَكياج.

“إيه رَأْيِك في اللَّوْن دا؟ حِلو؟”

دَفَعَتْها لَيْلى وَخَرَجَتْ قائلةً:

“هَرُوح أَجَهِّز نَفْسي، وَإنتِ جَهِّزي الحاجَة.”

أَمْسَكَتْ دُرَّةُ كَفَّيْها:

“اِلْبِسي الفُسْتان الأَخْضَر يا لولو، شَكْله حِلو عَلَيْكِ.”

ضيَّقَتْ لَيْلى عَيْنَيْها قائلةً:

“أنا رايْحَة فَرَح؟ دا أنا رايْحَة أُوَدِّي شُوَيَّة حَاجات!”

سَحَبَتْها مُتَجِهَةً لِخِزانَةِ مَلابِسِها:

“يا بِنْتي إنتِ رايْحَة مَكان جَديد، وفيه ناس تِحِسّ إنهم أورجَنك كدا، يَعني لو حد قابِلِك…”

تَرَكَتْها قائلةً:

اِمْشي يا دُرَّة مِن وِشّي، أنا ماليش مِزاج أَصلاً لِحاجَة.

•••

بَعْدَ قَليل، دَلَفَتْ لَيْلى إلى مَنْزِلِ أُخْتِها، وَضَعَتْ بَعْضَ ثِيابِها الّتي أَحْضَرَتْها، وَأَنْهَتْ بَعْضَ الأَشْياء… دَلَفَتْ إلى مِرْحاضِها وَقامَتْ بِغَسْلِ وَجْهِها بِالماءِ البارِد بَعْدَما شَعَرَتْ بِالدُّوار وَأَلَمٍ في مِعْدَتِها… وَضَعَتْ كَفَّيْها عَلَى أَحْشائِها مُبْتَسِمَةً:

هَتِطْلَع شَقيّ زَيّ باباه، لِسَّه في الأَوَّل وَبِتِعْمِل فيّا كِدا…

أَغْمَضَتْ عَيْنَيْها وَهِيَ تَشْعُر بِنَسْمَةِ هَواءٍ مَحْمُولَةٍ بِرائِحَتِه… اِسْتَدَارَتْ تَنْظُر إلى الوَراء، فَوَجَدَتْهُ خَلْفَها كالحُلْم… اِبْتَسَمَتْ، لا تَعْلَم: أَتَحْلُم أَمْ أَنَّهُ حَقًّا خَلْفَها؟

أَخْرَجَها مِن شُرودِها عِنْدَما هَمَسَ بِجِوارِ أُذُنِها:

وَحَشْتيني لِدَرَجَةِ المَوْت…

اِحْتَضَنَ وَجْهَها، يَضَع جَبِينَهُ فَوْقَ خَدِّها، يَسْحَبُ نَفَسًا مُخْتَلِطًا بِأَنْفاسِها:

مِش قادِر… جِتْلِك راكِع، وَرافِع الرّايَةِ البَيْضا، وَباقُولِك مِش قادِر أَعِيش مِن غَيْرِك.

رَفَعَتْ كَفَّيْها، تَحْتَضِن وَجْهَهُ حَتّى تَتَأَكَّد مِن وُجُودِه… اِنْحَبَسَ النَّفَسُ في صَدْرِها وَتَسارَعَتْ نَبَضاتُها، هامِسَةً لَهُ:

را…كان؟ أنا مِش بَحْلَم، مِش كِدا؟

قالَتْها وَعَبَراتُها كَزَخّاتِ المَطَرِ تَغْسِل وَجْنَتَيْها.

نَزَلَ بِرَأْسِه، يُقَبِّل وَجْنَتَيْها، يُزِيلُ دُموعَها، رَفَعَتْ ذِراعَيْها تُعانِقُه،… ، سْحَبها مِن كَفَّيْها:

تَعالي نِروح بَيْتْنا، البَغْل بيقولّي: إيّاكَ تُدَنِّسْ بَيْتي!

تَوَقَّفَتْ تَتَذَكَّر ما صارَ مُنْذُ لَحَظات:

هاجي مَعَك إزّاي؟ مينفَعْش!

حَمَلَها، يَضُمُّها إلى صَدْرِه حَتّى يُشْبِعَ رُوحَهُ المَفْقودَة:

يِنْفَع، وَمِليون، وَلَو سِمِعْت صوتِك، وَحَياةْ حُبّي لِك، لَأَدْخُل أُوضَةْ نَوْمِهم دِلْوَقْتي!”

هَزَّتْ ساقَيْها، تَصْرُخ:

نَزِّلْني يا راكان! ما لِبِسْتِش حِجابِي!

أَنْزَلَها بِهُدُوء، وَهَرْوَلَ يَجْذِبُ حِجابَها، وَضَعَهُ بِعَشْوائِيَّةٍ عَلى رَأْسِها، ثُمَّ اِنْطَلَقَ بِها إلى سَيّارَتِه سَريعًا.

وصَلَ إلى مَنزِلِه، تَرَجَّلَتْ مِن السَّيّارة، واتَّجَهَتْ مَعَهُ إلى داخِلِ المَنزِلِ الّذي زَيَّنَهُ وأَصْبَحَ مُنْتَظِرًا عَروسَه. رَفَعَتْ نَظَرَها إلَيْهِ:

“إنتَ اللي عَمَلْت كدا؟”

نَزَلَ بِجَبِينِهِ على خَدِّها، وهمَس:

“نفسي أَعْمِلَّك فَرَح قوي، وإن شاء الله ناوي أَعْمِلَّك أَحْلى فَرَح.”

اِقْتَرَبَتْ مِنْهُ، تَتَقَلَّصُ المَسافَةُ بَيْنَ جَسَدَيْهِما، ثُمَّ وَضَعَتْ رَأْسَها على صَدْرِه، وأَنامِلُها تَتَسَلَّلُ لِتَفُكَّ أَزْرارَ قَميصِه:

“أنا كُنْت حالفَة لو جَتْلي زاحِف مِش هَرجَعْلَك، ودِلْوقْتي مِش قادْرَة أَبْعِد عنك… تِفْتِكِر دا اسمُه إيه؟”

رَفَعَها مِن خَصْرِها، يَنْظُرُ بِعُمقٍ في عَيْنَيْها، هامِسًا أمامَ شَفَتَيْها:

“اسْمُه عَذابُ عِشْق، يا مولاتي… فأنتِ العِشْقُ المُعَذِّب.”

رَفَعَتْ نَفْسَها، تُطْبِعُ قُبْلَةً على وَجْنَتَيْه:

وإنتَ مُعَذِّب رُوحي، مُعَذِّبي…

دَنَتْ مِن أُذُنَيْه، ثُمَّ هَمَسَتْ لَهُ:

عندي خَبَر هيجَنِّنَك…

أَمْسَكَتْ كَفَّيْه، تَضَعُهُما على أَحْشائِها:

حَبِيبِي… هيجِيلْنا بيبِي، شَبْه باباه!

“حامل؟”

أَرْدَفَها بِقَلْبٍ مُرْتَعِش، وَعُيُونٍ لامِعَةٍ بِالعَبَرات. أَصابَتْهُ قُشَعْرِيرَةٌ تَخْتَلِجُ كِيانَه، وَتَمَلَّكَتْهُ عاطِفَةٌ جارِفَةٌ، وهو يَنْتَظِرُ رَدَّها بِشِقِّ الأَنْفُس، لَعَلَّهُ أَخْطَأَ في سَماعِهِ…

أَوْمَأَتْ بِرَأْسِها، وَعَبَراتُها تَنْهَمِرُ بِغَزارَةٍ على وَجْنَتَيْها، وَانْفَرَجَتْ شَفَتَاها بِابْتِسامَةٍ… ثُمَّ حاوَطَتْ خَصْرَهُ، تَضُمُّ نَفْسَها في أَحْضانِه:

هَتْكون أَجْمَل بابي في الدُّنْيا كُلَّها…

اِرْتَجَفَتْ أَوْصالُهُ جَميعًا مِن كَلِماتِها، فَأَخْرَجَها مِن أَحْضانِه، يُحْتَضِنُ وَجْنَتَيْها، وَتَلاقَتْ أَعْيُنُهُما، يَتَعانَقُ فيهما نَبْضُ كِلَيْهِما، فَهَمَسَ لَها:

مش بَحْلَم… مش كِدا؟

رَفَعَتْ كَفَّيْها، وَاحْتَضَنَتْ وَجْهَهُ:

آسْفَة… حَقيقي آسْفَة على كُلّ حاجَة.

جَذَبَها لأَحْضانِه، يَشُدُّ على عِظامِها بِذِراعَيْه، يَعْتَصِرُها، وَقَلْبُهُ يَقْفِزُ بَيْنَ ضُلوعِه:

أنا اللّي آسْف على كُلّ كَلِمَة وُجْع وُجَعْتِك بيها.

لَكَمَتْهُ في صَدْرِه بِقُوَّة، قائِلَةً:

لا يا حَبِيبِي، لِسَّه هَحاسِبَك على اللي شُفْتُه في المَكْتَب، مِتْخافْش!

أَطْلَقَ ضَحَكاتٍ مُرْتَفِعَة، وَهُوَ يَحْمِلُها مُتَّجِهًا بِها إلى الأعلى، وَلَكِنَّهُ تَوَقَّفَ عِنْدَما اسْتَمَعَ إلى أَحَدِهِمَا يَصْرُخُ بِهِ.

اِسْتَدارَ لِمَصْدَرِ الصَّوْت، فَوَجَدَ بَهاء… لَحَظاتٌ، وَاسْتَمَعَ لِطَلَقاتٍ ناريَّةٍ تُحاوِطُ المَنزِلَ بِالكامِل…

اِرْتَجَفَتْ أَوْصالُهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ لِزَوْجَتِهِ الّتي وَضَعَتْ كَفَّيْها على أُذُنَيْها، تَصْرُخُ عندما اِخْتَرَقَتْ رَصاصَةٌ النّافِذَةَ الزُّجاجِيَّة…

أسرَعَ راكان يُحاوِطُها بِجَسَدِهِ، مُتَحَرِّكًا بِها إلى الخَلفِ حتّى اختَفَيا في رُكنٍ مِن أركانِ أَحَدِ الغُرَفِ. حاوَطَ وَجْهَها قائِلًا:

ليلى حَبيبتي، لازم تِخرُجي مِن البيت دا. بُصي، أنا هَطلَع لِبَهاء بَرّه، وإنتِ اِمْشي مِن الباب الخارجي. ما تِبُصِّيش وراكي، لازم تِتْحرَّكي، دول أعدادهم كتير. يلا، لازم تِمْشي.

ضَمَّها إلى أَحضانه قائِلًا:

بَحبِّك حُبّ يُدَرَّس، يا مولاتي.

ثُم طَبَعَ قُبْلَةً عَميقةً على جَبينِها. هَزَّتْ رَأْسَها رافِضة، وانْسَدَلَتْ عَبَراتُها تَسيلُ على وَجْنَتَيْها بِغَزارَة:

مش هَسِيبَك، ما تِحاوِلْش…

سَحَبَها خارِجًا مَعَه، عِندما اشتَدَّتْ أَصْواتُ الطَّلَقاتِ النَّارِيَّة:

يلا يا حَبيبتي، لازم أَعْرِف مين دول. وُجودِك هَيِرْبِطْني، لازم تِهْرَبي.

أَمْسَكَتْ كَفَّيْه تَحتَضِنُهُ، ثُمَّ رَفَعَتْهُما لِتُقَبِّلَه:

مش هَسِيبَك يا راكان، ما تِحاوِلْش…

اِحْتَضَنَ وَجْهَها، وتَحَدَّثَ بِغَضَب:

لو ما خَرَجْتِيش دِلْوَقتي، هَزْعَل مِنك، وَعُمْري ما أَسامِحِك! يلا يا ليلى، مُمْكِن تَكوني السَّبَب في مَوْتي دِلْوَقتي!

شَهَقَتْ بِصَوْتٍ مُرْتَفِع، وَطَوَّقَتْ عُنُقَهُ، تُخَبِّئُ مَحْياها في حَناياه، وتَتَحَدَّثُ مِن بَيْنِ شَهَقاتِها:

مش هَقدَر يا حَبيبِي، واللهِ ما هَقدَر أَسِيبَك هِنا وأَمْشي…

أَخْرَجَها بِعُنْفٍ، يَدْفَعُها للخارِجِ بِغَضَب، عِندما اسْتَمَعَ لِتَكْسيرِ النّافِذَةِ الزُّجاجِيَّة:

اِمْشي برّه!”، قالها، ودَفَعَ بها إلى الخارِجِ، مُغْلِقًا بابَ المَنْزِلِ بَعدَ تَأَكُّدِهِ مِن فَراغِ الجانِبِ الخَلْفيِّ بالكامِلِ مِن وُجودِ المُجْرِمين، سِوى التّابِعينَ لأمْنِه. وأَشارَ لِأَحَدِهِم:

خَرِّج المَدام مِن هِنا حالًا.

اِتَّجَهَ راكان لِلخارج، فَدَلَفَ أَحَدُ الخارجينَ عن القانون، مُلَثَّمًا، ويُشِيرُ بِسِلاحِهِ نَحْوَه:

أي حَرَكة مِنك… هَمَوِّتَك.

لم يَتَوانَ راكان في التَّرَدُّد، لَكِن لم يَكُنِ السِّلاحُ قَريبًا. أَشارَ بِكَفَّيْه:

إنتَ مين؟ وعايز إيه؟

دَلَفَ آخَرُ مُرْدِفًا:

إحنا مش هَنِضْرَّك… عايزين الوَرَق اللِّي مَعَاك.

تَراجَعَ راكان للخَلْف، حتّى يَصِلَ إلى سِلاحِه، لَكِنَّ المَسافَةَ كانت بَعيدَةً بعضَ الشيء. لَمَحَه أَحدُ الأَفْراد، فَأَسْرَعَ إلى السِّلاح وأَخَذَه.

ودِلْوقْتي هَعِدّ لِتَلاتة، لو ما طَلَّعْتِش الوَرَق، هَمَوِّتَك…

اسْتَمَعوا إلى جَلَبَةٍ بالخارج. تَحَرَّك بَعضُهُم، وتَحَدَّث أَحدُهم:

الشُّرْطَة وَصَلِت… هاتوه! لازم نِمْشي.

قالها وتَحَرَّك. اِتَّجَهَ الرَّجُلُ إلى راكان، ولَكِنَّهُ تَفَوَّقَ عليه، وأَبْرَحَه ضَرْبًا، خاطفًا سِلاحَه، نَظَرَ إلى الرَّجُلِ الآخَر:

لو اتحرَّكْت… هَموّتُه.

أَطْلَقَ الرَّجُلُ طَلْقَتَه عليه قائلًا:

أنا اللي هَرَيّحَك منه. ودِلوقتي… أي حَرَكة هَتْمُوت، ونَزِّل السِّلاح اللي في إيدك.

أمسكَه رَجُلٌ مِن الخَلْف، مُتَّجِهًا به إلى الخارِج، ولكن طَلْقَةً خَرَجَتْ مِن سِلاحِ بَهاء أَدَّت إلى مَصْرَعِه.

في حين تَشاجَرَ راكان مع الآخَرين، لكن الغَلَبَة كانت للخارجين عن القانون. حَدَثَ تَشابُكٌ عَنيفٌ بين الشُّرطة والمُهاجمين، وسَقَط الكثير من رجال الأمن، وأَصْبَحَ الوضعُ مَأْساوِيًا.

دَقائِقُ مِن الصِّراعِ الشَّرِس، حتّى انقَضَّ أَحَدُهم على راكان، وَوَضَعَ سِلاحَه على رأسِه، يَنظُرُ إلى جاسر وبهاء:

حَرَكة مِنكم… هَموّتُه. ودِلوقتي، الوَرَق فين… قبل ما أموّتَك؟!

في الخارج

كانت ليلى جالِسَةً تَحتَضِنُ نَفْسَها في الظَّلام، ودُمُوعُها تَحرِقُ وَجْنتَيْها مِن الفَزَع. ظَلَّت لِبَعْضِ الوقت تَستَمِعُ إلى طَلَقاتِ الرَّصاص، فَجَعَلَت جَسَدَها يَنتَفِض. بَكَت بِصَوتٍ مُرتَفِع، تَتَمْتِم بِاسْمِه:

“راكان…”

ثُمّ نَهَضَت، واتَّجَهَت إلى الدَّاخِل بِحَذَر، وَضَعَت كَفَّيْها على شَفَتَيْها وهِيَ تَرى أَحدَ الأَشْخاصِ الّذِينَ عَيَّنَهُم راكان لِحِمايَتِها، مُصابًا بِطَلْقٍ ناري.

أَسْرَعَت إليه تُساعِدُه، وَسَأَلَتْ بِشَهَقاتِها:

فين راكان؟!

أشار إلى الخارج، ثُمّ رَفَعَ كَفَّه بِالسِّلاح ناحِيَتَها قائِلًا:

اِحْمي نَفْسِك، لازم تِطْلَعي مِن هِنا!

أَمسَكَت السِّلاحَ بِكَفَّيْها المُرْتَعِشَتَيْن، وَتَقَدَّمَت إلى الدَّاخِل، والرَّجُل يُحاوِل مَنْعَها، لكنّها تَحَرَّكَت، تَبحَثُ عنه.

تَوَقَّفَت عندما رَأَت أَحَدَهُم يَضَعُ السِّلاح على رأسِ راكان، ويَتَحدَّث إلى الآخَرين.

نَظَرَت بِهُدوء، فَكان جاسر في مُقابَلَتِها. لَمَحَها، فَأَطبَقَ على جَفْنَيْهِ حتّى لا يَراهُ ذاك الرَّجُل، وتَحَدَّث بِمَغْزًى، وهو يُشِيرُ نَحْوَها وكأنّه يُكَلِّم الرَّجُل:

أنا لو مَكانك… هَقْتُلُه. ما تِخافْش، مُوتُه عَشان تِنْقِذ الّلي بِتِحِبُّهُم.

ضَيَّقَ الرَّجُلُ عَيْنَيْه:

ما تِخافْش… هَمَوِّتُه عَشان نِنْقِذ الّلي بيأكُلونا عيش.

وَضَعَت كَفَّيْها على صَدْرِها، تَسْحَب نَفَسًا طَوِيلًا، ثُمّ اعْتَدَلَت وهي تَتَّجِه بالسِّلاح الّذي بِيَدَيْها المُرتَعِشَتَيْن، وَضَغَطَت…

استقرَّت الطَّلْقَة في ظَهْرِ الرَّجُل الّذي كان يُوالِيها بِظَهْرِه، فَسَقَط على الأَرض، في حين أَطْلَق جاسر وبهاء في نَفْس التَّوْقيت على الباقين، فَتَخَلَّصوا مِن الجميع.

سَقَطَ السِّلاحُ مِن كَفَّيْها، وهي تَضَعُ كَفَّيْها على أُذُنَيْها وتَصرُخ:

أنا قَتَلْتُه… أنا قَتَلْتُه!

ظَلَّت تُرَدِّدها بِصُراخٍ وهِستيريا، حتّى جَذَبَها راكان، يُحاوِطُها بِذِراعَيْه، يَضُمُّها بقُوَّةٍ إلى أَحضانه:

حَبيبتي… برافو عليكِ.

اِرتَجَفَ جَسَدُها، وسَقَطَ السِّلاحُ مِن يَدَيْها، تمْتَمَت بِذُعْر:

أنا قَتَلْتُه… أنا قَتَلْت شَخص!

جَذَبَها إلى أَحضانه، يَشُدُّ على عِظامِها حتّى شَعَرَت بألمٍ مِن قُوَّةِ ضَغْطِه:

إششش… اِهْدي، خَلاص، كُلُّه عَدّى.

ظَلَّت تَرتَجِف، وتَتمْتِمُ بِكلماتٍ هِستيريّةٍ، حتّى هَوَت بَيْن ذِراعَيْه.

❈-❈-❈

حَمَلَها مُتَّجِهًا إلى الأعلى، مُتَحدِّثًا لِبَهاء:

شوف حَدّ يِنَضَّف المكان يا بَهاء كُلُّه. جاسر، خُد المُصابين لِحدّ ما أَجيلك بُكْرَه ونِشوف هنتصرَّف إزَّاي.

ثُمّ صَعِدَ بِجَسَدٍ مُنتَفِضٍ على حَبيبتِه، مُتَّجِهًا بِها إلى الأعلى، وَضَعَها على الفِراش بِهُدوء، وكأنَّها أَغلى ما يَملِك.

حَبيبتي… اِفتَحي عُيونِك، يا قَلبي، خَلاص، كُلّ شيء عَدَّى.

جَلَبَ إحْدى عُطُورِها، وحاوَلَ إِفَاقَتَها، حتّى فَتَحَت عَيْنَيْها، وهَمَسَت له:

راكان… إِنتَ كُوَيِّس؟

جَذَبَها إلى أَحضانه، فهي مُثَلَّجَةٌ لِرُوحِه الحارِقَة، تَمرُّ على قَلبِه لِتَسكُنَ بَيْنَ ثَناياه:

ليلى… قَلبي، إحنا كُوَيِّسِين، حَبيبتي، مُمْكِن تِهْدِي؟ كِدَا بتُوجَعِي قَلبي.

تَحدَّثَت بِصَوتٍ مَبحُوحٍ مِن البُكاء:

أنا قَتَلْتُ واحِد يا راكان… مُوتُه وُقُوعُه زي الفَرْخَة.

أَخْرَجَها مِن أَحضانه…

حبيبتي، إنتِ مقتلتيش شيخ، دا مُجرم وكان هيْموتنا. يعني لو ما مَوّتِهوش، كان زمانه موتني.

ابتسم بمكر وهو يَهمس قرب شفتيها:

– شكل الفكرة عجبتك، وكنتي عايزة تتخلّصي مني، مش كِدا يا لُولَة؟

قالها وهو يَضع جبينه على خاصرتها، يتلمّس وجنتيها بِحنانٍ واشتياق.

وضعت سَبّابَتها على شفتيه، مرددة بحزن:

– اِسكت يا راكان… ممكن ما تِتكلمش خالص؟ مش عايزة أسمع صوتك، عشان قَفلت الباب في وِشي.

وضع رأسه في حنايا عُنقها، يَستنشِق رائحتها كَمُدمنٍ يَتلذّذ بجُرعته، وعيناه مُغمضتان، يَستودِعها بين أنفاسه، يُداعب عُنقها وهمساته ترتجف على بشرتها:

كنت هموت لو حصَلّك حاجة… بتِكتفيني يا ليلى. أمانِك أهم من حياتي، نفسي مرّة تِسمعي كلامي… مرّة واحدة بس.

أغمضت عينيها، وغرقت في حضنه الهانئ، وهمست قبل أن يُثقل النوم جفونها:

– كنت هموت لو حصَلّك حاجة…

❈-❈-❈

عند نوح، بعد خروج والده…

اتّجه نحو “أسما”، يُحدّثها وهو يَلتقط مفاتيحه:

أسما، عندي عملية هتأخّر فيها تقريبًا خمس ساعات، لو حابة أوصلك عند ليلى ودُرّة تعالي.

هزّت رأسها رافضة بلطف:

لا، أنا تعبانة وعايزة أنام، وكده كده الفرح بُكرة. روح خلّص عمليّتك وارجع بالسلامة.

جلس أمامها، ناظرًا في عينيها بقلقٍ خفي:

حبيبتي، لسه زعلانة مني؟

لم تعلم لِمَ آلمها قلبها فجأة، رفعت رأسها ونفت بهدوء:

مش زعلانة منك يا حبيبي… روح شوف شُغلك، وما تتأخرش عليّا.

أمال جسده إليها، هامسًا:

هرجعلك بسرعة… أوعي تنامي.

ابتسمت خجلًا وهي تُومئ برأسها، فطبع على جبينها قُبلة وداعٍ، ثم اتجه للخارج سريعًا.

وحدها في الغرفة، وضعت كفيها على أحشائها برِقة:

حبايب مامي… جِه الوقت اللي بابي يعرف بوجودكم. يلا عشان نِحضّر حفلة لبابا لما يرجع.

عندَ راكانَ وليلى، بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ…

اِسْتَيْقَظَتْ لَيْلَى مُتَأَلِّمَةً، تَضَعُ يَدَيْهَا على بَطْنِهَا، وَتَشْعُرُ بِأَلَمٍ فِي مَعِدَتِهَا. هَبَّتْ مِنْ فَوْقِ الفِرَاشِ، مُتَّجِهَةً إِلَى المِرْحَاضِ، تُخْرِجُ مَا فِي مَعِدَتِهَا.

كَانَ رَاكَانُ يَعْمَلُ عَلَى حَاسُوبِهِ فِي الشُّرْفَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ تَأَوُّهَاتِهَا، أَسْرَعَ نَاحِيَتَهَا، وَضَمَّهَا مِنْ الخَلْفِ يُسَاعِدُهَا عَلَى التَّقَيُّؤِ.

رَفَعَتْ كَفَّيْهَا وَهِيَ تَقُولُ بِأَلَمٍ:

– اِبْعِدْ يَا رَاكَانُ، لَوْ سَمَحْتَ…

آلَمَهُ مَنْظَرُهَا، فَانْحَنَى، وَجَلَسَ بِمُسْتَوَاهَا، وَرَاحَ يَمْسَحُ عَلَى خُصْلَاتِهَا، وَيَمْلَأُ كَفَّيْهِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهَا وَفَمَهَا بِرِقَّةٍ.

– لَيْلَى، خُذِي نَفَسًا بِرَاحَةٍ… وَجْهُكِ تَغَيَّرَ كَذَا لِيه؟

أَرْجَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ وَاهِنٍ:

– جِسْمِي بِيِرْتَعِش… مِشْ قَادْرَة.

ضَمَّهَا إِلَيْهِ بِقُوَّةٍ، ثُمَّ حَمَلَهَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ، وَاتَّجَهَ بِهَا إِلَى السَّرِيرِ، وَضَعَهَا بِلُطْفٍ، ثُمَّ نَزَلَ يُحَضِّرُ لَهَا شَيْئًا خَفِيفًا.

عَادَ إِلَيْهَا وَجَلَسَ جَانِبَهَا، وَقَالَ:

– لُولَة، قُومِي يَا حَبِيبَتِي، كُلِّي حَاجَةً بَسِيطَةً عَشَانْ مَعِدْتِكْ مَا تِوْجَعْكِيش.

وَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى كَتِفِهِ، وَهَمَسَتْ بِإِرْهَاقٍ:

– مَالِيشْ نَفْس…

أَخَذَ قِطْعَةَ خُبْزٍ مَدْهُونَةً بِالجُبْنِ الأَبْيَضِ، وَقَالَ بِرِقَّةٍ:

– دِي حَاجَاتْ خَفِيفَة وَمُغَذِّيَة، مَفِيهَاشْ حَاجَة… يَلَّا عَشَانْ خَاطِرِي.

فَتَحَتْ فَمَهَا بِإِرْهَاقٍ، وَبَدَأَتْ تَلُوكُ الخُبْزَ بِبُطْءٍ.

– لَيْلَى، لَازِمْ تَاكْلِي، حَتَّى لَوْ حَاجَة بَسِيطَة، إِنْتِ مِشْ شَايْفَة نَفْسِكْ بُقِيتِي إِزَّاي؟

رَفَعَتْ يَدَهَا، وَاحْتَضَنَتْ وَجْهَهُ، وَابْتَسَمَتْ بِخُفُوتٍ:

– هُوَّ أَنَا قُلْتْلَكْ قَبْلْ كِدَه… إِنِّي بَحِبَّك؟

تَنَفَّسَ بِعُمْقٍ، وَنَظَرَ فِي عَيْنَيْهَا، وَقَالَ:

– عُمْرِكْ مَا قُلْتِيهَا… أَكْتَرْ حَاجَة كُنْتِي بْتِقُولِيهَا: “بَكْرَهَك”.

لَامَسَتْ وَجْنَتَيْهِ، وَفَتَحَتْ شَفَتَيْهَا بِابْتِسَامَةٍ مَوْجُوعَةٍ، ثُمَّ أَرْدَفَتْ:

– عَشَانّي مِشْ بَحِبَّكْ… أَنَا بَعْشَقَك، إِنْتَ أَوَّلْ دَقَّة لِقَلْبِي.

فَاضَ الحُبُّ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَارْتَسَمَ عَلَى مَلَامِحِهِ، ثُمَّ اِنْحَنَى يُقَبِّلُ كَفَّيْهَا فِي صَمْتٍ، فَقَدْ تَاهَتِ الكَلِمَاتُ الَّتِي تُعَبِّرُ لَهَا عَنْ عِشْقِهِ.

، مِمَّا جَعَلَهُ يَهْمِسُ لَهَا:

– هَظْلِمْ حُبِّي لِيكِ يَا لَيْلَى، مفيش وَصْف فِي اللُّغَة يُوَصَّفْلِكْ أَنَا بَكُونْ حَاسِسْ بِإِيهْ مِنْ مُجَرَّدْ قُرْبِكْ بَس.

أمسكَ كَفَّيْهَا، وَوَضَعَهُ عَلَى نَبْضِ قَلْبِهِ، وَحَاوَطَهَا بِنَظَرَاتِهِ العَاشِقَة.

– دَا اتْأَلَّمْت كْتِير أَوِي قَبْل مَا أَعْرِفِكْ، وَحَتَّى بَعْد مَا حَبِّيتِك، اللِّي أَقْدَر أَقُولُهُ لَكِ، مَوْلَاتِي:

“إِنِّكِ العِشْقُ المَدْفُونُ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِي، وَعَقْلِي، وَرُوحِي، أَنْتِ الحَيَاةُ وَنَبْضُهَا.”

طَوَّقَتْ عُنُقَهُ مُقْتَرِبَةً مِنْهُ، فَجَذَبَهَا لِيَضُمَّهَا بِقُوَّةِ وُدٍّ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ فَرْمَهَا فِي أَحْضَانِهِ، يُحَطِّمُ عِظَامَهَا شَوْقًا.

سَادَ صَمْتٌ عَمِيقٌ مُتَخَمٌ بِالِاشْتِيَاقِ، لَمْ يَسْمَعَا فِيهِ سِوَى أَنْفَاسِهِمَا، تَظْهَرُ كَنِيرَانٍ تَشْتَعِلُ مِنْ وَقُودِ العِشْقِ.

قَرَّبَهَا إِلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا شِبْرٌ، تَعَثَّرَتِ الكَلِمَاتُ عَلَى شَفَتَيْهِ عِنْدَمَا رَآهَا مُغْمَضَةَ العَيْنَيْنِ، وَصَدْرُهَا يَعْلُو وَيَهْبِطُ بِطَرِيقَةٍ ملفتةٍ.

دَاعَبَ بِأَنْفِهِ وَجْهَهَا، وَقَالَ بِنَفَسٍ لَاهِثٍ:

– إِنْتِ عِشْقِي، وَحُبِّي، وَلَيْلِي، وَكُلُّ حَيَاتِي.

– مَوْلَاتِي وَجَنَّةُ عِشْقِي… لَقَدِ اشْتَقْتُ إِلَيْكِ اشْتِيَاقًا لا يُوصِفُهُ لِسَانٌ، وَلا يَسَعُهُ عَقْلٌ، بَلْ يُوَصِّفُهُ نَبْضُ قَلْبِي تَحْتَ يَدَيْكِ.

وَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى صَدْرِهِ، وَهَمَسَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:

– وَحَشْتَنِي يَا حَبِيبِي أَوِي…

❈-❈-❈

بَعْدَ عِدَّةِ سَاعَاتٍ مِنْ جَنَّةِ العِشْقِ الَّتِي حَاوَطَتْهُمَا دَقَّاتُ قُلُوبِهِمَا، وَنِيرَانُ عِشْقِهِمَا…

أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ وَانْعَكَسَ ضَوْءُهَا السَّاطِعُ يُدَاعِبُ عَيْنَاهُ، فَرَكَ شَعْرَهُ، شَعَرَ بِثِقَلِ رَأْسِهَا عَلَى صَدْرِهِ، رَفَعَ كَفَّيْهِ يُزِيحُ خُصْلَاتِهَا مِنْ عَلَى وَجْهِهَا، لَامَسَ وَجْنَتَيْهَا مَعَ ابْتِسَامَةٍ وَهُوَ يَجْذِبُهَا لِتَتَوَسَّدَ ذِرَاعَيْهِ، ظَلَّ يَرْسُمُهَا بِعَيْنَيْهِ كَفَنَّانٍ مُبْدِعٍ.. دَنَا يَلْمَسُ شَفَتَيْهَا عِنْدَمَا فَقَدَ سَيْطَرَتَهُ، شَعَرَتْ بِأَنْفَاسِهِ السَّاخِنَةِ عَلَى صَفْحَةِ وَجْهَهَا، فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا بِتَمَهُّلٍ، مُرْدِفَةً بِصَوْتٍ مَفْعَمٍ بِالنَّوْمِ:

-صَبَاحِ الْخِير، قَالَتْهَا مُقْتَرِبَةً تَدْفِنُ رَأْسَهَا بِعُنُقِهِ.

وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى أَحْشَائِهَا:

-صَبَاحِ الْخِير حَبِيبِي وَحَبِيبَةِ بَابِي، عَايِزْ أَسَجِّلْ أَجْمَلْ لَحْظَة فِي حَيَاتِي، تِعْرِفِي أَنَا وَمَامِي مِنْ زَمَانْ أَوِي مَا فَرِحْنَاشْ زَيِّ النَّهَارْدَه.

فَتَحَتْ جُفُونَهَا بِتَثَاقُلٍ وَرَفَعَتْ كَفَّيْهَا عَلَى وَجْنَتَيْهِ:

-طُولْ مَا أَنَا فِي حِضْنَكْ، دَا أَجْمَلْ صَبَاحْ يَا حَبِيبْ لَيْلَى..

اِنْحَنَى يَقْطُفُ قُبْلَتَهُ الصَّبَاحِيَّةَ، قَائِلًا بِغَمْزَةٍ مِنْ طَرَفِ عَيْنَاهُ:

-دِي عَشَانْ بِنْتِي الْقَمَرْ الِّلي أُمَّهَا مِنْ إِمْبَارِحْ عَمَّالَة تِقُولْ بِنْتْ بَسّ.

دَفَعَتْهُ وَهِيَ تَضْحَكُ بِهُدُوءٍ:

-طَيِّبْ، مُمْكِنْ تِبْعِدْ؟ عَايِزَة أَنَامْ كَمَانْ شُوَيَّة.. وَلَمَّا أَصْحَى هَنَشُوفْ مَوْضُوعِ الْبِنْتْ دِي.

ضَغَطَ بِذِرَاعِهِ مُطَوِّقًا خَصْرَهَا، يُهَمْسُ بِجِوَارِ أُذْنِهَا:

-هُوَّ أَنَا جِيتْ جَنْبِكْ؟ أَنَا بَعِيد، بَسّ إِنْتِي الِّلي بِتِتْحَرَّشِي فِيَّا عَلَى فِكْرَة، وَبِتِدْعِينِي لِلرَّذِيلَة.

لكمته بصدره

-راكان احترم نفسك، أنا منمتش غير ساعتين بس..انفرجت شفتيه بابتسامةٍ وهو يداعب وجهها بأنفه

– وحد قالك متناميش

تعلقت بعيناه مردفةً بصوتها الذي زلزل كيانه

-مقدرتش أنام وحبيبي وحشني أوي، كان رافع حصاره عليا، حتى فقدت الأمل في السعادة

داعبها وهو يسحب نفسا قائلًا

-عشان تحرمي تبعدي عني تاني، رفعت كفيها على وجنتيه وتعمقت بعيناه

-أول مرة أحس بالأمان وأحس إنك ملكي لوحدي امبارح، كل مرة كنت بكون خايفة تكون مع ..صمتت تطالعه بصمت للحظات وهو يطالعها بألمٍ ظهر على وجهه فتحدّثت وهي تلامس وجنتيه باصبعها

-متزعلش مني أرجوك، أنا بحبك أوي ياراكان، تعانقت أعينهما بتعانق نبض قلبهما ..مسحت رأسها بصدره كقطة أليفة وهي تكمل من جرح قلبها العميق

-حبك وصلني لعشق حدّ الوجع، وأنا بشوف نورسين بتقرب منك، دا صعب أوي مهما تقنعني أنها مهمة عشان شغلك، بس أنا ست ونار الغيرة بتولع فيا، عايزاك لنفسي، حبيبي يبقى حبيبي ال ميوجعنيش

جذبها لأحضانه يشد على عظامها وقلبه يدقّ كطبول حربٍ يتحسّس جسدها بكفيه، شهق شهقة خفيضة باسمها خرجت من رئتيه خفيضة ولكنها وصلت إليها بصوته المبحوح الدافئ

-ليلى عايزك تتأكدي أنا محبتش قبل كدا زي ماحبيتك، ولا ضعفت واتقهرت إلا معاك ودا إن دل يدلّ على عشق كبير أوي ..سحب نفسًا وزفره بهدوءٍ يلاطف بسخونته عنقها قائلًا

-هزتي عرشي بجد، ومش عيب أقولك إنك الوحيدة ال قدرت تخليني أتنازل عن كرامتي عشان مقدرتش أعيش بعيد عنك، حياتي بعيد عنك مالهاش طعم، يعني زي الإنسان الآلي

ارتجفت أوصالها من كلماته، وارتجفت شفتيها هامسةً له :

-وأنا كمان بحبك أوي، واتنازلت عشان قلبي بحاجات كتيرة، الحياة كانت معانداني أوي ياراكان من أول مادخلت الجامعة وحياتي اتقلبت، فضلت سنين بحارب لوحدي مكنتش بعتمد على حد لحد ماجيت عندك وقوتي اتلاشت واتنازلت عن ليلى بكامل شخصيتها، ماتمنتش غير إني أعيش حياة هادية وجميلة معاك ونجيب ولاد ونربيهم كويس، مع إن دا كان حلم بعيد أوي بس اتحقّق ورغم إنه اتحقق خايفة أصحى على كابوس

سحب نفسًا طويلًا يعبأ صدره المجروح وأخرجه على مهلٍ

-كنتِ بتفتكريني وإنتِ مع سليم ياليلى..تلألأ الدمع بعيناها ورفعت كفيها الذي ارتعش فجأة من قوّة سؤاله

-راكان أنا مش خاينة للدرجة دي، أمالت رأسها للأسفل كطائرٍ ذبيحٍ وأخرجت صرخة من جوفها إن دلت تدل على مدى قوّة أوجاعها بتلك الفترة، رفع ذقنها يتعمق بنظراته داخل عيناها مردفًا

-أنا متأكد إنك مش خاينة، تفتكري أنا ممكن أحبك الحب دا كله لو شكّيت إنك خونتي

رفعت أهدابها التي انطفأت فجأةً بعدما كانت تلمع من السعادة منذ قليل فتحدّثت

-أنا حاولت أعامل ربنا في علاقتنا، زي أي اتنين بيتجوزوا جواز صالونات، أنا حاولت أفهمه اني مش هقدر أحبه، بس هو أصر على جوازنا، أنا جيت قبل فرحنا بكام يوم وطلبت منه نفترق، كنت ضايعة ورغم كدا مكنتش قادرة أشيلك من قلبي، بس سليم رفض وقالي إنه بيحبني أوي، ولو سبته ممكن يخسر ثقته بنفسه، قالي هيحاول معايا، وفعلًا حاول معايا بس مقدرتش، والله ياراكان ماقدرت، حتى يوم دخلتنا، بكت بشهقاتٍ وهي تتذكّر ذاك اليوم الذي يعتبر أجمل الأيام للفتيات، رفعت نظرها إليه وتعلقت عيناها بعيناه

-هربت منه، بس هو مسمحش يعدي اللّيلة وقالي حقي، دخلت الحمام منهارة أكلم أسما، صرخت فيا وقالتلي إنك مقضيها في حضن واحدة

ضمّت نفسها لأحضانه وارتفع صوت نحيبها

-موت وقتها ياراكان، حسيت وقتها إني رخيصة أوي، طلعت لسليم وأنا بحارب قلبي وحلفت أمسحك بكلّ قوّة من قلبي وأدوس عليك، وحصل بعدها

ضغط على خصرها بقوة وهو يطبق على جفنيه متألمًا

-انسي الفترة دي كلها، احتوى وجهها بين كفيه يرسم ملامحها الجميلة بعينيه

-إنتِ ملكي أنا، تركته يفعل بها مايحلو له بدموعها

-إنسي ياليلى مش عايز افتكر ،بتمنى لو أفقد الذاكرة عشان انسى إنك كنتِ مرات اخويا،

-بحاول أنسى إن فيه حد تاني ، ااههه صرخ بها حتى هبّ واقفًا متجهًا للمرحاض، جلست تحتضن نفسها وتبكي بصمت “هيفضل معلم في حياتي طول عمري، عمرك ماهتنسى ياراكان، استمعت لتحطيم الأشياء بالداخل، أطبقت على جفنيها وتراجعت بجسدها للفراش كأنّها فقدت الشعور بما يصير حولها، دقائقٌ معدودةٌ حتى خرج من المرحاض، توقّف أمامها ينظر إليها بوجعٍ حتى شعر بانكسار ضلوعه من حالته، جلس أمامها وكأن الهواء انسحب من رئتيه، والألم الذي اجتاح كيانه يشعر به يجفّف الدماء من عروقه عندما وجد تورم شفتيها وعلامات على عنقها، رفع كفيه يتلمس شفتيها

-آسف محستش بنفسي، آسف بجدّ..تحدّثت بألمٍ يفتت عظامه

-مفيش حد بيتمنى الوجع لنفسه، بس أنا جبته لنفسي، طريقتك وتفكيري للأسف هي ال دمرتنا، لو كل واحد فينا اتنازل مكنش وصلنا لكدا، بس الحمد لله على كل حال، يمكن كان فيه حاجة هتحصل كبيرة لو كنا اتقابلنا من أول مرة

تبعته بمقلتين دامعتين

-انا آسفة كمان ياراكان، وبتمنّى نتعلم من أغلاطنا، كفاية ال خسرناه قبل كدا ..أمسكت كفيه ووضعته على أحشائه

-فيه هنا بذرة حبنا مش عايزة أخسرها، عايزين نربيها مع بعض

ثنى ظهره وقام بحملها متجهًا للمرحاض

-هنربيها ياحبيبي ومش بس كدا، ونجيب كمان أخ وأخت، شوفتي أنا ديمقراطي إزاي حبيبي

ابتسمت له متسائلةً

-واخدني على فين..همس بجوار أذنها

-نفسي أخد شاور مع مراتي إيه عيب ولا حرام..وضعت رأسها بحنايا عنقه

-طيب لو قولتلك عايزة أنام أهم حاجة..توقّف قبل دلوفه للمرحاض

-لما ناخد شاور، يبقى نامي لحد ميعاد الفرح، شكلك مش عاجبني أصلًا

وضعت رأسها على صدره

-ممكن أنم منك في البانيو على فكرة..قهقه عليها وغمز بعينيه

-طيب ما دا هيكون احسن حاجة

بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية

خرجت تتنقل كالفراشة بين شوارعها في ذاك الخريف، حيث الجو الممطر ونزول بعض الثلوج الخفيفة، اتجهت لصديقتها التي تعرفت عليها منذ مجيئها

-هاي رزان، اعذريني صديقتي لقد تأخرت عليكِ بعض الوقت

عانقتها رزان قائلة

-لا بأس صديقتي لقد وصلت للتو..تحركت وهي تعانق ذراعيها ويتجهون لأحد المقاهي فتحدثت بإبانةٍ

-صديقتي ستتزوج اليوم بالقاهرة، وددت لو حضرت حفلة زفافها، لقد حزنت كثيرًا

ربتت صديقتها على ظهرها

-لا تحزني صديقتي، فربما بالوقت القريب ستتقابلون وتقومين بتهنئتها

بعدت سيلين بنظراتها حزينةً

-ليت ينفع ذلك، فأنا موجوعة حتى لم يعد لدي شعور بالآلام، كفى عن ذاك الحزن وأخبريني

-ماذا سنفعل اليوم؟!

سحبتها متجهة لأحدى الأماكن، ولكن توقفت سيارة أمامهما وقامت بجذبهما داخلها

عند ليلى وراكان

خرجت من مرحاضها وهي ترتدي ثيابها الخاصة، اتجه لغرفة ثيابها، وأحضر لها بعض الثياب وقام بمساعدتها، ثم دثّرها لتغفو بسلامٍ

أمسكت كفيه تقبّله هامسةً بين النوم واليقظة

-“بحبك” كان لواقع كلمتها سحر خاص، فكلما أردفت بها كأنه لأول مرة يستمع إليها

مسد على خصلاتها بحنان ثم أمال هامسًا لها

-وأنا بعشقك، قاطعهما صوت هاتفه، أمسكه وجده نوح، فخرج بهدوءٍ بعدما أطفأ الإضاءة

-عايز ايه ياحلوف؟! توقف وكأن أنفاسه سحبت منه دون رحمة وهو يستمع إلى أسما تبكي

-نوح فيه حد هجم عليه وضربه جامد وإحنا في المستشفى..هوى الهاتف من يديه يهمس باسمه”نوح”

بعد شهرٍ تقريبًا

جلست تضع الطعام أمام ابنها

-ميرو مامي عايزة الأكل دا كله يخلص عشان ميرو يروح يلعب مع بابي لما يخلص

صفّق بيديه وهو يقوم بفتح فمه، قاطعهما دلوف العاملة

-مدام ليلى فيه واحدة برة عايزة تقابل حضرتك ..اعتدلت تنظر للعاملة

-مين دي أنا أعرفها..فركت الخادمة كفيها تنظر إلى زينب قائلةً

-معرفش حضرتك تعرفيها ولا لا، بس زينب هانم تعرفها ..

ضيقت زينب عيناها متسائلةً :

-مين دي يانعيمة ال أعرفها وعايزة ليلى..دلفت حلا وهي تمسك بكفيها طفلًا يبلغ من العمر أكثر من سنةٍ ونصفٍ

-أنا ياماما زينب، إزاي حضرتك..نهضت ليلى تنظر إليها بأعين جاحظةٍ وقلبٍ ينتفض ألمًا بخروج راكان من مكتبه وهو ينادي عليها

-ليلى اجهزي اتأخرنا… ولكنّه قطع كلماته عندما وجد حلا أمامه، استدارت إليه

-عامل ايه ياراكان..قطّب جبينه مردفًا

-حلا!! ايه ال فكرك بيا؟  ..أشارت على ابنها

-سليم هو ال فكّرني بيك، ابنك أولى بيك

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية عازف بنيران قلبي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق