Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السابع والاربعون 47 - بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السابع والاربعون 47  -  بقلم نعمة حسن 

_٤٧_
~ لغز محيّر !! ~
____________
صافحت حياة كلا من عزيز وحنان وعانقت كريم باشتياق جارف.. ومن ثم تبادلوا المباركات وجلسوا سويا وصالح بينهم يتجاذبون أطراف الحديث ، ثم دخلت حسناء إلى المطبخ لكي تنقل الأطباق إلى المائدة.
نهضت حياة وحنان وعرضتا عليها المساعدة فابتسمت قائلة بلطف:
_ أنتما حوامل ولا أريد إرهاقكما.. أساسا كل شيء جاهز.
نظرت كلا من حياة وحنان لبعضهما البعض وابتسمتا ثم قالت حنان:
_ ولو.. يكفي أنكِ قمتِ بتحضير كل هذه الأصناف بمفردك.
ودخلت إلى المطبخ لتنقل بعض الأطباق إلى المائدة فقالت حسناء:
_ أنا معتادة على تحضير الطعام بكميات كبيرة ، فلقد كنت أعمل بمطبخ المشفى قبل أن أنتقل إلى مكتب التمريض المنزلي.. كنت أعد الطعام لجميع المرضى والأطباء ، لذا لم أجد صعوبة في تحضير الإفطار اليوم.
ابتسمت حياة بتكلف وقالت بهدوء:
_ سلمت يداكِ.
انطلق مدفع الإفطار والتفوا جميعهم حول المائدة.. 
صالح على رأس المائدة ، وعن شماله حسناء ، بجوارها حنان وبمقابلها عزيز.. وبجواره كريم وبجانب كريم حياة التي تجلس عن يمين والدها.
تفقدت حياة المقاعد الشاغرة بحزن يلتهم فؤادها، وبالطبع لم يكن والدها ليفوت نظرة الحسرة بعينيها.. 
كانت تتأمل المقعد المقابل لوالدها على الجهة الأخرى.. كان من المفترض أن تجلس أمها الآن. أين هي  ؟ وكيف حالها ؟ كيف تتناول طعام إفطار أول يوم في رمضان بمفردها ؟ وما هو شعورها الآن ؟
و كون أن زوجة والدها لم تجلس على هذا المقعد بالذات ، هذا ما جعلها تشعر بالامتنان نحوها. على الأقل لأنها لم تحاول استفزازها بجلوسها مكان والدتها ، ولم تحاول إيصال رسالة مبطنة لها بأنها ستحل محلها .
اختنقت وسالت العبرات غدرا على جانبي خديها فمسحتها سريعا.. 
حاولت الانخراط معهم ولكنها فشلت.. فهناك مقعدين آخرين شاغرين، أحدهما خاص بقاسم والآخر بشقيقتها عنبر.
غص حلقها واختنـقت العبرات به.. كيف حالها وبماذا تشعر الآن ؟ هل تبكي ؟ هل تشتاق لهذه الجَمعة ؟ 
في هذه اللحظة واستكمالا لبركان الذكريات الأليمة تذكرت اليوم الذي أعد والدها عزيمة ضمت كل أفراد الأسرة احتفالا بخروج قاسم من السجن، في ذلك اليوم انسكب الحساء فوق يدها ورأت فزع ولهفة قاسم عليها ، حتى أنه صار ينفث من فمه على مكان الحرق ليخفف عنها الشعور بالألم. 
اقشعر بدنها وارتجفت.. لن يفهم أحدا ولن يقدر كم  تحتاجه الآن وفي هذه اللحظة بالذات ؛ فبالرغم من وجود والدها وأولاد أعمامها بجوارها الآن إلا أنها تشعر بالوحدة .. هذا ليس مكانها.. روحها غريبة تأبى الانسجام بينهم.. جسدها حاضر ولكن روحها غائبة تماما ولا سبيل لاستحضارها.
_ حياة، تناولي إفطارك يا ابنتي .
انتزعها والدها من شرودها فنظرت إليه ورسمت الابتسامة غصبًا على شفتيها وشرعت في الأكل.
كان صالح يتناول طعامه وهو يتفقدهم جميعا.. يجتمعون ولكن أرواحهم شتى !!
كلا منهم شاردا يفكر في ما يشغله..
حياة التي تفكر بالجميع.. عنبر، قاسم ووالدتها.
عزيز والذي يتناول طعامه وعيناه مثبتتان في الفراغ.. لا شك أنه تذكر أخاه الآن وحن لرؤيته.
حنان والتي لم تنس أخاها بالتأكيد وتحاول الاهتمام بكريم وتعويضه عن حرمانه والديه .
حسناء أيضا.. بالتأكيد لديها مخاوفًا وفضولًا حول انطباعاتهم عنها.
وهو.. هو لم ولن يتجاوز غياب عنبر .. عبدالله.. قاسم .. وحتى صفية !!
إنها الحياة يا رفاق ! كل شخص يمر بك إما أن يهبك بعضا من كله ويتنازل لك عن شيءٍ ٍمنه ، أو ينزع من روحك ووجدانك قطعة. يستحيل أن يعبر الإنسان دون أن يترك أثرا يصعب يتجاوزه. 
وفي النهاية.. الجميع لديهم همومهم.. وكلٌ يبكي على ليلاه !
بعد أن فرغوا من طعامهم وقامت النساء بنقل الأطباق إلى المطبخ ومن ثم تقديم الحلوى والشاي.. جلسوا جميعهم يتناولون أطراف الحديث عن مواضيع عامة، مع مراعاة كلا منهم عدم الخوض في مواضيع شخصية مراعاة لحساسية الوضع. وبينما حياة ترتشف من كوب الشاي خاصتها اهتز هاتفها معلنا عن اتصال وارد..
كان الاتصال من رقم غير مسجل،وهذا ما أشعرها بالقلق، فأجابت فورا وقلبها يطرق بعنف:
_ مرحبا.. من معي؟
_ مدام حياة صالح الحداد ؟
أجابت بوجل:
_ نعم، من حضرتك ؟!
_ لقد تركتِ رقم هاتفك بالمشفى لكي نهاتفك في حين الوصول لخبر عن والدتك السيدة صفية علام… 
أومأت والقلق ينهش فؤادها:
_ نعم، صحيح.. هل لديكم أخبارا عنها ؟!
_يؤسفنا إبلاغك أن اليوم قد وردت جثة مشوهة المعالم إلى مشرحة المشفى ومعها أوراق شخصية وبطاقة هوية خاصة بوالدتك.. يرجى زيارة المشفى لمعاينة الجثة في أقرب وقت !
لم تملك حياة في هذه اللحظة ردًا غير الصمت، أُصيبت بحالة من القصور العقلي الذي منعها من استيعاب ما سمعته، وكأن رأسها قد أصيب بالخدر، ودخل عقلها كهفًا مظلمًا ولم يغادره !.
أصبح الجميع يتطلع نحوها، يترقب ردها ، ينتظرون أي ردة فعل بعد هذا الصمت المريب ، ولكنهم أبدا لم يتوقعوا ما فعلته ؛ فلقد صرخت بأعلى صوتها وهي تُلقي الهاتف بعيدا بفزع وكأن جانًا قد تلبسها، وانتابتها حالة من الهياج العصبي الهيستيري وأخذت تصرخ وهي تنادي " أمي " مما أثار رعب المحيطين فأسرع عزيز والتقط الهاتف من على الأرض وتحدث مع الممرضة من جديد فأخبرته بما أخبرت به حياة.
حاوط كلا من صالح وحنان حياة وأسرعت حسناء إلى المطبخ لكي تحضر لها كأسا من الماء، بينما حياة لا زالت على نفس الحالة تبكي وتصرخ دون توقف ..
نظر عزيز إليهم بأسف وهو يحاول أن ينتقي الكلمات الأخف وقعًا عليهم، حينها لاحظ صالح حالته المرتبكة وتساءل بقلق:
_ ما بك يا عزيز ؟! ممن كان الاتصال ؟!
أخذ الأمر لحظات حتى وجد عزيز صوته وهمس بخفوتٍ آسف:
_ هذا.. هذا كان اتصالًا من المشفى ، يقولون أنهم عثروا على جثة زوجة عمي.
حدق به صالح بدهشة وافترش الأسف والندم ملامحه وجاء يتمتم وهو يقلب كفيه بصدمة:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون .
نظرت إليه حياة بتحفز وملامح منقبضة وقالت بحدة:
_ لا تقل ذلك ، أمي لم تمت. بالتأكيد هذه ليست أمي. 
مدت حسناء يدها بكأس المياه فدفعت حياة يدها بعيدا فتطاير الكأس وسقط أرضا وهي تقول بعويل:
_ لا أريد ، لا أريد منكِ شيئا ، أنتِ بالذات لا أريدُ منكِ شيئا .
على الفور تفهمت حسناء الموقف وابتعدت ودخلت إلى غرفتها بهدوء، بينما اقترب منها صالح وهو يحاول احتواءها وتهدئتها وقال:
_ حياة، اهدئي من فضلك. نحن لسنا متأكدين من الأمر .. لا داعي للانهيار الآن.
أومأت بموافقة ونظرت إليه بعين الأمل وهي تقول:
_ صحيح، نحن لم نتأكد بعد، علينا أن نذهب للمشفى حالا.. 
وقف كلا من عزيز وحنان بتأهب وانصرفت برفقتهم حياة متجهين فورا نحو المشفى. وتحرك صالح بكرسيه نحو الغرفة الموجودة بها حسناء ثم طرق الباب ففتحت على الفور وقالت:
_ هل غادرت ؟
هز رأسه بشرود فخرجت وهي تقول:
_ لقد ابتعدت لكي لا تثور ثائرتها أكثر ، لا أستطيع تصديق الخبر . يا إلهي !!
لم ينطق صالح بكلمة ودخل إلى غرفته وأمسك بمصحفه وبدأ يقرأ فيه ودموعه تتساقط ، تلك الحالة لم يكن لها تفسيرا بالنسبة له إلا أنه يشعر بالندم والخزي من نفسه ، وكأن تأنيب الضمير يكبل عنقه ويديه الآن.
في الخارج.. كانت حسناء لازالت تقف أمام باب الغرفة فوقعت عينيها على كريم الذي يجلس مكانه بحزن صامت. فأسرعت نحوه وجلست بجواره وضمته بذراعها وهي تقول:
_ هل أنت بخير عزيزي؟!
نظر إليها باستغراب، ثم قال:
_ ماذا يعني ما قاله عمي عزيز ؟! ماذا يعني أنهم عثروا على جثة جدتي ؟! هل ماتت ؟!
تنهدت حسناء باستياء وشفقة ، ثم مسحت على صدره مرتين وهي تحاول تطييب خاطره وقالت:
_ لا، لازال غير معلوم يا صغيري . 
وتجاوزت الأمر فقالت :
_ ما رأيك أن أحضر لك فيلم كارتون لتشاهده ؟ ريثما أذهب لأطمئن على حالة جدك .
هز كريم رأسه بنفي ثم قال وعيناه تحويان نهرا جاريا من الدموع:
_ لا أريد ، سأبقى بغرفة حياة .
أومأت بموافقة، فدخل إلى غرفة حياة بينما دخلت هي إلى غرفة صالح، توقفت بالقرب منه وهي تحمل حبة علاج الضغط وناولتها له ثم أتبعتها بكأسٍ من الماء ، وجلست بجواره على مقعد مجاور وقالت:
_ هل أنقلك إلى الفراش لتستريح قليلا ؟
هز رأسه بنفي ثم نظر إليها وقال بعينين ذابلتين:
_ ومن أين ستأتيني الراحة يا حسناء ؟! أيعقل أن تكون صفية قد ماتت ؟! مستحيل ! صفية لا تموت بهذه السهولة أبدا .
ربتت على فخذه بدعم وقالت:
_ لا تسبق الأحداث يا حاج صالح ، دعنا ننتظر خبرا مؤكدا.
هز رأسه بتأييد وهو يردد بغير استيعاب:
_ اللهم لا تحملنا مالا طاقة لنا به يا أرحم الراحمين.
_______________
دخلت حياة إلى المشفى تركض ويتبعها عزيز وحنان اللذان يحاولان تهدئتها . 
صعدوا جميعا إلى الطابق العلوي حيث " المشرحة "  حيث كان ينتظرهم أحد العاملين المتخصصين فقال:
_ أحدكم سيدخل الآن لرؤية الجثة ومحاولة التعرف عليها ، من ستختارون ؟!
تقدمت حياة منه على الفور ولكن عزيز فعل المثل ، ثم نظر إليها وقال:
_ لا داعي لرؤيتها بتلك الحالة حياة، أنا سأتولى هذا الأمر.
_ لا، أريد رؤيتها، بالتأكيد هذه الجثه ليست جثة أمي أنا أثق بذلك.
كانت حنان تحيطها بذراعيها فتحدثت بهدوء وأسف:
_ حياة، عزيز محق فيما قاله، لا داعي لرؤيتها بهذه الحالة ، أنتِ لن تتحملي هذا المنظر أبدا.
توقفت حياة عن البكاء ونظرت إليهم بحدة وهتفت بقوة:
_ قلت لكم أني من سأدخل لرؤيتها، انتهى.
فتح عامل المشرحة الباب، فدخلت حياة وبعدها عزيز الذي أصر على الدخول برفقتها وطلب من حنان الانتظار بالخارج.
تقدم العامل من ثلاجة الموتى وفتح الباب، ثم سحب السرير المصفح إلى الخارج ، فظهرت الجثة مسجاة مغطاة بملاءة بيضاء. 
حينها تمسكت حياة بساعد عزيز وضغطت عليه بقبضة من حديد ، وهي تترقب اللحظة التي سينقشع فيها الغطاء عن وجه هذه الجثة فتتبين إن كانت هي أمها فعلا أم لا.
كشف العامل الغطاء عن وجه الجثة فاقتربت حياة خطوة واحدة وأدرات وجهها فورا وهي تصرخ برعب من هول ما رأته ؛ وجهًا مشوهًا تماما معدوم الملامح في بداية تحلله.
وفورا أثار المنظر حواسها وداهمها القيء فهرولت إلى الخارج.
لحق بها عزيز على الفور، أسندها برفقة حنان وساروا بها إلى آخر الرواق، ثم أحضر مقعدين فجلست وبجوارها حنان التي تضمها إليها وتحاول تهدئتها عبثا، وجلس عزيز مكفهر الوجه يفكر بحيرة ..
ساد المكان صمتَا مهيبًا ، إلى أن تقدمت منهم الممرضة وهي تقول:
ـ هل تعرفتم على الجثة؟
نظر كلا من عزيز وحنان إلى حياة بترقب فهتفت حياة بصرامة:
ـ لا، ليست والدتي.
تمتم عزيز بالقرب منها بخفوت:
ـ حياة لا تتعجلي، الجثة مشوهة المعالم ولا يمكننا الجزم إن كانت هي أو لا.
نظرت حياة إليه بكل ثقة وأردفت:
ـ حتى لو تحللت تماما يا عزيز، أنا أثق أنها ليست جثة أمي، لذا أنا أطالب بأخذ عينة من دمي وعينة من هذه الجثة بالداخل و عمل تحليل بصمة وراثية حالا .. لكي أثبت لكم بالدليل القاطع أني محقة.
نظروا إليها بشك فقالت حنان إلى الممرضة:
ـ عند إخطارنا بوجود الجثة هنا قيل أنه تم العثور على أوراق شخصية وبطاقة هوية خاصة بزوجة عمي ؟!
أومأت الممرضة بإيجاب وأردفت:
ـ صحيح، ولكن النيابة العامة قامت بالتحفظ عليهم.، بالتأكيد سيتم استدعاؤكم لأخذ أقوالكم فيما يخص اختفاء الوالدة وأخذ الموافقة للبدء في عملية تشريح الجثة لتبيان….
وبترت كلماتها عندما هبت حياة واقفة فجأة وصرخت بوجهها بغضب:
ـ لن نذهب لأي مكان ، هذه الجثة ليست لوالدتي ، أنا أثق بذلك ، هذه أمي حتى لو تبخرت تماما واختفى ريحها سأعرفها ، فيمَ تجادلون ؟!
ووقفت باندفاع وهي تردد:
ـ سأذهب برفقتك الآن و ستأخذين عينة من دمي لتحليلها لكي نقطع الشك باليقين ، هيا.
ـــــــــــــــــــــ
بعد يوم مضني، عادت كلا من حنان وحياة إلى بيت والدها الذي كان ينتظر بنفاذ صبر.
دخلت حياة ووجهها شاحب والإرهاق بادٍ عليه ، تهاوى جسدها على الأريكة من خلفها بتعب وحنان كذلك التي شعرت بالوهن يكتسح جسدها. فما كان من حسناء إلا أنها أسرعت نحو المطبخ وأحضرت لهما كأسين من العصير الطازج ومعه شطيرتين وقدمت لكلا منهما طبقها وهي تقول باهتمام:
ـ تفضلا ، عليكما أن تأكلا شيئا ولو بسيطا لكي لا تصابا بالإعياء والهبوط.
وجلست على مقربة من صالح الذي تحدث قائلا:
ـ حدثني عزيز ، أنكِ لم تتعرفي على هذه الجثة .
أومأت بقوة وأردفت:
ـ ليست جثة والدتي .
نظر إليها بشك وقال:
ـ هل أنتِ متأكدة حياة؟
نظرت إليه بتعجب وأردفت باستياء:
ـ ما بالك يا أبي؟ هل أنا عمياء لهذه الدرجة لكي أغفل عن أمي؟! من منا لا يحفظ تفاصيل جسد والدته عن ظهر قلب؟ حتى لو كان الوجه مشوهًا وحتى لو بدأت العظام بالتحلل، ولكن هذا ليس جسدها ، لن أخطأه حتى ولو كان مغطى بألف ملاءة. 
هز صالح رأسه بتأييد وأردف:
ـ إذن ما سر تواجد الحقيبة مع هذه الجثة ؟! هناك لغزًا يصعب فهمه أو حله.
أمسكت بجانبي رأسها بتعب شديد وصداع يغزوها وقالت:
ـ هذا ما لا أفهمه. كيف وصلت أغراض أمي إلى هذه السيدة ؟! وماذا حدث لها بعدها ؟! 
ـ الكاميرات !!
هتفت بها حسناء فاستطاعت جذب اهتمامهم وجعلهم ينصتون إليها بتركيز وترقب فقالت:
ـ هل تمت مراجعة الكاميرات المتواجدة بالقرب من المكان الذي تم العثور على هذه الجثة به ؟ أعتقد جميع الشوارع أصبحت مراقبة بالكاميرات وإذا تم مراجعة أقرب كاميرا للمكان يمكننا الوصول لشيء.
أومأت حياة بتأكيد وأردفت:
ـ صحيح، علينا انتظار عودة عزيز من النيابة لنرى ما حدث معه.
في تلك اللحظة طرق عزيز الباب ففتحت حسناء فدخل وعلى وجهه أمارات الإرهاق بدوره ، جلس والعيون كلها تترقبه إلى أن نطق وقال:
ـ لم أستطع استعادة الحقيبة، علينا أن ننتظر نتيجة التحليل أولا، إن ثبت أنها هي زوجة عمي لاقدر الله سيتم تحريزها لحين صدور بيان من الطب الشرعي حول سبب الوفاة وإن ثبت أن هناك شبهة جنائية فسيكون علينا الانتظار للفصل في مسار القضية والتوصل إلى الفاعل ومن ثم سنتسلم الجثة ونحصل على تصريح الدفن واستلام الحقيبة. 
ضربت حياة كفا بكف بنزق واستياء وقالت بحنق:
ـ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ما هذا الإصرار كله على أنها والدتي ؟!!
نظر عزيز إليها بقلة حيلة وأردف
ـ وإن ثبت أنها ليست جثتها سيكون من حقنا استلام الحقيبة،  أو تحرير بلاغ بالاختفاء وحينها ستبدأ الشرطة في البحث عنها والتعامل معها كمفقودة.
هتفت حياة وكأنها وجدت الحل أخيرا وقالت:
ـ صحيح، كيف غفلت عن هذا الحل من البداية ؟! كان علي تحرير بلاغ بالاختفاء منذ اليوم الأول ، ولكني اكتفيت بالبحث لدى الجيران والمستشفيات.
تسائل صالح:
ـ متى ستكون النتائج جاهزة؟!
فأجاب عزيز:
ـ بعد غد.
أومأ موافقا وقال:
ـ ليفعل الله خيرا. 
نهض عزيز وأشار لحنان فنهضت ثم قال:
ـ نحن نستأذن يا عمي، حياة، هيا لنقِلك في طريقنا .
تحدث صالح بحسم :
ـ لا، حياة ستبقى برفقتي. سأكون مطمئنا عليها أكثر.
نظرت إليه حياة بهدوء وأردفت بتوتر:
ـ لا داعي للقلق يا أبي، سأكون أكثر راحة في بيتي.
ـ ولكن هذا بيتك أيضا !
قالتها حسناء مما أثار تعجب حياة وجعلها تنظر إليها بتفكر للحظات؛ هل تحاول الحصول على إعجاب واستحسان صالح فقط ؟ أم أنها تحاول الظهور بمظهر المرأة المتفهمة الطيبة وتحطم الفكرة الشائعة حول زوجة الأب الحقودة المتملكة؟ أم أنها فعلا تحاول كسب ودها لا أكثر ؟!
جلبها والدها من شرودها حين قال مؤكدا:
ـ حسناء محقة، هذا بيتك ، ومن الأفضل أن تبقي بجواري في تلك الظروف. لا تتركيني للقلق يعيث فسادا برأسي.
لم تجد حياة بدًا من الموافقة فأومأت على مضض مما أثار راحة صالح واطمئنانه ، بعدها تحدث عزيز وقال:
ـ حسنا، وأنا أرى أن عمي محق، من الأفضل أن تبقي هنا.
هز صالح رأسه بتريث ثم قال مخاطبا حنان:
ـ حنان، لمَ لا تأتي وتبقي بشقة والديكِ لفترة ؟ على الأقل تستأنسان ببعضكما أنتِ وحياة ، وأكون مطمئنا عليكِ أيضا في ظل غياب عزيز.
قطبت حنان جبينها بتعجب من الفكرة المطروحة ونظرت إلى عزيز الذي قال:
ـ فكرة جيدة للغاية، أساسا سوف أكون مشغولا أغلب الوقت في الفترة القادمة، وجودك هنا سيجنبني القلق والانشغال عليكِ.
وأضافت حسناء:
ـ ثم أنني أرى أن وجودكم جميعا بالجوار سيكون مفيدا لأجل كريم، الولد يحتاج لرؤية أكبر عدد من أفراد عائلته برفقة بعضهم البعض ، هذا سيعوضه غياب والديه نوعا ما.
نطق صالح مُثنيًا على طريقة تفكيرها فقال:
ـ أحسنتِ حسناء، علينا جميعا أن نحاول تعويض هذا الصغير المسكين، جميعنا بلا استثناء مقصرين بحقه .
أومأ الجميع بموافقة فقالت حنان:
ـ حسنا، وأنا لا مانع لدي. سأذهب برفقة عزيز إلى البيت وأحضر أغراضي وأعود. عن إذنكم.
انصرف عزيز وحنان، ثم استأذنت حياة ودخلت إلى غرفتها ، وبعدها ساعدت حسناء زوجها لكي يذهب إلى الحمام لكي يأخذ حماما ومن ثم يدخل إلى الفراش بعد يوم طويل شاق.
ـــــــــــــــــ
كان يجلس بالشرفة، شاردًا يفكر في نفس الموضوع الذي لا يغادر رأسه أبدا. أصبح محاصرا به في كل الأوقات ولا يستطيع - مهما حاول - أن ينتشله من باله ويلقيه بعيدا.
كان ممسكا بكوب الشاي الثالث بعد كوبين من العصير اللذان سبقاه؛ فزوجة والده لا تترك له مجالا لكي يجلس بيده فارغه أبدا.
دخلت فريال وهي تحمل طبقًا من حلوى رمضان الخاصة وهي تمسك بقطعة بين أصبعيها وتقول بابتسامة:
ـ سيكون من العبث ألا تتناول صُنع يداي . هيا افتح فمك عزيزي .
نظر إليها قصي وتنهد وقال:
ـ يا رب الرحمة، كفى فلة أرجوكِ. لم يعد بمعدتي مكانًا لنقطة ماء واحدة.
دست قطعة الحلوى بفمه قسرًا ووضعت الطبق أمامه على الطاولة وهي تقول:
ـ لا تبالغ قصي، أنت لم تأكل بشكل جيد أساسا.
وغمزتهُ بنظرة ذات مغزى وتابعت:
ـ يبدو أن مزاجك سيئا وهناك ما يعكر صفوك.
تنهد بهدوء وباحت عيناه بما لم يبوح به شخصيا فاقتربت منه وقالت:
ـ هيا يا صاصا أخبرني قبل أن يعود والدك من عيادته، ما الخطب؟
نظر إليها بحنق فتراجعت وقالت بملل:
ـ أعتذر منك، تفضل يا دكتور قصي. 
ظل صامتًا للحظات ثم أفرج أخيرا عن لسانه من معقله وقال:
ـ لا ، الأمر ليس كما تظنين، لا مشكلة لدي إن عرف والدي ما يشغلني لأنه بالفعل لدية خلفية عن الأمر منذ فترة. 
ـ حسنا، ولمَ لا تتحدث معه عما يشغلك طالما أنه يعرف بالفعل.
تنهد بحيرة وتوتر مردفًا:
ـ لأنني لا أعرف ماذا علي أن أقول أساسا، أنا مشتت وأشعر بالحيرة، لن أستطيع ترتيب كلماتي إن تحدثت معه وسأهدر وقته هباءا.
رفعت حاجبا وضيقت عيناً بنظرة تخمين وثقة، ثم أردفت:
ـ حسنا ، وأنا لدي المتسع من الوقت يمكنك إهدار ما شئت منه، هيا تكلم ولكن بسرعة، علي إعداد طعام السحور.
نظر إليها بذهول وأردف:
ـ سحور ؟! هل تخلصنا من طعام الإفطار بعد لكي نتناول السحور ؟ أقسم أني سأغادر شهر رمضان برفقة عشرين  كيلوغراما إضافيا على الأقل.
ضحكت وأردفت:
ـ لا تقلق، مع فلة أنت في أمان.
ضحك وقال:
ـ أشك في ذلك، لعلمك أبي يحارب السمنة منذ زمن، رجاءً لا تمنحيها الفرصة لكي تنتصر عليه في هذا العمر !
لكزت ذراعه بخفة وقالت بحنق فائض:
ـ أيُ عمر يا غليظ ؟! والدك لا يزال شابًا في ريعان شبابه ، ثم لا تخف، طعامي خفيف على المعدة، والقلب كذلك.
ضحك عاليا وقال:
ـ هذه حقيقة علمية مثبتة لا تحمل مجالا للشك يا فلة.
ابتسمت فريال بألفة وقالت:
ـ إذن هيا تكلم، ما خطبكَ ؟
نظر إليها مطولا ثم قال بانهزام:
ـ أنا واقع بالحب يا فلة !!
صمتت للحظات ثم قالت بلهجة العارف:
ـ سارة . أليس كذلك ؟!
نظر إليها مصدومًا وقال:
ـ ماذا ؟! كيف عرفتِ؟!
ضحكت مطولا ثم قالت:
ـ لستُ الوحيدة التي تعرف، لاحظنا أنا ووالدك نظراتكما المحمّلة بسهام الهوى التي تخترق قلبيكما ذهابا وإيابا يوم الزفاف ، يا إلهي .. لست أنا ووالدك فقط.. أشك أن جميع الحضور وعامل البوفيه ومنسق الحفل والقائمين على القاعة أيضا لاحظوا.
وغرقت في نوبة ضحك جديدة مما أشعره بالحنق فالتزم الصمت فقالت وهي تجاهد لكي تتوقف عن الضحك:
ـ عيبكم يا شباب هذا الجيل أنكم تخطئون تقديرنا..
نظر إليها فقالت:
ـ نعم، لا تنظر إلي هكذا ، أنا أبلغ من العمر عمرا يا ولد.. لا يغُرك سني الصغير، العمر لا يقاس بالسنوات أبدا وإنما بالتجارب والخبرات المكتسبة ، وأنا خُضتُ تجارب عديدة تؤهلني لمعرفة فحوى نظرات الأعين من حولي دون النطق بكلمة.
نظر إليها ضاحكا وصفق بيديه وقال بفخر هزلي:
ـ الله، تحياتي لكِ سيدتي.
عبست فنهرته قائلة:
ـ لا تسخر  من حديثي يا طويل ، هل تنكر أنكما تحبان بعضكما البعض وتواجهان بعض المشاكل والصعوبات ؟
قطب جبينه فاتسعت ابتسامتها بثقة وقالت:
ـ قلتُ لك لا تستهين بي ، فأنا ألتقطها وهي تطير.
زم شفتيه بنزق وأردف:
ـ إذًا وماذا عرفتِ أيضا ؟! أقصد بما أنكِ استطعتِ تخمين أننا نمر بأزمة ألم تستطيعي تخمين شيئا آخرا ؟
نظرت إليه بغيظ وأردفت:
ـ هل أنا منجمة أو عرافة مثلا ؟! بربك كن منطقيا.. هيا أخبرني ما الحكاية؟
تنهد بتعب وحك مقدمة رأسه بضيق ثم قال وقد طفح الإحباط في ملامحه:
ـ لا أعرف، أنا أشعر بالتيه والتخبط والضياع. أشعر بالتشتت بين قرارين كليهما متعب.. أنا مرغم على الاختيار بينهما، وفي نفس الوقت لست متأكدا بشأن القرار الذي سأتخذه، يعني.. لا أعرف إن كان هذا هو القرار الصواب أم أنني سأندم. كل ما أعرفه أن العجلة لن تفيد في هذا الموضوع أبدا وعلي أخذ الوقت اللازم لكي أفكر بروّية ودون استعجال.
ظل قصي يثرثر بكلمات متداخلة، غير مفهومة، وفريال تسمعه باستفاضة، إلى أن نفذ صبرها وقالت بهمس:
ـ صدق من قال أن باب النجار مخلوع فعلا. 
توقف قصي عن ثرثرته وقال:
ـ ماذا قلتِ ؟! 
ـ لم أقل شيئا.
ـ لا، لقد سمعتك تقولين باب النجار مخلوع ؛ ماذا تقصدين ؟
ـ أقصد أنك تملك أبًا يأتي إليه الناس من كل حدب وصوب لكي يعالج حيرتهم ويرشدهم إلى الطريق الذي يجدون فيه راحتهم، لمَ لا تلجأ إليه.
ـ لا.. في هذا الأمر بالذات لا يمكنني التحدث معه، الموضوع لا يخصني بمفردي ولا يصح التحدث فيه مع أبي بالذات ، لا أدري ربما تزوجت أنا وسارة في يوم من الأيام.
وشرد واتسعت ابتسامته وهو يتخيل الأمر، فابتسمت فريال وهي تراقب ابتسامته وقالت:
ـ يا إلهي، أقسم أنكما كعصفورين كناريا ، تلائمان بعضكما كثيرا، لا تخف يا قصي سأدعو الله في كل صلاة أن يجمع بينكما .
نظر إليها قصي وابتسم بهدوء ثم قال:
ـ أشكرك يا فلتي. هيا أنا أستأذن..
ونهض سريعا فقالت:
ـ مهلا، لم تتناول طبق الحلوى خاصتك..
مسح على بطنه الممتلئ قليلا وقال بابتسامة:
ـ لقد تناولت ما يكفي للبقاء ثلاثة أيام بدون طعام. الشهر لا يزال طويلا يا زوجة أبي العزيزة.
وانصرف قصي هاربا وتركها بمكانها تتمتم باستياء:
ـ رحل قبل أن يتذوق الكنافة بالكريمة والفستق التي أعددتها خصيصا من أجله !!! لا بأس سأطعمه إياها رغما عن أنفه الطويل هذا عندما يعود.
ــــــــــ
بعد مرور يومين..
استيقظت حياة من نومها باكرا ونهضت لتستعد للذهاب إلى المشفى ، فاليوم ستكون نتائج التحليل جاهزة وعليها أن تحصل عليها في أسرع وقت ممكن لكي تتخلص من هذه الهواجس والشكوك التي تدور حولها.
خرجت من المنزل واستقلت تاكسي وتوجهت إلى المشفى، حصلت على نتائج التحليل وتوجهت إلى أقرب مقعد وجلست عليه ، فبرغم ثقتها من النتيجة إلا أن قلبها يصدر ضجيجا عاليا لا يمكن تحمله.
فتحت الورقة بأيدي مرتعشة وبدأت بقراءتها وفورا انهمرت دموعها .. 
انهيار شديد وبكاء لا متناهي ولسانها يردد بلا توقف:
ـ الحمد لله ، اللهم لك الحمد.. كنت أثق أنها ليست أمي. 
أسندت رأسها على كفيها واستسلمت لنوبة البكاء التي حاصرتها وفجأة شعرت بيد توضع على كتفها فانتفضت لتجده عزيز الذي ينظر إليها مترقبا ويقول:
ـ حياة، لماذا سبقتِني؟
نظرت إليه وابتسمت ابتسامة متعبة وهي تبكي وتقول:
ـ أرأيت يا عزيز ؟! هذه ليست أمي، لم يصدقني أحدكم ولكني كنت محقة، التحاليل أثبتت أن هذه الجثة لا تمت إليّ بصلة.
تنهد عزيز براحة نسبية ثم ربت على كتفها وقال:
ـ الحمد لله ، علينا الآن أن نكمل الإجراءات ومن ثم نستطيع استعادة حقيبة والدتك . هيا.
بعد فترة.. خرج عزيز وحياة من مبنى النيابة العامة ومعهم حقيبة يد صفية ، استقلت حياة السيارة برفقة عزيز وما إن جلست حتى فتحت الحقيبة بفضول كبير..
جزدان جلدي أسود، وبطاقة هوية ، ومبلغ مالي كبير !!!  تلك كانت محتويات الحقيبة.
أمسكت حياة بالجزدان وفتحته فوجدت به صورة لها وصورة لعنبر.. وهذا ما استوقفها طويلا ولو أنه مازال بعينيها دموعًا لبكت.
أمسكت بالنقود تطالعها بتعجب ثم نظرت إلى عزيز باستفهام وقالت:
ـ ما هذا ؟! ماذا كانت ستفعل أمي بكل هذا المبلغ ؟!
مط عزيز شفتيه بحيرة وتفكير مماثل وقال:
ـ لا يوجد سوى تفسير واحد، أنها كانت تنوي الهرب أو الاختفاء طويلا.
أومأت بتأييد وأردفت :
ـ صحيح، إذن ماذا حدث معها حتى وصلت الحقيبة إلى أيدي هذة السيدة ؟! وأين ذهبت أمي الآن وكيف تعيش بدون نقود ؟!
نظر إليها عزيز بعجز، لم يرد مشاركتها الأفكار التي تدور برأسه الآن لأنه يثق أنها لن تتقبلها. فهو مثلا شبه متأكد أن صفية ميتة الآن ولكنهم عاجزين عن الوصول إليها، وإلا فلمَ لم تظهر منذ عشر أيام تقريبا خاصةً وأنها فقدت المال الذي كانت تعتمد عليه بالتأكيد !!! 
أما حياة فحالها لم يتحسن كثيرا ، فالبرغم من أنها ارتاحت نوعا ما لأنها تأكدت أن هذه ليست جثة والدتها، ولكنها لا زالت تشعر بالضياع والألم يحتل قلبها ويمزقه كلما تخيلت كيف من الممكن أن تكون حالة أمها الآن !! هذا إن كانت لاتزال على قيد الحياة أساسا !
ويبقى اللغـز المحيّـر ؛ أين ذهبت صفية ؟!!!
ــــــــــــــ
يتبع


• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين  " اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات