رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل التاسع والاربعون 49 - بقلم نعمة حسن
ـ٤٩ـ
~ المرأة الشبح 👻 °° ~
ـــــــــــــــــــ
كانت سارة تستند بذراعيها إلى حافة النافذة الزجاجية الكبيرة الممتدة بعرض الحائط وهي تشاهد أضواء المدينة المنعكسة على مياه المضيق من أمامها صانعةً لوحة فنية رائعة تستحق التأمل لأيام طويلة ، ولكنها لم تكن تتأمل بل كانت تبكي على ما حدث معها منذ قليل، وبمجرد أن انفرج الباب ودخلت أمها حتى نهضت ووقفت أمامها وهي تصرخ بجنون:
ـ لقد أخبرتِ فريال باسم الفندق، أليس كذلك ؟!
كانت فتون ترقب ذلك الانفجار وتعرف أنه آتٍ لا محالة ، لذا فتحركت بخطى ثابتة نحو الفراش وجلست فوقه وقالت بهدوء:
ـ أجل .
نظرت إليها سارة بغضب وقالت:
ـ ولمَ فعلتِ ذلك ؟!..
تنهدت بأسف لحال ابنتها وقالت:
ـ لم أعرف أنها ستخبر قصي بمكاننا ، لو كنت أعرف لما أخبرتها صدقيني.
ـ قصي ؟! هل تعرفين بوجود قصي ؟
ـ أجل، لقد كنا نجلس سويا قبل قليل.. أخبرني أنه يحبك و…
قاطعتها سارة بغضب عاتٍ وقالت:
ـ ملعون هذا الحب ! هذا الشخص هوائي ولا يعرف ماذا يريد بالتحديد ، لقد كرهته.
وتابعت وهي تدور حول نفسها بتشتت:
ـ يا إلهي لقد تركت له مصر بأكملها وجئت إلى تركيا ماذا عساني أفعل ؟ إلى أين سأهرب مجددا ؟
اقتربت منها فتون وربتت على كتفها وقالت:
ـ حبيبتي ، الهروب ليس حلا ، عليكِ أن تواجهي .
نظرت إليها سارة باستفهام فتابعت:
ـ لا بد أن تتحدثا سويا و تصلان إلى نقطة فاصلة في هذا الموضوع ، لا يجب أن يبقى الأمر معلقا هكذا.
ضحكت سارة بتهكم وقالت:
ـ نتحدث ؟! وماذا سنقول يا ترى ؟! هل سأحكي له عن والدي ويومياته بالسجن ؟ لا شيء جديد للأسف . هذا الرجل سيسمعني ككل مرة ثم يختفي مجددا كما يفعل دوما ، ثم يعود ، ثم يختفي .. هذا إنسان متلاعب حقير ولا يتمتع ولو بقدر بسيط من الإحساس بالمسئولية .
تنهدت فتون بحيرة ثم قالت:
ـ لا أجد ما أقوله، ولكني أعتقد أن فرصة أخيرة لن تضر.
ثم دخلت إلى غرفة تبديل الملابس وتركت سارة تفكر في كلامها الذي ضاعف حيرتها .. ولكنها أبت الاستسلام له فصدح صوتها أن:
ـ لن أفكر، وغدا سنترك هذا الفندق ونذهب إلى أي جحيم آخر ، أو نترك المدينة بأكملها وننتقل إلى العاصمة أنقرة ..
ثم أضافت بيأس وهي تصرخ بقوة:
ـ أو نغادر تركيا بأكملها ونذهب إلى أي لعنة لا يجدنا فيها.
في الداخل.. كانت فتون تستند بكفيها على حافة الخزانة العريضة وهي تهمس بأسى:
ـ لا تزالين صغيرة على الحب وجحيم الحب يا ابنتي !
ـــــــــــــــــــ
في الصباح ..
استيقظ قاسم قبل حياة ، نهض وكعادته جلس بالفراش لدقائق حتى يستعيد تركيزه فلفت انتباهه حركة بطن حياة فابتسم وانحني بجذعه إلى جانب بطنها وهو يهمس:
ـ ألا تنامان ؟! أم أنكما تستيقظان باكرا كوالدكما ؟!
وطبع قبلة رقيقة على بطنها وأردف:
ـ صباح الخير سند .. صباح الخير يا عين أبيكِ .. صباح الخير أحبائي .. أنتظر مجيئكما بفارغ الصبر ،
تلوى أحدهما بالداخل فقال بتفكير :
ـ يبدو أنكما جائعان ، أعدكما عندما تشرفان سأعتني بكما جيدا ولن أدخر جهدا في رعايتكما ..
ثم صمت بتفكير وهو ينظر إلى بطن حياة حيث يحدث طفليه وأردف:
ـ بصراحة أنا لست متأكد مما أقوله؛ فجميع الآباء سبق أن قالوا نفس ما أقوله الآن وينتهي بهم المطاف نائمين بالغرفة المجاورة لكي لا يثقب صراخ الصغار طبلة آذانهم .. ولكن ما أثق به أنني سأحبكما كثيرا وسوف تحبانني كثيرا..
وأسهب في الحوار بعد أن اتخذ وضعية مريحة أكثر ومدد ساقا فوق الأخرى وهو يستطرد ويقول:
ـ هذا لا يعني أنكما ستحبونني أكثر من حياة.. بالطبع لا؛ فالأم يا رفاق هي كل شيء طبعا. ولكني أطمع في المساواة. على الأقل لا تعاملونني كأحد أعمدة الإنارة . الأب وجوده ضروري أيضا ولولا أنا ما كنتم أنتم .
ثم أسند رأسه على أعلى بطن حياة وأخذ يمسح عليها برفق وهو يقول:
ـ سأحكي لكم حكاية..
ولكن حياة لم تمهله الفرصة حينما صرخت به بعنف وهي تقول:
ـ ألا تخجل من نفسك ؟! أيُ حكاية تلك ؟!
انتفض مذعورا ونظر إليها باستغراب وقال:
ـ حياة، ما بك ؟
ـ ما بي ؟! لا أبدا.. تصل بطني للسقف وسيادتك تتعامل معها كوسادة محشوة بريش النعام ، بربك ألا تخجل من نفسك ؟!
نظر إليها بضيق مصطنع وقال وكأنه يحدث صغاره:
ـ لعلمكما هذه الحكاية كانت عن أمنا الغولة ، ولكن بعد ما قالته هذه فلا داعي لأحكيها ، لقد تعرفتم على أمكما الغولة وانتهى الأمر .
ونهض من السرير متجها نحو الخارج وهو يقول:
ـ هيا سأعد لكم الفطور.. الصغار جوعى .
رفعت حاجبيها بتعجب ورددت:
ـ الصغار جوعى ؟!!
ونظرت إلى أسفل حيث بطنها البارز وقالت:
ـ هل أنتم جوعى حقا ؟! ربما.
بعد أن تناولا فطورهما الذي أعده قاسم بنفسه ذهب ليبدل ملابسه استعدادا للخروج .
ـ اليوم مضغوط بشكل رهيب، أولا سأذهب لأتفقد شقة المعمورة كما طلب مني عمي وأقوم بتصويرها وإرسال الصور للسيد أكثم وهو سيجد المستأجر المناسب..
ـ في الحقيقة أنا غير مرحبة بتاتا بفكرة تأجيرها، هذه الشقة لها عندي مكانة خاصة، كنا نقضي فيها أيام الصيف عندما كنا صغارا، من سيستأجرها سيمحو كل ذكرياتنا منها، أساسا هذه الشقة لا تقدر بثمن، يكفي اطلالتها الساحرة على البحر من جميع الجهات..
أومأ قاسم مؤكدا وقال ببساطة:
ـ صحيح، لقد ذكرتِني بأيام الصيف وسائحات الصيف.
حدقت به بغضب مستعر وقالت:
ـ حقا ؟!
أردف بخوف وتراجع:
ـ لا.. كنت أمزح فحسب.
ـ هل ذكرتك بسائحات الصيف حقا ؟!
ضرب وجهه بكفه بندم وهو يهمس لحاله:
ـ ما هذا الذي فعلته بنفسك يا قاسم الغبي !
وركض خلفها وهي تندفع خارج الغرفة وهو يقول:
ـ حياة، أقسم بالله كنت أمزح..
انفجرت في وجهه حتى شعر بأنه أصيب بصمم في أذنيه فقالت:
ـ لا تمزح مجددا..
ـ حسنا..
ـ لست خفيف الظل أساسا..
ـ أنتِ محقة.. أنا آسف .
ـ أسفك غير مقبول هيا تفضل..
أذعن قاسم للفرمان الصادر فورا والتقط أغراضه وخرج وهو يحدث نفسه بشرود ويقول:
ـ يا إلهي ما هذا النكد كله ؟ هل كل ذلك لأنني تذكرت سائحات الصيف ؟ ماذا لو أنني تحدثت عن مايوهات سائحات الصيف ؟ هل كانت سترفع دعوى خلع ضدي أم ماذا ؟!
ـ هل تحدث نفسك قاسم ؟!
نظر قاسم إلى مصدر الصوت ليجده الدكتور ممدوح فقال مبتسما:
ـ صباح الخير دكتور.
ـ صباح النور ، لماذا تتحدث مع نفسك ؟! ماذا ستفعل إذا بعد أن تصبح أبا ؟!
نظر إليه قاسم يشكو حيرته وعجزه واقترب منه وهمس:
ـ كلام في سرك دكتور.. هل جميع النساء يصبحن نكديات وسريعات الانفعال خلال الحمل أم أن ما لدى زوجتي هو طفرة جينية ؟!
قهقه الدكتور عاليا ثم قال بهدوء:
ـ لا تقلق، جميعهن يتشاركن نفس الطفرة .
تنهد قاسم بارتياح وقال:
ـ الحمد لله كنت أظن أنني الوحيد الذي يتعرض للتعنيف والطرد ، اتضح أننا غالبية.
ـ لا ، لست وحدك.. هن النساء يا صديقي .. تركيبة يصعب علينا فهمها بسهولة .
أومأ قاسم مؤكدا وقال بلهجة الواثق:
ـ للأسف أنت محق دكتور ، مهما حاولت ستفشل.
نزلا درجات السلم سويا ليتساءل قاسم باستغراب:
ـ لدي سؤالا فضوليا بعض الشيء ، لماذا لا تستخدم المصعد؟! بالأمس أيضا كنتما تصعدان الدرج .
ـ في الحقيقة أنا من الأشخاص الذين لا يرحبون بأي شيء سهل، خاصةً مع تقدم العمر يصبح الاضطرار لخوض الصعاب والمشاق بمثابة تحدي يجعلك تقيم نفسك من خلاله.
أومأ قاسم بابتسامة ثم صافحه واتجه للمرآب وهو يتحدث إلى نفسه قائلا:
ـ هذا ولم أعرف بعد.. لماذا لا يستخدم المصعد ؟!
ـــــــــــــــــ
اتخذ قاسم سبيله نحو المعمورة هو وعزيز لينهيا الموضوع الخاص بتأجير الشقة ، صف قاسم السيارة أمام المبنى ودخلا هو وعزيز ثم صعدا إلى حيث الشقة بالطابق الأول . أخرج قاسم المفتاح وفتح الباب ثم دخلا ..
ـ ما هذا ، هل كانت الأنوار مضاءة كل هذه المدة ؟!
قالها قاسم وهو ينظر إلى عزيز بتعجب فنظر إليه الآخر متعجبا بدوره وقال بتخمين:
ـ على الأغلب هذه عادة عمي صالح، لا يطفيء النور حتى لا تسكن البيت الأشباح .
نظر إليه قاسم وأطلق ضحكة متهكمة وقال وهو يخطو للداخل:
ـ أشباح ؟! أيُ أشباح يا معتوه ؟! على ما يبدو أنك لازلت متأثرا بأفلام الكارتون التي..
وفجأة بتر كلماته عندما وقعت عينيه على شيءٍ ما لم يحدد ماهيته ، يكتسي السواد ، يقف على باب الغرفة المقابل لباب الشقة .
هربت الدماء من عروقه وتجمدت نبضات قلبه وتساقطت حبات العرق من جبينه وهو يهمس إلى عزيز المنهمك باستكشاف المكان:
ـ شبح !!
لم يفهم عزيز ما قاله فتساءل بصوتٍ عال:
ـ ماذا تقول ؟!
لم يجد قاسم صوته لينطق، فهز رأسه مشيرا بها إلى الأمام وعينيه تحدقان بالشبح أمامه، فنظر عزيز بالتصوير البطيء إلى حيث يشير قاسم بخوف وهو يحاول تخمين الشيء الذي يشير إليه قاسم قبل أن تقع عيناه عليه..
ـ لااااااا.. شبح !!.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…..
صرخ بها عزيز بهلع وهو يقفز فوق المقعد الموجود خلفه ويجذب قاسم من ياقة قميصه من الخلف حتى كاد يزهق روحه وهو يصرخ بهيستيريا:
ـ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.. انصرف.. انصرف..
وسكن الكون كله من حولهما عندما رأى كلا منهما هذا الشبح وهو يحرك يده ويرفع عن وجهه ذلك الشيء الأسود لتتسع عيناهما بصدمة أشد ويصرخ عزيز بقوة أكبر:
ـ لااااا… شبح زوجة عمي .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
ـ شبح ؟! هل تراني شبح يا سليط اللسان يا بغيض ؟!
قالتها صفية وهي تقترب منهما فصرخ عزيز بها وهو يشير بيده ألا تقترب وهو يقول:
ـ لاااا.. ابتعدي.. لا تؤذينا ولا نؤذيكِ ، انصرررفي..
نظرت إليه صفية بغضب عاصف وقالت بلهجة حادة:
ـ انصرف أنت يا وقح، أنت من اقتحمت عليّ شقتي أنت وهذا بدون استئذان ، وفوق هذا كله تنعتاني بالشبح ؟! خسئتم !
ـ زوجة عمي ؟! هل أنتِ حية ؟!
قالها قاسم بذهول وهو ينظر إلى صفية التي تخصرت بكلتا يديها وهي تنظر إليهم بتحفز فقالت بانفعال:
ـ ماذا ترى أنت ؟!
ردد وكأنه يجيب نفسه قبلها:
ـ أرى أنكِ تقفين أمامنا بشحمك ولحمك .. حية ترزقين !
هزت رأسها باستهجان وقالت:
ـ للأسف ، لسوء حظكم أنني لا زلت حية أُرزق !
كان عزيز لايزال مذعورا،يرفض تصديق ما يحدث أمامه، فاقترب من قاسم وهمس إليه:
ـ لا تصدقها ، زوجة عمي ماتت وهذا شبحها ، ومخاطبة الأشباح ستصيبك باللعنة !
تجهم وجه صفية بغضب وهتفت بقوة:
ـ اللعنة عليك أنت .
عاد عزيز أدراجه بخوف ووقف يستمع إلى حوار قاسم الخرافي مع المرأة الشبح وهما يتبادلان العبارات بكل سلاسة.
ـ ولكن.. ولكننا ظننا أنكِ متِ !
قالها قاسم بحيرة فردت صفية:
ـ نعم.. هذا ما كنتم تطمحون إليه جميعا ، بدايةً من هذا النذل الذي يقف خلفك هو وزوجته ، مرورا بعمك الذي طردني شر طردة ، ووصولا عند زوجتك الخسيسة التي نست أمها وكأنها لم تكن.
حملق بها قاسم بدهشة وقال :
ـ ما الذي أدراكِ أن حياة نستكِ ؟! لا تكوني ظالمة في حكمك أنِ لا تعرفين شيئا عما عانته حياة ولا زالت تعانيه بسبب اختفائك.
رق قلبها وتغيرت ملامحها المهاجمة لأخرى منهزمة وهي تقول:
ـ حقا ؟! هل ابنتي حزينة لأجلي ؟! يا قلب أمك يا حياة ، كنت أعرف أنكِ الوحيدة التي ستحزن لأجلي .
ونظرت إليه وهتفت بقسوة مجددا:
ـ أما جميعكم فكنتم تتمنون لي الموت.
مسح قاسم على وجهه باستياء وتوتر ثم نظر إليها وقال:
ـ ما الذي حدث معكِ ؟! منذ اليوم الأول الذي خرجتِ فيه من البيت ، أين ذهبتِ، وماذا حدث معك، وكيف وصلتِ إلى هنا، ومنذ متى وأنتِ هنا أساسا ، في حين أننا جميعا سلّمنا بحقيقة موتك ؟!!
نظرت إليه بنظرة يشوبها الانكسار وهي تسترجع ما حدث معها منذ ستة أشهر ثم نظرت إلى عزيز الذي أشاح عنها بنظراته المذعورة وقالت:
ـ سأحكي لك كل شيء ، ولكن أولا أرسل نطاط الحائط هذا ليشتري لي دواء السكري ، لقد أصبحت مريضة سكر بفضل عمك .
قفز عزيز من على المقعد وهو يقول:
ـ حسنا ، سأذهب لأشتري لكِ ما تشاءين، السلام عليكم.
وركض هاربا على الفور فنظرت صفية إلى قاسم وقالت:
ـ هل رأيت ابن عمك المحترم ؟! لاذ بالفرار لأنه يعتقد أنني شبح فعلا ! اللعنة على موروث الغباء الذي ورثه كله بمفرده.
تنهد قاسم بتعب ثم نظر إليها وقال:
ـ أرى أن أفضل حل الآن أن نغادر هذه الشقة أولا ومن ثم تقصين كل شيء أمام حياة ..
ـ أجل.. أساسا أنا مريضة ولن يتسنى لي سرد هذا الموضوع الذي يطول شرحه أكثر من مرة.
أومأ ونهض ثم تساءل:
ـ أين أغراضك ؟!
نظرت حولها بضياع ثم قالت:
ـ لا، لن آخذ ملابسي معي، من الممكن أن ترفض حياة مقابلتي أو تطردني من بيتها ! سأترك ملابسي هنا إذ ربما أعود مجددا .
لم يجادلها ، اصطحبها وخرجا ثم توجها إلى السيارة وانطلقا عائدين نحو حي سان لوران حيث يقطن قاسم .
ـــــــــــــ
استيقظت سارة بعد ليل طويل مضني قضته في التفكير، وفي البحث عن حل للمعضلة التي تعيشها ، شاردة بين حلول ليس بينهم ما يرضيها، ولكنها لا تملك خيارات أخرى للأسف. فإما أن تهرب من مكان لمكان بحثا عن الراحة والاستقرار الذي لا تدري هل ستجده أم لا، أو أن تعود أدراجها إلى حيث أتت وتواجه بشجاعة كما أخبرتها أمها.
تنهدت مهمومةً وقد قررت أنها لن تهرب، ستواجه وتضع حدا لهذا الأمر الذي اتخذ وقتا أكثر من اللازم.
نهضت من الفراش بتباطؤ وتثاقل، ثم استعدت لكي تخرج لتمارس الرياضة الصباحية وهي تتمشى إلى جانب المضيق الذي أسر عقلها .
استعدت تماما، وفتحت الباب لتخرج فإذ بها تجد قصي واقفا أمام باب الغرفة ، مستندا بذراعه إلى الباب ، ممسكا بوردة بيضاء في يده، وما إن رآها حتى قدم إليها الوردة وهو يقول:
ـ صباح الخير والورد الأبيض .
نظرت إليه بغيظ وتجاوزته حتى خرجت من الغرفة وسارت بالرواق وهو يحث الخطى و يسير بجوارها وهو يقول:
ـ استيقظت باكرا جدا وجئت لأنتظر أمام باب الغرفة خشية أن تذهبي ولا أعرف مكانك مجددا.
نظرت إليه ببرود وهي تسرع من خطواتها فقال متأملا:
ـ هل تمانعين لو مشيتُ بجوارك ؟
نظرت إليه بطرف عينها فقال:
ـ لن أصدر صوتا ، سأسير في صمت.
أسرعت خطواتها حتى أصبحت ركضا خفيفا فركض مثلها وهو يسير بجوارها ويقول:
ـ ما رأيك في الوردة البيضاء ؟ لقد قطفتها بنفسي .
ألقاها مبتسما بثقة قبل أن تختفي ابتسامته في الحال عندما رمقته بغيظ أسود وقالت:
ـ تهديني وردة بيضاء في الصباح وأنا أصارع ليالٍ مظلمة كل مساء .
انشرح قلبه لأنه حصل منها على خيط رفيع يستطيع جذبه والدخول معها في حوار عميق عن طريقه فقال بلهجة واثقة:
ـ لا بأس؛ فالليالي المظلمة تهدينا نجومًا متلألئة .
استوقفتها كلماته فتوقفت خطواتها للحظة ، ثم أكملت المسير وهي تحاول تجاهله إلا أنه لم يدع مجالاً لذلك فقال:
ـ وأنا أثق أنكِ ستكونين أول نجمة متلألئة في سمائي المظلمة ، فقط اسمحي لي بذلك.
نظرت إليه وقد فاض بها الكيل وأعياها الكتمان وقالت بحدة:
ـ ماذا تريد يا قصي ؟!
ـ أريدك أنتِ !
امتلأت عينيها بالدموع وقالت:
ـ على أيُ أساس ؟!!
ـ أحبكِ، هذا هو الأساس !!
ـ و أبي ؟! وحياتي وظروفي التي لن أهرب منها ولن أخفيها ولن أستطيع الانسلاخ عنها مهما حاولت !
ـ لم يعد ذلك الموضوع فارقا لدي صدقيني ، أنا أحبكِ سارة وواثق من قراري ولن أتراجع عنه… سأذهب لأقابل والدك وأطلبك منه .
نظرت إليه بذهول وقالت:
ـ في السجن ؟!
أومأ موافقا وقال:
ـ أجل، سأفعل أي شيء لكي أثبت لكِ أني جاد وأحبك فعلا ..
تنهدت بحيرة ، فبالرغم من أنها تشعر بالفرحة بسبب كلامه إلا أنها تخشى القادم ، فهي لن تتحمل ضربة أخرى منه، حينها ستكون نهايتها بالتأكيد.
نظرت إليه فوجدته ينظر إليها متأملا فقالت بكلمات تبدو في ظاهرها عادية ولكنها تحمل رسالة مبطنة:
ـ هيا ، لا زال أمامنا طريقا طويلا سنمشيه ، نَفَسَك طويل ؟!
التقط رسالتها وأجاب بثقة مصحوبة بابتسامة:
ـ ما دمنا سويًا .
ــــــــــــــــــــــ
كانت حياة تقف بالمطبخ تعد طعام الغداء فإذ بها تستمع إلى صوت باب الشقة فخرجت وهي تقول:
ـ قاسم ، هل عدت ؟
وتسمرت بمكانها بصدمة عندما رأت السيدة التي تكتسي السواد بجوار قاسم فنظرت إليهما باستغراب ثم أمعنت النظر بعينيّ هذه السيدة فاتسعت حدقتيها بصدمة وهي تركض نحوها بلهفة وهي تقول:
ـ أمي !!
رفع قاسم حاجبيه متعجبا من كيفية معرفة حياة بوالدتها وهي التي لا يظهر منها سوى عينيها ، أيعقل أنها عرفتها من عينيها ؟!! أم أن قلبها دليلها وهو من أخبرها أنها أمها !
عانقت حياة أمها بقوة وبادلتها أمها العناق الحار و انفجرتا سويا في فيضان من الدموع .
ـ يا حبيبتي ، يا قلب أمك يا حياة .. اشتقتكِ كثيرا كثيرا..
ردت عليها حياة من بين دموعها و نحيبها بلوعة :
ـ كنت أعلم علم اليقين أنكِ حية ، مهما راودتني الشكوك ومهما طالت فترة غيابك لم أكن لأقتنع بأنكِ متِ أبدا ..
طالت وصلة البكاء والترحيب وتبادل العبارات الحنونة من الأم لابنتها والعكس، فدخل قاسم إلى الشرفة وسمح لهما ببعض من الخصوصية.
أمسكت حياة بيد أمها وهي تسحبها إلى الداخل وهي تقول:
ـ تعالي أمي، ارتاحي قليلا واحكي لي.. أين كنتِ وماذا حدث معكِ بالتفصيل ؟!
دخلتا إلى الشرفة فجلست حياة وبجوارها صفية التي رفعت ذلك النقاب وهي تزفر بضيق وتقول:
ـ كدتُ أشعر بالاختناق..
ونظرت إلى حياة وقالت:
ـ أرأيتِ الحال الذي وصلت إليه أمك يا حياة ؟ أنا التي كنت أعيش منعمة مرفهة ببيتي أصبحت أتخفى في هذا الرداء والنقاب لكي لا يعرفني أحد .. أرجو أن يكون والدك سعيدا الآن بما أوصلني إليه .
نظرت إليها حياة بشفقة وقالت:
ـ ما الذي حدث معكِ يا أمي؟ من هذه السيدة التي تركتِ معها حقيبتك بكل ما فيها ؟!
نظرت إليها صفية شزرا وقالت بتحفز:
ـ أيُ سيدة ؟ تقصدين اللصة المجرمة التي سرقتني وهربت ؟ آهٍ لو أجدها وأخنقها بيديّ هاتين ، حينها فقط سيذهب حقدي ويشفى غليلي.
ثم نظرت إلى حياة باستيعاب وقالت:
ـ ولكن من أين عرفتِ بأمر تلك المرأة ؟ هل أصابها صحو الضمير وأعادت الحقيبة إليكم ؟!
تنهدت حياة وقالت:
ـ لقد ماتت !
ـ ماذا ؟!!!
ـ ماتت وتم العثور على جثتها مشوهة وفي بداية التحلل..
كرمشت وجهها بنفور وهي تردد:
ـ بسم الله..
ـ أرسلوا في طلبنا للتعرف على الجثة ظنا منهم بأنها جثتك لأنهم عثروا على حقيبتك معها.
ـ جثتي ؟ أعوذ بالله.. ترى ماذا حدث لهذه اللصة ومن فعل بها ذلك ! على كل حال هي تستحق ما جرى لها.
هنا تحدث قاسم قائلا:
ــ من الممكن أنها بعد أن سرقت منك الحقيبة تم التخلص منها بدافع السرقة أيضا ! وربما لسبب آخر لا نعرفه ، الله أعلم .
أومأت صفية بتأكيد وقالت:
ـ نعم، لا يحيق المكر السيء إلا بأهله .
تكلمت حياة وهي تفكر معهم بصوت عالي وقالت:
ـ ولكن الحقيبة كان موجود بها مبلغا كبيرا ، لم أعده ولكن يمكنني تقديره.. حوالي عشرة آلاف جنية ! إذا لماذا لم يسرق اللص النقود بعدما قتلها ؟
نظرت إليهم صفية وقالت:
ـ لا أعرف، الله وحده يعلم حقيقة ما جرى، عليها من الله ما تستحق هذه المحتالة الخبيثة لقد نالت جزاءها لأنها تسببت في جعلي أعيش أياما لا يعلم بها سوى الله ، هو وحده من يعلم كيف تجاوزتها..
نظرت إليها حياة بشفقة وقالت:
ـ أخبريني ماذا حدث معكِ يا أمي ؟ وأين كنتِ تعيشين وكيف ؟
كان قاسم يستمع إليهما وهو يجلس بأريحية في مقعده ويركز معهما باهتمام فأجاب فور أن سألت حياة وقال:
ـ لن تصدقي، بشقة المعمورة !
حدقت به حياة باندهاش وقالت:
ـ معقول ؟!
أومأت صفية وقالت:
ـ إلى أين كنت سأذهب إذًا ؟! والدك المبجل لم يرأف بحالي وطردني وهو يعرف أنني وحيدة ، هل كنت سأبقى بالشارع مثل مطاريد الجبل ؟! تذكرت أنني أملك مفتاحا لشقة المعمورة غير الآخر الذي يملكه أبيكِ ، وطبعا لو كنت أخبرته أنني سأذهب إلى هناك كان سيمنعني ويأخذ مني المفتاح، نذل ويفعلها .
ضحك قاسم بصمت وهو يهز رأسه بيأس من هذا اللسان السليط الذي لا يتوقف عند حد ولا يتغير مهما حدث، في حين زجرتها حياة بنظرة محذرة وقالت:
ـ و ماذا بعد ؟
ـ جمعت بعض أغراضي ومبلغا كنت قد أخذته لأؤمن به نفسي ثم خرجت وقد قررت أن أتجه إلى المعمورة ، بالفعل ذهبت وبمجرد أن دخلت الشقة فوجئت بكمية الغبار الذي أعماني و سد مجرى التنفس لدي وأصابني بنوبة ربو شديدة .. لم أستطع تنظيف الشقة بمفردي فلكِ أن تتخيلي لم يتم فتحها أو تنظيفها منذ سنتين وأكثر فكانت تشبه المغارة المهجورة ، بعدها سألت حارس العقار فأخبرني أنه سيحضر لي إمرأة تساعدني في تنظيف الشقة وبالفعل جاءت إلي هذه السيدة مساءا وبدأنا في التنظيف سويا ، دخلتُ أنا إلى المطبخ لكي أعد لها سمًا لتتسممه وليتني لم أفعل ، الحقيرة غافلتني وتسللت إلى الغرفة بحثا عن شيئا لتسرقه وبالفعل وجدت حقيبة يدي فانتشلتها وفرت هاربة ولم ألحق بها.
كانا قاسم وحياة يستمعان إليها باهتمام وهي تسرد عليهم تفاصيل ما حدث وتابعت:
ـ والخسيس حارس العقار أيضا هرب ، وكأنهما كانا متفقين على سرقتي .
نظر قاسم إلى حياة وقال:
ـ هذا يعني أنه من الممكن أن يكون حارس العقار اتفق معها أن تسرقك فعلا وبعدها تنازعا على المبلغ فقتلها وهرب ..
أومأت حياة بتأكيد وقالت:
ـ صحيح، تفسيرا منطقيا .
تابعت صفية إذ قالت:
ـ ظللت أياما أحاول البحث عن عمل ولكن لأنني لا أملك أي أوراق شخصية فكانوا يرفضون ، وعندما ضاقت بي السبل اضطررت أن أعمل كعاملة التنظيف المسئولة عن العقار .
اتسعت عيني حياة بدهشة وترقرق الدمع بعينيها فأكدت صفية ما قالته بإيماءة وتابعت:
ـ أجل ، عملتُ كعاملة نظافة ، كنت أنظف سلالم العمارة يوميا، وبعد أن يُخلي المستأجرون الشقق كنت أذهب لتنظيفها مقابل مبلغ بسيط بالكاد يكفي لشراء خبز وشريحة جبن كل يوم .. كنت أخجل أن يراني أحدهم فيعرفني، لذا اشتريت هذا النقاب لكي أختبيء خلفه ولا يستدل أحدا عليّ، كنتُ أعجب لحالي، كيف أنام في شقة فخمة كهذه كل مساء وأذهب في الصباح لأنظف ما خلّفَهُ غيري ؟!
تنهدت حياة وهي تمسح آثار البكاء وقالت:
ـ ولمَ لم تخبريني ؟ لماذا اخترتِ هذا الطريق الشاق .؟
نظرت إليها صفية بانكسار وقالت:
ـ والدك لم يدع لي مجالا لفعل شيء، أخبرني أنكِ تخجلين لكوني أمك وأنكِ كرهتيني وأصبحتِ تنزعجين من وجودي في حياتك، وأنا كنت قد أصبت باليأس، بعد أن قذف كل تلك الحقائق بوجهي قررت أن أبتعد وأعيش بمفردي لكي لا أتسبب لكِ في مزيد من المشكلات .
احتضنتها حياة بقوة وانجرفت الدموع من عينيها وهي تربت على ظهرها بحنو وقالت:
ـ لا، أنا لا أكرهك أبدا يا أمي، ومهما فعلتِ لن أكرهك .. أنا أحبكِ كثيرا .
مسحت صفية على وجهها بابتسامة حنونة وقالت:
ـ وأنا أحبك عزيزتي، أخبريني كيف حالك ؟ وكيف حال طفلك ؟
ابتسمت حياة وهي تشير إلى بطنها مبتسمةً وتقول:
ـ طفليَّ ، أنا حامل بتوأم .
اندهشت صفية وعبرت عن دهشتها قائلة:
ـ أيعقل ؟ توأم ؟!
حينها همس قاسم بغيظ بينه وبين نفسه:
ـ قل أعوذ برب الفلق!
نظرت إليه صفية شزرا وهتفت بحدة:
ـ لقد سمعتك ، هل تظن أنني سأحسد ابنتي وأحفادي ؟!
نظرت إليها حياة وهي تحاول تهدئتها وقالت:
ـ قاسم لا يقصد ما فهمتيه يا أمي، لا تحزني أرجوكِ.
أومأ قاسم ببرود وقال:
ـ صحيح، أنا لا أقصد ما فهمتيه يا زوجة عمي، لا تحزني أرجوكِ.
نظرت إليه بغيظ واستشاطت غضبا وهي تقول:
ـ زوجة عمك ؟! لقد طلقني عمك وانتهى الأمر ، من الآن فصاعدا لا تناديني بزوجة عمي أبدا ..
ثم شردت وهي تحدث نفسها وتقول بصوتٍ خفيض:
ـ على الأقل ريثما يستعيد عمك عقله ويصلح خطأه ويردني إلى عصمته .
نظر كلا من قاسم وحياة إلى بعضهما البعض وقد جال بذهنهما نفس الخاطر وهو كيف ستستقبل صفية خبر زواج صالح وحسناء ؟ ومن لديه أساسا الشجاعة الكافية التي تؤهله لمصارحتها بهذه الحقيقة الصادمة ؟!
ولكن حياة كانت أشجع مما ظن قاسم، ونظرت إلى أمها بترقب وقالت:
ـ أمي، أبي قد تزوج !
قالتها بخفوت وخوف وهي تخشى الانفجار الذي سيحدث بعد ثوان معدودة ، فجحظت عينيّ صفية وهي تقول بصدمة:
ـ ماذا ؟! هل تزوج ؟
أومأت حياة بتأكيد وقالت:
ـ أجل، في الحقيقة لقد يأسنا من العثور عليكِ ، وأبي كان يحتاج لمن ترعاه وتعتني به .
فاجئتهم صفية عندما بكت بقهر وقالت:
ـ تزوج ؟! هل كنت حملا ثقيلا عليه بهذا القدر ليتزوج بعد أن تخلص مني مباشرةً ؟! ومن هذه الفدائية التي تطوعت وتزوجته ؟!
ألقتها حياة على استحياء:
ـ حسناء !
ضحكت صفية بتهكم وقالت بنبرة يملؤها الألم والحسرة:
ـ كنت أعرف منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه البيت أنها لن تكون زيارة عابرة ، انزعاجي وضيقي منها لم يكن عبثا . قلب المؤمن دليله .
رفع قاسم حاجبيه وأخفضهما في حركة سريعة وهو يمط شفتيه باعجاب متهكم من جملتها الأخيرة ، بينما ربتت حياة على ذراعيها بدعم و مواساة وهي تقول:
ـ أرجوكِ أمي لا تحزني ولا تهتمي ، المهم أنكِ عدتِ و ستكونين برفقتي حين ولادتي .
وابتسمت حياة بسعادة فبادلتها صفية ابتسامة حزينة وقالت:
ـ إن شاء الله ، هل اشتريتِ أغراض الأولاد ؟
ـ لا، سنخرج غدا سويا لنشتريها، ما رأيك ؟
نظر إليها قاسم متعجبا، كانت بالأمس تخطط معه أن يذهبا اليوم لشراء كل مستلزمات الولادة ، واليوم استبدلته بأمها وكأنه شفافًا ، حينها ابتسمت صفية وقالت:
ـ بالطبع سنذهب .. سنشتري أيضا إبريق و قُلة .. ذكريني بهذا.
رفع قاسم حاجبيه اندهاشا وهو يراهما وهما تخططان للغد وقد استئصلاه من خططهما تماما ، حينها تمنى لو أنه كسر هذه القلة فوق رأسيهما وأخبرهما أنه والد الطفلين اللذين تقرران بشأنهما وأنه أحق شخص بالقيام بكل هذا .
أومأت حياة بحماس وأضافت بأعين لامعة وهي تقول:
ـ أريدُ أيضا أن أشتري بالونات كثيرة لكي نزين بها المنزل استعدادا لسبوع المولود .
بالونات ؟! هل ستنفخان البالونات أيضا ؟! يقسم أنه هو من انتفخ وعلى وشك الانفجار ولم يمر سوى نصف ساعة على وجود صفية ، فكيف إذا عسكرت برفقتهم لأجل غير مسمى ؟!
مسدت صفية على كتف حياة كأمٍ حنون وقالت بابتسامة دافئة:
ـ لنشتري ملابسهما أولا ، ثم نلتفت لزينة السبوع فيما بعد .
تحدث قاسم قائلا:
ـ يمكننا أن نشتري كل شيء عبر الإنترنت.. الأمر أصبح في غاية السهولة..
عارضته صفية وقالت:
ـ لا.. علينا أن نذهب بنفسنا ونتفقد كل شيء على طبيعته، ثم أن المشي يسهل المخاض ..
أومأت حياة تدعم كلام أمها فتنهد قاسم بقلة حيلة وقال وهو ينهض من مقعده:
ـ كما تحبان .. والآن سأترككما وأذهب لعملي ، اعتني بحياة جيدا يا زوجة عمي ، أقصد يا حماتي.
ــــــــ
في المعرض..
كان عزيز يجلس حائرًا يضع يده على خده وهو يفكر في أمر شبح زوجة عمه الذي عاد لينتقم بكل تأكيد، فإذ بقاسم يدخل المعرض وما إن رآه حتى ضحك وهو يضرب كفا بكف ويقول:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ، لماذا تجلس هكذا وتحمل عبدالقادر فوق رأسك ؟!
نظر إليه عزيز وقال:
ـ قاسم، أين كنت، وماذا فعلت معها ؟!
ـ مع من ؟ تقصد زوجة عمي أم عفريتها ؟!
نظر إليه عزيز بهلع وقال:
ـ بسم الله الحفيظ ، لا تردد ذلك كثيرا حتى لا تثير غضبهم.
قهقه قاسم عاليًا وقال:
ـ أنت مثير للشفقة حقا ، من رأيتها هذه هي صفية زوجة عمك، أقصد طليقته ، وليس شبحها كما تظن .
نظر إليه عزيز بشك وقال:
ـ حقا ؟! وكيف دخلت إلى الشقة ومنذ متى وهي تعيش بها ؟!
حكى له قاسم الموضوع بالمختصر المفيد ثم قال:
ـ هذا كل ما في الأمر ، أن أردت أن تعرف التفاصيل باستفاضة يمكنك أن تأتي وتسمع منها فهي ستكون باستضافتنا لفترة طويلة.. أو نحن من سنكون باستضافتها إن صح القول .
شرد عزيز وهو يفكر مليا ثم ساهم بما توصل إليه من تحليلات للموقف وقال:
ـ ولكني لا أصدق هذه الأطروحة ، ربما كانت زوجة عمي هي من حاولت التخلص منها وليس الحارس كما تدعي!
نظر إليه قاسم متعحبا وقال:
ـ لا، القصة كما قالتها تماما، أنا أقتنع بما قالته ولا أجد تفسيرا منطقيا لما حدث سوى الذي قالته هي، ثم أنها ليس لديها القوة والشجاعة على قتلها وتشويهها ، مهما اختلفنا معها فهي ليست قاتلة قتلى في الأساس!
حدق به عزيز وكأنه أخرق وقال متهكما:
ـ صحيح ، وكأنها لم تكن ستتسبب بموت حنان من قبل !
نظر إليه قاسم بصدمة وقال:
ـ ماذا ؟! ماذا قلت ؟! هل كانت ستتسبب بموت حنان ؟! كيف حدث هذا ؟!
حكى له عزيز عن خلاف حنان وصفية السابق فالتمعت عينا قاسم بنظرة غاضبة شريرة وردد بشرود:
ـ هل فعلت هذا حقا ؟! ولهذا السبب بالتحديد طلقها عمي ؟! لماذا لم تخبرني حياة إذا ؟!
ـ قاسم ، أرجو ألا أكون قد تسببت في حدوث مشكلة بينك وبين حياة ، ولكني لم أستسغ فكرة أن تعود صفية وتعيش برفقتك وفي بيتك وكأنها لم تفعل شيئا تستحق العقاب والنبذ عليه.
نظر إليه قاسم بحيرة ثم تنهد وأردف:
ـ أنت محق يا عزيز ، ولكن بعد أن رأيت فرحة حياة برجوع أمها ولهفتها عليها لا يمكنني أن أعيدها إلى حالة الحزن والتيه التي كانت تعيشهما خصوصا وهي في لحظات حرجة كالتي تمر بها الآن .
ـ أوافقك الرأي طبعاا ، أساسا حياة فقط هي من تجعلنا نتغاضى عن تصرفات هذه المرأة التي لا تطاق .
نهض قاسم وهو يستعد للرحيل ثم قال:
ـ سأغادر الآن ، عليّ أن أخبر عمي بما حدث وأرى ماذا سيمكننا فعله.
ـــــــــــــ
بعد أن غادر قاسم المعرض قام بالذهاب إلى بيت عمه الذي استقبله بالترحاب كالعادة وفطن فورا أن هناك سببا لهذه الزيارة.
تحدث قاسم مباشرةً وقال:
ـ أعتذر منك يا عمي على المجيء بدون استئذان ولكن الأمر لا يستحق التأخير .
ـ ما الذي تقوله يا قاسم ، هذا بيتك ، ولكن أخبرني هل حياة بخير ؟!
ـ لا تقلق حياة بخير ..
وصمت ثم تابع بنظرة تفصح عن الكثير:
ـ جدا .
نظر إليه عمه باستغراب وفهم مغزى نظراته فقال:
ـ ماذا تقصد ؟! لا أفهمك.
تنهد قاسم مهمومًا ثم قال مباشرةً ودون مراوغة:
ـ لقد وجدنا زوجة عمي بشقة المعمورة.
دُهش صالح لما سمعه وقال:
ـ ماذا ؟! كيف حدث ذلك ؟ هل أنت جاد ؟!
ـ أجل، عندما ذهبت أنا وعزيز لمعاينة الشقة وتصويرها فوجئنا بها هناك..
وقص عليه قاسم ما أخبرته به صفية كاملا دون زيادة أو نقصان ثم قال:
ـ وهي الآن عندي برفقة حياة والأمور مستقرة الحمدلله.
كان صالح يشعر بالحيرة والصدمة تغتال كل ذرة تفكير كانت لديه مما جعل قاسم يشفق على حاله فربت على كتفه بتفهم ثم قال:
ـ لقد أخبرتك لأنه أمرا هاما لا يمكن إخفاؤه ، وليس لأي سبب آخر ، والدة حياة ستبقى برفقتها ولن تتركها ، أساسا حياة لن تقبل أن تبتعد أمها عنها مجددا لذا لا داعي للتفكير الزائد يا عمي .
تنهد صالح بشرود وهو يجاهد لكي يخرج عن تشتته ثم قال بقلة حيلة:
ـ ليفعل الله خيرا يا قاسم .
نهض قاسم وقال :
ـ إن شاء الله ، والآن أستأذن منك، لايزال لدي الكثير لأقوم به. عن إذنك .
غادر قاسم فأوصله عمه إلى حيث باب الشقة ثم عاد ليتفاجأ بحسناء التي تقف مستندةً على باب الغرفة وتستمع إلى الحوار الذي دار بينهما وهي تركن رأسها إلى إطار الباب بحزن يفرض نفسه على ملامحها بقوة .
ـ ما بكِ يا حسناء ؟ هل أنتِ بخير ؟!
نظرت إليه حسناء وهي تبكي بكاء صامت رصين ثم قالت:
ـ هل عادت ؟!
فهم ما تلمح إليه فهز رأسه بهدوء وقال:
ـ نعم .
ـ وأنا ؟ ماذا عني ؟!
تساءلت بأسى فطالعها باستغراب وقال:
ـ ما خطبكِ ؟ ماذا تقصدين ؟!
صوبت عيناها نحوه وأردفت بانكسار أبيّ:
ـ هل ستطلقني ؟!
ـ أطلقك ؟!!! ولمَ سأفعل ؟! ما دخل عودتها بزواجنا ؟!
ـ ها قد عادت ، على الأغلب سيجتمع شمل العائلة من جديد ، ومن الممكن أن تفرض رأيها عليك وتصر على تطليقي .
قلب كفيه متعجبا من كلامها وقال بنزق:
ـ أيُ هراءٍ تتفوهين به يا إمرأة ؟! لماذا تعتقدين أنني رجل في الثلاثين من عمري يسير خلف أهواء الآخرين ؟! ثم أنني تزوجتك لأنني طلقتها وليس لأنها اختفت.. أي أن رجوعها لن يغير شيئا على الإطلاق .
لمح الرجاء في عينيها لأول مرة وهو الذي اعتاد منها القوة والكبرياء والصلف والمعاملة باستقامة منذ أن تزوجها ، ولأول مرة يرى الخوف يتراقص بعينيها فقال بتعجب:
ـ ما بكِ يا حسناء ؟! ما سر كل هذا الخوف من عودة صفية ؟! لم أعهدكِ بهذه الهشاشة من قبل !
اشتعل فتيل خوفها أكثر منا جعلها تنفجر باكيةً وهي تقترب منه وتمسك بيديه ثم قالت :
ـ لن أخفي ذلك ، لن أكابر.. أنا فعلا خائفة ، أخشى أن تكون عودة صفية معناها إقصائي من حياتك للأبد !!
تعجب صيغة حديثها الجديدة عليه ، وأخذ يفكر مع نفسه .. هل هذا يعني أنها تعلقت به أو أصبحت تحبه مثلا ؟!
ـ قبل أشهر ربما لم يكن الأمر سيشكل فارقا بالنسبة إلي، ولكن الآن أصبح لا يمكنني الابتعاد عنك أبدا..
ربت على ذراعها بحنان وهو يحاول تهدئتها وقال بابتسامة بشوشة:
ـ لا تخافي حسناء، أنا لا أفرط بكِ أبدا .
أجهشت حسناء بالبكاء وهو يقربها إليه ويربت على كتفها يحاول مواساتها فنظرت إليه عن قرب وأردفت :
ـ صالح أنا.. أنا حامــل !!
نظر إليها مصعوقا وحدق بها تحديق الموتى ثم تساءل بعدم استيعاب:
ـ ماذا قلتِ ؟!
تمتمت هي بخوف:
ـ أنا حامل.. لقد عرفت اليوم فقط !
شعر بالبرودة تسري في جسده وقلبه ينتفض بين أضلعه ثم ابتعد خطوة للوراء تتبعها خطوات متتالية إلى الغرفة وهي تلحق به وتقول برجاء:
ـ صالح، ألن تقل شيئا ؟!
أشار إليها بكفه لكي تصمت وهو لا يزال على نفس حالة الشرود و التيه ثم قال بصوتٍ ميت :
ـ لاحقا يا حسناء، سنتحدث لاحقا .
ـــــــــــــــــــــــ
كانت حياة تجلس وبرفقتها صفية التي تضع على قدميها طبق فاكهة وتقشر منه ثم تعطي إلى حياة التي تتمدد على الأريكة وهي تسند كفها الصغير فوق بطنها المنتفخ وتقول:
ـ كفى يا أمي أرجوكِ ، لقد امتلأت معدتي ولن أستطع النوم ، يكفيني ما أعانيه ليلا من حرقة المعدة التي توشكني على ضرب رأسي بالحائط كل مساء .
ابتسمت صفية وأردفت:
ـ ماشاءالله ، هذا يعني أن ابنتك ستولد بشعرٍ غزير .
تجهمت ملامح حياة ونظرت لأمها باستغراب وقالت:
ـ بالله عليكِ يا أمي هل تقتنعين بما تقولينه ؟! أساسا ما العلاقة ؟ ما علاقة شعرها الغزير بحرقة المعدة ؟ هل تشنج العضلات الذي يوقظني من عز نومي هذا يعني أنني سألد طفل طويل القدمين مثلا ؟! لا علاقة .
جادلتها صفية بإصرار وقالت:
ـ ولكن الأسطورة تقول أن حرقة المعدة…
ولم تكمل كلامها حيث أن حياة قاطعتها وهي تضحك وقالت:
ـ ها أنتِ قد بدأتِ حديثك بالأسطورة تقول.. لقد اعترفتِ أنها أسطورة ، أي خرافة ولا تمت للحقيقة بصلة.
رفعت أنها كتفيها بجهل وقالت:
ـ ربما .
ابتسمت حياة ونظرت إلى أمها التي شردت فقالت:
ـ أمي، لماذا لم تنجبي سوانا أنا وعنبر ؟!
ابتسمت صفية بانكسار عند ذكر سيرة عنبر ثم قالت:
ـ لقد حاولت ، حينها كان كل همي أن أتفوق على نسيباتي اللواتي أنجبت كل واحدة منهن طفلين فقط ، فانشغلت بكيفية التفوق عليهم ولو لمرة واحدة .. كنت أشعر بالنقص بينهما دوما ولطالما وددت لو أني أعوض ذلك النقص بأي طريقة حتى لو كان بإنجاب الكثير من الأطفال.
نظرت إليها حياة بشفقة وهي تتحدث بذلك الانكسار لأول مرة وتابعت:
ـ ولكن الله لم يمنحني هذه الفرصة..
وصمتت فتسائلت حياة بفضول وقالت:
ـ هل كنتِ تحملين وتجهضين الطفل ؟
ـ حياة ، لا داعي للتحدث بهذه الأمور الآن حبيبتي ، دعينا نتحدث عن ملابس الأطفال ، لا بد أن نشتريها في أقرب وقت لأننا لا زال لدينا الكثير لنفعله.
قاطع حديثهم دخول قاسم الذي لم يستطع إخفاء ضيقه من حياة وأمها .. ألقى التحية ثم دخل إلى غرفته على الفور.
شعرت حياة بالضيق من تصرفه وشعرت بالحرج لأجل أمها التي قالت:
ـ هيا حياة، اذهبِ لزوجك وأنا سأذهب للنوم ، رأسي يؤلمني بشدة ، تصبحين على خير.
دخلت صفية إلى غرفة مجاورة مخصصة للضيوف ، بينما دخلت حياة إلى غرفة قاسم وتحدثت إليه بتحفز فقالت:.
ـ قاسم ؛ ما سر ذلك الوجه الخشبي الذي ترتديه أمام أمي ؟! هل هذا من آداب حسن استقبال الضيف ؟
نظر إليها قاسم وقال بهدوء :
ـ لماذا أخفيتِ عني ما فعلته أمك بحنان ؟!
تجرد وجهها من جميع الانفعالات وخفتت حدتها ثم قالت:
ـ حنان هي من أخبرتك ؟!
ـ عزيز .
نطقت بغيظ:
ـ الواشي الحقير .
رفع حاجبه متعجبا وقال:
ـ هل كنتِ تعتقدين أن الأمر سيختفي للأبد ؟! لا شيء يبقى سرا للنهاية .
حاولت ترتيب كلماتها و انتقائها بعناية دون أن يظهر ذلك تحيزًا لوالدتها فقالت بهدوء ينافي الزوبعة التي أحدثتها قبل قليل:
ـ لعلمك ، بشهادة حنان نفسها أمي لم تقصد ما فعلته، أي لم تتعمد إيذائها ولكن الصدفة هي…
ـ الصدفة ؟! يا لها من صدفة حقيرة!
قالها بهدوء مميت عكس نفوره وغضبه ولكن حياة لم تتقبل ما قاله خاصةً وأنه شدد على الكلمة الأخيرة وكأنه متعمدا إيصال رسالة ما إليها فقالت :
ـ ماذا تقصد ؟! هل تسب والدتي ؟
نظر إليها بهدوء لم يبارحه ثم قال:
ـ والدتك.. أحسنتِ.. عليكِ أن تذكريني بذلك من حين لآخر ، لا بد أن أتذكر أنها والدتك دومًا ، لأنني إن نسيت ذلك سترون مني جميعكم وجها مظلما لن يرضيكم.
ثم تخطاها ودخل إلى الحمام وصفق الباب بقوة ، بينما هي في الخارج تقف في موقف لا تحسد عليه .. بين نارين لن تستطيع الفرار من أيا منهما مهما فعلت ، ستبقى تحترق بهما ولهما إلى الأبد .
ـــــــــ
يتبع
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق