رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 الفصل الثامن 8 – بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الثامن

 

 

الفصل الثامن(سكينة لا تُطمئن)

❀༺༻❀✧

رواية: ❝الـمــاســة الـمــكـســورة2💎💔

العودة (عناق الدم)❞

بقلمي: لَـيْـلَـةعَـادِلْ

✧❀༺༻❀✧

{“من أَلِفَ الخوف، رأى السكينة فخًّا، وظنَّ الحضن قيدًا، والكلمة الحانية خنجرًا مختبئًا في الغياب.كيف يطمئن لطمأنينةٍ، وقلبه ما زال ينزف من أمسه؟إنه يرى في العناق أسْرًا، وفي الكلمات الدافئة شِباكًا،كأن الحب عنده مؤامرةٌ تُخفي أنيابها وراء ابتسامة رحيمة.”}

ليلةعادل ✍️🌹

الفصل الثامن♥️🤫

[عنوان: سكينة لا تُطمئن ]

أخذ ذلك الرجل يصورهما في ذلك الوضع، ثم ابتعد ببطء، هبط عبر المواسير، إذ كانت نانا تسكن في الطابق الأول، كان هذا الرجل يخفي وجهه بغطاء أسود، ثم صعد إلى سيارته، رفع الغطاء، فبان  جهه لكننا لم نتعرف عليه؟! أمسك هاتفه وهو يشاهد الفيديو الذي صوره لعزت ونانا، ابتسم ابتسامة غامضة، ثم أنطلق بسيارته مبتعدا.

في الداخل، كانت نانا قد ارتمت على صدر عزت، تمرر أناملها على كتفه، وهمست بنبرة دافئة: شكلي كنت وحشاك.

تنهد عزت وهو يغمض عينيه: اممم.

رفعت نانا رأسها وهي تنظر في عينيه: بس أنا زعلانة منك، بقي هان عليك تغيب عليا كل الفتره دى.

عزت بضجر: هو أنا كنت بلعب؟

نانا بإبتسامة ماكرة: يمكن، طب مش بتفكر نسافر سوا؟

عزت بتأيد: ياريت، أنا فعلا محتاج السفر جدا، محتاج افصل.

رفعت حاجبها واقتربت أكثر وهمست بخبث: طب قولي، عامل إيه مع فايزة؟ كويسين مع بعض؟

نظر لها عزت متعجبا: عادي، زي ما هي، بتسألي ليه؟!

نانا بخبث: أصل متوقعة بعد إللي حصل من سليم، تبقى ضاغطة عليك أكتر.

هز عزت رأسه نافيا: لأ، كل حاجة زي ما هي.

نانا في سرها بإبتسامة باردة: غريبة؟!

صمتت نانا لحظه وهى تحدق في وجهه بنظرات طويله: يعني الأمور بينكم تمام؟

عزت: آه تمام، قومي أعمليلي حاجة أشربها.

نانا بدلال وهي تهز كتفيها: من عيوني.

ارتدت الروب بخطوات متأنية، واتجهت إلى المطبخ لتعد عصيرا، وبينما هي هناك، جاءها إشعار برسالة، فتحتها، فإذا بالفيديو أمامها، اتسعت عيناها، وارتسمت الصدمة على ملامحها، وأنقبض قلبها، وفي لحظة التوتر، جاءها صوت عزت من الداخل: بتعملى ايه كل ده يا نانا؟!

نانا بصوت مرتجف وهي تحاول التماسك: حاضر، جاية اهو.

أغلقت الهاتف سريعا، وحذفت الرسالة، ووجهها مخطوف من الرعب.

على جانب آخر في قصر الراوي،

داخل غرفة فايزة.

كانت تستعد للنوم، تخلع الروب الذي ترتديه فوق القميص الطويل، ترفع شعرها وتتنهد بتعب جلست على الفراش، فإذا بإشعار يصلها، فتحته، فإذا بالفيديو ذاته أمامها، اتسعت عينيها، واشتعل الشرر فيهما، قبضت على الهاتف حتى كاد يتحطم بين يديها، ثم فجأة ألقت به أمامها بقوة وهي تهتف بغيظ مكتوم: كده كتير، كتييير.

💞_________بقلمي_ليلةعادل

فيلا سليم وماسة الجديدة الواحدة صباحا

غرفة نوم سليم

كان سليم مازال مستلقيا على ظهره حين بدأت عيناه تتحركان ببطء، نظر من حوله بتنهيدة مثقلة وهو يرمق الساعة فإذا بها قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، مسح وجهه بكفه بتعب، ونهض من الفراش، واتجه إلى الخارج.

مر بجانب غرفة ماسة، فتوقف أمام الباب، مترددا بين أن يدخل أو يمضي في طريقه، كان قلبه يلح عليه أن يطمئن عليها، بينما عقله يوسوس له أن يتركها وشأنها، كاد أن يبتعد، ثم تراجع بخطوة صغيرة، مد يده إلى المقبض، وفتح الباب بشيء من الحذر، في الفتحة الضيقة لمحها نائمة، ساكنة، كطفلة غارقة في أحلامها اتسعت الفتحة قليلا، واقترب منها خطوة بعد خطوة، وكلما اقترب ازدادت صورتها وضوحا أمام عينيه، كأنما النور بأكمله يتجمع في ملامحها.

حتى اقترب منها بإبتسامة مشبعة بالشغف والحنين، جلس على ركبتيه قريبا منها، يمرر بصره على ملامحها بعشق جامح واشتياق يعتصر فؤاده، عينيها المغمضتان، شعرها المنسدل على الوسادة، شفتيها، وجنتاها، حتى كفاها الصغيران، كلها كانت تنسج حوله سحرا يعجز عن مقاومته.

وقف للحظات يتأملها من بعيد، صدره يعلو ويهبط بشوق مكتوم، يتمنى لو يقترب منها أكثر، لو يشم ليس عطرها الزائل، بل رائحة جسدها نفسها، دفء جلدها المميز، أنفاسها الصافية وهي نائمة، لكن تلك المسافة القصيرة التي تفصل بينهما كانت كالجدار يحول بينه وبين ما يريد.

ظل مترددا، يمد رأسه قليلا ثم يتراجع، يعض على شفتيه وكأن قلبه يلومه، لحظة طويلة عاشها بين أن يبقى بعيدا أو يستسلم لجنونه، وأخيرا، غلبه الحنين، نهض وتمدد بجسده بجوارها، تاركا مسافة ضئيلة تفصل بينهما.

مد سليم يده المرتجفة بخفة، كأنها تخشى أن توقظها أو تكسر الحلم الذي يعيشه، مرر أصابعه بين خصلات شعرها الناعم، شعر بحرارتها تسري في أنامله وتلسع قلبه في الوقت ذاته، كل لمسة كانت اعترافا بالعشق والوجع، أمسك بعض الخصلات وأخذ يستنشق عبيرها المميز بهيام وهو مغمض العينين للحظات مرت عليه وكأنه يأخذ من تلك الخصلات هدوءه.

فتح عينه، واقترب بوجهه من وجهها، حتى صار يسمع أنفاسها قريبة، دافئة، كأنها حياة جديدة تنفخ في صدره، أغمض عينيه، وبدأ يستنشق بعمق، مرة عبير شعرها الملقى على الوسادة، ومرة أنفاسها التي تهب على وجهه، كان يتنفسها كما يتنفس المريض جرعته الأخيرة من الأمل، وكأنها أكسجين لا غنى له عنه.

لم يكتفِ، بل ظل يستسلم أكثر، يشرب رائحتها وكأنها أغلى من الدنيا كلها، لم يعد يميز إن كان قلبه يتضخم ألمًا أو عشقًا، شعر بتلك القشعريرة التي اجتاحت جسده، وكادت دموعه تنفلت وهو يهمس في داخله “ليتني أضمك الآن”

اقترب أكثر، مد كفه حتى كاد يلامس وجنتها، فمرر كفه في الهواء بمحاذاتها، كأنما يطبطب على جرحه لا على بشرتها، أحس برعشة تتخلل جسده كله، كأن قلبه تضخم حتى لم يعد يحتمله صدره، أغمض عينيه ثانية، وتخيلها بين ذراعيه، قبل أن تفر دمعة موجوعة من عينه، دمعة محبوسة أفلتت أخيرا.

ومعها بدأ يحدثها بصوت داخلي منكسر، حزين، يفيض بالوجع والندم والمرارة وجلد ذات: عارف إن أنا إللي عملت فينا كده، انا السبب، أنا إللي بنيت بإيدي الجدران دى بينا، حتى لو كنت مظلوم وضحية لعبة صافيناز القذرة، بس أنا السبب..

مرر عينه على ملامحها الساكنة بعينين مثقلتين بالندم أضاف: لو كنت سمعتك وقت اما هربتي، لو كنت اديت لنفسي فرصة أسمعك، وركنت كبريائي ووجعي وقسوتي على جمب، مكانش كل ده حصل؟!

أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما ببطء، يراقب ارتجافة شفتيها في نومها بألم اضاف: إحنا انتهينا في اللحظة إللي دخلتك فيها الفيلا المشؤومه دى، كنت بنهيكي بإيدي، جرحي ووجعي منك عموني وخلوني زي المجنون، وأذيتك!! أذيت مراتي حبيبتي!! اذيت اللى أغلي عليا من روحي ونفسي!!

زفر بعمق وهو يضم يديه معا، كأنها تكبله، تابع بنبرة موجوعة:

إيه المشكلة لما توجعيني شوية؟ ما إنتِ وجعي.

إيه المشكلة لما تكسري كبريائي؟ ما إنتِ كبريائي.

ايه المشكلة لما تجرحيني ؟! ما إنتِ دواء جراحي.

ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه، ممزوجة بالوجع: إنتِ أنا، إنتِ البداية والنهاية، دنيتي وروحي ونفسي، ضعفي وقوتي، إنتِ كل حاجة ليا، إزاي قدرت أعمل فيكي كدة؟! إزاي؟!

ترقرقت الدموع في عينيه وهو يطيل النظر إلى ملامحها الهادئة: ايه يعنى زعلتيني وجرحتيني، وجيتي على كرامتي مره؟! طب ما أنا جيت عليكي كتير ووجعتك أكتر، وكنتي بتنسي وتسامحيني، ليه أنا سلمت نفسي للقسوة؟ ليه؟!

خفض رأسه، ثم رفع عينيه إليها من جديد بعتاب محب:

بس أنتِ برضو غلطتي، لما عاندتي، يمكن لو كنتي أهدى ومعندتنيش كنتي عرفتي تسيطري على جنوني، ومكناش وصلنا لهنا..

عض على شفتيه وهو يحبس شهقه كادت أن تنفلت منه، وداخله يصرخ بإصرار: بس أنا مش هقبل بالنهاية دي، مش هقبل بخيالات تاني، أنا مش هقبل غير بحقيقة واحدة “إنك ترجعي تاني جوة حضني”.

اقترب منها قليلا، رفع يده ارد ان يلمسها، لكنه توقف، يده ترتجف في الهواء قبل أن يسحبها من جديد، نظر إلى وجهها بلهفة مكتومة، وابتلع غصته بصعوبة واصل: ترجعي لحضن سليم، حبيبك إللي ملهوش في الدنيا غيرك، وإللي بيتمنى يسمع منك كلمة واحدة ترد له روحه من تاني، أنا عايش بالأمنية، باللحظة دي، بس المرة دي هكون سليم بس، من غير الراوي، اللعنة إللي بتجري جوة دمي.

شرد بعينيه في تفاصيلها، وعقله يئن من الشوق الذي يشتعل كالنار داخل قلبه: آاااه يا ماســة، آاااه لو تعرفي أنا نفسي أعمل إيه دلوقتي؟! نفسي آخدك جوه حضني، وأموت جوه حضنك مش عايز حاجة تاني.

لكن يده ظلت معلقة في الفراغ، لا تجرؤ على لمسها، أكتفى بارتجافة أصابعه وهو يسحبها ببطء نحو صدره.

وأضاف بيقين عاشق: عندي يقين إنك هتسامحيني، يمكن مش دلوقتي، بس هيحصل، لإني واثق في قلب قطعه السكر..

تدفقت دموعه بلا مقاومة، والندم غلف صوته الداخلي حتى خُيل إليه أنه يسمعه بصوت مرتعش، ظل يتأملها، يشبع عينيه من صورتها فأخيرا شعر بالراحة بعد عذاب شهور، وأخيراً اطمأن قلبه، ها هي تلك العصفورة التي هجرت عشها قد عادت، لكن عليه هذه المرة أن يحافظ عليها، لا بالقيود ولا بالأقفاص، بل بالحب.

وظل هكذا يرمقها، حتى استسلم للنوم بجوارها، بعد وقت، كان سليم مازال غارقا في النوم بجوارها، وذراعيه ممدودة بجانبه، فالتفت ماسة بجسدها بين ذراعيه دون وعي، حتى استقر رأسها على صدره، كأنما يحتضنها من غير قصد، وظلت نائمة بين أحضانه حيث تنتمي، وظلا هكذا  لا حد فيهم يعلم أنه بين أحضان الآخر.

وبعد قليل، بدأت عيني ماسة تتحركان ببطء بين إغماضة وأخرى، كأنها مازالت تتأرجح بين النوم واليقظة، ومع كل ومضة وعي كانت تستشعر دافئاً غريباً يحيطها، حتى تنبهت فجأة لرأسها المستنده على صدره بجانب قلبه الذي يعشقها، وذراعيه الملتفة حولها، ارتجفت في مكانها، وشهقت بصوت مكتوم، وانتفض جسدها قليلا كأنما لدغتها صاعقة.

انسحبت بخفة، ابتعدت قدر ما استطاعت، ثم رفعت عينيها نحوه، ترمقه بإضطراب شديد، حاجبيها معقودان، وصدرها يعلو ويهبط من الإنفعال.

انكمشت أصابعها على الملاءة، وهي تعض على أسنانها بقهر، اللوم يجلدها من الداخل “كيف تركت نفسها حتى غفت بين ذراعيه؟! أي ضعف هذا؟! ”

أغمضت عينيها لحظة، كأنها تود محو المشهد، لكن عينها وقعت على دمعة رطبة مازالت عالقة عند طرف عين سليم، دمعة ثقيلة كسرت شيئا في قلبها.

تمتمت من بين دموعها وهي تهز رأسها بوجع ولوم: أنت السبب، أنت إللي وصلتنا لهنا، أنت إللي عملت كده في نفسك وفيا، الله يسامحك على كسرتك لقلبي، يا كل قلبي!

اخذت تنظر له لحظات، والكثير من المشاعر تتلاطم بداخلها كالأمواج، حب، شوق، وجع، إنكسار، أنقبض صدرها فجأة، وغصة حارة ارتجفت في أعماقها، سالت دموعها من غير وعي، قلبها يخونها، يهتز أمامه.

فجأة مدت يدها مترددة، أمسكت دمعته بسبابتها، قربتها من شفتيها، وقبلتها، ثم وضعتها على صدرها وأغمضت عينيها، وكأنها استسلمت للحظة.

اقتربت أكثر، وهي تراقب ملامحه الساكنة، اقتربت لتسرق من قربه أنفاسًا حقيقية وظلت هكذا مستسلمة للحظة، وفجأة ابتعدت كأنها ارتكبت خطيئة، تذكرت آخر ليلة معه الضرب، الخنق، الحزام، محاولته لكسرها، وضعت يدها على صدرها، تضرب عليه بعنف، كأنها تريد أن تسكت قلبها الذي لان له كزهرةٍ انحنت لنسمة رقيقة له.

قالت بنبرة هامسة ودموع: مش هسامحك، مش هسامحك ياسليم، هعلم قلبي يقسى عليك زي ماقسيت عليا.

قفزت من الفراش فجأة، واندفعت إلى الحمام، ألقت الماء على وجهها، نظرت إلى المرآة أمامها، وكأنها تصرخ في انعكاسها: أوعي تستسلمي، مش وقت غباء، أنتِ هنا عشان تاخدي حقك، مش بالعند المرة دي يا ماسة، بالحق.

هبطت إلى الطابق السفلي، وقفت أمام النيل تفكر فيما سيحدث لها، وماذا ستفعل كي تتخلص من سليم، فلن تستسلم تلك المرة للإهانات أو للعقاب أو للتهديد او أي شيء، لن تجعل أحد يستغل قلبها البرئ أو خوفها على عائلتها مرة أخرى، ظلت غارقه في أفكارها حتى بدأت خيوط الشروق تتسلل.

على إتجاه آخر عند سليم

بدأ سليم يتململ على الفراش، فتح عينيه ببطء، ينظر حوله كأنه لا يستوعب المكان، ثم انتفض فجأة، عندما تذكر أنه في غرفتها، ألتفت إلى جواره فلم يجدها، تسارعت أنفاسه، نهض مسرعاً يفتش بعينيه في المكان، وهو ينادى عليها بخوف، كأنه يخشى أن تكون هربت منه مره أخرى.

سليم بخوف: ماسة ماسة

لكن باب الحمام كان مفتوحاً وفارغا، انقبض قلبه وذهب بخطوات مترددة نحو الشرفة، فرآها تقف عند ضفاف النيل، صامتة، فالتقطت أنفاسه براحه، ورفع يده ووضعها على قلبه يربت عليه كأنه يطمئنه، وأخذ يتأملها لدقائق، ثم استدار، وخرج إلى غرفته، وتوضأ ليستقبل صلاة الفجر.

غرفة سليم

كان سليم جالسا على سجادة الصلاة يؤدي صلاة الفجر، وفي آخر ركعة، حين سجد، امتلأت عيناه بالدموع، أخذ يهمس في البدايه بصوت هامس مرتعش، ثم ما لبث أن ارتفع صوته شيئا فشيئ، كأن قلبه لم يعد يحتمل:

اللهم لك الحمد يارب، شكراً يا رب إنك رجعتهالي بخير،  شكرا يارب إنك سترتها معاها وحافظتلي عليها، أنا كان عندي يقين إنك مش هتكسر رجائي، كنت متأكد إنك هتردهالي سالمه ومش هتعاقبني بيها، أنا ضعيف يا رب، ضعيف ومكسور، خليك معايا يارب وقويني عشان مرجعش تاني للظلام إللي كنت فيه، حنن قلبها عليا يارب، خليها تسامحني، أنا عارف إني ظلمتها وجرحتها، بس أنت الكريم العظيم، قادر تخلي قلبها يرق، قادر ترد حبها ليا تاني زي ما رجعتهالي يارب، أنا مش عايز من الدنيا غيرها، عايزها معايا وبس، مش عايز فلوس ولا سلطه ولا أي حاجه، نفسي بس تبص في عيني وتقولي إنها مسمحاني ولسه بتحبني، نفسي أعيش معاها حياة هادية وسعيدة ونحقق إللي حلمنا بيه، نعيش ونخلف ونعوض كل إللي راح مننا، يا رب متحرمنيش منها ولا توجعني بيها، أنا مش قد الاختبار لو كان في بعدها عنى يارب، يارب حنن قلبها عليا المره دى وخليها تسامحني وأنا أوعدك إني أكون راجل يستاهلها ومش هازعلها تاني.

انفجر سليم بالبكاء، والدموع كانت تسبق كلماته وتنساب على وجهه وهو ساجد، في مشهد يفيض خضوعا ووجعًا.

وعند باب الغرفة، وقفت ماسة، كان الباب مواربا، فسمعت صوته وهو يناجي ربه، توقفت في مكانها للحظة، كأنها لم تتوقع أن تراه هكذا، لم تدري ما الذي شدها إلى الاستماع له، ورؤيته معذب كهذا.

رق قلبها له، واغرورقت عينيها بالدموع، أوشكت أن تستسلم لحرارة كلماته وصدقها، لكن سرعان ماقاومت ذلك الشعور، وهزت رأسها نافية، وهمست بصوت مبحوح: أدعي، يمكن ربنا يستجيبلك.

تنهدت، وتحركت الى غرفتها ، اقتربت من السرير واستلقت على أحد جانبيها دون أن تنطق بكلمة، بعينين تترقرق بهما الدموع، تذكرت كلماته ودموعه، غص قلبها الذي مازال يعشقه مازال يحن له بعد كل ما فعله، أمسكت الغطاء وغطت وجهها وغفت سريعًا، لكن لا أحد يعلم إن كان نومها هذا هروباً من صدمة عودتها إليه، أم هروباً من مشاعر حنين وحب لا تريدها، أم استسلاما بعد طول صراع وهلاوس وخوف.

نامت لساعات طويلة كأنها لم تذق طعم النوم منذ سنين، وسليم أيضا نام لأول مرة بطمأنينة بعد ستة أشهر من العذاب ولما لا؟ فأخيرا بجواره حبيبته وزوجته وروحه، فما الذي قد يخيفه بعد الآن؟

نام حتى الظهر، وعندما استيقظ، وجدها لا تزال غارقة في نومها، خلال الساعات، كان ينهض بين الحين والآخر ليتفقدها، يقترب من أنفاسها، يضع يده على صدرها ليتأكد أن قلبها يخفق بسلام، ثم يعود مطمئنا، مستغرباً من نومها لكنه تركها.

💞__________بقلمي_ليلةعادل

في المستشفى الخاص الواحدة ظهرا

الغرفة التي تمكث فيها والدة لوجين.

كانت نهي والدة لوجين، ممددة على الفراش وقد بدأت تستعيد وعيها، بينما لوجين على مقعد بجوارها ممسكة بيدها، بينما شقيقتها نغم جلست صامتة بجانب السرير، وجلس ياسين على الاريكه قد غلبه النوم، مسندا رأسه إلى الحائط.

ضغطت لوجين على يد والدتها بحنان: حمد لله على سلامتك يا ماما، أنا كنت هموت من القلق عليكي.

ردت نهى بصوت متعب لكنه مطمئن: أنا الحمد لله يا حبيبتي، متتخضيش كده، أنت عارفة الأزمه

ثم حركت عينيها في الغرفه، ونظرت بتساؤل نحو ياسين النائم على الاريكه: مين ده؟

إلتفتت لوجين لياسين، وابتسمت لوهلة، ثم عادت بنظرها لوالدتها: ده مستر ياسين، المدير بتاعي، لما حصلتلك الأزمة كنت معاه، مسبناش من إمبارح، استني أنا هنادي الدكتور يطمنى عليكي.

قالت نغم بهدوء: لا، خليكي، هروح أنا.

وبالفعل خرجت نغم لتجلب الطبيب، وما هي إلا لحظات حتى عادت ومعها الطبيب.

القي عليهم الطبيب التحيه، ثم اقترب من نهي وبدأ بفحصها: لا عال العلامة الحيويه النهارده أحسن من امبارح بكتير، وممكن اكتبلك على خروج النهارده كمان مع نوع بخاخ جديد تستخدميه.

لوجين بقلق: يعني هي مش محتاجة تقعد النهاردة كمان على الجهاز ؟

الطبيب بعمليه: لا مش محتاجة، بس طبعاً هتعمل جلسة النهاردة بالليل، أنا بلغني إن عندها جهاز في البيت، مظبوط؟

لوجين بابتسامه: آه يا دكتور عندنا جهاز في البيت، شكرا لحضرتك.

الطبيب بابتسامه: حمدالله على سلامتها، عن اذنكم.

وخرج الطبيب من الغرفة، وعقب خروجه نظرت لوجين إلى ياسين، واقتربت منه توقظه بصوت هادئ: مستر ياسين .. مستر ياسين

لم يستيقظ، فربتت بيدها على كتفه بهدوء: مستر ياسين

فتح ياسين عينيه فجأة بخضة: لوجين؟ فيه حاجه حصلت ؟ مامتك حصل لها حاجه؟

لوجين بنبره هادئه: لا اهدى أنا بس بصحيك، علشان الدكتور هيكتبلها على خروج وهنمشي.

جلس وهو يحك في عينه وقال باستغراب: هو أنا نمت كده امتي؟!

ضحكت لوجين بخفة: دي أنت كان فاضل لك شويه وتشخر.

رد ياسين وهو يحاول أن يستعيد تركيزه: لا أنا مش بشخرش يا رخمة.

ثم وجه نظراته نحو والدتها، واقترب منها وهو يبتسم بتهذيب: حمد لله على سلامتك يا هانم، ألف سلامة على حضرتك.

ابتسمت نهى بلطف: الله يسلمك، تعبناك معانا، لوجين قالتلي إنك مسبتناش.

ياسين بإبتسامة خفيفة: ولا يهمك يا هانم، دي حاجة بسيطة، أهم حاجه سلامتك، لوجين كانت منهارة خالص.

نظرت نهى لإبنتها وهي تمسك يدها: هي لوجين كده، حساسة ومبتتحملش.

ياسين بهدوء: طب أسيبكم تجهزوا براحتكم بقي، هستناكم برة.

لكن ردت لوجين: لا إستنى أنا هاجي معاك، خليكي أنتِ هنا ينغم ساعدي ماما.

خارج الغرفه، كان يسير بجوارها ويقول بتساؤل: أنتِ رايحة فين؟

لوجين ببساطة: هأدفع الحساب.

اتسعت عيناه بدهشة: حساب إيه؟

لوجين بهدوء: حساب المستشفى.

هز رأسه بسرعة مبتسما: الحساب اتدفع خلاص.

اعترضت لوجين بإصرار: مش هينفع، كفاية اوي إنك جبتني هنا وفضلت جنبي، أكتر من كده مش هينفع.

ابتسم ياسين وهو يرفع حاجبيه: وإيه إللي مش هيخليه ينفع؟

لوجين بإحراج وتلعثم: أصل يعني…

قاطعها ياسين بنبرة مازحه: بلا أصل بلا فصل، أنا مصدع يا لوجين وشايفك تلاتة دلوقتي، فروحي شوفي والدتك وبطلي كلام عبيط.

لوجين بإمتنان: أنا مش عارفه اشكرك ازاى يا ياسين، طب خلاص روح أنت علشان ترتاح.

هز رأسه رافضا: لا هوصلكم الأول وأطمن عليكم، وبعدين ابقي اروح.

نظرت له بإبتسامة صغيرة: طب خليك هنا دقيقة وجاية لك.

تركته يتحرك بين المقاعد، حتي جلس بإنهاك على أحد المقاعد، فمازال أثر السهر ظاهرا عليه، عادت بعد دقائق وهي تحمل بين يديها قطعة كيك وشاي.

مدتهم اليه بإبتسامة: اتفضل

ياسين باندهاش: إيه ده؟

لوجين بخفة: روحت اجيبلك حاجه خفيفه تاكلها، أنت مأكلتش إمبارح كويس.

ابتسم وهو يأخذ منها الكوب والكيك: تسلمي.

لوجين بنبرة صادقة: شكرا بجد يا ياسين على إللي عملته معايا، مش عارفة أقولك إيه.

لوح بيده وكأنه يقطع كلامها: متقوليش حاجة، وروحى شوفي مامتك، أنا هخليهم يحضروا العربيات، وأنتِ النهاردة وبكرة أجازه لحد ماتطمني على مامتك.

نظرت له بعينين ممتنة: شكرا.

تحركت هي إلى الداخل، بينما جلس هو يحتسي الشاي ويأكل الكيك، ألتقط هاتفه ليتفقده، فاكتشف أن هبة لم تتصل به!!! زفر بحدة؛ هو الذي قضى ليلته خارج البيت، ومع ذلك لم تكلف نفسها حتى بالاتصال لتسأل عنه أو تطمئن عليه، ضغط على أسنانه غيظا، ثم أعاد الهاتف إلى جيبه.

الخامسه مساءا، أمام عمارة لوجين.

ترجل ياسين من سيارته، ترافقه لوجين ووالدتها وشقيقتها ثم توقفا أمام العمارة.

نهى بإبتسامة ممتنة: شكرا يا ياسين، تعبناك معانا.

ياسين بلطف: مفيش أي تعب، ألف سلامة على حضرتك.

دخلت نغم مع والدتها إلى الداخل، فيما توقفت لوجين للحظة بجوار ياسين.

نظر إليها باهتمام وقال: لو احتاجتي أي حاجة، كلميني.

ابتسمت بخجل وهي تعبث بحقيبتها: شكرا يا ياسين، أنا مش عارفة أقولك إيه بجد، ربنا يخليك، تعبتك معانا.

هز رأسه بخفة، ونبرة صوته هادئة: ولا يهمك، المهم إنها بخير.

سألته وهي تعدل شنطتها على كتفها: طب، وأنت هتعمل إيه دلوقتي؟

ضحك بتعب، ومرر يده فوق شعره المبعثر وقال مازحا: هروح أنام، بقولك شايفك تلاته

ضحكت بخفه وقالت: طب خد بالك من الطريق بقي لتنام وأنت سايق، سلام

رد بإبتسامة قصيرة: سلام.

تحركت لوجين إلى داخل العمارة، بينما ظل ياسين واقفا لثواني يتأمل ابتعادها عن مرمي نظره بصمت، ثم صعد إلى سيارته، وشغل المحرك ورحل.

💞__________بقلمي_ليلةعادل

داخل أحد النوادي الكبيرة الرابعة مساء.

جلس رشدي ومي على طاولة أمام بعضهما، بينما كانت مي تتناول الآيس كريم ببطء، يظهر على ملامحها الحيرة في المقابل بدي رشدي متحمسًا، عيونه تلمع وكأنه يجهز لشيء كبير.

رشدي وهو يميل للأمام بحماس: أنا مش فاهم برده إيه مشكلتك؟! قولتلك الهانم بنفسها وأختي الكبيرة هيستقبلوكي على باب القصر، ولو مشفتيهمش يا ستي روحي، حبة ثقة شوية يعني هبقى جوزك المستقبلي كدة مينفعش.

مي بتوضيح: قولتلك مش قصة ثقة.

رشدي متعجبا بنبرة ساخرة: آمال إيه؟! بعدين الجو القديم إللي أنتِ عاملاه ده، بتاع عيب أجي بيتك، أهلي ناس معروفين، خايفة من إيه؟

تنهدت مي وهي تنظر للكوب أمامها: قولتلك أنا مختلفة عنك، لو أنتم عندكم الكلام ده عادي عندنا مش عادي؛ يعني أنا مينفعش أخش بيتك غير لما يبقى في بيننا علاقة رسمية، وحتى وإحنا مخطوبين مينفعش اجي غير لما أكون معرفة أهلي وواخدة حد من إخواتي معايا كمان.

رشدي بهدوء: طب ما أنا قولتلك، هاتي حد من إخواتك، أو والدك معاكي لو دى هيريحك.

هزت مي رأسها بحزم: قولتلك مش هاينفع، لسة ميعرفوش حاجة.

رشدي بنفاذ صبر: طيب، أنا دلوقتي مطلوب مني أعمل إيه؟

غرزت مي الملعقة في الآيس كريم دون أن تأكل: مش عارفة يا رشدي أنا حابة أتعرف على عيلتك بس…

صمتت للحظات ثم تنهدت وقالت: خلاص خليها يوم الأربعاء، بس أسمع، لو ملقتش والدتك بتستقبلني بنفسها على باب القصر زى ماقولت، أنا همشي.

رشدي بإبتسامة واثقة: ماشي، طب هنعتبر إنك جيتي القصر والدنيا عجبتك، المفروض بقى الخطوة إللي بعدها تبقي ايه؟! تعرفيني على أهلك الأول ولا أجيب بابا وماما ونتقدملك رسمي؟

رفعت مي عينيها نحوه ببطء: أنا هفتح الموضوع مع بابا وإخواتي الأول، وبعدين نشوف، بس هو أكيد، عايز تجيب باباك ومامتك وتتقدملي؟!

رشدى بنبرة مرحه: أمشي اصوت منك في الشارع يقولوا رشدى اتجنن!! أنت لسه بتسألي؟؟

ضحكا معا، وابتسم رشدي ابتسامة عريضة، ثم ألقى بظهره للخلف في مقعده، كأنه حقق خطوة مهمة، بينما بقيت مي غارقة في حيرتها، تداعب الآيس كريم في صمت.

قصر الراوي، الرابعة مساء

فتح ياسين باب الفيلا، فرأى الخادمة ترتب بعض الأشياء في الهول: الهانم فين؟

أجابته بخفوت: في الليفنج روم يا بيه.

تقدم للداخل، فوجد هبة جالسة أمام التلفاز، نالا بين ذراعيها، وكأن دخوله لا يعنيها.

ياسين بمرارة: غريبة قاعده في البيت مش في المجلة ولا الاجتماعات.

هبة دون اهتمام: واخده يومين أجازه، راجعه من السفر تعبانه.

اقترب منها ياسين بنبرة غاضبة: يومين؟! طيب أنا بايت بره يوم كامل، مخطرش علي بالك تسألي أنا فين؟ ولا حتى ترفعي سماعة تليفون؟

شدت هبة نالا إليها وقالت ببرود: ما هو معروف، يا في المجموعة يا مسافر لشغل، إيه الجديد يعني؟

ضرب ياسين كفه على الطاولة أمامه: الجديد إني مكنتش في أي مكان من دول! وأنتِ، ولا فارق معاكي غيابي من الأساس.

صمت لحظة، ثم خفت صوته وهو يواجهها بوجع:

وصلنا للدرجة دي يا هبة؟ بقيت مش فارق معاكي أبات فين ولا أروح فين؟

أجابته بنفس البرود: أنا قولت أكيد مقموص أو مسافر، ما هو ده بقى العادي بتاعك.

تأملها ياسين بعينين غارقتين بالخذلان وقال بضجر:

لا يا هبة، أنا بجد مش قادر، حاسس إننا بعدنا عن بعض اوي انا مش حمل الخناق والمشاكل دي.

رفعت عينيها له للحظة، ثم قالت بهدوء: وأنا كمان.

جلس قبالتها، محاولا أن يظل متماسكا: طب وإيه الحل؟

أجابته بجدية: الحل إننا نبعد فترة، كل واحد يعيد تفكيره، ونشوف ليه وصلنا لكده؟!

احني ياسين برأسه قليلا: ماشي، روحي الفيلا، وخدي نالا معاكي، مفيش مروحه عند اهلك، والبنت هاجي أشوفها في أي وقت.

اومات هبة دون اعتراض: ماشي.

ساد الصمت لحظة، ثم نظرت إليه ببرود وسألته: كنت فين؟

أجاب بلهجة قاطعة: ملكيش دعوة.

ثم مال نحو نالا وحملها من بين ذراعيها: تعالي يا روحي.

هبة باستغراب وهي ترفع يدها نحوه: واخد البنت على فين؟

لم يرد، واكتفى بأن استدار مغادرا، فيما بقيت نظراتها معلقة على ظهره، تحمل خليطا من الغضب والضيق.

فيلا سليم و ماسة، السادسة مساء

استيقظت ماسة أخيرا.

فتحت عينيها وهي ما زالت ممددة على الفراش، حدقت حولها عل ما حدث في الليلة الماضية يكون كابوسا، لكن سرعان ما أيقنت أنه كان واقعا مريرا،

حاولت النهوض، ثم عادت لتستلقي من جديد، غارقة في صمت يثقل رأسها، تنهدت طويلا قبل أن تجمع شتات نفسها وتنهض ببطء، فتحت الباب وخرجت.

أثناء سيرها رفعت عينيها نحو غرفة سليم، فوجدتها مفتوحة لكنها خالية، تابعت خطواتها حتى هبطت السلم، وفي الطابق الأول لمحت سحر منشغلة ببعض الأمور، وما إن رأت ماسة تقف على آخر درجة حتى ابتسمت قائلة

سحر بلهفة: وحشتيني يا ست ماسة.

أمالت ماسة رأسها قليلا، وضعت يدها على جبينها كان الصداع ينهشها، وتمتمت بصوت واهن بإبتسامة: ماما سحر أنتِ هنا؟

ابتسمت سحر واقتربت من ماسة وهي تفتح ذراعيها: أيوه، جيت النهاردة، حمد لله على سلامتك يا حبيبتي.

ردت ماسة برقة وهي تضمها: الله يسلمك، وحشتيني، عاملة إيه؟

سحر بفرح صادق: وأنتِ كمان والله، الحمد لله.

في تلك اللحظة ظهر سليم، يتقدم بخطوات هادئة، وعلى وجهه ابتسامة دافئه: صباح الخير، كل ده نوم؟

رفعت ماسة عينيها إليه لثواني، ثم حولتهما نحو سحر قائلة بهدوء: بعد إذنك يا ماما سحر، تعملي لي النسكافيه بتاعي؟ وحشني جداً من إيدك.

سحر بإبتسامة دافئة: من عيوني يا حبيبتي.

غادرت سحر، بينما تحركت ماسة متجهة نحو الحديقة دون أن تلتفت إلى سليم الذي تبعها بنظراته، يزفر بأسف، مدركا أن التعامل معها لن يكون بهذه السهولة.

الحديقة

جلست ماسة على مقعد الطاولة، الغروب يلون صفحة النيل أمامها، والمكان يفيض بسحر هادئ يعاكس اضطرابها الداخلي، لحق بها سليم بعد لحظة وجلس بجوارها، يراقب ملامحها المرهقة بصمت.

قال أخيرا بصوت خافت: مردتيش عليا… كل ده نوم؟

تنهدت ماسة وهي تسأله: هو أنا نمت كتير كده؟ الساعة كام دلوقتي؟

ابتسم ابتسامة خفيفة: داخلة على ستة.

فتحت عينيها بدهشة: معقول؟!

سليم بقلق ظاهر: من كتر خوفي عليكي، كنت كل شوية أطلع أطمن، أشوف نفسك، أستغرب إزاي نايمة كده!

خفضت ماسة نظرها، وقالت بصوت مبحوح: وأنا كمان، يمكن عشان بقالي شهور منمتش كويس، دايما كوابيس وخوف، يمكن دي أول مرة أنام نومه عميقة، يمكن عشان أرتحت خلاص، وإللي كنت خايفة منه حصل.

أقترب منها سليم، بصوت فيه رجاء: أنا عايز أتكلم معاكي.

ابتعدت بنظرها عنه: وأنا مش قادرة أتكلم.

صوته صار حاسما لكنه ظل يحمل حنانا: ما هو لازم نتكلم لو مش مصدقاني؟! أجيبلك صافيناز هنا تقولك بنفسها، وتقولك أنا عاقبتها بإيه؟! ولو عايزة تعاقبيها تاني، هعاقبها أنتِ بس أأمري، أنا أصلاً عايزه أجبها تتاسفلك وتبوس رجلك.

أغمضت عينيها بإرهاق، تنهدت بثقل ثم تمتمت: سليم بعد إذنك، والله ما قادرة أتكلم، دماغي مش مستوعبة، ليه مستعجل على الكلام كده؟

اقترب أكثر وهمس بحرقة: لازم أكون مستعجل يا ماسة،  ستة شهور وأنتِ بعيدة عني! وفاكرة إني أذيتك بإيدي، ولا إنتِ مش مصدقاني؟

رفعت عينيها نحوه، وصوتها خرج ضعيفا بعينين دمعتان: مصدقاك وفهمت إنه مش بإيدك، وإنه كان غصب عنك، وإنها مجرد حباية، هي السبب واللي خليك في المنظر إللي كنت عليه أخر مرة، أنا أصلا كنت أحيانا وأنا هناك أقول فيه حاجة غلط، سليم ميعملش كدة، حاسة أن في غلط؟! سليم عنده حدود بس كنت أرجع أقول أهو عملها، بس لما قولتلي موضوع الحباية فهمت إنك مكنتش واعي..

نظرت بعيدا وهي تهز رأسها قالت بنبرة متعبة من الوجع: بس أنا تعبانة، مش قادرة أتكلم.

أغمض سليم عينيه لحظة، أخرج نفسا عميقا، ثم قال برجاء: طيب قوليلي، الست شهور دول حصلك فيهم إيه؟

في تلك اللحظة، عادت سحر وهي تحمل فنجان النسكافيه. ابتسمت بحنان:  عملتلك النسكافيه، تحبي اعملك حاجة تكليها؟

سليم بسرعة: آه، يا سحر، أعمليلها حاجة تاكلها.

هزت ماسة رأسها: لا مش عايزة آكل دلوقتي، شوية كده.

ابتسم سليم محاولا اقناعها: ليه دى أنا خليت سحر تعملك الأكل إللي بتحبيه.

وضعت سحر يدها على شعرها برفق: عملتلك كل إللي بتحبيه، والله وحشتيني أوى، أوعي تعملي كده تاني، قلقتينا عليكي،. الحمد لله إنك بخير يا حبيبتي.

تنهدت ماسة بضعف: تسلم إيدك، بس والله مش قادرة آكل دلوقتي، شوية كده.

التفت سليم نحو سحر: خلاص يا سحر، سيبيها على راحتها، أنا كمان هاكل معاها بعدين.

ابتسمت سحر وهزت رأسها متفهمة، ثم غادرت.

بدأت ماسة تحتسي النسكافيه، عينيها معلقة بأفق النيل في الغروب، ابتسمت بهدوء: المكان هنا حلو أوي.

رد سليم وهو يتأملها: أنا مبسوط إنه عجبك.

ثم صمت لحظه قصيرة وأضاف: طب هو إحنا هنتكلم إمتى؟ نفسي نتكلم من غير عصبية، ومن غير عناد بهدوء، زي اتنين كبار بيحبوا بعض.

نظرت له ماسة بإستغراب بنبرة مازحة: هو أنت بقيت عنيد وزنان كدة ليه؟

اقترب سليم منها، وهو يركز النظر في ملامحها وصوته يختنق بالشوق: أنا مشتاقلك ونفسي تسامحيني، حتى لو لسه شايلة مني وموجوعة، بس على الأقل تقبلي اعتذاري، نتكلم عن الست شهور إللي فاتوا واللى حصل فيهم، أنتِ هربتِ وأنتِ فاهمة إني أنا السبب، إني أنا اللي عملت فيكي كل ده بوعي، وشايفاني بصورة وحشة أوي؟ بس إنتِ دلوقتي مصدقاني صح؟

اغرورقت عيني ماسة بالدموع: والله مصدقاك، لكن الموضوع أكبر حتى من إني أصدق، فيه وجع، وجع مش قادرة أتكلم عنه دلوقتي لو بتحبني بجد، أحترم رغبتي.

تنفس سليم بحدة، ثم لان صوته: طب خلاص مش هتكلم، بس على الأقل، فهميني، عرفتي مصطفى إزاي؟ صدفة غريبة أوي!!

زفرت ماسة بثقل، ومسحت وجهها براحتها المرتجفة، ثم عادت شعرها إلى الخلف كأنها تحاول أن تستعيد توازنها، وعيناها تنزلق بعيدا عنه، بينما قلبها يصرخ، فهو ما زال يلح عليها، ما كان إلحاحه رغبة في إزعاجها، بل جنونا وحرصا عارما على معرفة ماحدث معها في تلك الفترة.

هذيان عاشق فقد الطريق، كان يريد أي خيط يمسك به، أي تفاصيل، حتى وإن كانت صغيرة، فقط ليشعر أنها مازالت هنا، وأنه لم يفقدها تماما،  لقد كان كالمجنون، لا يعرف عنها شيئا: ماذا تأكل؟ ماذا تشرب؟ وكيف تعيش؟ كل ما أراده أن يطمئن قلبه، فلم يعد يحتمل الصمت أو الانتظار.

واصل سليم دون توقف، وكان صوته يتقاطع بين رجاء وإندفاع:

أنتِ عارفة إني كنت هتجنن؟ ست شهور معرفتش عنك حاجة، بتاكلي إيه، بتشربي إيه، عايشه إزاي، كنت حاسس إني زى الأعمى من غيرك، وبعدين موضوع مصطفى ده غريب محتاج أفهم !

لم تتحمل ماسة إصراره تنهدت ونهضت بخطوات ثقيلة، واتجهت نحو حافة النيل، وقفت هناك، تتشبث بالهواء وكأنها تحاول أن تستعيد أنفاسها المفقودة، والدموع تتساقط من عينيها بصمت، انعكاس الغروب على المياه زاد وجهها حزنا وغربة.

اقترب منها سليم بحذر، لا يريد أن يمنحها فرصة للهروب من المواجهة، يمد خطواته إليها كأنه يلاحق ظلها، بينما في داخله صراع بين شوقه وقلقه.

قال بصوت متوسل: ماسة، ما أنا مبضغطش عليكي، أنا محتاج أريح قلبي بس، ريحي قلبي أرجوكي، أنا بس عايز أتكلم معاكي، في حاجات كتير اتغيرت، حاجات أنتِ متعرفيهاش، إديني فرصة واحدة بس أشرحلك، ليه مش عايزة تسمعيني؟

تنفست ماسة بصعوبة، وقالت وهي تتهرب بعينيها: قولتلك هنتكلم، وهسمعك، بس بعدين.

سليم بنبرة مريرة: تمام ووافقت! إن إحنا منتكلمش دلوقتي في أي حاجة تخصنا، بس على الأقل، قوليلي الست شهور إللي فاتوا عشتيهم إزاي؟

شدت ماسة أنفاسها ثم رمقته بحزن: وأنت كمان، مش عايز تقول مين إللي عرفك مكاني؟

ابتسم سليم بمرارة: ليه مهتمة كدة تعرفي؟

نظرت له بعينين ترقرق بدموع وقالت بنبرة مليئه بالخذلان: عايزة أعرف مين إللي خاني، أنا متأكدة إنك مكنتش هتعرف من نفسك، مين يا سليم؟ محمد؟

ضيق سليم عينه بتعجب: للمرة التانية بتقولي محمد؟! وأنا بقولك: لأ ليه مصممة عليه؟

ارتجفت شفتاها بوجع لإنه الوحيد إللي مكانش قابل يسامحني، ولا يديني فرصة، أكتر واحد قسى عليا، رفض يسمعني أو يفهمني، رغم إني كنت السبب إنه ياخد فرصة مع عائشة، ومع ذلك قسى عليا، يمكن علشان كده افتكرت هو إللي خاني، بس متوقعتش إنه يطعني كده، أنا مش زعلانة علشان نفسي أنا زعلانة عشان خان مصطفى.

صمتت ماسة للحظة، وعاد إلى ذهنها حينما نعتها محمد بكلمة “شمال”، لم تفهم معناها وقتها، لكنها كانت متأكدة أنها شتيمة.

رفعت عينيها نحو سليم وسألته بتردد: سليم هو يعني إيه “شمال”؟

تجمد سليم، ثم أجاب بإستغراب: وصف لأي حاجة غلط، شغل مشبوه، سلوك إنسان، كدة يعني.

ماسة بهدوء: آه، أنا فاهمة، بس قصدي، لو حد قال على ست إنها شمال، يعني إيه؟

تنهد سليم وهو يجيب بوضوح: يعني ست منحلة.

ماسة بحزن ممزوج بضيق مبطن: تقصد يعني ست بتعمل حاجات حرام وعيب مع الرجالة.

هز سليم رأسه بالإيجاب بصمت وهو يدرس ملامح وجهها.

تسمرت عينيها للحظة، وانكمش قلبها من الداخل، بينما همست في نفسها بغيظ مكتوم “يا حيوان”

لاحظ سليم ارتباكها، فدقق النظر في عينيها بريبة وسأل بنبرة متوجسة: في حد قالك كده ولا إيه؟

ارتبكت ماسة، تعرف جيداً أنه لو علم، فهلاك محمد سيكون مؤكدا، فأجابت بسرعة: لا طبعا! أنا بس كنت عايزة أعرف، عادي.

اقترب منها سليم خطوة، ونبرته ازدادت خشونة وغاضبا: محمد قالك كدة؟!

ارتجفت ماسة وهي ترد بصوت خافت متحشرج: قولتلك لا.

هز سليم رأسه بثبات رغم شعوره بالشك: عموماً يا ماسة، مش محمد.

صاحت ماسة بنبرة رقيقة بضجر: أمال مين بس؟!

صمتت للحظة فجأة اتسعت عيناها وقالت بنبرة مذعورة: أوعى تقول ماما نبيلة! أوعى يا سليم أوعى.

وضعت يديها على أذنيها كطفلة خائفة، بينما نظر لها بدهشة: ايه اللى خلاكي تشكي فيها؟!

أنكسر صوتها بالبكاء: عشان آخر فترة اتغيرت معايا، زي أي أم، خافت على أولادها، طلبت مني أبعد عن مصطفى وإيهاب، خايفة يكون حد منهم حبني، بس مصطفى مسمعش كلامها، خوفت تكون هي.

هز رأسه ببطء: مش نبيلة هانم، ندى.

شهقت ماسة، كأن الخنجر انغرس في قلبها: ندى؟! طليقة مصطفى؟!

أومأ سليم برأسه بصمت

انهارت ماسة تبكي بحرقة: ليه؟! أنا عملتلها إيه؟ أقسم بالله كنت بحبها، كنت بترجا مصطفى يسمعها ويديها فرصة، ليه الخيانة؟ ليه الطعنة دي؟ عملت فيها إيه؟! أصلا متعرفنيش غير إني بنت خالتهم “ليندا”، ملهاش أي علاقة بيا.

أخفض سليم صوته وهو يحاول التفسير: مرة كانت عندك، ودخلت تفتش في أوضتك، ولقت الخاتم، ومن هنا..

قطعت كلماته وهي تهمس برجاء: مش فاهمة حاجة، بالله عليك، أحكيلي بالتفصيل وصلتلها إزاي؟! وعرفتني منين؟

نظر لها سليم، ثم قال بعمق: هقولك.

(فلاش بااك)

مجموعة الراوي، التاسعة صباحاً

ترجل سليم من سيارته بعد أن فتح له السائق الباب، خطواته واثقة وهيبته المعتادة، وخلفه عشري ومكي وحراسه، لكن فور أن رأته ندى التى كانت تقف بعيدا، ركضت نحوه وهي تقول: مستر سليم.

لكن الحراس وقفوا أمامها ومنعوها من الاقتراب.

ما أن سمع سليم صوتها، التفت ونظر لها وهو يخلع نظارته بإستغراب.

ندى: أنا عايزة أتكلم معاك في حاجة مهمة جدا.

سليم بإعتذار: أنا مش فاضي.

ندى ومازال الحراس يمنعونها: بس دي حاجة مهمة جدا.

سليم بعدم اهتمام: ممكن تتكلمي فيها مع السكرتيرة بتاعتي.

تحرك مبتعدا، لكنها أكملت بثقة: عايزة أتكلم معاك بخصوص مراتك إللي أنت سايبها في إسكندرية ومسميها ليندا.

فور أن سمع سليم لكلماتها تجمد مكانه، ألتف لها ببطئ واستغراب، وأشار بيديه للحراس لتركها تمر.

عقد سليم بين حاجبيه متعجبا: إيه إللي حضرتك بتقوليه ده، مين ليندا؟

اقتربت منه بخطوات واثقة: مش هينفع نتكلم هنا، الموضوع يخص مدام ماسة.

سليم متلعثما: هو أنتِ تعرفي مكان ماسة؟!

ندى متعجبة: ايه ده هو الموضوع مطلعش إنك أنت إللي سايبها هناك؟! طلعت طفشانة منك!؟

ابتسمت باستهزاء ثم تابعت: لا ده كدة فعلا محتاجين نتكلم.

صمت سليم للحظة، ثم أشار بيديه بهدوء: تعالي.

تحركت ندى خلفه حتى وصلا إلى المكتب، وجلست أمامه بينما جلس هو على مقعده، ووجهه متجهم ومتوتر.

تساءل سليم بلهفه حاول اخفائها ببعض الحده: إنطقي عارفة مكانها إزاي؟ تعرفيها منين؟

ندى بهدوء: لا، أنا معرفهاش، أنا أصلا مكنتش فاهمة إنها هربانة منك، كل إللي أعرفه، إنها قاعدة عند حد أنت تعرفه كويس، بس قبل ما أقول، لازم توعدني إنك مش هتقرب منه وهتاخد مراتك وتبعدوا عننا.

تعجب سليم وهو يضيق عينيه: قاعدة عند حد أعرفه؟! مين ده؟

ندى برجاء: بعد إذنك، لازم توعدني، تاخد مراتك وتخليها بعيد عن حياتنا.

سليم بضجر وبنبرة حاسمة: أنا مش فاهم، إنتِ بتتكلمي كده ليه؟ هاتي من الآخر أنا مبحبش الألغاز.

ندى بارتباك: ماسة قاعدة عند مصطفى.

ضيق سليم عينيه باستغراب: مصطفى مين؟!

ندى بهدوء: دكتور مصطفى، بتاع الباطنة إللي شغلته في مستشفى الحياة هو ودكتور محمد.

نظرة صدمة عبرت وجه سليم، وهو يهمس: مصطفى؟! وماسة تعرف مصطفى منين؟

هزت ندى رأسها: لا، معنديش أي معلومات، معرفش أي حاجة، هما قالوا لي إنها بنت خالتهم واسمها ليندا، بس من أول يوم شفتها وأنا شاكة فيها، دلوقتي روح وخد مراتك إللي سايبها هناك دي، ولا الهربانة، أنا مليش دعوة، خدها وخلاص.

رغم اهتزاز قلبه، حاول سليم أن يبدو هادئا، لكنه أراد التأكد: طب وأنا أتاكد منين إن كلامك صح، وإنها هي؟

ابتسمت ندى بخفة، وكأنها توقعت سؤاله: كنت متأكدة إنك هتسألني، أخرجت هاتفها وهي تطلع على صور خاتم.

ثم وجهة الهاتف لمرمى عينيه وهى تقول: مش ده الخاتم بتاعها، ودي صورتها أنا وهي مع بعض.

سحب سليم التليفون بسرعة من يدها، وعندما وقع بصره على الصورة اتسعت عيناه، وشعر كأن قلبه سينفجر، اخيرا !! بعد  ستة أشهر وجدها ! كادت الدموع أن تخونه حتى استكان قلبه، لكن سرعان ما تبدلت ملامحه، وحاول أن يهدأ، ونظر إليها بجدية: ليه بتقولى إن لازم أخدها بسرعة؟

قلبت ندى وجهها بشر: علشان مينفعش مراتك تقعد مع جوزي !

سليم متعجبا: جوزك؟

ندى بتأكيد: أيوة مصطفى.

هز سليم رأسه بتفهم: آااه أنتِ طليقته، طب وأنتِ عرفتي إنها ماسه إزاي؟ مش قولتي إنهم قدموهالك على إنها بنت خالتهم ليندا؟

ندى بتوضيح: أنا طلبت منها تساعدني أرجع لجوزي، بصراحة هي حاولت، بس معرفتش..

تابعت بغيرة وانزعاج: وأنا كنت متضايقة منها لأن هي ومصطفى قريبين أوي، خروجات وهزار بطريقة مش كويسة خالص، أنا مش عارفة متجوزة إزاي دي؟ زي مقولتلك من أول يوم شاكة فيها، مكانش عندي غير طريقة واحدة علشان أعرف مين دي؟إني أدخل شقتها!

الإسكندرية

منزل ماسة، الخامسة مساءً

نشاهد ماسة جالسة في الصالة، تشاهد التلفاز وهي تمسك طبق فشار، مرتدية ملابس بيته مريحة.

نهضت عند سماع صوت الباب، ووجدت ندى أمامها، نظرت إليها بإستغراب شديد، ثم قالت: ندى؟!

دخلت ندى بسرعة، كأن أحد يركض وراءها، نظرت لها ماسة باستغراب، وشعرت أن هناك شيء غير طبيعي.

ندى موضحة: كنت خايفه حد يشوفني، أنا عارفة إن مصطفى مسافر، بس يعني ممكن إيهاب أو عائشة أو طنط…

ماسة ببراءه: عادي يا حبيبتي، مفيش مشكلة.

ندى: آسفة إني جيت من غير معاد، بس كنت عايزة أتكلم معاكي شوية، وتليفونك مقفول.

ماسة ببراءة: تليفوني مش مقفول، يمكن الشبكة، بعدين مش محتاجة تستأذني، اتفضلي.

جلست ندى في الصالة، مستغربة من بساطة المكان: غريبة يعني معندكيش عفش؟ جوزك فقير ولا إيه؟

ماسة بإبتسامة: لا عادى، أصل أنا أغلب الوقت يا تحت عند خالتو يا في الشغل وكده يعني.

لم تقتنع ندى، لكنها أكملت في خطتها: عايزاكي تساعديني أرجع لمصطفى بالله عليكي.

ماسه بتنهيده: والله حاولت، وخالتو حاولت، بس هو رافض خالص.

ندى بدموع تماسيح: ليه كده؟ أنا عملت إيه؟

ماسة بتأثر: متيأسيش، اصبري، نجرب مرة وأثنين؛ يمكن دماغه تلين.

ندى بغلب مصطنع: مفيش قدامي غير إني أصبر.

ماسه: تشربي إيه؟

ندى: عندك هوت شوكليت؟

ماسه: عندي، حاضر هعملك.

ندى بخبث: هو أنا ممكن أصلي العصر؟ أصل المغرب قرب يأذن.

ماسة بطيبة: أيوة، أوضتي على الناحية دي، صلي فيها، هتلاقي السجادة على السرير، والحمام من هنا.

ندى: لا يا حبيبتي أنا متوضية.

دخلت ماسة المطبخ لتحضير المشروب، بينما بدأت ندى تبحث في الأوضة، فتشت في الدولاب وتحت الملايات، لم تعثر على شيء، لابطاقة، لا باسبور، ولا أي شيء شخصي، أكملت البحث ولم تترك شيء.

ثم فتشت في الكومودينة ووجدت خاتم ماسة الألماظ، نظرت إليه باستغراب ورددت بصوت داخلى “خاتم ألماظ؟ بقى بنت خالتك اللى معندهاش عفش معاها خاتم ألماظ؟ يا كذابين، أنا كنت متأكدة إن وراها حاجه

ثم وقعت عينيها على الاسم المحفور عليه: اسمها ماسة!! وأيضا حرف سليم وختم الراوي، قالت بصوتها العالي: الله أكبر.

فتحت ندى كاميرا التليفون وبدأت بتصوير الخاتم من عدة زوايا، بعد ذلك خرجت وجلست مع ماسة، واكملت جلستها، وهي تمثل الزعل بسبب موقف مصطفي تجاهها.

بعد ذلك، توجهت ندى إلى محل المجوهرات الكبير الخاص بعائلة الراوي بالقاهره.

ندى: الخاتم ده عاجبني اوي ومحفور عليه الختم بتاعكم، ممكن أعرف الخاتم ده بيتباع فين؟

دقق البائع النظر في الصورة: واضح إن تصميمه نادر، أغلب الخواتم إللي معمولة مخصوص بتكون خاصة بعائلة الراوي أو بطلب خاص.

ندى: مكتوب عليه اسم ماسة وحرف S.

البائع: ده خاتم مدام ماسة، مرات سليم بيه.

لمعت عيني ندى وهى تردد: أصل شفت صورة على النت وعجبني، قولت لازم أعمل واحد زيه.

البائع: للأسف ده معمول مخصوص لمدام ماسة، وحتى لما بيجيلنا ناس يعملوا نفس الشكل، الورش بتعرف إن ده خاتم مدام ماسة بترفض، ممكن أوريكي حاجات شبهه.

ندى: لا شكرا.

بعدها ذهبت ندى إلي كافيه، فتحت اللابتوب وبدأت تبحث عن عائلة الراوي، فظهرت لها صور سليم، رشدي، عزت، فايزة وعدد من أفراد العائلة.

رأت صورة ماسة معهم، وبدأت تشاهد صورها بمفردها، وصورها مع سليم حتى عرفت قصة حبهم والحادثة وأشياء كثيرة معروفة على السوشيال ميديا.

ندى بهمس داخلي: دى أنتِ طلعتي مشهورة بقي، اتاريكي لابسة نقاب، بس يا ترى هو سايبك هناك ليه؟! واشمعنا يعني سليم هيحطك عند مصطفى؟ دى أصلا ميعرفش مصطفى كويس، ولسة مشغله من قريب، ولا يكونش شغل مصطفى علشان الموضوع ده مخصوص!! أنا مليش دعوة، المهم أقوله تعالي خذ مراتك وبس.

(بااااك)

كان وجه سليم متجهم، وهو يستمع إليها بضجر شديد، كانت الكلمات التي قالتها تطعن قلبه، لأنها دخلت شقتها وخانت ثقة ماسته الغالية.

قال سليم ببعض الحده وهو يحاول السيطرة على نفسه: يعني أنتِ دخلتي عندها بعد ما أمنتك؟ وفتشتي أوضتها؟ وخنتيها؟

خفضت ندى عينيها بخوف، وحاولت أن تشرح: أنا مخنتهاش، كنت بس عايزة أعرف هي مين؟! المهم إنك وصلت لمراتك وتعالي خدها وخلاص.

تنفس سليم بعمق، ونظر لها بعينين حادتين، وقال بغضب محكوم: أوعي تكوني فاكرة إني هنبسط علشان خنتي ماسة! أنا أكتر حاجة بكرهها هي الخيانة، وخيانتك لماسة حاجه كبيره بالنسبه لي، حتى لو هتكون سبب إن ارجعلها، أنتِ خنتي ثقتها، وحظك إني عاهدت نفسي إني اتحكم في غضبي ومغلطش تاني، بس لما الموضوع يوصل لماسة، عندي استعداد أخون العهد ده،  فأنتِ قدامك حل واحد، أغمض عيني وأفتح ألاقيكي اختفيتي.

رفعت ندى حاجبها بإرتباك: يعني، يعني مش هاتاخد مراتك؟ أنا بقولك مراتك دي..

قاطعها سليم بحدة، ونبرة رجولية مرعبة لكنها هادئة: متزديش في حسابك معايا أكتر من كده، أوعي تكوني فاكرة الكلام إللي قولتيه هزني، أنا واثق في مراتي، مش واحدة زيك إللي هتخليني أتهز، ومش هعيد كلامي تاني، أغمض عيني، وافتح ألاقيكي اختفيتي، علشان لو فتحتها ولقيتك قصاد عيني، متلوميش الا نفسك.

ثم سحب مسدسه من خصره ووضعه أمامها، اتسعت عينيها من الرعب.

أغمض سليم عينيه بنبرة جامدة: واحد… اثنين…

وفي تلك اللحظة، اندفعت ندى تركض بالرعب، ومازال سليم لم يفتح عينيه، وعندما فتحهما، وجد المكتب فارغا.

وفجأة، اجتاح قلبه فرحة عارمة، ضحك وهو يحاول السيطرة على نفسه، ودموعه انهمرت دون إرادة منه، أمسك صورتها التي امامه، واحتضنها بقوة، ونظر لها بعينين يملئهم الشوق والارتياح: خلاص لقيتك، لقيتك يا ماسة، روحي هترجعلي من تاني، قولتلك أوعي تأمني لحد، اهي خانتك، بس مش مهم، المهم إني لقيتك.

رفع هاتفه بسعادة، وأتصل بمكي: أنا لقيت ماسة يا مكي، أيوه والله بتكلم بجد، حضر العربيات بسرعة، هنطلع إسكندرية.

أغلق المكالمة، ثم نظر لها: كلها ساعات وتبقي في حضني تاني ياعشقي، بس أوعدك المرة دي هتكون مختلفة.

( باااك)

انهي سليم سرد ما حدث، كانت ماسة تستمع له بصمت ممزوج بالحسرة والوجع، ودموع تهبط من عينيها بهدوء.

ماسه بنبرة مهتزة، محملة بالألم والحسرة: بجد إنسانة مريضة، مصطفى وإيهاب قالوا لي “متقربيش منها، هتأذيكي” وأنا مصدقتهمش، افتكرتهم بيهولوا، بس طلع كلامهم صح، أنا عمري ماعملت فيها حاجة وحشة؟! بالعكس، كانت صعبانة عليا، وكان نفسي أساعدها، كان نفسي أرجعها لمصطفى تاني..

مسحت دموعها بظهر يدها وهمست بوجع مكتوم: بس شكلي هفضل غبية واتخدع في الناس طول عمرى، الله يسامحها بجد.

نظر لها سليم بحزن، شاعراً بما شعرت به من خيانة وخذلان، ثم سألها بنبرة مكتومة، مليئة بالألم: أنتِ زعلانة لإنها عرفتني مكانك؟

هزت رأسها نافية بخذلان: أنا زعلانة إنها خانتني، زعلانة إنها طلعت زي ما قالوا عنها، وأنا مصدقتش ودافعت عنها.

رفعت عينيها نحوه بخذلان: هو أنا ليه مبصدقش؟ ليه بدافع بسذاجه كده؟! ما أنت أهو أكبر مثال، نفس الخذلان..

وضعت يدها على جبهتها بضجر، وأعادت شعرها للخلف وهي تنظر نحو النيل، وقالت بغضب من نفسها: أنا إللي غبية، وشكلي هفضل طول عمري غبية، وبنخدع في الناس، مصطفى كان عنده حق، متستاهلش الفرصة، بني آدمة مؤذية، والله العظيم متستاهل ظفره، ياريتك تستجدع مع مصطفى وتقول له “أوعى ترجعلها.”

ابتسم سليم بحزن: أنا محبتش أذيها، برغم إني اتعصبت جدا لما عرفت إللي عملته معاكي، بس لو أنتِ عايزة تاخدي حقك منها، هجبهالك تحت رجلك.

تنهدت ماسة، ومسحت دموعها وقالت: أنا مش عايزة أخد حاجة من حد، الله يسهلها ويسامحها.

صمت سليم للحظات وهو ينظر لها ثم قال بنصف ابتسامة حزن وغيرة: بس شكلك بتعزي مصطفى أوي؟!

نظرت له ماسة موضحة بألم: لازم أعزه، راجل محترم ووقف جنبي، أنت متعرفش هو عمل معايا إيه؟! كفاية أوي إنه دخلني بيته، وأنا مجرد واحدة لقاها في الشارع بتستنجد بيه، ولا إيهاب وماما نبيلة وعائشة لا بجد عمري ماشوفت زيهم ولا هشوف، خصوصاً مصطفى.

رمقها سليم بنظرة طويلة، ابتسامة صغيرة مشوبة بالغيرة ترتسم على شفتيه: شكلك حبتيهم أوي.

تنفست ماسة بعمق، وصوتها خرج صادقا مليئا بالإمتنان: أيوه بحبهم، اتعاملوا معايا أحسن معاملة، تخيل ناس تسامحك وأنت كذبت عليهم أكتر من مرة، خصوصاً مصطفى رغم إنه بيكره الكدب سامحني بسرعة، حقيقي قلبه بريء وطيب زي الأطفال.

تابعت بإبتسامة امتنان: عارف يا سليم بعد ماعرفوا الحقيقة، أنا كنت همشي تاني يوم، ومصطفي اللي رجعني من علي السلم، مكنتش متخيلة إن في ناس طيبه كده.

ارتسمت ابتسامة شاحبة على ملامحها وهي تستعيد الذكريات: كنت دايما أقولهم: “لما سليم يوصلي، هاخده من إيده وهوريه إن فيه ناس محترمة، مش كلهم وحوش زي ماهو متخيل” وإن الحدود إللي كان راسمها مجرد وهم.

اشتدت نظرات سليم، وكانت نار الغيرة تشتعل خلف عينيه، فقال بنبرة محملة بالترقب: بس أنا حاسس إنك كنتي أقرب لمصطفى.

أجابت ماسه ببساطة: أكيد طبعا، لإنه أول واحد اتعرفت عليه، شوشو بردو طيبة وعسولة خسارة في محمد.

عض سليم باطن خده من الداخل، يحاول يكتم النار التى تتأجج داخله وهو يسمع ماسة تصف مصطفى بكل هذه الصفات، الغيرة والضجر سيطرا عليه.

فتنهد بعمق، كأنه يبتلع غضبه بصعوبة، رفع عينيه نحوها، وقال بصوت منخفض لكنه محمل بالتوتر: طيب، أنا محتاج تحكيلي عرفتي مصطفى إزاي وإيه إللي حصل في الشهور دي كلها؟!

ثم تابع بعينين اغرورقت بدموع الألم؛ وكأنه يحاول أن يشرح مدي عذابه في فراقها، خرج صوته موجوع ومكسور: أنتِ متعرفيش أنا كنت عايش ازاى في ٦شهور دول؟! أنا مكنتش بنام، كنت هموت وأعرف أخبارك: بتاكلي إيه؟ بتشربي إيه؟ عايشة إزاي؟ مين بيغطيكي بالليل؟ لما بتجوعي مين بيجيبلك أكل؟ لما تتعبي مين بيقعد جنبك؟ ولما ييجي لك الوجع بتاع كل شهر مين بيطبطب عليك ويجيبلك النعناع وياخدك في حضنه عشان يهون الالم بدل المسكن؟! كنت هتجنن عليكي، قلبي كان بيصرخ كل يوم بإسمك..

غامت عيناه بالدموع وهو يضيف بنبرة خافتة: الحاجة الوحيدة إللي خلتني عايش؟! إني لسة سامع دقات قلبك رغم البعد، كان فيه صوت جوايا بيقولي: “ماسة بخير”، يمكن ده إللي مخليني واقف قدامك دلوقتي، هو ده إللي صبرني على ألم فراقك، أرجوكي يا ماسة احكيلي، ريحي قلبي وعقلي وقوليلي عيشتي  الست شهور دول إزاي وأنتِ لوحدك، مش معايا لأول مرة؟!

ارتسمت على شفتي ماسة ابتسامة حزينة وهي تنظر للأسفل: فعلا أول مرة أواجه العالم إللي خبتني منه، وخوفتني منه، عشان تحافظ على برائتي؟!

أخرجت أنفاسها بمرارة، ثم نظرت له للحظات بصمت موجع، ثم تنهدت وجلست على النجيلة، تنظر نحو النيل، أخذ يحدق في ملامحها المرهقة، بينما هي صمتت للحظة كأنها لا تريد أن تسترجع شيئا من تلك الأيام.

بعد ثواني رفعت عينيها نحوه الدامعتان نحوه، وصوتها يتهدج وهي تقول: عايز تعرف إيه إللى حصللي؟ هحكيلك علشان تفهم أنا ليه رافضة اسمع، ورافضة حتى أتكلم، وتعرف إني زى ماعشت شهور من غيرك، هقدر أعيش قدام سنين من غيرك برضو.

تنهدت بوجع، وشبكت يديها المرتجفتين في حجرها، ثم بدأت تروي بصوت منكسر يأن بدموع: في الليلة دي، بعد ماضربتني، خرجت من الفيلا زي المجنونة، مكنتش عارفة رايحة فين ولا حتى عايزة أعرف؟! فضلت أجري لحد ما لمحت نور بعيد، جريت عليه لحد ماوصلت للطريق، وفجأة لقيت مصطفى، أقصد عربيته، قولتله وأنا بتوسله “ألحقني، خلصني، مشيني من هنا بسرعة، أنقذني”

جلس سليم أمامها، وهو ينصت لها بتركيز، يتنفس بصعوبة، وعيونه مليئة بالألم.

كانت الكلمات تنبثق من عينيها قبل شفتيها، ترهق صدرها وهى تتنفس بصعوبة.

نظرت لأسفل، وصمتت للحظة صوب النجيلة الخضراء، وهي تلعب بها بيديها، تحاول أن تكتم انينها، ثم رفعت عينيها نحوه وهي تزم شفتيها بألم و أضافت بحزن عميق: منظري خلى قلبه يحن، لاقي بنت بتجري في عز الليل في الصحرا بقميص النوم، واخده علقة موت، صعبت عليه، بس كانت لازم يبقى فيه قصة! قصة للحالة إللي أنا فيها، قولتله إني هربانة من جوز أمي إللي حاول يغتصبني.

نظر لها سليم بإستغراب، وهو يضيق عيناه، كأنه يقول لها ” لماذا كذبتي؟! ”

ردت ماسة على تلك النظرة، وهي تمد شفتيها وترفع كتفيها بعدم معرفة، قالت وهي على نفس ذات الوتيرة وهى تنظر للأمام بمرارة: معرفش ليه قولت كده؟! بس أنا كنت خايفة ومشوشة، جابلي لبس وعالج جروحي، ومرضيش يسيبنى ولما سألني على اسمي فجأة لاقيتني بقوله حور.

تملق وجه سليم بذهول وكأن الزمن تجمد، قال بصوتٍ منخفض: حور؟

ابتلعت أنفاسها بصعوبة، وأضافت بهدوء بنبرة مهتزة: أنا معرفش ليه قولت الأسم ده، بس هو الأسم الوحيد إللي كان في مخي، يمكن الوجع والقهر، إللي كنت حساه، هو إللي خلاني أنطق بيه.

هذا الاعتراف جعل صدر سليم ينقبض، نظر إليها بعيون مشوشة، وكأنه يكافح ليفهم كل كلمة خرجت من قلبها…!

ثم تابعت، بصوت مرتعش مكتوم: وبعدين قالي أوديكي فين؟ قولتله هو ده طريق إيه؟! قالي إسكندرية، قولت له ماشي، عندي قريبة هناك، وأخدني معاه، لكن لما وصلت هناك، كان باين عليا أوي إني مليش حد، ساعتها إداني فلوس ورقمه علشان أقعد في فندق، بس نسي إني معنديش أوراق، وأنا كمان مكنتش فاهمة حاجة وقتها، لإني مكنتش بتحرك غير معاك أو مع الحراس.

صمتت لبرهة، وكأن الذكريات تعود لتقطع أنفاسها، أعادت ترتيب كلماتها، ثم أكملت بنبرة وجع قطعت نياط قلبها، ودمعة ساخنة محبوسة: وقتها عشت أسوأ ثلاث أيام في حياتي، نمت في الشارع تلاتة أيام.

وهنا اتسعت عينا سليم في صدمة وهو يقول بنبرة مكتومة مهتزة: أنتِ نمتي في الشارع ثلاث أيام؟!

هزت رأسها إيجاباً بإبتسامة وجع، وأضافت على نفس ذات الوتيرة، بدموع تهبط من عينيها: اه نمت ثلاث أيام في الشارع، محدش قبل يسكني عنده لإن معيش أوراق ومكانش معايا غير مبلغ صغير.

نظرت بعيد وكأنها تتذكر تلك الليله بألم عصف قلبها: أول يوم فضلت أمشي في الشوارع، كنت بدور على مكان أقعد فيه، ملقتش، لحد ما قعدت على شاطئ كده من التعب في فلوكة، لحد ما الليل دخل بس السما مطرت قمت وقعدت في محطة أتوبيس، لكن وأنا قاعدة فيه كام شاب كدة عاكسوني، خوفت منهم وجريت ووقعت من خوفي، ودخلت مدخل عمارة، بس ساعتها واحد كلمني بطريقة وحشه أوى كأني حرامية، اتوجعت أووى وقتها، وحسيت إن كل الدنيا ضدي، خرجت وفضلت أمشي مكنتش عارفة أروح فين ولا حتى عارفة أنا فين؟!

دموعها تسقط بثقلها، وتابعت بصوت مكسور: بس بعد كده شوفت عربية قطر فاضية، افتكرت فيلم زمان قولت أعمل زي البطلة أقضي بس الليل فيها، طلعت العربية وكنت تعبانة وخايفة وعايزة أنام، خدت حديدة حضنتها جوة حضني، بس كنت كل شوية أصحى مفزوعة من صوت القطرات لحد ما التعب خلاني أنام.

وهنا صمتت للحظة، أغمضت عينيها كأنها تحاول الحفاظ على ثباتها كي لا تنهار، وضعت يدها على قلبها الذي بدأ يدق بشدة، وكأنها لا تريد أن تتذكر تلك اللحظة المشؤمة، فتحت عينيها التى امتلئت بدموع وهي تضيف بنبرة مكسورة ويد مترعشة، ودموع تسيل من عينها، بنبرة باكية: مصحتش غير على صوت رجل بتقرب، فتحت عيني، لقيت شاب بيقرب مني خوفت جدا، دعيت ربنا ميشوفنيش، حاولت أبعد من غير ما ياخد باله، بس هو سمعني، أنا كنت خايفة أوي فضلت أقوله “متقربش” بس هو قرب.

وفور أن أستمع سليم تلك الكلمات كأنها طعنت قلبه بخنجر مسموم، فكانت صدمة بالنسبة له، كان يستمع لها بدموع تملأ عيناه ووجع يكسر نياط قلبه.

صمتت وعينها ترمش ببطء، فقال سليم بصوت مختنق: أوعى تقولي إنه قربلك يا ماسة؟!

هزت رأسها ببطء نافية، بصوت يخرج منه كلمات مرتجفة، وزاد أنينها وهي تضيف ببكاء ووجع يكسر فؤاد القلب: حاول، حاول يمسكني.

ارتعشت شفتيها، وواصلت ببكاء وهي تحرك يديها وكأنها تشرح له ما حدث: حاولت أبعد، بس هو خد الحديدة من إيدى، خوفت جدا، بس فجأة أفتكرت لما مكي علمني أضرب إزاي لو حد هجم عليا، وضربته على رجله، في نفس اللحظة لقيت حديدة تانية جنبي، مسكتها بسرعة وضربته على دماغه.

وضعت يديها على فمها وأخذت تبكي بحرقة، بجسد يرتعش فأصبحت لا تقوى على الثبات أكثر.

اشاح سليم بوجهه في إتجاه آخر، بدموع تهبط من عينه، وغصات قلب تصرخ من الألم على محبوبته التي قاست وعاشت تلك الأهوال بمفردها، قبض يده وضرب على الأرض، تمنى أن يكن معها؛ لكي ينقذها ولا يجعلها تعيش كل ذلك بمفردها، لكن كيف وهو السبب في هروبها؟ مرت لحظات من الصمت بينهم، حاول سليم أن يهدء لكي يستمع لباقي القصة، فهما مازالا في أول يومين من ٦أشهر !

ارتجف قلب سليم، ورأسه يدور من شدة الألم، وقال بنبرة مرتعشة بتمنى أن تكوني قتلتيه: قولي إنك قتلتيه، قولي؟

رفعت عينيها نحوه وقالت بصوت متحشرج وهي تحاول تهدئت أنفاسها: مقتلتوش، شوفت نبضه، زي ما أنت علمتني، لاقيته عايش، مسحت كل البصمات وجريت.

نظر إليها وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة، ورد بعينين دامعتين، وتحدث من بين أسنانه: ياريتك قتلتيه.

ارتجف جسدها، وتابعت بصوت يخرج مبحوحا متقطعا، والدموع تتساقط على وجنتيها: قعدت ألف في الشوارع، بعدين روحت المحطة قعدت على الرصيف، حسيت إن أنا مش قادرة خلاص، كلمتك بس قبل ما ترد قفلت المكالمة وقولت لنفسي “مستحيل أرجعلك تاني بعد إللي حصل” ، وكملت في طريق المجهول، بس مرجعتش العربية خوفت، بقيت أقضي النهار قاعدة عند الفلوكة على الشاطئ، وأنام فيها لما أتعب، وبالليل ألف في الشوارع أو أدخل مداخل العمارات وقت المطر، وأحيانا أضطر أدخل الحمام العمومي بتاع البحر.

وضعت يدها على صدرها، كأنها تحاول أن تمنع قلبها من الانفجار، ثم تابعت بصوت مرتعش: لحد ما قابلت مصطفى تاني، هو إللي أصر يساعدني، مطلعتش شقته غير لما عائشة شاورتلي، بس تاني يوم ندى جت وعملت مشكلة، خوفت وجريت، ساعتها مكانش عندي استعداد أعيش نفس التلات أيام تاني، خصوصا إني كنت بدور على شغل ومش لاقية، والعيشة من غير أوراق كانت مستحيلة خصوصا إن هدومي كانت متبهدلة بسبب المطر.

خفضت رأسها، وكادت كلماتها تختنق بين شهقاتها: في اليوم ده نمت في الجامع، هناك قابلت أبرار، سألتني أنتِ مين؟ مكانش ينفع أقولها الحقيقة، افتكرت فيلم تاني عن واحدة نصابة بتخدع الناس علشان يساعدوها، وأنا مكانش قصدي غير المساعدة، قولتلها أنا أسمي دينا وجاية من الأرياف واتسرقت حاجتي كلها.

ثم أضافت بضحكة خفيفة ممزوجة بالوجع: وقتها بقي رجعت ماسة بتاعة “متستصغرنيشي يا سليم بيه”

أخذت نفسا عميقا وأضافت: أبرار صدقتني، وخدتني عندهم، بس الشيخ صالح قال أنا عندي ولاد، مينفعش تقعدي عندنا، شغلني عند عم ماهر القهوجي، كنت باخد خمسين جنيه في الأسبوع، جابوا لي بطانية ومرتبة، كنت بنام في المخزن وأبرار كانت بتديني هدوم، ويجيبوا لي أكل عشان كدة أخذت منك الفلوس كمساعدة، لإن لولاهم مش عارفة كان هيحصل لي إيه؟!

أطرقت راسها لأسفل قليلا، ثم رفعت عينيها نحوه بعجز: لحد ما قابلت مصطفى تاني، زعل جدا لما عرف إني قولت اسمي دينا وإني ممكن آذي عم ماهر، ساعتها كذبت عليه، بس المرة دي كذبة أقرب للحقيقة، قولتله إن اسمك إسماعيل، وظابط أمن دولة، وقولت إنك بتهددني بأهلي، وإنك ضربتني، بس كان لازم أزود شوية حاجات علشان استعطفهم أكتر، صعبت عليه هو وأهله، خدني عندهم، وشغلني كمان.

شهقت وهي تضحك بمرارة، والدمع يختلط بضحكة مقهورة: حتى قولتلهم إني مش متعلمة، كان نفسي أرجع لماسة بتاعة زمان، بس معرفتش.

كان سليم يجلس أمامها، مصدوما بشدة، وهمس بصوت مبحوح: يعني هما مكانوش يعرفوا قصتك الحقيقية في الأول؟

هزت رأسها بالإيجاب، وقالت: لأ مكانوش يعرفوا حاجة، لحد ما أنت شغلت مصطفى عندك، ومحمد شاف صورتي في المستشفى.

ضيق سليم عينه كأنه تذكر شيء قال: اليوم إللي عرفوا فيه الحقيقة هو اليوم إللي جه مصطفى يسألني فيه مراتك ليها أخت توأم ولا لا؟

هزت ماسة رأسها بعدم معرفة وتابعت بنبرة مكتومه: معرفش أصلا إنه جالك وأتكلم معاك، هو لما جه يواجهني كان غضبان وقالي بزعل أنتِ ماسة الراوي؟ وكذبتى ليه؟ ساعتها اضطريت أحكيلهم كل حاجة، بس هو قالي يومها إنك مسافر تاني يوم.

ابتسم سليم بمرارة وهو يقول: تعرفي؟ إن هو ده نفس اليوم إللي عرفت فيه إن صافي كانت حاطة لي الحباية، يعني اليوم إللي كشفوا حقيقتك، أنا كمان اكتشفت الحقيقة اني معملتش حاجة فيكي بقصد.

وتابع متسائلا: بس ليه قولتي إن اسمي إسماعيل؟ ليه مش مكي مثلا !

ماسة موضحة وهي تمسح دموعها وتأخذ نفاسها: عشان ظابط أمن دولة، الأسم يخوف، ولو دوروا عليه، يلاقوه! المهم سامحوني، تخيل! وعاملوني حلو، وعلموني حاجات كتير لحد ما أنت جيت.

أضافت بنبرة حادة مكسورة: عرفت بقى أنت خلتنى أعيش إيه بسببك؟! أسامحك على إيه بقى فيهم؟! أنت خليتني استحمل مرارة الشارع وبهدلته ولا إني أرجعلك..! بسببك خلتني أجري في للشارع بقميص النوم، عارف يعني إيه أجري في الشارع في عز الليل بقميص النوم في الصحرا ؟

نهضت وتحركت بعيد عنه قليلا وهي تبكي.

رفع سليم عينيه نحوها عاجزا عن الكلام، فكل الكلمات بدت قليلة أمام مامرت به، كانت عيناه مغروقتين بالدموع وهو يتأملها بحزن، ثم اقترب منها خطوة مترددة.

قال بصوت مبحوح: أنا مش لاقي كلام أقوله، حاسس مفيش كلمة ممكن تخليني اعتذر عن إللي حصلك بسببي، بس أنا دورت عليك يومها، وأنتِ هربتي، وفضلتي فاكرة ان أنا إللي عملت فيكي كدة، بس والله العظيم مش أنا، دى المسخ إللي بقيت عليه بسبب الحباية الملعونة دي، هو السبب، أنا مهما اعتذرت مش هعوضك لا عن خوفك ولا عن وجعك ولا عن أي حاجة اتعرضتي ليها، بس مش أنا السبب يا ماسة، والله العظيم ما أنا السبب، أنا حتى مش عارف أطلب منك السماح إزاي، كنت فاكر الموضوع هيخلص عند الحباية والليلة دي، متوقعتش ابدا إنك هتعيشي كل ده، أنا آسف، شوفي إيه إللي يرضيكي وهعمله، حتى لو عايزة أدبح صافيناز وأجيبهالك تحت رجلك، هدبحها.

تأملته ماسة بعينين تائهتين يختلطان بالحزن والغضب، ثم ردت بفتور: انا مش عايزاك تعتذر، ولا عايزاك تدبح حد، أنا حكيتلك عشان تفهم أنا ليه تعبانة وليه ساكتة، ووجودى هنا علشان عايزة أحمي مصطفى وأهله من اذيتك، وحكيت علشان تعرف قد إيه الناس دي وقفوا جنبي ولولاهم أنا كان ممكن أكون مت.

تجمد سليم في مكانه، ثم ارتفع صوته، وهو يحاول إقناعها: هو أنتِ ليه فاكره اني ممكن أذي أهل مصطفى؟! والله ماكنت ناوي ولا فكرت فيها حتى، بس بعد اللي قولتيه حياتهم بقت أمانة عندي، دى انا افديهم بحياتي يا ماسة، أنا لا يمكن أذي الناس اللي حافظوا عليكي، اللي حافظوا لي على ماسة

هزت رأسها ببطء، وصوتها يحمل شك لا ينتهي: مش قادرة أصدقك.

انخفض صوته، وخرجت الكلمات محملة بالمرارة: عشان لسه زعلانة، ولسه خايفة منى.

صمتت ماسة لحظة، ثم قالت بنبرة متعبة: انا مش عايزة اتكلم اكتر من كده، مش عايزة افتكر الايام دي تانى، كفاية كده.

اقترب سليم خطوة، لكنها رفعت يدها أمامه لتوقفه، أشار بيديه في استسلام: حاضر، بس انا نفسي تسامحيني ياماسة، نفسي تديني فرصة، مش عارف حتى اطلبها منك ازاي بعد اللي حكتيه، ولا عارف اذا كنت استحقها ولا لا، حاسس إن ده عقاب ربنا ليا، اني اتحرم منك ومن مسامحتك، بس أنا قلبي طمعان في قلبك الابيض إنه يسامحيني ويدينى فرصه أخيره، خلينا نعاتب بعض، خلينا ندي نفسنا فرصة أخيرة.

تنهدت ماسة بعمق ومسحت دمعة على خدها: انا مش عايزة اتكلم بالله عليك، انا مرهقة، واللي سمعته دلوقتي وجعني اوي، خصوصا لما عرفت إن ندى السبب، اتوجعت من جديد، وبعدين حتى لو اتكلمنا، تفتكر السماح سهل زي ما أنت متخيل؟!

هز سليم راسه برجاء: متسامحيش، بس اسمعيني، أنا عايز اقولك على حاجات حصلت.

التفتت بعيدا عنه وقالت بتعب: مش عايزة اعرف، أنا عايزة انام.

ابتسم ابتسامة يائسة وهو يهمس: هتنامي تاني؟

هزت راسها بايجاب وهي تمسح دموعها: ايوه، أنا تعبانة وعايزة انام، مش قولت أنك اتغيرت، وعايز تفهمني بسبب ايه؟! بس انا مش عايزة اسمعك ولا افهم، انا عايزة اشوف التغيرات دي، وريني تغيراتك بالافعال مش بالكلام.

بدات بتحرك بخطوات بطيئة بينما وقف سليم في مكانه، وصوته ينكسر بالانين وهو يقول: معاكي حق، هستنى، هفضل طول العمر مستنى، وفي انتظارك.

وصل الجزء ده ل ٣٠٠ لايك عشان انزل باقي الحلقة

 

 

باقي الفصل الثامن ❤️

باقي الفصل الثامن👇

واصلت ماسة السير مبتعدة، فيما ظل هو متسمرا في مكانه، فجأة رفع كفه وضرب جذع الشجرة بقوة، فارتد الصدى في الليل كصرخة مكتومة فما سمعه منها كان كفيلا بتمزيق أعصابه وإشعال روحه رغبة في كسر العالم، أدرك أن المسافة بينه وبينها أوسع مما تخيل، كهاوية لا قرار لها، شعر بنار تلتهم صدره، وقلبه يعصر بلا رحمة حتى كاد يتفتت، لم يتخيل أن ماسة حملت كل هذا العذاب، كان يظن أن فراقها أقسى مايمكن أن يعيشه، لكنه اكتشف أن ما مرت به أشد قسوة، وأنه هو الجاني الذي تركها تواجه جحيمها وحدها.

زاد غضبه من نفسه حتى نهش قلبه، أراد أن يمحو أثره من حياتها، لكنه لم يجد طريقا. أي اعتذار أو أسف صار بلا معنى انهمرت دموعه بصمت، حارقة كأنها دماء من جرح غائر، لولا خطيئته في ذلك اليوم، لما كان كل هذا الخراب قد حدث.

عض على أسنانه حتى أوشك أن يطحنها، واشتعلت في عينيه شرارة غضب مكبوت، وفجأة فقد السيطرة على نفسه، اندفع يركض نحو سيارته وقادها بجنون، وكأنه يريد أن يهرب من جلده، من ماضيه، من جريمته.

لمحه مكي وهو يبتعد مسرعا، فركض خلفه محاولا اللحاق به، توقف سليم عند محطة وقود، ترجل بخطوات متعثرة، جسده يرتجف من شدة الانفعال، يده ترتعش وهو يمدها نحو العامل، واشترى بنزينا، بينما  مكي مازال خلفه خطوة بخطوة، يتعقبه بسيارته، يراقبه من بعيد بعين قلقة، يتساءل: لماذا توقف عند محطة الوقود؟ ولماذا اشترى هذه الكمية الكبيرة من البنزين؟

أما سليم، فالغضب الأعمى والحزن الغامر جعلاه لا يرى شيئا حوله، لم ينتبه حتى أن مكي يتبعه، وصل إلى فيلتهما القديمة، المكان الذي شهد كل أهوال ماسة، المكان الذي تحول إلى لعنة تطارده.

أخرج جركنين البنزين بيدين ترتجفان، ودخل الفيلا بخطوات متسارعة غاضبه بعين تطلق شرا، صعد إلى الدور الثاني، إلى الغرفة التي شهدت أكبر كارثة يمكن لإنسان أن يمر بها، عيناه مسحت المكان، ورأى شريط الذكريات يعرض أمامه: السرير الذي عاشت عليه العذاب تلك الليلة، الحائط الذي حاول أن يخنقها عليه، الأرضية التي شهدت دموعها وصرخاتها، كل زاوية في الغرفة كانت تصرخ في وجهه: أنت السبب.

بدأ يسكب البنزين بجنون، يرشه على السرير، على الحائط، على الأرض، على كل شيء، ثم خرج إلى الممر وبدأ يسكب على السلالم، ثم إلى الغرف الأخرى، لم يترك ركنا دون أن يغمره بالبنزين، كان كالمسعور، عيناه محمرتان، أنفاسه متقطعه، والغضب يعميه، حتى فقد الإحساس بكل شيء حوله.

أنهى الجركن الأول، ثم أمسك بالثاني وكأن بين يديه خلاصه الوحيد، لم يترك شيئا إلا وغمره بالبنزين، حتى آخر قطرة.

خرج إلى الخارج، وقف يتأمل الفيلا كأنها وحش، عادت إليه لحظة دخول ماسة هذا المكان بعد هروبها: وجهها المذعور، صرخاتها، انكسارها، مشاهد متلاحقة طعنته بلا رحمة، وكأن تلك الليلة لا تنتهي.

مد يده المرتجفة، أشعل ولاعة ورماها، في ثوانٍ التهمت النار الجدران والأثاث، وانفجار هز الأرجاء.

ظل سليم يحدق في النيران، عيناه زائغتان ودموعه تختلط بابتسامة موجوعة. الحريق لم يكن سوى انعكاس لحريق قلبه، غضبه على نفسه وندمه لأنه تركها تواجه الأهوال وحدها.

غطى وجهه بيديه المرتجفتين، لكن صورة ماسة وهي ترتجف لم تفارقه، تطعنه كخنجر لا يخرج. حاول أن يصرخ، لكن صوته انحبس في صدره.

بقي واقفا وسط اللهيب، يتمنى لو التهمته النار كما التهمت المكان وأدرك أن لا خلاص له؛ ذنبه سجنه الأبدي، وقلبه سيبقى يشتعل… حتى آخر نفس.

وهنا اقترب مكي بخطوات مترددة، وصوته منخفض ومبحوح: إللي عملته ده يا سليم مش هو إللي هيشفيك، حرق شويه حيطان مش هيمحي إللي جوه قلبك.

ظل سليم يحدق في اللهيب، وخرج صوته متكسرا: بس على الأقل، أخلص من أكبر ذكرى كانت سبب في دمارنا.

أدار رأسه فجأة نحو مكي، ملامحه ممزقة، وصوته يتقطّع بمرارة: أنت متعرفش هي عاشت إيه؟! حكتلي على كل إللي حصل لها في الست شهور، عمري ما تخيلت إنها ممكن تكون عاشت كل ده، ماسة عاشت في الشارع يا مكي، عاشت تلات أيام بتنام في الشارع، أنت عارف يعني إيه ست تنام في الشارع، لدرجة إن أنا ندمت إن أنا سألتها وعرفت، بس لا أنا استاهل أعرف علشان اتوجع عليها أكثر وأكثر، ده أنا حتى مش عارف اعتذر لها اعتذر لها على إيه ولا إيه..!!

اقترب مكي خطوة، وقال بدعم ومواساه: يمكن مش هتعرف تصلح إللي فات، ولا هينفع ترمم إللي اتحرق، بس تقدر تساعدها إنها تشفى، هي مش هتنسى، بس ممكن تشفى.

ألتفت إليه سليم، وعيناه ملتهبتان بالدموع والغضب، وصوته يخرج مشوشا:تشفى من إيه ولا من إيه يا مكي؟! تشفى من كابوس وتصحى على غيره يطاردها؟! تشفى من ليلة ويفضل ألف غيرها واقفين قدامها؟!

تزلزل صوت سليم وهو يصرخ كأن الكلمات تمزق حنجرته:

أنا السبب في كل ده، أنا آخر واحد ينفع أديها شفا ! شكل هو ده عقابي ربنا ليا، أفضل أبص لها واتمنى تسامح ومتسامحش، أشوف وجعها واتوجع عليها، أشوف خطيئي فيها، وأفضل أندم وألعن نفسي طول العمر.

تقدم مكي خطوة أخرى، وصوته هذه المرة كان حازما:

غلط، هي محتاجة لك دلوقتي أكتر من أي وقت، أنت فاكر إنك لما تحرق فيلا أو تهرب من نفسك كده هتكون بتنقذها؟ بالعكس يا سليم، أنت كده بتسيبها لوحدها تواجه أوجاعها إللي كسرتها.

أشاح سليم بوجهه، والدموع تجري على وجنتيه، وهو يهمس: وأنا إزاي أكون سند ليها وأنا إللي هديت حياتها بأيدي؟ إزاي أبقى أمانها وأنا أول واحد سرق منها الأمان؟

مد مكي يده، وأمسك بذراع سليم بقوة، وقال بصوت قوى: مش هتعرف تمحي إللي فات لكن تقدر تكون حاضر في إللي جاي، صدقني أنت ملكش ذنب، متحملش نفسك فوق طاقتها، الليلة دي مش مسئوليتك، أنت كنت متخدر يا سليم، حتى لو هي عرفت ده ومسامحتش، دى طبيعي؛ لإنها لسة مش قادرة تتخطى، بس أوعى تشوف نفسك مذنب للدرجة دي.

لان صوته قليلا، وهو يحاول التخفيف عنه: من رأيي اتعاملوا الفتره دى كأتنين أصحاب، خدوها ببساطة كأتنين موجوعين، أتنين مرضى محتاجين يشفوا بعض، هي مش محتاجة بطل ينقذها محتاجة تحس إنك فعلا اتغيرت المرة دي، ومش هترجع تاني لطريقتك القديمة.

ثم شدد قبضته على ذراعه: بلاش تخلي النار دي تاكلك، اتعلم من أخطاء الماضي علشان تعرف تعيش حاضر مختلف، وبص قدامك، علشان مستقبلك ميبقاش كله شوك.

ثم ركز النظر في ملامحه، وقال بتأكيد: مش هقولك تاني ماسة محتاجاك جنبها، متحسسهاش إنها لوحدها تاني، خليها تحس بالأمان إللى فقدته.

ارتجف صدر سليم، وصوته خرج مبحوح وهو يردد: عمرى ماهسيبها لوحدها تاني.

أغمض عينيه للحظة، كأن العبارة اخترقت قلبه، ثم فتحهما ببطء، ينظر إلى ألسنة النار التي تلتهم ما تبقى من الفيلا، وهمس كأنه يحدث نفسه: يمكن دي آخر مرة النار دي تحرقني، يمكن أقدر أخليها تشفى حتى لو مش هتنسى زى ما قولت، أنا لازم أعمل المستحيل، لازم أرجع أنا وهي زي زمان، لازم أرجع تاني سليم إللى كانت بتخاف من الدنيا كلها إلا منه، سليم اللى قالتله في يوم أوعى تبقى زيهم.

وضع مكي يديه على كتفه بدعم، فرفع سليم عينه، فقال مكي بعقلانية وتأكيد: بالظبط هو ده إللي أنا عايزك تعمله، وبعدين أنت دلوقتي مشيت في خطوات كثير لازم تعرفها لها، لازم تعرفها إللي حصل في الست شهور معاك أنت كمان.

هز سليم رأسه بصمت، دموعه مازالت تلمع في عينيه، وصدره يعلو ويهبط ببطء كأنه يحاول التقاط أنفاسه لأول مرة من زمن بعيد.

فيلا سليم وماسة

غرفة النوم

جلست ماسة على حافة الفراش، ودموعها تغمر عينيها، والقلب المرهق يعصره الألم، الصداع يدق في رأسها كالطبال، ونيران الذكريات تحرق قلبها، امتدت يدها إلى الكومودينو تبحث عن مسكن، جلست ماسة على حافة الفراش، الدموع تغرق عينيها والقلب المرهق يعصره الألم. الصداع يدق في رأسها كطبول حرب، فيما نيران الذكريات تواصل التهام قلبها.

مدّت يدها المرتجفة نحو الكومودينو تبحث عن مسكّن، لكن بصرها سقط على خاتمها. قبضت عليه بدهشة، رفعت حاجبها وهمست: “إيه جابه هنا ده؟!”

لم تطل التفكير، ارتدته على عجل وعادت تبحث فتحت الدرج، وبينما كانت أصابعها تلامس شريط الدواء… جمدت مكانها.

هناك، في الزاوية، كان يرقد هاتفها القديم. هاتف ظنت أنها دفنته مع ماضيها… لكنه عاد الآن ليطل عليها كأشباح الليل.

تجمدت لحظة، نظرت إليه بإستغراب كيف تركه سليم هنا؟ إلتقطته بيد مرتعشة، ضغطت زر التشغيل، فإذا به يضيء أمامها وكأنه لم يغب لحظة، البطارية مشحونة بالكامل.

ازدادت علامات الاستفهام على وجهها، مدت يدها لتفتح بيانات الهاتف، وما أن أتصل بالواي فاي حتى انهارت الإشعارات بسرعة هائلة، كأنها سيل لا ينتهي، رسائل لا تُحصى، عبر الواتساب والرسائل القصيرة، كلها باسم واحد (كراميل)

ارتجفت أصابعها، وكادت تتراجع، لكنها لم تستطع، لم تكن قادرة على فتح كل هذا الكم دفعة واحدة، كأن الهاتف يئن من ثقل الشوق المتكدس فيه، وبعد لحظات من التردد، قررت فتح أول محادثة، فاستقبلتها الكلمات كطعنات متتابعة:

“أخاف أن تشرق شمس الغد ولا أسمع صوتك، أخاف أن يطول غيابك أكثر.”

“كل الطرق بلا عينيكي مظلمة، وكل الأيام بغيرك عابرة بلا روح.”

“أمضي يومي أبحث عنك في كل تفصيلة، في ظل على الحائط، في نسمة هواء، لكن لستي هنا.”

“أرجوكي، إن كنتي بخير، فامنحيني علامة واحدة فقط.”

“أكتب إليكي كأنك ستقرئين غدا، لعل كلماتي تصل قلبك قبل عينيك.”

“قلبي لم يعرف الخوف إلا حين اختفيتي.”

“أشتاقك حد الألم، وكأن جسدي يئن لأنك لستي بقربي.”

“حتى الأحلام لم تعد تنصفني، أراكي فيها وتغيبين قبل أن ألمسك.”

“أتعلمين؟ أحاديثي معك لم تتوقف، أنا فقط أحدث صمتك الآن.”

كانت تقرأ الرسائل بألم يمزق أحشائها، كل كلمة تنغرس كخنجر في صدرها، كل حرف يلسع قلبها بجمرة حارقة، ارتجفت يداها وهي تقبض على الهاتف بعجز، أصابعها ترتعش كأنها لم تعد تملك القوة لتحمله، انهمرت دموعها بلا هوادة، والآهات تتكسر في صدرها مكتومة، كأنها سجينة لا تجرؤ على الخروج.

ثم انطلقت أول رسالة صوتية، صوته تخلل الغرفة خافتا، مبحوحا، يقطع أوصال قلبها:

ماسة أنا عارف إن التليفون مش معاكي، بس ببعتلك عشان يوم ما ترجعي وتفتحي، تسمعي وتعرفي أنا كنت  موجوع قد ايه، مش عايش من غيرك، إللي مخليني لسة بتنفس، إحساسي إنك بخير، أو يمكن يقيني إن قلبك لسة عايش معايا، أنا قولتلك قبل كده: قلبي هيقف في الثانية إللي قلبك هيقف فيها، ومادام قلبي لسة بينبض، يبقى قلبك لسة بينبض معايا، وحشتيني أوى، الليل مبيعديش، الثواني بقت ساعات، والساعات بقت شهور، أنا موجوع أوي، ومحتاجلك أوي.

جاءت رسالة أخرى بصوت يقطر وجعا: أنا مش عارف أعيش من غيرك والله مش عارف، حتى الأكل مش قادر آخد لقمة من يوم ما اختفيتي.

ثم فويس باكي قصير: وحشتيني.

أخذت ماسة تستمع وتقرأ الرسائل، وكل كلمة كانت تخترق قلبها، الوجع يفتك بها، والدموع تنهمر بلا توقف، صوته، نبرته، رجاؤه، وحنينه، وشوقه كلها كانت تقتلها، تارة تبكي، وتارة تبتسم بلا وعي، مشاعرها متشابكة، لا تفهمها، ولا تستطيع السيطرة عليها.

كانت تحاول أن تبقى صلبة، أن تكون قوية، أن تتحكم في قلبها الذي يركض وراءه في كل مرة يشعر فيها بالحزن، لكنها لم تستطع، كل رسالة كانت تضيف ثقلا آخر على صدرها، كل كلمة منه كانت تجعل قلبها ينهار شيئا فشيئ، رغم رغبتها في عدم التأثر والاستسلام للشوق.

عدد الرسائل كان هائلا، يبدو أن سليم لم يترك يوما إلا وأرسل لها رسالة أو أكثر: عن شوقه لها، عن عذابه، حزنه، وحتى تفاصيل يومه، كل رسالة كانت كجسر من قلبه إلى قلبها.

لم تستطع ماسة أن الصمود أكثر، فانفجرت تبكي، دفنت وجهها في الوسادة، تبكي بلا توقف، كانت تحاول الهروب من الشوق، من الحنين، من الوجع، ومن السؤال الذي يفتك بها منذ أشهر: كيف مازلت تحبه بعد كل ما فعله بها؟ كيف تستطيع أن تشعر بهذه المشاعر تجاهه رغم عدم شعورها بالأمان؟ كيف يمكن أن يجتمع الحنان مع الخيانة، الحب مع الألم؟ أم أنها فقدت كل كرامتها لتصل الأمور إلى هذا الحد؟

كانت دموعها تبلل الوسادة، وكل تنهيدة منها كأنها تصرخ في قلبها، تحاول أن تفهم، أن تتصالح مع مشاعرها، لكنها لم تجد جوابا، كل شيء متشابك داخلها: الحب، الغضب، الحيرة، الألم، الشوق، كل مشاعرها تصارع بعضها بلا هوادة، وتتركها منهارة على فراشها، عاجزة عن الصمود أمام قوة ما سمعته ورأته.

في قصر الراوي، السابعة مساء

السفرة.

كانت العائلة كلها ملتفة حول مائدة العشاء، حضر الجميع بأبنائهم، ولم يغب سوى سليم، وبالطبع صافيناز وعماد، إذ اعتادوا عدم مشاركة العائلة العشاء إلا عند الضرورة.

وبينما كان الضحك والأحاديث الجانبية تملأ الأجواء، ضرب رشدي بالشوكة على الكوب الزجاجي، ليلفت الانتباه قائلا بجدية مفتعلة: ممكن تركزوا معايا شوية؟

ارتفعت العيون نحوه، وسأله عزت ببرود وهو يتكئ على كرسيه: خير يا رشدي، عملت مصيبة إيه المرة دي؟

ضحك رشدي بسخرية وهو يهز رأسه: هو أنا لازم كل مافتح بقي تبقى مصيبة!؟

رفعت فايزة يدها بإستهزاء وهي تضحك: هو أنت بتعرف تعمل حاجة غيرها؟

صمت رشدى لحظة، ثم قال بهدوء مفاجئ: لا المرة دي هتجوز..

تابع بنبرة استخاف: وهجيبلك رشروش صغير يا فوفا، عشان يقول لك يا تيتة فوفا، ويكمل مسيرة أبوه في المصايب.

ساد صمت ثقيل، حتى الأبناء تبادلوا النظرات بدهشة، الجميع يعرف طباع رشدي، وأنه لا يأخذ شيء على محمل الجد بسهولة.

لحظة قصيرة مرت قبل أن تنفجر فايزة بضحك عالي، تبعها عزت، ثم انضم باقي الجالسين، وحده ياسين ظل ساكنا، ينظر إلى رشدي بعينين متيقظتين لأنه يعرف أنه جاد.

مال رشدي برأسه، وهو يقول بنبرة استخفاف حادة: هو أنا قولت نكتة جامدة كدة؟ ولا بزغزغكم؟ ولا الأكل مرشوش فيه حتة بميه؟

تابع هو يتحدث بنبرة جادة رجولية: أنا مبهزرش، أنا بتكلم جد، هتجوز، وهجيبها لكم تتعرفوا عليها بس عايزكم تبقوا مؤدبين وقتها، عشان أنا كمان أبقى مؤدب أنتم عارفيني، لما بتهب، بتهب.

انحنى عزت للأمام وسأله بإستهزاء: ودي عرفتها في أنهي نايت كلب؟ ولا عند أنهي ديلر؟

حاولت فايزة كتم ضحكتها بكفها: وياترى أبوها شغال إيه بقى؟ تاجر مخدرات؟ ولا سلاح؟ ولا تجارة أعضاء؟

ألقى رشدي بجملة لاذعة مستخفة وهو يمسح فمه بمنديل الورق: لا يا فايزة أبوها تاجر كوكتيل، هاهاها.

ضحك طه وتناول مافي شوكتة: رشدي أكيد بيهزر أو متقل في الشم المرة دي.

شد رشدي ملامحه، ورفع حاجبه بجدية: لا بتكلم جد، هجيبها يوم الأربعاء، وأنتِ بنفسك ياهانم هتطلعي تستقبليها أنتِ وفريدة.

سخرت فايزة وهي ترفع صوتها: أنا أستقبلها؟ أنت اتجننت؟

ابتسم رشدي ببرود وهو يتكئ للخلف: أيوة هتستقبليها على البوابة، وأظن أحسن لنا يعني نسمع الكلام.

ثم رفع عينيه نحوها بنظرة تهديد وهو يبتسم: ده أنا حتى هقول لسليم يحضر علشان أعرفه عليها.

تبدل وجه فايزة، واشتعل غضبها: مش هتبطل الوقاحة والأسلوب القذر بتاعك ده؟

رفع رشدي حاجبه متحديا: وأبطلوا ليه؟

تدخل عزت وهو ينظر له بريبة: وليه مهتم اوي كده إننا نستقبلها على البوابة؟

ابتسم رشدي وهو يميل للأمام: هتعرفوا، لما تشوفوا.

قاطعه عزت بأنفعال: أنت عايز والدتك وأختك يروحوا يستقبلوا واحدة من الأشكال إللي أنت تعرفها؟

ضحك رشدي باستهزاء، وهو يلوح بيده: ما إحنا استقبلنا قبل كده الخدامين عشان المصلحة، والمرة دي هتستقبلوا ضيفتي علشان أنا أكون مؤدب وهادي، بس لو حد دماغه وزته يستخف دمه ويرمي كلام سخيف زى رشدي الفاشل، المدمن.. ويقل مني قدام ضيفتي، يبقى ميلومش غير نفسه، البنت دي أنا هتجوزها، فلسانا يتحط جوة بقنا، علشان أنا كمان بعرف أقول على مين خروف، وعلى مين حربوق، وعلى مين بومة، عندي أسامي حلوة ولطيفة اوي ليكم هتعجبكم، بس مش مستاهله نطلع كل قاذورتنا قدامها من أول يوم.

تعجب عزت بتهكم: أنا عايزة أفهم هو أنت ماسك علينا ذلة ولا إيه؟  إيه الطريقة إللي بتتكلم بيها دي!

رشدي بهدوء وثقه: ولا ذله ولا حاجه يا والدي العزيز، إيه المشكلة يعني لما أطلب إن ضيفتي تيجي هنا وتستقبلوها بإحترام، ولإني عندي سبب مهم جدا، بطلب من فايزة، مراتك، أمي حبيبتي، إنها تستقبلها هي وأختي عند البوابة؟ ده أول طلب أطلبه منكم في حياتي كلها، حاولوا تتنازلوا مرة، وافتكروا إن أنا ابنكم، وليا حق، إنكم تستقبلوا ضيوفي بالطريقه إللي تناسبهم.

صمت عزت للحظة، وهو يرمقه بنظرة متفحصه:خلاص يا فايزة، أعملي له إللي هو عايزه أما نشوف اخرتها معاه.

ثم تابع بتحذير: بس اسمع لو طلعت واحدة من الأشكال إللي شبهك متزعلش من ردة الفعل.

ابتسم رشدي وهو يلوح بقبله في الهواء: شكرا يا حجوج!

ثم تابع باستهزاء: أبقى قول لأختي الحربوقة تحضر، علشان مراتي المستقبلية تشوف قد إيه احنا عيلة مترابطة وبنحب بعض.

ضحكت هبة بسخرية على كلمته، فانتبه لها رشدي معلقا بسخرية: معلش دي نكتة سخيفة، بس نحاول نتحمل بعض يا هبهوب.

ابتسم رشدي وبدأ يتناول طعامه بهدوء، بينما كان الجميع يتبادلون النظرات في صمت، لم يجرؤ أحد على الكلام، فهم يدركون جيدا أن من يحاول الحديث مع رشدي قد يندم؛ فهو سليط اللسان، وكما يقال: لا تجادل السفهاء.

في الحديقة العلوية

جلس رشدي وياسين معا في أجواء أخوية، فقد أصبحا مقربين لبعضهم البعض في الفتره الماضيه.

ابتسم ياسين بعدم تصديق وقال: مش مصدق إنك اخدت خطوة بجد مع مي، مش كان اسمها مي؟

ابتسم رشدي بسعادة: أنا كمان مش مصدق، حاسس إحساس حلو جدا، مش قادر أفهمه لكنه حلو.

ياسين بعقلانية: أنت برضه لسه مش بقالك معاها كتير، مع الوقت هتبدأ تفهم أكتر حقيقة مشاعرك.

وأشار بيديه بتحذير: بس مش هقولك تاني يا رشدي، لو البنت زي ما أنت حكيت، بلاش لعب يعني لو خطوة إنك تعرفها على العيلة وتجيبها هنا، لعبه بتلعبها عليها بلاش وسيبها في حالها.

رشدي بصدق: والله العظيم لا، أنا بجد حاسس معها بحاجة حلوه، حاجه شداني ليها زى المغناطيس أنا حتي مش عارف أوصفها ولا اسميها، وأنا بتعامل معاها بصدق مش بلف وادور عليها، كل الحكايه إنها عايزة نتعرف على بعض في إطار رسمي، وأنا حبيت يعني أعرفها عليكم، وهي مش عايزة تيجي وتدخل غير لما حد يستقبلها عند البوابة الأول، علشان خايفة.

ياسين بابتسامه: خلاص، هكلمهم وأقولهم إن البنت مختلفة.

قاطعه رشدي بثقة: أنا مش عايزك تقول حاجة؟! أنا عايزها تبقى مفاجأة.

ثم تابع بمراره ووجع: أنت بس قولهم يحترموني قدامها ويبطلوا يقلوا مني.

ثم تابع بنبرته الساخره: ومراتك كمان خليها تفرد وشها احنا مش قاتلين لها قتيل.

ابتسم ياسين وهو يقول بسخرية: أقولهم يحترموك قدامها دى مقدور عليها، لكن هبه تفرد وشها دي صعبه؟!

رشدي بضجر: مراتك دي فظيعة من ساعة ما اتجوزتها وهي مش طايقة حد فينا، خصوصا أنا، عندها كره ليا فظيع، يمكن محصلش بينا كلام كتير، بس نظراتها ليا مريبة، وكل ما أجي ألعب مع نالا تقولي: “أصلها نايمة، أصلها مش عارفة إيه..” لحد ما خلتني في مرة زهقت منها وقولتلها: “غروي في داهيه أنتِ وبنتك أنتِ هتقرفيني ليه”

وسرعان ما تدارك نفسه، ونظر لياسين باعتذار: سوري يا ياسين

ضحك ياسين ساخرا: سورى بعد ايه بقي، وبعدين مش ممكن رشدى بيعتذر!؟ من امتي؟!

ضحك رشدي: يعني بحاول اتغير، بشتغل على نفسي، بس سيبك الأسيستنت بتاعك الجديد مزه الصراحة، أحلى من مراتك البومه.

ابتسم ياسين وتلألأت عيناه: لوجين؟

غمز رشدي مازحا: إيه ده إحنا عنينا بتلمع والفراشات بتطير حوالينا كده ليه؟! الصنارة غمزت ولا إيه؟!

ياسين بإستهجان: يا عم بلاش هبل، هي بس بنت كويسة وبقينا أصحاب.

رشدي ضاحكا: عموما، معنديش مشكلة تبقى دي مرات أخويا الجديدة بدل مراتك البومه.

ثم اقترب منه وقال بجديه وصوته خرج خافتا: بقولك ايه، أنا عايز أقول لسليم يبقى موجود.

ياسين بابتسامه تشجيع: قوله بكرة بعد الاجتماع، وخليه يجيب ماسة، حاول تقنعه وصلح علاقتك بيه سليم كويس والله.

هز رشدي رأسه موافقا، ثم شرد قليلا، لقد نسي أمر ماسة، أو تظاهر بالنسيان، كأن ما فعله بها لم يكن سوى لحظة عابرة أسقطها عمدا من ذاكرته، لكن ما أن ذكر ياسين اسمها، ارتجف داخله كمن أيقظ ضميره من سباته، تجمد لثواني، وتجنب النظر لياسين، محاولا إخفاء اضطرابه بإبتسامة باهتة، فتنهد ولم يجد مايقوله سوى كلمة مقتضبة خرجت من بين شفتيه: ماشي.

قالها وهو يعلم في أعماقه أن سليم لن يستطيع احضارها معه، وفي تلك اللحظة أدرك أن ما حاول دفنه داخله سيعود ليقف أمامه من جديد.

فيلا سليم وماسة، الثانية عشر مساء

عاد سليم إلى الفيلا الجديدة بعد الحريق الذي ألتهم الفيلا القديمة، كان الوجع يثقل قلبه، وكأن الحطام الذي تركه وراءه تبعه حتى هنا.

صعد إلى الطابق الثاني بخطوات ثقيله، وحين مر أمام غرفة ماسة، لمح الضوء يتسرب من أسفل الباب، فتوقف لحظة بتردد بين أن يدخل أو يغادر.

في الداخل، كانت ماسة جالسة على الفراش، تضم قدميها إلى صدرها، ودموعها تنساب بلا توقف، سمعت وقع خطواته قريبا من بابها، فشهقت بصمت، وشدت نفسها أكثر، وأغمضت عينيها بقوة، وهي تخاطب نفسها “أمشي متفتحش مش عايزة أضعف أمشي” فهي كانت تخشي أن تضعف أمامه بعد تلك  الرسائل.

ظل سليم واقفا أمام بابها، يمد يده إلى المقبض ثم يسحبها، كأن بينه وبين الغرفة جدارا لا يكسر وأخيرا، تنفس بعمق، وأكمل طريقه إلى غرفته.

غرفة سليم.

دخل وجلس على الفراش، يطوي رأسه بين يديه، يهمس في داخله “كيف أسترجعها؟ كيف أمسح ما فعلته بيدي؟

أما ماسة، ففتحت عينيها الغارقتين بالدموع، وتنهدت قبل أن تدفن وجهها بين ركبتيها وتترك بكاءها يملأ الغرفة.

تقريبا لم يذق كل من ماسة وسليم طعم النوم في تلك الليلة، كانت ليله طويلة وثقيلة، يختلط فيها الليل بالصمت حتى بدي وكأن عقارب الساعة توقفت.

مع حلول الصباح، لم يذهب سليم إلى المجموعة رغم المكالمات المتكررة، خاصة من رشدي، الذي ألح باتصالات متكرره للقاؤه والحديث معه عن مي والعشاء المقرر في الغد.

كان سليم مستلقيا على ظهره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالحزن، ومع إصرار رشدى ورناته المتتاليه، اضطر سليم للرد أخيرا، فالتقط الهاتف ببطء، وأجاب بصوت مبحوح يقطعه تعب واضح: إيه يا رشدي، في ايه لكل دى؟

جاءه صوت رشدي مليئا بالحيوية من مكتبه في المجموعة: إيه يا أمير، فينك؟

أغمض سليم عينيه لثواني، ثم قال بفتور: عايز إيه؟

رشدي بنبرة ساخرة: غايب عننا بقالك كتير في حوار كده محتاجك فيه.

سليم بإقتضاب: مش جاي النهاردة؟

رشدي بهدوء: مش مشكلة، قولي أنت فين وأنا أجيلك.

سليم متعجبا: عايز إيه يعني؟

صار صوت رشدي أكثر جدية: عايزك في موضوع أخوي.

ضحكة قصيرة ساخرة خرجت من بين شفتي سليم وهو يتمتم: موضوع أخوي، بينا؟

رشدي ضاحكا: آه والله يا سولم.

زفر سليم طويلا، وصوته خرج أخفض من ذي قبل: مش عارف يا رشدي، هشوف كده، هو مينفعش الموضوع دى يتأجل بعدين؟

رشدي بإصرار: لا لازم نتقابل النهارده، شوية كده وهكلمك، باى.

أغلق سليم الخط ورمى الهاتف بجانبه، جسده ثقيل لكن قلبه أثقل، نظر إلى باب غرفة ماسة المشترك بينهما، كأنه يتمنى أن يفتح فجأة، وتظهر وتمنحه ابتسامة صغيرة قادرة أن تنعش روحه الذابلة،لكن الباب ظل صامتا.

أما ماسة، التي سمعت المكالمة، لم تبدِ اهتماما، ونهضت بخطوات ثابتة، دخلت الحمام لتغتسل من بقايا الليل.

أما سليم، فمد يده ببطء إلى الهاتف مجددا، وصوته هذه المرة بدا كسيرا، متوسلا: أيوه يا دكتور، عارف إن جلستي بعد يومين، بس أنا محتاج أجيلك النهاردة.

جاءه صوت الطبيب هادئا صارما: سليم، مش ده الإتفاق، لازم نلتزم.

أطبق سليم جفونه بقوة، وقال بنبرة استعجال وارتباك انكسرت في صوته: مش هينفع، أنا لقيت ماسة.

ساد صمت قصير على الطرف الآخر، ثم جاءه صوت الطبيب أكثر جدية: ماشي، هستناك الساعة سبعة.

أزاح سليم الغطاء عن جسده، وجلس على حافة السرير، وخرخ صوته ضعيفا: خليها بدرى عن كده، أنا تعبان.

الطبيب بتساؤل: أنت أخدت حاجة مهدئة؟

سليم: لأ.

الطبيب: كويس، خلاص خليها خمسه.

أغلق سليم الهاتف والقاه بجانبه، ثم مرر كفه على وجهه المتعب وزفر بقوة، ونهض بخطوات ثقيله وتقدم نحو الجرموفون ووضع الأبرة على الاسطوانة، فانطلقت أغنية لعبدالحليم حافظ “حاول تفتكرني”، تمزق جدار الصمت الثقيل.

في تلك اللحظة، خرجت ماسة من الحمام، ترتدي برنص أبيض، وقطرات الماء تتساقط من شعرها، جلست أمام المرآة، بدأت بتصفيف شعرها ببطء، وفجأه اخترقت صوت الأغنيه قلبها دون استئذان، كأنها خرجت من داخله لا من جهاز قديم، وضعت يدها على صدرها، تنهدت بغصة حاولت أن تخفيها بعينين ترقرق بدموع.

أما سليم فوقف عند الشرفة، سيجارة مشتعلة بين أصابعه، يحدق في الأفق بعينين شاردتين، والأغنية تنطق بما عجز هو عن قوله، تكشف جرحه العميق دون رحمة.

(كلمات الأغنية)

أنا إللي طول عمـــــري باصــــــــــــدق كلام الصبر في المواويــــــــــــــــل

وأنا إللي طول عمــــــــري با أقول الحب عمره طويـــــــــــــــــــــــــــــــــل

من كتر ما كان الحب واخدنــــــا وكل حلاوة الدنيا في إيدينــــــــــا

ولا فكرنا زمان يعاندنــــــــــــــا ولا أيام تقدر تبعدنـــــــــــــــــــــا

وعشنا الحب بالأيــــــــــــــــــام وكل بكرة فيه أحــــــــــــــــــلام

واتـــــــاري كل ده أوهـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــام

وســــــــــــافر مـــــن غير وداع فـات في قلبي جراحـــــــــــــــــــه

دبت في ليل الســـــــــــــــــــهر والعيون مـــا ارتاحــــــــــــــــــوا

ومنين نجيــــــــــــــب الصـــــــــــــــــــــبر ياهل الله يداوينــــــــــــــــــا

إللي انكــــــــــــــــوى بالحـــــــــــــــــــــــــب قبلينا يقول لينــــــــــــا

حبيبي.. والله لســــــــه حبيبي والله وحبيبي .. مهما تقســـــــــى حبيبي والله

حبيبـــــــــــــــــــــي .. عمري ما انســــــــــــــــــــــــــــــى حبيبي والله

لو مريت في طريق مشينا مرة فيه أو عديت بمكان كان لينا ذكرى فيه

أبقـــــــى إفتكرنــــــــي .. حاول تفتكرنـــــــي .. دي ليالي عشــــــــــناها

أبداً مــــــــــــــــــــــــــــش ح أنســــــــــــــــــــــــــــــــاها

على بالي يا حبيبي على بالـــــــي على بالي أيام وليالي يا حبيبـــــــــي

على بالي ليــــــــــــــل ونهـــــــــــــــــــار وأنت على بالــــــــــــــــــي

ظلا يستمعان إلى الأغنية، وكأنهما يسترجعان الماضي بذكرياته الجميلة التي تتسلل إلى قلبيهما، فتدمع أعينهما شوقا، وتمتلئ أرواحهم بحنين جارف إلى تلك الأيام التي خذلتهما، وقادتهما إلى ما هما عليه الآن

بعد وقت..

هبطت ماسة إلى الأسفل بعد أن بدلت ملابسها، وقد ارتدت فستانا قديما من الذي كانت تحبهم فيما مضى، بدت خطواتها هادئة وملامحها مترددة، كأنها تحمل فوق كتفيها ثقلا خفيا.

ابتسمت سحر فور أن رأتها وقالت: صباح الخير يا بنتي.

أجابت ماسة بصوت منخفض: صباح النور.

سألتها سحر بحنان: أعملك الفطار؟

ماسة بابتسامة خفيفة بالكاد ترى: يا ريت، أنا جعانة أوي، هقعد في الجنينة لحد ماتخلصي.

سحر وهي تتحرك نحو المطبخ: ماشي، هعملك فطار أنت وسليم بيه كمان، علشان مأكلش من امبارح.

هزت ماسة رأسها من دون تعليق، واتجهت إلى الجنينة، جلست أمام النيل، وعينيها معلقتان بالجزيرة الصغيرة التي تقبع وسط الماء، كأنها ترى نفسها غارقة في المنتصف لا تعرف أي ضفة تقصد،

في الأعلى، كان سليم واقفا في الشرفة يراقبها بصمت، عيناه مثقلتان بالقلق، ظل واقفا حتى نادته سحر إلى الفطور، فهبط بخطوات ثقيله.

السفرة

جلسوا حول السفرة، حاول سليم أن يكسر الصمت بإبتسامة صغيرة: وحشني فطارك يا سحر، خصوصا البطاطس بالزبدة إللي بتعمليها.

ضحكت سحر: ألف هنا يا بيه.

ألتفتت إليها ماسة تتساءل: بنت أختك الرغاية فين صحيح؟!

سحر موضحة: اتجوزت، أمها جوزتها وهي حامل دلوقتي.

اتسعت عينا ماسة، وأنفلت صوتها بإندهاش: يا ما شاء الله! إيه ده، هو أنا غبت كل ده؟ دول ست شهور بس!

ردت سحر وهي تهز كتفيها: ربك خلق الدنيا في ست أيام، وأنتِ غبتي شهور، حصلت فيهم حاجات كتير، ربك قادر يبدل من حال لحال في دقيقة.

زفرت ماسة بحزن: عندك حق، ونعم بالله.

سحر بتساؤل: عايزين حاجة تاني؟

أشار سليم بيده قائلا: شكرا يا سحر، اتفضلي ارتاحي أنتِ.

انصرفت سحر، نظر سليم إلى الخاتم بين أصابعها باستغراب، وقال بنبرة خفيفة: لبستيه تاني يعني؟

رفعت ماسة حاجبها، تمرر أناملها على الخاتم وكأنها تستعيد شعوره: عادي، أنا أصلاً ماقلعتوش غير عشان محدش يشك فيا، لأنه غالي بس هو وصل هنا إزاي؟

ابتسم سليم بهدوء، وشرح بصوت واثق: عادي لما كنت بستناكي، طلبت من عائشة تطلع تجيب كل حاجتك، حطيتهلك من امبارح  قبل ما تصحي.

أطرقت ماسة رأسها بهدوء، وأومأت بإيجاب صامت، كأنها تستسلم للحظة دون جدال ثم اكملا طعمها، ولم يلبث أن رن هاتف سليم، نظر إليه بتعجب فهو رشدي فتجاهله دون رد، بينما عيني ماسة ثبتت عليه بترقب صامت، وهو يتناول قرصا من الدواء وشربه.

ماسة بضيق: متقفل تليفونك بقى أو رد؟ إيه الازعاج ده؟

زفر سليم وهو يجيب بصوت مبحوح: ده رشدي عايز يقابلني، بيقول محتاجني في حاجة ضروري، معرفش عايز إيه.

رفعت ماسة حاجبها: آه أنا سمعت الصبح إنه كلمك كتير، متروح تشوف عايز إيه.

سليم ببرود: سيبك منه.

نظرت إليه بإستغراب: ليه تسيبك منه؟ متشوف عايز إيه؟! هو عارف إني رجعت؟

خفض سليم بصره إلى طبقه، وأجاب بجدية: محدش كان عارف أصلا إنك مشيتي، محدش يعرف أي حاجة عن إللي حصل بينا، حتى صافيناز، بعد ما عاقبتها، متعرفش التفاصيل.

صمتت ماسة لحظة، ثم قالت: خلاص، روح شوفوا عايز إيه.

مال سليم برأسه تجاهها، وقال بصوته الهادئ: مش عايز أسيبك لوحدك، أنا ماصدقت لقيتك، أنتِ وحشاني.

ماسة بابتسامة: لا معلش، روح شوف هو عايز ايه.

هز سليم رأسه إيجابا، وهو يرفع يده إلى جبينه في حركة تلقائية، فتراجعت ماسة فجأة للوراء، وكأنها تتوقع صفعها !!

تجمد سليم في مكانه، وانقبض قلبه، واتسعت عيناه بدهشة وهو يتساءل: مالك؟

أخفضت ماسة رأسها بصمت، وأخذت تواصل  تناول  طعمها بسرعة وارتباك: مفيش.

ظل يراقبها بصمت، يتوسل في داخله أن يكون قد أخطأ الفهم، وأن رعشه عينيها ليست خوف منه، بل مجرد وهم يطارده.

، ثم تنهد، وقال بنبرة خافتة: مش عايزاني أجيبلك أهلك؟

رفعت عينيها بحدة: لا.

تألم صوته وهو يهمس: موحشوكيش؟

اغرورقت عيناها بالدموع: وحشوني أوى، بس أنا مش مصدقاك، مش مصدقة الهدوء، والسكينة، والأغاني على الصبح، مش مصدقة أي حاجة، إيه إللي يضمنلي إنك مش هتجيبهم هنا وتأذيهم؟

سليم بحرارة: لو كنت عايز أذيهم، كنت عملت ده وأنتِ هربانه!

هزت رأسها وقالت بنبرة مرتجفة: لأ، أنت بنفسك قولتلي قبل كده، أكتر حاجة ممكن توجع حد إنك تديه الأمان وتحسسه إن مفيش حاجة هتحصل، وفجأة تطعنه، وأنا حاسة إنك بتلعب معايا نفس اللعبة دي، عايزني أصدق إنك اتغيرت، وأول ما أصدق، ألاقي الطعنة جاية منك، وأنا مش هديك الفرصة دي.

رفع سليم يده نحو صدره: والله العظيم ماهعمل حاجه، أنا فعلا عايزك تشوفي أهلك، علشان عارف إنهم وحشوكي، أنا مش وحش أوي كده يا ماسة.

تمتمت ماسة بصوت مكسور بعدم تصدق: يمكن.

تنهد سليم بتعب: عموما، تليفونك فوق لو عايزة تكلميهم أو تجيبيهم هنا براحتك، إللي أنتِ عايزاه.

ثم نهض، وقال بنبرة هادئة لكنها مكسورة: أنا هروح أشوف رشدي عايز ايه، وبعدها عندي مشوار، لو احتاجتي حاجة كلميني.

مد يده وألتقط هاتفه من على الطاولة، ضغط على رقم رشدي وبدأ يتحدث معه وهو يخطو نحو الخارج، وظلت ماسة مكانها، وهبطت دموعها بصمت فوق وجنتيها، دون أن تحاول مسحها.

في أحد شوارع القاهرة، الرابعة مساءا

نشاهد سليم يقف أمام سيارته، يبدو كأنه في انتظار شخص ما، بعد قليل، وصل رشدي بسيارته، وتوقف بجانب سيارة سليم، هبط رشدي من السيارة، نظر بإستغراب واقترب منه.

رشدي بإبتسامة متعجبة: أيها الأمير الصغير، مش عايزنا نتقابل ولا إيه؟

سليم بنبرة جادة: عايز إيه يا رشدي؟ إيه الموضوع المهم إللي لازم نتكلم فيه؟

رشدي متسائلا: أنت ليه مبتجيش المجموعة ولا القصر فيه حاجة؟

سأل سليم مرة أخرى بحسم: عايز إيه يا رشدي؟

ابتسم رشدي بمرح: تعرف، أنا نفسي أبقى زيك كده، ذو شخصية، وهيبة، ومبتكلمش كتير.

ثم قال بنبرة جاده: كنت عايزك بكرة تيجي الساعة 6:00 على العشا.

تساءل سليم مستغربا: ده إشمعنا يعني؟

رشدي بتوضيح: عازم ضيفة، اتعرفت على واحدة كدة وهخطبها، وهي بكرة هتيجي تتعرف على العيلة، فكنت حابب تبقى موجود.

سليم باستغراب: أنت اتعرفت على واحدة وهتتجوز !

رفع رشدى حاجبيه وهو يقول: آه يا عم، ايه المشكلة يعني؟

تنهد سليم، وقال بهدوء: مفيش، طب وأنا وجودي يعني ليه أهميته في الموضوع ده؟

رشدي موضحا: عايز العيلة كلها تبقى موجودة، عايزها تشوفنا قد إيه قريبين من بعض، وبعدين أنت بالذات، لما تشوفها، هيفرق معايا كثير.

سليم متعجبا: مش فاهم؟!

رشدي ضاحكا: بكرة هتعرف، وبعدين أنا دي أول مرة أطلب منك حاجة، كأتنين إخوات يعني، ولا إحنا مش إخوات؟

ابتسم سليم: ماشي يا رشدي، هحاول أجي، أنا بس عندي ظروف، ومراتي تعبانة، ومش هينفع أسيبها لوحدها، علشان كده مبجيش المجموعة.

رشدي بابتسامه: خلاص تمام، بس هتفضل متجيش المجموعة كتير ؟

سليم بهدوء: لحد ما ماسة تبقى كويسة بس.

ركز رشدي النظر في عينيه وهو يقول: أنا نويت أسمع كلامك، إللي قولتهولي زمان، وأركز في الشغل.

هز سليم رأسه بذهول: ده واضح إن فيه تغيرات فعلا، اتمنى تبقى حقيقية ودايمة، مش لحظية.

رشدي بابتسامه: هفاجئك الفترة الجاية.

ابتسم سليم، وهو يربت على كتفه بدعم وتشجيع: وأنا مستعد أتفاجئ يا رشدي، يلا سلام.

صعد سليم سيارته وقادها، والحراس من خلفه، أما رشدي فظل ينظر لابتعاد السياره حتى اختفت عن مرمي بصره، أخرج سيجارته وهو ينظر إلى الأفق، وقال: ماسه مين اللى تعبانه، هتفضل تمثل لحد إمتى ما احنا عارفين هي فين، بس والله يا سلوم لو ضامن إن ماسة تفضل حاطة لسانها جوة بقها ومتحكلكش حاجة، لكنت عرفتك مكانها بنفسي.

💞_____________بقلمي ليلةعادل

في أحد العيادات النفسية، الخامسة مساءً

جلس سليم أمام الطبيب النفسي، جسده مشدود، ويديه متشابكتان فوق ركبتيه، وأصابعه تتحرك بتوتر، وعيونه تبحث عن شيء يثبتها، أخذ نفسا عميقا،قبل أن يبدأ الكلام.

سليم بضجر: أنا مش فاهم ليه كل ده بيحصل؟ أنا جيتلك علشان ماسة، هي مش راضية تصدقني، وكل ما أحاول أقرب، ألاقيها بتهرب.

دون الطبيب ملاحظاته، ثم تحدث بعقلانية: بص يا سليم، إللي بتحكيه ده رد فعل طبيعي ومتوقع جدا، وإحنا كنا عارفين إن مش بالساهل هتسامح على طول،  إحنا اتفقنا إننا مش بندور على المسامحة، إحنا بندور إزاي تصلح من نفسك عشان متغلطش تاني، لإن ده إللي هيطمنها ويخليها تسامح.

شد سليم يديه بقوة على ركبتيه، صوته ارتجف قليلا بضجر: بس أنت قولتلي إنها كويسة! خليتني أصدق ده.

ابتسم الطبيب برفق: وهي فعلا كويسة، يمكن تكون عدت بأسبوع صعب زي ما أنت حكيت، بس ده مش معناه إنها أنهارت.

قبض سليم على كفه الآخر بعصبية، وجهه صار متشنج: بقولك نامت في الشارع! وكان ممكن حد يغتصبها!

رفع الطبيب يديه بهدوء ليهدئه، وتابع بعقلانية: مظبوط، بس فيه حد أنقذها أكتر من مرة، وهو وعيلته كانوا زي الملاك الحارس ليها، لازم تبص للجانب المضيء مش للجانب المظلم، دلوقتي ماسة جنبك، متفكرش في إللي حصل لها، فكر إزاي تحسسها بالأمان إللي فقدته، وتحول خوفها لإطمئنان.

نظر سليم لأسفل، وخرج صوته مبحوح بوجع: بس هي مش عايزة تسمع، وتعرف إن أنا بتعالج.

الطبيب بهدوء وهو يركز النظر في ملامحه: ده طبيعي أنا مش عايزك تضغط عليها، هي دلوقتي في حالة صدمة، مش مستوعبة إنها رجعت تاني، كل إللي في دماغها حاليا سيناريوهات عن العقاب الجديد، أنت قولت أول حاجة قالتهلك “سيبني أستوعب، سيبني اتخيل العقاب إللي خيالي حتى ميقدرش يوصل له”عقلها دلوقتي مش قادر يتخيل حاجة ثابتة، كله خوف.

حرك سليم رأسه ببطء، وعينيه مليئة بالدموع، وقال بصوت منخفض: هي قالتلي مش قادرة تصدق هدوئي، مش مصدقة السكينة إللى أنا فيها.

ثم أرتفع صوته بضجر وهو يضرب بقبضته على المكتب: أنا مش حاسس بخطوة واحدة بتقربني منها يا دكتور، المسافة كبيرة، وبعد إللي حكته أنا بدأت أتأكد إن هي بقت أكبر كمان.

دون الطبيب شيئا ثم نظر له وقال بهدوء :هي رجعت إمتى؟

تنهد سليم، وأجاب وهو يمسح وجهه: أول إمبارح بالليل، إمبارح طول اليوم نايمة، وبعدين على المغرب حكتلي إللي حصل معاها بعد إلحاح مني، وبعدين طلعت أوضتها زي ما حكيتلك.

دون الطبيب شيء، ثم تساءل: وأنت بعدها حرقت الفيلا، ومنمتش طول الليل طبعا، صح؟

أغمض سليم عينيه، يضغط على أنفه بيده: آه، معرفتش أنام

وأضاف بألم ومرارة ووجع يقطع نياط قلبه: كنت فاكر لما احرق الفيلا المشؤومه دى بذكرايتها الوجع إللي في قلبي هيهدى، بس ولا أي حاجة، حاسس إن روحي بتتحرق، كأن كل الأوجاع إللي في العالم اتحطت جوة قلبي واتقفل عليها، مش قادر أنسى كلامها، بيرن جوايا، كأن فيه حد قاعد جوة وداني عمال يعيد في الكلام إللي قالته.

وضع الطبيب القلم وتحدث بهدوء بنبرة حانية: بص يا سليم، ماسة محتاجة تشوف إنك مش هتعيد نفس الأخطاء، أو يعني مش هترجع تاني تستخدم الأساليب القديمة،متضغطش عليها، اديها مساحتها، خليها تستوعب الوضع، متلحش عليها تتكلم، متبدأش الكلام أنت استنى لحد ما هي تبادر بالكلام، لكن متتكلمش عن إللي حصل لها ولا تتأسف.

اقترب بجسده من المكتب وهو يركز النظر في ملامحه، وكأنه يحاول أن يرسخ الفكرة في عقل سليم بهدوء: هي مش محتاجة تسمع كلمات، مش محتاجة قسم، أو إعتذار أو ندم، هي محتاجة تشوف أفعالك، محتاجة تشوف إنك بالفعل آسف.

وتابع هو يركز النظر في عينيه بثبات: خليك فاهم إن خطواتنا لازم تكون محددة، وهي إنك توصلها إنك اتغيرت ومش هترجع لنفس الأخطاء تاني، شيل من دماغك فكرة إنك تعتذر كل شوية وتستنى السماح، حتى لو قدمت ألف اعتذار، لأنها مش هتسامح غير لما تشوف التغيير بعينيها ملموس وحقيقي، التغيير هو إللي هيوصلك للسماح، مش العكس.

وتابع بنبرة هادئة لكي يطمئنه:

وهي بالتأكيد شايفة الندم جوه عينيك وحساه، المشكلة عندها، إنها شافت قبل كدة منك اعتذرات ووعود كتير، لكن للأسف الشديد بعد الحادثه اللى حصلت لكم والظروف الصعبه اللى مريتوا بيها، أنت رجعت تاني لنقطة البداية، والمرة إللي هربت فيها وأنت اتعاملت معاها بعنف، ده خلق بينكم فجوة كبيرة، بسبب العقاب الشديد إللي حصل منك.

ثم ابتسم كأنه يعطي أمل ودعم:إنما المرة دي الوضع مختلف، هي لما رجعت المره دى استقبلتها بحضن وبإعتذار، وبقلها يومين شايفة منك هدوء غير معتاد، فهي بقي عندها تشتيت وحيرة، وده رد فعل طبيعي، خليها تصدق المرة دي إنك فعلا مش هتعمل حاجة، واديها فرصة لأفعالك هي اللى تتكلم.

رفع سليم عينيه بحيرة، وأصابعه تمسك الكرسي: طب إيه رأيك أجيبلها حد من أهلها، وأوريها إني مش هعمل لهم حاجة؟

حرك الطبيب رأسه ببطء: فكره كويسه بس أصبر شوية، متستعجلش عليها، سيبها يومين ومتتكلمش معاها، بعد كده، ابدأ اتكلم معاها بهدوء، من غير عصبية، ومن غير نظرات حادة، فهمها إنكم محتاجين تتكلموا بهدوء وعقلانية.

وتابع الطبيب وكأنه يعطيه ارشادات كي يمشي عليها:

وأنتم بتتكلموا اقعدوا في حته هاديه، وبعدها خلي أهلها ييجوا قدامها، هي ممكن تحس بخوف، وهيكون رد فعل طبيعي من التوتر، كل إللي محتاج تعمله تطبطب عليها تقولها “أقعدي براحتك”، خلي الزيارة طبيعية، بعد مايمشوا، متتكلمش معاها الا لو هى باردت، ويومين وجيبهم مرة ثانية، وسيبهم يمشوا، وكرر العملية مرة ثالثة، وخليهم يباتوا، أعرض عليها تروح لو حابة، هتقولك: “خايفة” أو “مش عايزه”، رد عليها بهدوء: “لما تحبي تروحي، روحي” لو قالت: “أروح من غيرك”، خليها تروح واديها الحرية تبات كمان، وخليها تشوف التغيرات بنفسها، الموضوع مش محتاج أكتر من وقت، ومش هقولك تاني، إحنا مش بندور على المسامحة أو إزاي نعالج إللي حصل، أحنا بندور ازاى نصلح من سليم علشان ماسة ترجع تاني تشوفه أمانها.

عض سليم شفته السفلى، وقال بصوت منخفض: يعني النهاردة وبكرة متكلمش معاها خالص؟

هز الطبيب راسه بإيجاب: آه إلا لو هي كلمتك، سيب المبادرة ليها.

أخفض سليم عينيه على الأرض، أصابعه تتحرك بتوتر، صوته خرج مكسور: أنا مش قادر أسامح نفسي.

الطبيب بثبات: مش أنت السبب في اللى حصل يا سليم، الظروف هي السبب، أنت عرفت أخطائك وبدأت تصلحها، بلاش تكون قاسي على نفسك، خليك هادي، أنا عايزك النهاردة تاخد حباية، وأشرب حاجة دافية، وأعمل التمارين إللي قولتلك عليها.

أومأ سليم برأسه، وتنفس بعمق، ثم رفع يديه لوجهه في محاوله لتخفف التوتر عن صدره، لكنه ظل ساكنا، عيونه مليئه بالندم والقلق، كأن قلبه مثقل بأكثر مما يستطيع تحمله.

كان الطبيب يتابعه بنظرة متفحصه آسفة، زم شفتيه، وشعر أن سليم يحتاج دعم أكثر، فنهض من مكانه حتى جلس أمامه وأمسك يده: متقلقش إحنا في الطريق الصح، حتى لو هنطول شوية، بس أنا متأكد إن النتيجة هتريحك كتير.

هز سليم رأسه بصمت، وقلب مثقل بالأوجاع والتعب.

بعد أن انتهى سليم من الجلسة مع الطبيب النفسي، غادر المكان بخطوات هادئة، وكأن عبئا ثقيلا بدأ يخف عن صدره، كان يحاول أن يهدأ ويطبق نصائح الطبيب خطوة بخطوة، خاصة فيما يتعلق بصبره على ماسة وانتظار الوقت المناسب.

توجه بعد ذلك إلى النادي لإجراء تمارين الاسترخاء الذى نصحه بها طبيبه النفسي مع مختص بالنادي ، حيث ذهب مع المدرب الخاص به إلى مكان هادئ مفتوح وهو يرتدي ملابس رياضيه مريحة، وبدأ بالتمارين البدنية الاسترخائية، يشعر بكل حركة في جسده وكأنها تزيح عنه توتره وقلقه، وبعد أن هدء توتر عضلاته ووصل لمرحلة الاسترخاء بدأ بجلسة الmeditation (تأمل) ، حيث طلب منه المدرب أن يجلس في وضعيه مريحة بالنسبة له ويغلق عينيه ويوقف عقله عن التفكير في أى شيء ويركز تفكيره فقط على صوت أنفاسه لمده 3 دقائق ، ثم بعد ذلك بدأ في جلسه الvisualization (التخيل أو التصور ) حيث طلب منه المدرب أن يغوص في عالم خياله، وأن يقوم باستحضار صور ذهنية لحياته المستقبلية وما يتمنى تحقيقه بها .

فرأى سليم نفسه في منزل صغير على ضفاف بحيرة هادئة، تتساقط منها شلالات مياه صافيةو ماسة إلى جانبه، وولدان وبنتان يلهوان حوله، والجميع يبتسم ويستمتع بجمال الطبيعة، حاول أن يصفي ذهنه من كل الأفكار السلبية، وأن يركز تفكيره على تخيل كل ما يسعى لتحقيقه في حياته بنظرة إيجابية تجبر عقله على تصديق حدوث ذلك بالفعل كما أخبره المدرب ، وظل سليم في ذلك التصور لدقائق حتى ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه وخفق قلبه وكأن ما يراه الآن يعيشه حقيقة ملموسة وليس خيالا فاذا به صدقها بشكل كبير ..!

انتهت الجلسة وشكر مدربه، ثم أستكمل نشاطه اليومي بتمارين السباحة، مستمتعا بشعور الماء يحيط به، حتى حان وقت الانصراف عند الساعة الثامنة مساء، تاركا وراءه شعورا بالهدوء والطمأنينة و الثقة في حديث الطبيب معه بأن المسامحة قريبة وليست ببعيدة.

فيلا سليم و ماسة التاسعة مساءً

دخل سليم الفيلا بخطوات هادئة، وأول ما سأل عنه كانت ماسة؟!

قالت له سحر وهي تشير نحو النيل: قاعدة على النيل.

هز سليم رأسة وتحرك نحو الحديقة، اقترب منها ووقف خلفها، يتأملها بإبتسامة هادئة، كان يريد أن يقول لها “شكل المكان عاجبك؟!” لكنه تردد، تنفس ببطء محاولا تهدئة قلبه، وحاول تنفيذ إرشادات الطبيب، رفع يده ليلمس كتفها ثم تراجع بسرعة، وضع يده بجانبه مره أخري وتحرك منصرفا قبل أن يضعف.

فجأة، سمع صوت ماسة وهي تلف وهي تقول: سليم؟!

ابتسم فورا، ارتعش قلبه للحظة وظن أنه سيقفز من قفصه الصدرى من شدة الفرحة، وألتفت لها بإبتسامة واسعة وكأنه طفل صغير رأى أمه بعد غياب طويل.

تقدمت ماسة بحذر، تتساءل وهي تقترب: رشدي كان عايزك في إيه؟!

تابعت بإرتباك ملحوظ، تلعب بأصابعها: أصلك اتأخرت؟! في حاجة؟!

ابتسم سليم بهدوء، وقال موضحا: مخدتش 10 دقايق مع رشدي، بس كان عندي مشوار، مش عايزة تعرفي فين؟!

نظرت ماسة بعينيها للأسفل لحظة، ثم رفعتها بحسم وقالت: لا، مش عايزه أعرف.

صمتت للحظة، ثم قالت بتردد وهي تعبث بكم فستانها: بس رشدي كان عايزك في ايه؟! يعني كلمك كتير، وأنتم أصلاً من إمتى بينكم مكالمات، أوعى تقول لي إن أنتم اتصالحتوا ؟ هتصدم بجد.

ابتسم سليم بهدوء: أنا ورشدي علاقتنا معتقدش إن ممكن تتحسن، بس هو عازمني بكرة على العشاء عشان عازم البنت إللي بيحبها.

اتسعت عينا ماسة بصدمة، ضحكت وهي تعود بشعرها للوراء: رشدي بيحب؟ هو إللي زي رشدي ده بيعرف يحب؟ عنده قلب يعني؟

ابتسم سليم معلقا: رشدي ده محدش بيفهم له حاجة، بس أنا عايز أروح وأبادر علشان أفهمه إني مش أنا إللي عندي مشكلة، إيه رأيك تيجي معايا؟

رفعت ماسه حاجبيها، وظهرها يميل للخلف: أجي معاك فين؟ القصر؟

هز سليم رأسه بالإيجاب: آه العشاء هيكون الساعة 6:00 بكرة.

شعرت ماسة بالتوتر فهذا القصر هو لعنة بالنسبة لها، فهزت رأسها بالرفض وخوف: لا أنا مش عايزه أروح في حته، روح أنت وأبقى أحكيلي عاملة إزاي؟

ابتسم سليم، وقال بخفة: خلاص ماشي، اللى يريحك، بس شكل القعدة هنا عجبتك؟!

ماسة بإبتسامة وهي تنظر على النيل: بصراحة، المنظر مريح للأعصاب، تحفة، ممكن أسألك سؤال غبي؟

تقدم سليم خطوه نحوها، وقال بابتسامه: اسألي.

ماسة ببراءة، وهى تحدق في الماء: لو المية عليت شوية هتغرق الأرض؟ أصل أنا ولا شايفة سور ولا أي حاجة.

ابتسم سليم، وهو يلوح بيده نحو الماء: لا، يعني حتى لو المية عليت شوية فيه احتياطات.

صمتت ماسة للحظة، ثم أشارت نحو الجزيرة الصغيرة التي في المنتصف أمامهم: أنا عايزه أروح أقعد على الجزيرة إللي هناك لوحدي، ممكن؟

أومأ سليم بخفة: تحبي تروحي دلوقتي؟

نظرت ماسة له بحذر، وهي تحاول السيطرة على خوفها: لا مش النهاردة، بس عايزة.

ابتسم سليم، وهو يشير بيديه وكأنه يوصف الطريق: وقت ماتحبي روحي، هتمشي كده شوية، هتلاقي لانش وفلوكة، أركبي إللي تحبيه، وهتوقفي أي حارس وتقوليله أنا عايزة أروح الجزيرة لوحدي.

ضيقت ماسه عينيها بشك وهي تستمع اليه و وصوتها الداخلي يردد:أنا مش مطمنة لك، حاسة إنك ناويلي على نية” فهناك شعور غريب لديها بالتوتر والخوف من هدوءه؛ فهي لا تعلم أنه بدأ في علاجه النفسي وأنه صادق فيما يفعله ليس كما تظن ..!

لكنها هزت رأسها: ماشي.

تنهد سليم وهو يضع يده بجيب بنطاله: أنا هروح أعمللي شاي فاكهة فرش، تحبي أعملك معايا؟

ماسة بدهشة : إيه شاي فاكهة ده؟

ضحك سليم بخفة: هو أنا معملتلكيش قبل كدة خالص؟

هزت ماسة رأسها نافية: لا.

رفع سليم حاجبيه باستغراب: يعني إحنا بقالنا 10 سنين متجوزين، ومعملتلكيش قبل كده؟

ابتسمت ماسة بخجل: شربنا إللي بيتباع برة، بس فريش ده لا.

هز سليم رأسه بإيجاب: خلاص، هعملك واحد معايا.

تحرك سليم بهدوء، بينما أخذت تنظر له بإستغراب، فهدوءه مربك بالنسبة لها.

تحركت خلفه وهي تقول بإبتسامة خفيفة، وعيونها متوهجة بالفضول: أنا عايزة أشوف شاي الفاكهة دى بيتعمل إزاي.

المطبخ

دخلوا المطبخ معا، بدأ سليم في تقطيع التفاح الطازج وجمع بعض حبات كريزي والفراولة والخوخ وشرائح الليمون والنعناع الطازج وورد الكركدية مع الشاي الأخضر البري الطازج، وضعها في البراد الشفاف ووضع عليهم الماء وأخذ يغليها.

ماسة بفضول: أنت بتحط ورد؟

رفع سليم يده مشيرا للورود: ده كركديه، لما يبقى طازة بيبقي عامل كده

ماسة بدهشة: أول مرة أعرف إن ده شكل الكركديه الأصلي.

رفع سليم يده وهو يقول بهدوء: متناوليني العس..

قبل أن يكمل كلماته، رفعت ماسة يديها بسرعة أمام وجهها، كأنها تحمي نفسها من ضربة متوقعة..!

تجمد سليم في مكانه، اتسعت عيناه بصدمة، لم يكن يقصد أبدا، كل ما أراده هو العسل! شعر بغصة تخنق صدره، كادت دموعه تفر من عينه، لكنه تماسك وحاول أن يحافظ على هدوئه.

خفض يديه المرتعشه ببطء، وخرج صوته متحشرجا بحنان، يحاولة أن يبث فيها الاطمئنان: في إيه أهدي، أنا بس كنت عايز العسل.

كانت أنفاسها متلاحقة، أنزلت، يديها وأشاحت بوجهها بعيدا عنه. اغمض سليم عينيه للحظة، ثم ألتقط العسل بصمت، وأدار لها ظهره.

بدي وكأنه يبتلع غضبه وهو يضغط على أسنانه، يلعن نفسه في أعماقه “إزاي وصلتها للدرجة دي؟ أنا السبب”

لم تحتمل ماسة أكثر، فغادرت مسرعة بخطوات مرتبكة، وكأنها تهرب من ظله.

بقي سليم وحيداً في المطبخ، تتآكله النار من الداخل، أمسك كوبا من على الطاولة وألقاه أرضا بعنف، فتهشم وتبعثرت شظاياه، لكن النار لم تخمد بداخله، فمد يده وضرب بكفه على الأدوات المعلقة، فتساقطت واحدة تلو الأخرى، وصوتها يتردد في المكان.

تلألأت عيناه بالغضب، ليس منها، بل من نفسه، هو السبب، هو الذي زرع هذا الخوف فيها.

وفجأة، تسلل إلى ذهنه صوت الطبيب، هادئا “أصبر… أصبر بس”

وبعد أن إنتهى من عمل الشاي قام بوضعه في الأكواب، ثم خرج للحديقه، رأها تجلس أمام النيل، فوضع لها الشاي أمامها.

ماسة وهى تتجنب النظر اليه: شكرا.

سليم بابتسامه حزينه: إن شاء الله يعجبك.

أخذت ماسة كوبها وبدأت تحتسيه، وكان مذاقه رائع حقا، لكن غريب بالنسبة لها، تفحصت عينيها لونه، وأخذت تشتم رائحته، وهي تحاول فهم طعمه.

ماسة بتقيم: طعمه حلو بس غريب، عموما شكرا.

سليم بإبتسامة هادئة: ألف هنا.

ثم تحرك مبتعدا، تاركا إياها تجلس بمفردها، كما طلب منه الطبيب.

صعد غرفته وجلس في الشرفة، يراقبها بهدوء، ظهره مستقيم، عيناه تتابع كل حركة لها من بعيد.

مازالت ماسة يخيفها ذلك الهدوء الغريب، تشعر أن هناك شيئا ما، شيئا لا تعرف له تفسير، لا تعرف كيف تمنح نفسها الأمان، كيف تطمئن له، كما يبدي لها في ابتسامته و نبرته وحديثه ومحاولاته الصادقة، كيف تطمئن وتقتنع أن كل هذا ليس مجرد قناع أو فخ.

وفي الوقت ذاته، تشعر بتغييره تلاحظه بشدة، لكنها مازالت لا تستطيع تصديق ذلك الإحساس، تخاف أن يكون مجرد وهم لأنها تحبه، فالقلب يشعر به وبتغيره الملحوظ، والعقل يقول “لابد أن تكوني حذرة”

كان لديها حالة من  الشتات، لا تستطيع الاستسلام له أو تصديقه حتى الآن، وفي نفس الوقت يتملكها الرغبة في الاقتراب منه والاستماع له، لكنها لا تعرف كيف.

وأثناء ذلك، وبينما وهي  تحتسي الشاي، رفعت رأسها تلقائيا لأعلى وهى تتنهد، فرأته واقفا عند النافذة، ينظر إليها، تبادل النظرات للحظات، ثم خفضت عينيها، وأعادت النظر أمامها.

أخذت رشفة أخرى بهدوء فجأة تذكرت تلك الليلة وما حدث معها بسببه، وشعرت بألم يعتصر قلبها، واجتاحها شعور بالغضب من قلبها الذى يضعف أمامه، فألقت الكوب بغضب شديد كأنها تريد أن تتسلح بالقوة ولا تستسلم مرة أخري.

نظر اليها سليم بإستغراب ثم تحولت نظراته للغضب، قبض على كفه بغضب شديد من نفسه وعين تطلق شرار، حاول السيطره على مشاعره، فتحرك، وفتح علبة الدواء مترددا، وأخذ حبة منها بعد صراع داخلي، واحتسها بالماء، ثم بدأ يؤدي تمارين الضغط، محاولا إخراج شحنة الغضب المكبوتة داخله.

لم يتحدث معها بقية اليوم؛ فقد جلست ماسة طويلا في الحديقة، حتى إنها لم تتبادل الكلام مع أسرتها، كان الخوف ما يزال يتملكها، رغم أنها كانت ترغب في الإطمئنان عليهم، لكن هدوء سليم وطريقته لم تستطع أن تصدقهما بعد، أما هو، فظل يراقبها من النافذة، يكتفي بمشاهدتها، محاولا أن يطمئن قلبه، ويخمد ذلك الشوق الذي يدفعه لمراقبتها من بعيد، فمجرد رؤيتها بعينيه، كان يمنحه بعض السلوى، وبعد وقت نام كل منهما.

وفي صباح اليوم التالي، استيقظ سليم مبكرا، ولم يستطع كبح رغبته في الاطمئنان عليها؛ فدخل غرفتها، فوجدها نائمة، ابتسم وهو يقترب منها، ويستنشق عبير أنفاسها، وطبع قبلة رقيقة على جبينها، ثم هبط إلى الأسفل وقرر عدم الذهاب إلي المجموعه، وفضل أن يبقي بجانبها فظل ينتظر استيقاظها، ليبدأ يوما جديدا، لعل قلبها يلين.

بالإسكندرية

منزل مصطفى الثانية ظهرا

الصالة

كان مصطفى وعائلته يجلسون في الصالة، فقد مر يومين على مغادرة ماسه مع سليم، كان الصمت يخيم في المكان، يبدو أنهم لم يتجاوزوا ما حدث الليلة الماضية، وفجأة ارتفع صوت طرق الباب يكسر صمت المكان من حولهم.

نهض إيهاب وفتحه، وتفاجئ بندى تقف أمامه، مبتسمة بتشفي.

ضيق إيهاب عينيه بدهشة: ندى !

تقدمت بخطوات ثابته، والجميع ينظرون اليها بإستغراب!

وقفت ندى في منتصف الصالة وهي تقول بإبتسامة شماتة: مالكم شوفتوا عفريت؟

عائشة بضجر: ندى، إحنا مش ناقصينك النهاردة الصراحة.

وضعت ندى يديها على خصرها وقالت بسخرية: ومش ناقصني ليه إن شاء الله، وبعدين مالكم قاعدين كدة ليه زي الحزانة؟ حد مات لكم ولا إيه؟

رفع مصطفى عينيه وقال بنبرة حازمة: ندى أمشي من قدامي الساعه دى، صدقيني أنا على آخري.

ابتسمت ندى بسخرية: شوفتوا؟ كلامي كان صح، أنت حبيتها يا دكتور يا محترم.

نظر لها الجميع بصدمة، ووقف مصطفى ببطء أمامها، وقال بعدم استيعاب: أنتِ بتقولي إيه؟

ندى بثقة ممزوجة بالتهكم: بقول الحقيقة، ليندا أقصد ماسة مرات سليم، إللي ضحكتوا عليا وقولتوا إنها بنت خالتكم، جوزها خدها أخيرا، علشان كده قاعدين حزانة.

اقترب إيهاب منها متسائلا بريبة: أنت إللي روحتي قولتيله عن مكان ماسة يا ندى؟

ندى بغيره وجنون: أيوه أنا إللي روحت قولت له! هو أنت كنت عايزني أسيبها قاعدة مع جوزي في بيت واحد؟ ورايحين جايين مع بعض؟ ويجيبلها آيس كريم والضحكة من هنا لهنا؟ كان لازم أقول لجوزها يجي يلمها، إللي ماشية على حل شعرها السافلة دي.

نبيلة مستنكرة: أخص عليكي! أوعي تكوني قولتي له كدة.

ندى بتحدي:طبعا، وقولتله أكتر من كده كمان! مش ده إللي كان بيحصل؟

عائشة بغضب: أنتِ بجد مريضة! أنا بكرهك، ده كان يوم أسود يوم ما مصطفى اتجوزك.

إيهاب بضجر: امشي من قدامنا دلوقتي يا ندى، علشان بجد إحنا مش طايقينك!

ندى بعصبيه: مش طايقني علشان عملت الصح! ده بدل ما تقول عيب لأخوك اللى كان مقضيها مع واحده هربانه من جوزها، وأنت يا طنط، كنتي بترفعي لهم الأرايل ولا بتظبطي لهم المرور؟ عيب عليكي، ده أنتِ حتى عاملة عمرة.

وفجأة، ودون أي مقدمات، صفعها مصطفى صفعة مدويه، والنيران تشتعل في عينيه من كثر الغضب، فترنحت على الأرض، وبدأت دماؤها تنزف من شفتيها، وصفرت أذنيها من قوة الصفعه.

صرخ مصطفى بغضب: اخرسي يا كلبه واعرفي بتتكلمي أزاى.

ركض إيهاب، يمسك بأخيه وهو يحاول تهدئته: أهدي يا مصطفى!

أجاب مصطفى بغضب، وهو يستعد للهجوم عليها مرة أخرى، ولكن وقف إيهاب يحول بينهم، فصرخ مصطفي بغضب عارم: أهدي إيه؟ أنتِ عايزة مني إيه؟ أنا مش عايزك! أبعدي عني وعن حياتي بقي، وخلي عندك دم وكرامة، أنا بكرهك وبحتقرك، وبكره اليوم إللي اتجوزتك فيه، اطلعي من حياتي بقي كفاية! عايزة مني إيه تاني؟ مش هرجعلك يا ندى لو آخر ست في الدنيا مش هرجعلك يا ندى، عشان أنا بحتقرك، عارفة يعني ايه بحتقرك وبكرهكك؟

صرخت ندى بجنون:أنت بتضربني! وبتكرهني ليه؟ علشان بعمل الصح!

دفع مصطفى إيهاب بعيدا عنه بغضب، وأمسك ندى من شعرها بعنف، وسحبها للخارج، قائلا بنبرة رجولية جهورة: أطلعي برة حياتي، قسما بالله يا ندى، لو شوفتك تاني صدفة، هخليكي تكرهي اليوم إللي دخلتي فيه حياتي.

حاول إيهاب تخليصها من يده، وهي تصرخ من الألم: مش كده يا مصطفى، سيبها!

صرخ مصطفى بغضب أكبر، وهو يدفع إيهاب بعيدا عنه، ويستمر في جرها للخارج: أوعي يا إيهاب! أطلعي برة يا حقيرة! يا زبالة! يا عديمة الكرامة! برة!

ودفعها بقوة خارج الباب، قائلا: ده آخر تحذير ليكي، مش عايزه اشوف خلقتك تاني، فاهمة؟

وأغلق الباب في وجهها بعنف

نبيلة بحزن: مش كده يا مصطفى، عيب إللي أنت عملته.

مصطفى بغضب: عيب؟ وإللي عملته وقالته مش عيب! أنتِ عارفة سليم ممكن يعمل إيه في ماسة من تحت رأس جنانها دى؟

إيهاب بقلق: إحنا كنا مطمنين شويه، بس دلوقت الوضع يقلق، ربنا يستر.

نبيلة بإصرار: أنا لسة مصرة إن هو مش هيعمل حاجة، منك لله يا ندى.

أثناء ذلك كانوا يسمعون طرقا عنيفا على الباب، فكانت ندى جالسة على الأرض منهارة تماما، طرحتها ساقطة وخصلات شعرها متناثرة، تتوسل وتترجى من خلف الباب، وهى تتطرق عليه بجنون: أفتح يا مصطفى، أنا آسفة، حقك عليا، والله ما هعمل كدة تاني، هعمل كل إللي تقولي عليه والله العظيم.

وحينما قابلها الجواب صمتا، قالت بجنون: لو مفتحتش هموت نفسي، والله هموت نفسي لو مفتحتش وسامحتني.

كادت نبيله أن تتحرك نحو الباب، لكن أوقفها مصطفي بصرامة: رايحة فين؟ سيبيها.

إيهاب بخوف وتوتر: نسيبها إزاي؟ هتعمل لنا فضايح!

مصطفى بحدة تقطع الهواء: مش عايز حد يتكلم، قولت سبوها، هتترزع شويه وهتمشي.

ثم تقدم نحو الباب ووقف وراءه وقال بصوت جامدا متصلبا: أنا مش هقولك تاني، أمشي يا ندى، بإحترامك ده لو عندك شوية احترام لنفسك.

رفعت ندى وجهها المبتل بالدموع، وقالت بصوت مختنق: طب أفتح، خلينا نتكلم.

أجابها بلا رحمة: غوري يا ندى، مش هقولك تاني.

ندة بصراخ يائس: لو مفتحتش هموت نفسي.

مصطفى بلا عطف وبفظاظة قاتلة: ياريت تموتي نفسك علشان تريحينا.

صمتت لحظة، وكأن الكلمات قد قضمت أوتارها الداخلية، وقالت بمرارة مختلطة بدهشة: كده يا مصطفى؟ يعني للدرجة دي مليش أي غلاوة عندك؟

أجاب بشكل لا يقل صلابة: آه، واخفي بقي مش هقول تاني

ضرب إيهاب كف على كف بتعجب: دي فعلا اتجننت على الآخر.

مصطفي: أنا هكلم أبوها، علشان بعد كده محدش يلومني.

أمسك هاتفه وأتصل بوالدها، انتظر لحظات حتى أجاب، فصاح بصوت غاضب: يا عمي فتحي، لو مش عارف تربي بنتك، أنا ممكن أربيها لك، بنتك المرة دي هتجيلك مضروبة بالقلم، المرة الجاية، قسما بالله هاتيجي تستلمها يا من القسم، يا من مستشفى المجانين! أبعد بنتك عنى لأن مش هستحملها أكتر من كده، أنا كنت عامل احترام للعيش والملح والعشرة، بس توصل الأذيه للدرجة دي؟ لا! أبعد بنتك عني أنا بقولك أهو. وأغلق الخط وهو يزفر بغضب شديد.

عائشة بتأيد: اللى عملته دى هو الصح، لازم يرجع ويربي بنته المجنونة دي.

على إتجاه آخر عند ندى

كانت ندى تهبط الدرج بخطوات متهالكة، والدموع تنساب من عينيها بصدمه كأنها لا تصدق ما سمعته، وكل كلمة من كلمات مصطفى تردد في عقلها بلا هواده:《أمشي من هنا…أنا بكرهك وبحتقرك…ياريت تموتي وتريحينا》

انفجرت بالبكاء، وكلماتها تخرج كندبة: هموت نفسي يا مصطفى، هموت نفسي.

وفجأة، وكأن قوة خفية دفعتها، اندفعت ندى نحو الطريق، ألقت بنفسها أمام سيارة مسرعة، ارتطام عنيف، ثم انطرحت على الأسفلت، الدم يلطخ الأرض، وندى صامته، لا حركة، لا نفس، وأصوات الماره حولها تتعالى بالصراخ والعويل..

تفتكروا ايه حصل لها؟!

يتبع.. (رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق