Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السادس والاربعون 46 - بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل السادس والاربعون 46 - بقلم نعمة حسن 

_٤٦_


~ كذبة ابريل!! ~


________


_ حسناء ، هل تتزوجيني ؟!


تلبد وجهها و كستهُ الغيوم وظلت تتطلع نحوه بعدم استيعاب، ظننت أنه سيصحح سوء فهمها، أو يتراجع عن هذه المزحة ولكنه لم يتراجع ولم يصحح؛ إذن فما قاله مقصودا !!


_ عفوا منك ؟!! ماذا قلت ؟


نظر إليها صالح بحرج وخجل شاب في العشرين من عمره قد ذهب لطلب يد ابنة الجيران، ثم قال مبتسما بتلعثم:

_ لقد.. لقد عرضتُ عليكِ الزواج ، هل تمانعين؟


قطبت جبينها معبرةً عن استغرابها وتعجبها وقالت:

_ ولمَ عليَّ أن أقبل؟


نظر إليها متفاجئا من ردها الحاد ثم حاول درء الصدمة جانبا وقال محاولا حفظ ماء وجهه:

_ لأني ظننتُ أن ظروفنا متلائمة ، وأن كلا منا ينقصه شيئا ربما استطاع أن يجده في الآخر، لذا استجمعت رباطة جأشي وعرضتُ عليكِ هذا العرض.


_ ظروفنا متلائمة ؟ عن أي ظروف تتحدث يا حاج صالح؟


شعر صالح بالحرج ولكنه لم يكن ليتراجع حتى يعرف القول الفصل في هذا الأمر فتنهد بتعب وأردف:

_ أنا رجل مطلق، وحيد.. عاجز كما ترين حالتي ولن أنكر أنني بحاجة من يساعدني، ولن أنكر أيضا أنني بحاجة لمن يمنحني الونس والألفة. اسمعيني حسناء. أنا لست رجلا مراهقا ولا أحمقا، أعرف أن رجلا مثلي بنفس حالتي لن يكون محط إعجاب أو إغراء لسيدة شابة مثلك. ولكن….


قاطعته حسناء فجأة وقالت:

_ هل طلقت السيدة صفية ؟


أومأ موافقا فقالت:

_ هل يمكنني معرفة السبب؟


أردف بهدوء:

_ مؤخرا حدث الكثير من المشكلات..


قاطعته وقالت بإيجاز:

_ هذه المشكلات أنا لستُ طرفا بها ، أليس كذلك ؟


أومأ نافيا وقال:

_ أبدا. لا دخل لكِ.


_ إذا أنا أوافق.


نظر إليها متعجبا، متفاجئا، لم يتوقع أن يتم الأمر بتلك السرعة أبدا. 


_ أولادك، هل يعرفون بتلك الخطوة؟ هل تظن أنهم سيتقبلونها ؟!


نظر إليها لبرهة، ثم أردف:

_ أولادي لديهم ظروفا خاصة، ستعرفينها إن تم النصيب وتزوجنا. ولكن على كل حال ليس لأحد منهم الحق في مراجعة أو مناقشة قراراتي. 


تنهدت بتفكير وتمعن ثم قالت:

_ إذا فأنا لا مانع لدي، ولكن كيف ستضمن حقوقي ؟ 


نظر إليها باستفهام وقال:

_ لا افهم قصدك.


_ أقصد أنني إن تزوجتك سأترك العمل بالمكتب وأتفرغ لخدمتك ورعايتك ولن يصبح لي مصدر دخل خاصًا بي، من يضمن لي أنه لو أعلن عليك أولادك العصيان والتمرد أنك لن تضحي بي أو تطلقني إرضاءً لرغباتهم، أو أنك لو لاقدر الله مت أنهم لن يلقون بي في الشارع بعد موتك ؟! أعذرني ولكني تعلمت أن أكون عملية دائما وأن واحد زائد واحد يساوي اثنان. 


_ فهمتك. على كل أنتِ محقة وأنا لن أبخسكِ حقوقكِ أبدا. جميع حقوقك محفوظة. أطلبي ما تريدينه.


تنهدت طويلا ثم قالت:

_ لا بد أن تأمن لي بيتًا خاصًا بي، وتسجله في الشهر العقاري باسمي !!


توقف عند مطلبها لبرهة، يفكر في الأمر بعقلانية، بينما هي تراقب خلجاته والحيرة البادية عليه فقالت:

_ أنصت إلي جيدا يا حاج صالح. سيكون لكلا منا مصلحة من هذا الزواج إن تم. نحن راشدين وعاقلين ونستطيع التفكير بحكمة وعملية، أنا أريد تأمين مستقبلي بما إني سأتفرغ لك وأترك عملي. هذا ليس طمعا أو ما شابه ولكن ببساطة لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 


نظر إليها باستفهام فتنهدت ثم قالت:

_ أنت لا تعرف عني شيئا يا حاج صالح. ولكني سأخبرك الجزء الأكثر إلهاما بالنسبة لي، والأكثر إيلاما كذلك. 

عندما كنت شابة في السابعة عشر من عمري تزوجت من جارنا الذي كان يكبرني بعامين. عشت حياة مرفهة جدا ومنعمة، كنت سعيدة معه وكانت لدينا حياة مستقرة، إلى أن تعرض لحادث وبترت يده اليمنى على إثرها. اضطررت إلى البحث عن عمل لكي أستطيع سد احتياجاتنا ريثما يستطيع هو تدبير ثمن طرف صناعي يمكنه من العودة إلى العمل من جديد . ولأنني كنت صغيرة بالعمر ولم أحصل على شهادة لأني لم أكمل تعليمي اضطررت إلى القبول بالعمل في المنازل.. طبعا الأمر لا يحتاج إلى شرح.. يمكنك تخمين كم الاستغلالات والمضايقات التي كنت أتعرض لها. حاولت وتحملت وعندما فاض بي وطفح الكيل أخبرته بكل شيء، وكان هذ خطأي الذي لن أسامح نفسي عليه أبدا. بعد أن أخبرته بتعرضي للتحرش من أصحاب البيوت التي كنت أخدم بها غضب وثار وبكى، ثم لم يتحمل العجز وتملكه اليأس ودفعه إلى الانتحار. 


كان صالح يستمع إليها بأسى وهي تسترسل بحزن وتستحضر تلك الذكريات الأليمة وتقول:

_ بعد موته بعام ونصف تقريبا زوجني أبي لرجل يكبرني بثلاثين عاما… ثلاثون عاما كاملة... تخيل !! هذا فقط لأنه كان ميسور الحال واستطاع أن يدفع ثمنا يليق بي. 


وابتسمت بحزن وتابعت:

_ كنت شابة في كامل أنوثتي، في مقتبل العمر، وردة يهفو الجميع لقطفها وتملكها، ولكن هؤلاء الجميع لم يملكوا ما يدفعونه لوالدي الذي كان يطلب الحد الأقصى دوما. ما عدا هذا الرجل الذي دفع ما طلبه أبي بدون نقاش.. ولأني فقيرة حظ ومنحوسة كما كانت تدعوني أمي مات هذا الرجل بعد زواجنا بعامين فقط. لأجد نفسي وقد أصبحت أرملة للمرة الثانية وأنا في العشرين من عمري. ولكن لم يتوقف سوء الحظ والنحس عند هذا الحد، فبعد موته بشهر واحد فقط تهجم علي أولاده وبناته وضربوني ضربا مبرحا وقاموا بطردي من المنزل وألقوا بي في الشارع. طبعا والدي كان من السلبية بحيث تغافل عن حقوقي، وغض البصر عما فعلوه بي، وأقنعني أننا لن نجني من عداوتهم سوى الذل والهوان. 


وتوقفت عن السرد ثم نظرت إليه بابتسامة متزنة وقالت:

_ بعدها بخمس سنوات مات أبي، وتحررتُ أخيرا من جهله وسلبيته وتعنته الضال، استطعت أن أواجه الحياة من جديد وتعلمت أبجديات الحياة كطفل في العاشرة. وبدأت أموري تستقر شيئا فشيئا ، بعدها استطعت الحصول على عمل في مكتب توظيف ممرضين وممرضات للتمريض المنزلي، ثم انتقلت للعمل كمساعدة في مطبخ أحد المستشفيات ، وأخيرا انتقلت إلى المكتب الذي لا زلت أعمل به حتى الآن. برأيك هل علي أن أخوض نفس المغامرة من جديد دون الاستفادة من التجربتين المريرتين اللتين مررت بهما ؟! 


هز رأسه بنفي وقال بثقة:

_ أنتِ محقة، وأنا أوافق على شرطك. وإن كنت أثق أن بناتي لسن كمن ذكرتيهم أبدا ولكن حفظًا وضمانًا لحقوقك لدي شقة بالمعمورة سوف أسجلها في الشهر العقاري  باسمك. 


أومأت بموافقة وقالت:

_ حسنا، نحن متفقين إذًا.

_____________


خرجت سارة من غرفتها تنوي الخروج.. أو بمعنى أدق كانت تنوي الهرب قبل أن تمسك بها والدتها وتدخل معها في جدال منذ الصباح حول آثار البكاء الواضحة جدا على معالمها. ولكنها تفاجئت بوالدتها تخرج من المطبخ وهي تحمل قدحا من القهوة وقد بدا علي وجهها الإرهاق والتعب وعلى ما يبدو أنها لم تتوقف عن البكاء طوال الليلة الماضية.


_ يبدو أنها كانت ليلة مليئة بالدموع.

قالتها سارة وهي تمط شفتيها وترفع حاجبيها بتعجب من هيئة والدتها التي تجاوزتها ودخلت إلى الشرفة دون النبس بحرف.


ارتدت سارة حذائها واستعدت للخروج فإذ بوالدتها تقول بصوت خافت متحشرج:

_ إلى أين ؟!


تنهدت سارة، ثم اقتربت منها وقالت:

_ هل أنتِ بخير ؟!


أجابت فتون وهي ترتشف من فنجال قهوتها بهدوء وقالت:

_ أجل. إلى أين تذهبين؟


زفرت مطولا وأجابت:

_ لا أعرف، ولكن على الأغلب سأذهب لمكاني المعتاد.


أومأت فتون بصمت، ثم قالت:

_ ما رأيكِ أن نخرج سويا اليوم؟ 


_ حقا؟ 


تسائلت بتعجب فهزت فتون رأسها بموافقة وقالت:

_ أشعر بالضجر، أشعر بالملل يقتلني ببطء. أود تجربة أي شيء مختلف.. إن بقيتُ بمكاني هنا ستزهق روحي من فرط اليأس.


_ شعرت سارة بالإحساس المظلم الذي ينبعث ويفوح من حديث والدتها وعلمت أنها ليست بخير أبدا ، بل وأوشكت على تخمين السبب الذي أغرق أمها في هذا الظلام أيضا، فقالت بابتسامة مهزوزة:

_حسنا، اقتراحًا رائعًا. 


_ حسنا، اعتنِ بنفسك.


خرجت سارة لتتفاجأ بقصي الذي كان يجلس على الدرج في انتظارها وهو يقف متأهبا، ويقترب منها ولكنها تجاهلته تماما وحثت الخطى نحو المصعد فأسرع خطاه لكي يلحق بها 


دخلت المصعد وهمت بضغط الزر ولكنه وضع كفه كحاجزٍ بين مصراعي الباب لئلا ينغلق وهم بالدخول ولكنها منعتهُ بصلف وتكبر إذ قالت:

_ أعتذر منك ، لا أستقل المصعد برفقة الغرباء !


توقف يتطلع نحوها بأسى وهي تضغط الزر مجددا فهبط المصعد بينما ظل هو واقفا يتأمل أثرها وقد حفرت جملتها بداخله أثرا مؤلما للغاية.


خرجت سارة من العمارة حيث كان حسين السائق الخاص في انتظارها فركبت السيارة وطلبت منه أن ينقلها إلى المقهى التي تجلس به دومًا. تحرك السائق وأسندت هي رأسها على ظهر المقعد وأغمضت عينيها في محاولة بائسة منها لكي لا تتذكر نظرته المنكسرة التي من الممكن أن تُثنيها عن قرارها بشأن البُعد والتخلي، وتُضعف من عزيمتها وتجعلها تستسلم لمشاعرها التي تحثها على إعطاءه فرصة جديدة. وهي التي قررت قرارا صارما وعزمت على عدم العودة إليه مهما حاول، فلن تقبل أن تظل طوال حياتها رهينة الإحساس بالشفقة وموضع عطف .. ومن يدري؟ ربما موضع اشمئزاز ونفور!


اهتز هاتفها معلنا عن اتصال فنفضت رأسها من تلك الأفكار الخزعبلية التي تنتابها أحيانا وأخرجت هاتفها من حقيبة يدها فإذ بها تتفاجأ بالمتصل.


_ چاسي !!


تجاهلت الاتصال ولكن المتصلة كانت أكثر إصرارا فعادوت الاتصال مرة أخرى فما كان بوسعها إلا أن تجيب.


_ مرحبا چاسي، كيف حالكِ ؟


_ هل تتذكرين چاسي يا نذلة ؟ هل تتذكرين رفاقك القدامى أساسا ؟ مرت شهورًا طويلة وأنتِ تتجاهلينا ولم تفكري حتى في الاتصال بنا ولو لمرة.


قلبت سارة عينيها بملل وهي تستمع للوم وعتاب صديقتها التي لا ترغب في الحديث إليها أساسا ولكنها قالت بلطف:

_ المعذرة منكم. كان لدي هموما انشغلت بها.


_ هموما ؟! خيرا ؟! هل أنتِ بخير سارة؟


_ أنا بخير ، مجرد تفاهات لا تهتمي.


_ حسنا، أعرف أنكِ تتهربين من الإجابة، ولكن على كل حال، لقد اتصلت بكِ لكي أدعوكِ لحضور حفل عيد ميلادي اليوم. بالتأكيد ستأتين ، أليس كذلك ؟


إنها الأيام تعيد نفسها من جديد ! وكأنها تدور في مدارٍ حول نفسها وتعود إلى نفس النقطة مرة أخرى. 

في نفس الوقت الذي كانت تحاول فيه الانسلاخ عن حاضرها المرير فتح لها الماضي الأكثر مرارة بابه على مصراعيه مُرحبًا بها ؛ وبالرغم من أنها حاولت وبذلت قصارى جهدها لكي تتنحى بعيدا عن هذا الماضي الذي لم تنل منه سوى أياما مظلمة ودموعا لم تتوقف، ولكنها ترى الآن أن ذلك الماضي هو الحقيقة الوحيدة في حياتها .

وأن المستقبل المشرق الواعد الذي أوهمت نفسها به ليس موجودا أبدا. حتى وإن وجد فلن يكون من نصيبها أبدا. فالحياة ليست عادلة وليس شرطا أن يكون الجميع سعيدا راضيا.


ولما طال صمتها وشرودها تحدثت چاسي بنزق فقالت:

_ هل تفكرين في الأمر كل هذا الوقت؟ هل الأمر يستحق كل هذا التفكير يا فتاة؟ كان علي أن أصدق رفاقي حينما قالوا أنكِ أصبحتِ تصادقين من هم بنفس مستواكِ ولا تلتفتين لمن هم مثلنا أبدا.


في لحظة، قررت سارة قتل الرفض والتردد بصدرها، وأرادت الثأر لقلبها المغدور حتى لو سارت عكس التيار ، قررت التمرد على كل شيء لكي تثبت أن لا شيء ثابت ولا شيء مضمون.


_ لا عزيزتي، ما تقولينه ليس صحيحا أبدا. سآتي وأحضر عيد الميلاد. أراكِ مساءا.


وأنهت الاتصال ثم غرقت بحالة الصمت والشرود التي تعتريها من جديد ..


_________________


بعد رحلة بحث طويلة غير مجدية،  استغرقت عدة ساعات قضتها حياة وهي تسأل بكل المستشفيات عن اسم والدتها، وتترك صورتها ورقم هاتفها الخاص لكي يتم إبلاغها في حال تم الوصول إليها، عادت حياة إلى بيتها وهي خائرة القوى تماما. تجر قدميها بتعب وتثاقل وكأنها تسير الهوينا . دخلت شقتها ثم توجهت لأقرب مقعد وارتمت فوقه وأخذت تبكي.


كانت تبكي بانهيار ثم رفعت ناظريها إلى السماء وهي تشكو إلى ربها وتقول:

_ يا إلهي، أرجوك عجّل بالفرج ، يا ربي رحمتك.. أتوسل إليك أن ترحمني، أنا لست قوية بما يكفي لكي أتحمل كل تلك الابتلاءات بمفردي ! سجن قاسم وعنبر، ومرض والدي، وفقدان أمي. أنا أحارب بمفردي في كل الجبهات. يا إلهي أعنّي.


صدح آذان المغرب فنهضت وتوجهت إلى الحمام، أخذت حماما دافئا ثم توضأت وخرجت لتقف بين يدي ربها وتناجيه. تعلم أنها مقصرة، وأنها لا تواظب على فروضها كاملةً وهذا ما أشعرها بالخزي والندم. ولكنها تعلم أيضا أن الله يجيب من دعاه ويسمع من ناجاه.


وبعد أن فرغت من صلاتها نهضت وأحضرت المصحف الخاص بقاسم وجلست على مقعده بشرفة الغرفة كما كان يفعل وبدأت تقرأ القرآن بقلبٍ خاشع .


وبعد مرور بعض الوقت وضعت المصحف بجوارها وتمطأت بإرهاق ثم أمسكت بهاتفها في تردد وقامت بالاتصال بوالدها الذي أجاب:

_ مرحبا حياة.


_ مرحبا أبي، كيف حالك؟


_ بخير، هل أنتِ بخير ؟!


هل هي بخير ؟! لا.. هي ليست بخير أبدا. هي في قمة البؤس واليأس والإحباط. 


وفجأة اجتاحها فيضان البكاء، فيضانًا جامحًا في غير أوانه، ثم هدأت تدريجيا، إلى أن سكنت تماما وتنحنحت لكي تجلي حلقها..


ظنت أن والدها قد أنهى المكالمة فقالت:

_ أبي؟


حينها استمعت إلى تنهيدته المعروفة وقوله المعتاد:

_ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.


_ أبي، أود أن أخبرك شيئا.. 


كان لديها كثيرا من الأشياء التي تود إخباره عنها.. عن قرارها بشأن زيارة قاسم، أو استفسارها عن البلدة القديمة التي كان يعيش بها أهل أمها والتي تتوقع أن تكون بها الآن . وأخيرا كانت تود الاعتذار له لأنها شعرت أنها لم تكن ابنة بارة بوالدها اليوم وكانت ستطلب منه الصفح، وربما كانت ستقرر أن تتخلى عن البقاء ببيتها وتذهب لتؤنس وحدته.


_ وأنا أيضا يا حياة، لدي ما أخبرك به.. لقد قررت الزواج.


غمغمت حياة بهمسٍ مبهم، هي نفسها لم تفقه منه شيئا، كان هذا هو تأثير الصدمة التي صفعت خدها وهوت بها إلى القاع.


_ تتزوج؟! 


قالتها باستهجان شديد، تلاهُ انفجارًا بضحكات عالية لم تتمالكها، إلى أن تداركت الموقف وامتنعت عن الضحك تماما وتحول ضحكها إلى نحيب صامت. 


لما استمع والدها إلى صمتها قرر أن ينتهز فرصة هذا الهدوء الذي حتمًا ستتبعه نوّة سكندرية عنيفة، ثم قال:

_ أرجو ألا تخطئي فهمي يا حياة ، ولكني يئست من الوحدة.


تجهمت ملامحها وارتسمت على شفتيها ابتسامة متهكمة حتى شعرت بتشنج نواصي فمها من الابتسام فقالت:

_ وحدة؟ أيُ وحدة يا أبي؟


وتابعت بلومِ صارخ:

_ هل شعرت بالوحدة بعد اختفاء والدتي بأربعٍ وعشرين ساعة فقط؟!!


على ما يبدو لقد أتت النوة أسرع مما توقع ..


_ حياة، والدتك بالنسبة لي لم تختفِ منذ أربع وعشرين ساعة، والدتك مختفية منذ سنوات طويلة، أنا أعاني من الوحدة منذ سنوات طويلة، أفتقد للونس والراحة منذ زمن.


كانت تهز رأسها كلما تحدث وهي تشعر بأنها تستمع إلى أضحوكة.. بالتأكيد والدها يختبر ردة فعلها، أو ربما يعاقبها بهذة المزحة السخيفة لأنها تجاهلته اليوم وكانت فظة الأسلوب معه.. أو… أو ربما هي كذبة إبريل مثلا !!!


ولكن ما قاله والدها تباعا أثبت أنها ليست كذبة إبريل.. إبريل برئ من هذا الهراء الذي يتفوه به.


_ حياة، أنا أعاني من الوحدة، ومن العجز، ومن اليأس.. ما مر من عمري قد مر، وما بقي ليس بالكثير. هل تستكثرين عليّ أن أمضي ما تبقى من حياتي مرتاحا راضيا؟! هل هو كثيرا علي أن أطمئن بوجود امرأة متفهمة ومراعية وقلبها صافي تعينني على تجاوز هذه الأيام التي لا تتردد عن صفعي بيد الخذلان..


تدبرت كلماته، ثم تلعثمت قليلا وهي تحاول ترتيب ما ستقوله، و عندما وجدت صوتها قالت:

_ ولكن.. نحن.. وأمي.. أمي المسكينة ما ذنبها أن تغدر بها وتتزوج عليها امرأة أخرى .. هل كل هذا لأنها أخطأت بحق حنان، حنان نفسها قالت أن والدتي لم تتعمد فعل هذا .. 


قاطعها حينما صرخ بها بعنف:

_ هل ما زلتِ تقولين أنها مسكينة! أمك المسكينة مريضة، مليئة بالضلالات، فريسة للأوهام والأحقاد، ومن سخرية القدر أنها لم ولن تدرك ذلك حتى نهاية العمر !! وأنا لن أتحمل أوهامها وأحقادها مرة أخرى، يكفي إلى هذا الحد . 


وتابع بفتور وضجر:

_ ثم أني لن أتزوج عليها، لأنها لم تعد على ذمتي أساسا .


_ ونحن؟! 


قالتها بصوتٍ ميت فأجاب بصوت مهموم مهزوم:

_ من أنتم ؟! من تقصدين ؟! أنتِ ؟! أنتِ لديكِ حياتك بالفعل.. صحيح هي مضطربة الآن ولكنها سوف تستقر بخروج قاسم من السجن. وستنشغلين عني بطفلك القادم إن شاء الله. عنبر؟! أين هي عنبر ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.. من أنتم يا حياة؟! 


استمعت إلى كلماته التي كانت بمثابة شمعة ! تنير الطريق من أمامها وتشير إلى حقيقة مثبتة لا سبيل من الفرار منها أو إنكارها، ولكنها في نفس الوقت تنصهر على قلبها وتحرقه ببطء.


_ ومن هي؟ أقصد العروس ؟!


تساءلت بحنق وغضب مستتر، فأجاب:

_ الممرضة حسناء .


اتسعت عينيها بدهشة ورددت:

_ الممرضة حسناء ؟!! هذا يعني أن أمي كانت محقة في ظنها تجاهها، وأنا البلهاء كنت أدافع عنها دوما. اتضح في النهاية أن أمي كانت ذات نظرة ثاقبة منذ البداية.


_ أيُ نظرة ثاقبة ؟ والدتك عمياء البصر والبصيرة، لا تضطريني للإتيان على ذكرها بما لا يصح الآن، اسمعي حياة، والدتك هذه مجرد صفحة وقد طويتها أخيرا، ما سوف أُقدم عليه ليس عيبا ولا حراما.. وأنا لست مراهقا أو طائشا ، لقد أحنى ظهري الزمن وأرى أنه من العدل أن أجد من تقاسمني أيامي القليلة المتبقية.


تنهدت حياة بعد تفكير طويل مُضني ثم قالت:

_ أنت محق أبي، ليس من حقي أبدا أن أعارض قرارك هذا. ليفعل الله خيرا.


_ إن شاء الله. غدا سأخبر عزيز لكي يحضر المأذون.. هل ستكونين موجودة ؟!


انفلتت منها ابتسامة خائبة منهزمة ثم قالت:

_ لا أظن، لدي من الهموم ما يكفي ويفيض. تصبح على خير أبي.


أنهت حياة الاتصال، ثم ألقت الهاتف بجوارها بإهمال، ثم نهضت وتمددت فوق فراشها بتعب .


لم تبكِ، لقد جفت عيناها من الدموع وأصبحت كالبئر الجافة التي تحولت إلى فوهة مهجورة قبل أن تتخذها الوطاويط مسكنا لها.


وبالقليل من طاقتها المهدرة المتبقية، أمسكت بالهاتف من جديد وقامت بإرسال رسالة نصية إلى السيد أكثم.

" مرحبا سيد أكثم ، أود مساعدتك في توفير إذن بزيارة قاسم غدا. وآسفة على الازعاج "


_____________


كانت سارة قد وصلت للتو ، نزلت من السيارة ودخلت إلى البناية فإذا بها تجد قصي يعترض طريقها. وقبل أن يتفوه بحرف نطقت هي بغضب وقالت:

_ ما الذي تحاول فعله ؟! لماذا تعترض طريقي وتظهر أمامي في كل مكان ؟! الأمر أصبح لا يطاق.


_ سارة ، لا بد أن نتحدث. أنا أحتاج للحديث معكِ لكي أفسر لكِ موقفي..


قاطعتهُ سارة بضجر وقالت بحدة:

_ أي موقف؟ لماذا تضخم الأمر هكذا؟ ماذا تظن نفسك؟ ها ؟!! هل ظننت أننا سيكون بيننا رابطا في يوم من الأيام مثلا ؟! أنت حقا مثيرًا للشفقة.


نظر إليها متعجبا وقال:

_ ماذا تعني ؟! 


_ لا أعني شيئا، ولم أعنِ شيئا يوما يا قصي. كل ما حدث كان وهما من نسج خيالك أنت فقط. أنا لم أعدك بشيء، يا إلهي أنت حتى لم تمنحني الفرصة لكي أعطيك جوابا سواء بالموافقة أو الرفض و فورا اعتمدت أني قد وافقت على عرضك الخرافي الذي لا يُرفض أبدا . ومن أكون أنا لكي أمتنع عن الموافقة على عرض الطبيب ابن الطبيب .. 


_ ما هذا الذي تقولينه يا سارة؟! 


_ ما أقوله أعنيه بالحرف يا قصي، لذا أنصت جيدا. أنت لن تظهر أمامي مجددا. ولن تعترض طريقي كقطاع الطرق مجددا ، ولن تقفز أمام وجهي كل يوم مجددا. 


ثم تابعت بتهكم صرف:

_ ولا تظن أبدا أنني سأمنحك الفرصة لكي تغدق عليّ من معروفك وخدماتك الجليلة وتتنازل لكي ترتبط بفتاة لا تستحق هذا الشرف مثلي، فتاة تظن أنك ستمنحها حقا ليست جديرة به لأنها ببساطة ابنة مجرم قاتل وأنت ابن الطبيب المحترم.


قالت الأخيرة بألم داخلي يملؤها فتنهد وقال:

_ سارة صدقيني أنا لا أفكر بتلك الطريقة أبدا. تلك الحالة التي رأيتني عليها كانت بسبب المفاجأة ليس أكثر. وبعد أن أخذتُ وقتي وفكرت برويّة _ أدركت الحقيقة .. أنني أحبك بأي شكل وبأي صفة، أحبك على كل حال ستكونين عليه.


ابتسمت ابتسامة متهكمة ثم قالت:

_ هذه ليست الحقيقة دكتور، هذه كذبة..


واقتربت منه أكثر حتى توقفت أمامه مباشرةً وهتفت بألم نابع من داخلها المكلوم:

_ كذبة نجحتُ في إيهام نفسي بها، أنني من الممكن أن أحظى بشخص يحبني بأي حال سأكون عليه كما تقول أنت.. أوهمت قلبي الصغير أنه بإمكاننا البدء من جديد دوما مهما تعثرنا ومهما ضاقت بنا السبل، وبسببك أنت يا قصي أدركت الحقيقة كاملة ؛ لا أحد يريدك بعلّتك، لا أحد سيختارك وأنت تحمل آثام غيرك حتى ولو لم يكن لك يدا بذلك.


نظر إلى عينيها الدامعتين وغرق بهما وبدون شعور منه اقترب والتقط يديها وأطبق كفه عليهما وهو يقول برجاء:

_ لا أريد سوى فرصة ثانية لإصلاح سوء الفهم بيننا.. أرجوكي .


ولكنها كانت من القسوة والهشاشة في آنٍ واحد بحيث انتزعت يديها من بين يديه بقوة وأردفت بجمود:

_ سوء الفهم يمكنك إصلاحه ، ولكن ماذا عن قلبي ؟!


همس قصي بأمل:

_ يمكننا ترميم كل شيء والبدء سويا من جديد. 


ابتسمت بانكسار، ثم ابتعدت عنه بدون رد وتجاوزته متخذة طريقها نحو المصعد ..


وهو يقف يتتبع أثرها وهو يقول بحرقة:

_ لا تجيبي يا سارة ، ابتعدي .. ولكني لن أفعل، لن أتركك.. سأحاول تصحيح كل شيء مهما تطلب الأمر. يكفي أن أستعيد ثقتك من جديد.


دخلت سارة إلى المصعد وضغطت زر الطابق الثالث وما إن أُوصد الباب حتى سالت دمعتها وأخذت تردد:

_ اللعنة !! اللعنة على كل شيء.


توقف المصعد فمسحت دمعاتها وخرجت، ومن ثم دخلت إلى شقتها لتجد والدتها بانتظارها فقالت:

_ مساء الخير.


تحدثت فتون بهدوء:

_ مساء الخير ، على ما يبدو أن الخروج لم يفد بشيء ، يبدو أنك لست بمزاج جيد.


تحدثت سارة بإيجاز واقتضاب:

_ لا أبدا. سأبدل ملابسي لكي أذهب إلى عيد ميلاد چاسي.


قطبت فتون حاجبيها بتعجب وقالت:

_ چاسي ؟! منذ فترة لم أسمع سيرة چاسي، أو سيرة أصدقائك القدامى عموما.


دخلت سارة إلى الغرفة لكي تستعد ووقفت أمام الخزانة تنتقي منها فستانا مناسبا وهي تجيب والدتها بفتور قائلة:

_ إذًا عليكِ أن تتعودي على سماع سيرتهم من جديد.


رفعت فتون حاجبيها بتعجب، ثم نهضت ودخلت إلى الغرفة وقالت باستهجان:

_ ماذا يعني كلامك ؟! ألم تقطعي علاقتك بهم؟ ما سبب عودة العلاقات من جديد ؟ عساه خيرا ؟


أجابت سارة بانشغال وهي تتفقد خزانتها:

_ لم أقطع علاقتي بهم ؛ ابتعدت فترة ليس إلا.


مطت فتون شفتيها باستياء وقالت بعد صمت:

_ ألم نكن على اتفاق أننا سنخرج سويا الليلة؟!


نظرت إليها سارة بعناد يشوبه الندم وقالت:

_ أعتذر منكِ، يمكننا الخروج في وقتٍ لاحق .


تنهدت فتون طويلا، ثم رسمت ابتسامة مزيفة على شفتيها ببراعة وهي تقول:

_ كما تحبين، على كل حال استمتعي بوقتك. ولكن لا تتأخري. 


أومأت سارة بموافقة، فخرجت فتون وسحبت الباب معها، ومن ثم عادت إلى الشرفة وأشعلت سيجارة تنفث مع دخانها الهموم التي تملأ صدرها وتزاحم أنفاسها فيه.


__________


بعد قليل..


توقفت السيارة أمام بيت چاسي، فنزلت سارة وتوقفت أمام مدخل العمارة وهي تحاول تنظيم أنفاسها المضطربة، تشعر أنها أخطأت بالحضور اليوم خاصةً وأنها تعرف أنها ستضطر لمواجهة رفاقها القدامى وهي التي حاولت جاهدة لكي تتجاوز تلك الفترة وتمحيها من ذاكرتها ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن أحيانا .


صعدت الدرج وهي تعد من واحد إلى عشرة بداخلها في محاولة منها لتهدئة نفسها والتحلي بالثبات والثقة بالنفس التي ستساعدها على اجتياز تلك الساعات القليلة التي ستضطر لقضاءها هنا. ثم دخلت لتجد رفيقاتها بانتظارها واللائي رحبن بها واستقبلنها استقبالا حافلا.


هنأت چاسي بعيد ميلادها وقدمت لها هدية كانت قد اشترتها في طريقها إليها، ثم انضمت إلى حيث يجلس رفاق المدرسة القدامى الذين بدأوا في التحدث سويا وتجاذب أطراف الحديث معا وكانت هي تحاول المشاركة ببعض العبارات اللطيفة والابتسامات المجاملة.


بدا الجو لطيفا هادئا وظنت أن الليلة ستمر مرور الكرام لولا أن تحدث زميلها نادر فقال :

_ سارة، كيف حال والدك ؟ هل خرج من السجن؟


نظرت إليه بضيق ثم أجابت ببساطة:

_ ليس بعد.


أومأ بنفس البساطة ثم أردف:

_ ماذا كانت جريمته ؟! 


أجابته بحدة وانفعال:

_ ولمَ تسأل ؟ ما دخلك أنت ؟


ثم نهضت وهي تلتقط حقيبتها بغضب وتقول:

_ هل اجتمعنا اليوم لكي نحتفل أم لكي نتبادل السخافات ونتدخل فيما لا يعنينا ؟!


تدخلت چاسي بينهما فورا وقالت:

_ اهدئي يا سارة، نادر لم يتعمد مضايقتك.. 


ونظرت إلى نادر بتحذير وقالت:

_ لا تكن سخيفا يا نادر، بالكاد أقنعتها بالمجيء اليوم فلا تجعلها تندم لأنها أتت.


على الفور تحدث نادر بهدوء وهو يحاول تبرير موقفه فقال:

_ أعتذر منك يا سارة،  أنا لم أقصد إزعاجك، كل ما في الأمر أن أخي عبدالرحمن كان يقود سيارته ثملا وصدم شابا بسيارته فتوفي في الحال، ولقد تم الحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما. لذا سألتك عن والدك وسبب دخوله السجن ، هل هي قضية قتل أم سرقة؟ ومن كان المحامي الذي تولى الدفاع عنه؟ من الممكن أن نستعين به.


ارتجفت يدها واهتز قلبها بارتباك وقبل أن تجيبه استمعت إلى ذلك الصوت الذي تعرفه جيدا وهو يقول:

_ متى أصبحت لحوحًا بهذا القدر يا نادر ؟! دعها وشأنها وانشغل بما يعنيك هيا.. أم أنك تحاول جذب الانتباه إليك بأي طريقة ؟


استدارت سارة لتقع عينيها على سيف الذي يقف خلفها ويطالعها باهتمام فهمست باسمه بتوتر وتحشرج صوتها ولكن الأمر لم يتوقف إلى هنا ، فأجاب نادر وهو يقول بفظاظة:

_ أرى أنه من الأفضل أن تطبق تلك النصائح على نفسك أولا ومن ثم تنصحنا بها. أم أنك تحاول جذب انتباهها من جديد فحسب؟


نظرت إليه سارة باستياء وقالت:

_ ما الذي تقوله يا هذا ! لا تتدخل فيما لا يعنيك ، هل فهمت؟


نظر إليهم نادر بغضب وأردف :

_ فيما أخطأت أنا ؟! الجميع يعرفون أنه يحاول التقرب منكِ والتودد إليكِ من جديد ، على ما يبدو أنكِ تركتِ له ذكرى لا تُنسى ! تُرى بأي طريقة استطعتِ تخليد ذكراكِ يا سارة ؟!


ونظر إلى أصحابه الذين بدأوا بالضحك والتهكم والهمس فيما بينهم ؛ مما أشعر سارة بالضيق والغضب ، وجعلها محط أنظار جميع الموجودين بالحفل، علاوة على أنها شعرت بأن هناك شيئا يحاك في الخفاء، ولكنها لم تستطع تحديده.


فنظرت إلى نادر بتقزز وأردفت:

_ أنت إنسان قذر وسافل.. لقد أخطأت بالحضور إلى هنا..


في تلك الأثناء حاول سيف التهجم على نادر بالضرب ولكن رفاقهم حالوا دون حدوث ذلك ، فنهضت سارة مسرعةً والتقطت حقيبتها وهي تستعد للانصراف ولكن نادر هتف بصوت واضح مجددا وقال:

_ أخبرينا سرسورة ، هل ما زلتِ تتعاطين تلك الحبوب ؟! أسألك لأنني بحثت عنها ولم أجدها بجميع الصيدليات، وأعرف أن لديكِ مصادرك الخاصة..


وغمز بعينيه بنظرة ذات مغزى وتابع:

_  أم أنكِ تُبتِ وندمتِ وعُدتِ إلى الله ؟!


وضحك ضحكةً منفرة أثارت ضحكاتهم جميعا فانقض سيف عليه بالضرب ولكمهُ لكمةً طاحت بأنفه وجعلتهُ ينزف الدماء ثم لحق بسارة التي كانت تهرول نحو الخارج وهي تبكي بانهيار . 


_ سارة ، من فضلك انتظري.


أمسك بيدها فنزعت يدها من قبضته وصرخت به وهي تقول:

_ ابتعد عني، لمَ تلاحقني ؟!


في تلك الأثناء كان قصي يراقب المشهد وهو يجلس بسيارته التي صفها على بعد خطوات من منزل چاسي، حيث تتبع سيارة سارة لهدف لا يعلمه، ولكن كل ما كان يشعر به وهو يسير خلف سيارتها أنه يريد أن يتواجد بنفس المكان الذي تتواجد به. ولن ينكر أنه جزءا بداخله كان فضوليا بشأنها وأراد هو أن يسير خلف فضوله فلحق بها .


وعندما رأى المشادة التي تحدث بين سارة وهذا الشاب نزل فورا من سيارته واتخذ سبيله نحوهما بدون تفكير.


_ صدقيني لم أكن أنوي التدخل ولكن كلام نادر استفزني بشدة.


هتفت به وهي تبكي:

_ وما شأنك أنت ؟ من تكون لكي تتدخل وتتسبب في وصول الأمر إلى هذا الحد! لو لم تتدخل سيادتك لما كان تجاوز حده وتمادى ووضعني بهذا الموقف المخجل أمام الجميع.


أظهر سيف الندم وقال:

_ أنا أعتذر منكِ ثانيةً ، ولكني لم أتحمل رؤيتك وأنتِ تتعرضين لمضايقاته بهذا الشكل. أنا لا زلت أحبك سارة.


لم تستمع إلى آخر ما قاله لأنها انتبهت إلى وجود قصي بمحيطها فنظرت إليه بصدمة وقالت:

_ قصي ؟! ماذا تفعل هنا ؟!


نظر سيف إليه بغيظ وغضب مكتوم وحاول جاهدا لئلا تنفلت أعصابه، بينما وقف قصي يحاول ترتيب ما سيقوله:

_ بالصدفة. كنت أمر من هذا الشارع ورأيتك، لماذا تبكين؟ ما الخطب ؟!


نظرت إليه بغير تصديق وهتفت بصراخ وغضب يلتهم داخلها:

_ ما شأنك أنت أيضا ؟! ما شأنكما ؟! ما هذا التطفل والتدخل اللا مقبول.. من تظنان نفسيكما ومن منحكما الحق لكي تتدخلا بحياتي ؟!


نظر إليها قصي بتعجب وقال محاولا تهدئتها:

_ سارة.. 


قاطعه سيف وهو يحاول التهام فرصته الأخيرة:

_ سارة، أرجوكِ لا تنفعلي بسبب هذا الوغد ؟! ثم أنني قادر على ردعه ومحاسبته بخصوص ما قاله عن الحبوب وما شابه.. سأدخل الآن وألقنه درسا لن ينساه مدى حياته


نظرت إليه ساره بعينين متسعتين وهي تمنعه فورا عن استكمال ما قاله فعلم أنه قد أصاب الهدف بينما قطب قصي جبينه وقال:

_ أيُ حبوب ؟!


أغمضت سارة عينيها بضياع وتمنت لو أن الأرض انشقت وبلعتها وحاولت الهرب من بينهما فورا ولكن نادر كان قد خرج برفقة أصدقائه وما إن رأى ثلاثتهم حتى هتف حانقا:

_ ومن هذا الطويل ؟! هل هو صديق جديد ؟! ربما اشترت سارة صداقته ببعضا من حبوب الود كما كانت تفعل معنا سابقا ؟!


نظر سيف إلى نادر و سبّهُ على الفور، بينما تقدم قصي منه وهو يشعر بالدماء تكاد تنفجر من عروقه ورأسه من فرط الغضب وهو يقول:

_ أنت.. ماذا تقصد ؟


رأى نادر الشر بعينيه فتراجع خطوةً إلى الوراء ولعق ما قاله فورا، وعيناه في تلك اللحظة كانت تستجدي بسيف الذي شعر بالخطر يداهمه هو الآخر فتراجع للوراء خطوات معدودة بالقرب من سيارته لكي يلوذ بالفرار في الوقت المناسب.


 انقض قصي على عنق نادر وأمسك بتلابيبه وهو يستفسر عما قاله بغضب هادر وكأن ضربا من الجنون قد أصابه:

_ ماذا تقصد يا عديم الشرف؟ ما الذي تحاول التلميح له ؟!


اقتربت سارة من قصي وهي تحاول إبعاده عن نادر، لأنها تعرف أنه لن يتردد عن إخباره بالحقيقة كاملة ، ولكن قصي تجاهلها، بل أنه لم يشعر بها أساساً ..


تحدث نادر متلعثما بخوف من هيئة قصي الذي يبدو عليه أنه مستعد للنزال وأنه سيلحق به أشد الآلام فقال:

_ لم.. لم أقصد قول شيء، بل...


وفجأة باغته قصي بضربة قوية برأسه تراجع على إثرها عدة خطوات إلى الوراء مترنحا وهو يمسك برأسه من شدة الألم ..


صرخت سارة بفزع لما رأت الدماء تسيل من مقدمة رأس نادر، وحاولت إبعاد قصي عنه بأقصى استطاعتها ولكنه لم يتحرك من مكانه إنشا، وكأنها تحاول تعتعة جبل راسخ لا يهتز.


_ قصي أرجوك.. 


هتفت به وهي تتشبث بقميصه فنفضها بعيدا عنه بقوة جعلتها تسقط أرضا كورقة شجر في فصل الخريف .. ووقف قصي كالوحش الكاسر بينهم نافخا صدره وعضلاته بغضب وأوداجه تدج بالدماء الفائرة وصدح صوته مزلزلا :

_ عن أي حماقات تتفوهون يا عديمي الشرف ، من كان منكم لديه ذرة شجاعة ويعرف قدره كرجل فليواجهني.. 


ونظر إلى نادر الذي تراجع للخلف حتى التصق بالجدار وقال بتحفز:

_ هيا واجهني، إما أن تثبت صحة هراءك هذا أو تعتذر عنه حالا.. واترك التلميح والتشنيع فهو من سمة النساء.


نظر نادر إلى سيف الذي اختفى من المكان فجأة،وازداد خوفه وقال:

_ أنا.. أنا أعتذر.. ما فعلته كان بأمر من سيف، سيف هو من طلب مني إزعاج سارة وقول ما قلته وأنا نفذت ما قاله بدون تفكير.. أنا أعتذر..


وفر راكضا فجأة مبتعدا عن مجال قصي الذي كان يقف بمكانه والشرر يتطاير من عينيه ..


نظر قصي حوله بغضب فوقعت عيناه على سارة التي لا تزال بمكانها وهي تبكي فأسرع نحوها ومد يده إليها يساعدها لكي تنهض فنظرت إليه طويلا ثم أمسكت بيده ونهضت فقال:

_ لا بد أن نتحدث.. حالا.


أومأت بموافقة.. حتى وإن لم يطلب هذا كانت هي من ستطلب منه أن يتحدثا.. فبعد ما حدث لن تترك الأمر ناقصا أبدا. لن تسمح بأن يكون لديه علامات استفهام يدور حولها كثيرا. فهي تؤمن وتثق بأن أقصر مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم ؛ لذا عليها أن تحكي له الحقيقة كاملة.


استقل سيارته ، وركبت هي بجواره وتحرك بها إلى منطقة هادئة بالقرب من البحر، ثم توقف ونظر إليها وهو يقول بنظرة مبهمة:

_ حسنا، أنا أسمعك .


أخذت نفسا عميقا وزفرته ببطء ثم قالت:

_ أولا، عليك أن تفهم أنني اخترت مصارحتك بكامل إرادتي، وليس خوفا مما حدث أو ما سمعته اليوم.


أومأ متفهما بصمت فقالت:

_ بالنسبة لأبي، لقد دخل السجن لأنه قتل رجلا قذرا، كان يترصد لوالدتي ويريد توريطها معه في علاقة آثمة. علاوة على أنه لفق لها صورا مزيفة برفقته وهذا ما دفع بأبي إلى الجنون فقتله. هذه هي القصة باختصار. أما عني ؛ فبعد أن سُجن والدي وانتشر الخبر بين رفاقي في المدرسة بدأت أتعرض للتنمر والمضايقات وأصبحت محل نفور واشمئزاز، أهداني عقلي الصغير إلى طريقة غبية أكتسب بها ودهم ومحبتهم. خاصةً أنني كنت أشعر بالوحدة واليتم, فأمي كانت بعيدة كل البعد عني، فلجأت إلى طريقة تجعلني محط اهتمام أصدقائي. سمعت سيف ذات يوم وهو يتحدث عن حبوب مخدرة وما شابه وكيف أنهم يواجهون صعوبة في الحصول عليها فقررت أن أقوم أنا بهذا العمل الفدائي وبالفعل اشتريت لهم الحبوب من طبيب محتال يدعى خالد.. كنت أتودد إليهم عن طريق إعطاءهم تلك الحبوب كما قال نادر ، كنت أريد أن أصبح محبوبة لا منبوذة، كنت أتمنى تكوين صداقات ومعارف تعوضني عن وحدتي البائسة. ولكن بعد فترة ظهر قاسم بحياتنا وغيرها مئة وثمانين درجة، أصبح بمثابة أخا أثق به وبكلامه، هو من ساعدني على الابتعاد عن هذة البؤرة المشبوهة والبدء من جديد .


نظر إليها قصي بنظرة مبهمة لم تستشف منها شيئا وقال:

_ هل كنت أنا السبب في رغبتك في العودة إلى هذة البؤرة المشبوهة من جديد ؟


أسقطت رأسها أرضا بتشتت وقالت:

_ ربما لأنهم يشبهونني، كلا منا لديه ماضٍ مخزي ، وحاضرًا ومستقبلًا أكثر خزيا، ربما لأننا نشبه بعضنا البعض ولا مجال بيننا لادعاء الفضيلة أو التفاخر بها. وربما لأنهم يعرفوني ولن أكون مضطرة للتجمل والتحايل على نفسي برفقتهم.


تنهد قصي بحيرة، ما قالته ليس هينا أبدا ، أحدث بداخله شرخا عميقا لا يظنه قد يلتئم سريعا، وفي نفس الوقت يصعب تجاوزه بسهولة.


نظرت إليه بخيبة أمل جديدة بعد أن رأت صمته وتخبطه، فمسحت دموعها بصلف وأنفة وقد شعرت براحة عارمة الآن ، ولكن مهلا.. لا يزال هناك شيئا مهما عليها أن تخبره به .. 


لم يتحرك ولم ينطق بكلمة، وأمسك بالمقود بصمت وعاد أدراجه نحو بنايتهم. 


طوال الطريق كان الصمت يسود الأجواء، إلا من نحيبها الهادئ. توقف أمام البناية فنظرت إليه وأردفت بهدوء:

_ هناك شيئا أخيرا.. 


نظر إليها باهتمام وترقب… و خوف كذلك فقالت:

_ أنا وسيف..


قطب جبينه متحفزا فقالت بحرج:

_ كنا متزوجان بعقد عرفي.


اتسعت حدقتيه بصدمة فأردفت فورا:

_ لم يلمسني..


تنهد بهدوء نسبي ولكن انقباضة وجهه لم تخف فقالت:

_ كان عقدا وهميا على أمل أن يتحول لعقد حقيقي وزواج رسمي عندما نبلغ السن القانوني.. ولكني اكتشفت نواياه الخبيثة فلجأت لقاسم، وكالعادة هو من أنقذني ومزق هذه الكذبة اللعينة.


لم يظهر عليه أي رد فعل فأردفت :

_ لقد أخبرتك بكل شيء، هذه هي الحقيقة كاملة. صدقني لن ألومك أبدا إن رأيتني وأدرت وجهك للجهة الأخرى. عن إذنك.


وتركتهُ ونزلت من السيارة، ثم صعدت إلى شقتها وفورا دخلت إلى غرفتها لكي تنهار بالصورة اللائقة بعد كل ما مرت به اليوم.


__________


في اليوم التالي..


كانت حياة قد اتفقت مع أكثم على أن يحصل لها على إذن بزيارة قاسم.. وها هي ذا تجلس بمكتب مأمور السجن في انتظار استدعاء قاسم من زنزانته..


كانت تعد الدقائق والثواني بتلهف وتوتر، لا تعرف ماذا ستكون ردة فعله عندما يراها بعد غياب شهر تقريبا.. وبينما هي شاردة تفكر انفرج باب المكتب ودخل قاسم الذي ما إن رآها حتى ابتلع الخطوات الفاصلة بينهما وضمها إليه بشوق مهلك.


عانقته حياة وأجهشت بالبكاء.. وتشبثت بعنقه وتمنت لو توقف الزمن بينهما عند تلك اللحظة. لا هو يريد حل وثاقها من بين ذراعيه، ولا هي تجرؤ على الخروج عن حضنه .. 


كان المأمور قد خرج وترك لهما مجالا للخصوصية ، أو الرومانسية .. أيهما أقرب !


فما إن أوصد الباب خلفه حتى ضمها قاسم إليه بجنون وتملك ثغرها بقبلةٍ هي الأطول في تاريخهما سويا.. لم ينفصلا إلا بعد أن اختنقت حياة وابتعدت عنه فجأة كالغريق الذي طفا على سطح الماء بعد دقائق طويلة يصارع الغرق وسحبت شهيقا طويلا ملأت به رئتيها ، ثم عادت لأحضانه من جديد وطوقت رقبته بذراعيها وهي تقول:

_ أنا أحبك كثيرا قاسم.


ضمها قاسم وقربها منه أكثر وهو يحيط وجهها بكفيه ويقول مبتسما:

_ وأنا أحبك حياتي، اشتقتكِ كثيرا.. كيف حالكِ؟


استسلمت لرغبتها المُلّحة في البكاء وبدأت تبكي وهي تقول:

_ وأخيرا أنت تسألني كيف حالي ، اشتقت لك كثيرا، حالي أسوأ حال.. أنا أموت بالبطيء يا قاسم. أقسم أني لن أصمد في هذه الدنيا الظالمة كثيرا.


حدجها بغضب وزجرها على الفور قائلا:

_ ما بالكِ يا مجنونة ؟ بأيُ حماقةٍ تتفوهين؟ 


_ صدقني قاسم، أنا أضعف من أن أواجه كل هذه المعاناة بمفردي، لو كنت أنت بجواري لهان كل شيء، ولكنك ابتعدت في الوقت الخطأ تماما.


قالتها وعيناها تصرح له باللوم والعتاب الصارخ فابتسم وهو يمرر إبهامه على وجنتيها بلطف وقال:

_ ما حدث قد حدث يا كهرمانة ، لن نبكي على اللبن المسكوب يا فتاة. هيا أخبريني ما الخطب ؟


_ قاسم.. والدتي مفقودة .


_ ماذا ؟!!


قطب جبينه باستغراب وتابع:

_ ماذا يعني أنها مفقودة ؟ هل تمزحين ؟!


_ بربك هل هذا أمرًا يمكن المزاح فيه ؟! أقول لك أمي مفقودة ، أخشى أن تكون قد ماتت بمكان ما ولا نستطيع العثور عليها..


رفع حاجبيه بتعجب ودهشة.. ثم تمتم :

_ لا حول ولا قوة إلا بالله.. كيف حدث هذا ؟ ماذا يعني أنها مفقودة، هذا أمر لا يصدقه عقل، زوجة عمي لا تضيع أبدا.


قال الأخيرة وهو يفكر بصوتٍ عال فنظرت إليه بغضب وقالت:

_ حقا ؟! ولكنها ضاعت.. نحن لا نعرف مكانها منذ يومين.. سألت عنها الجيران وسألت في كل المستشفيات غير موجودة.


أومأ بتفهم وقال بهدوء:

_ أرأيت، هذا يعني أنها بخير.. ولكنها تختبئ بمكان ما. ولكن .. ما السبب ؟ ماذا حدث ؟!


تلعثمت قليلا ، لم ترغب في إخباره بما فعلته أمها مع حنان والشجار الذي حدث مع والدها ثم تطليقه لها وخروجها بلا عودة، واختزلت كل ذلك في جملة واحدة:

_ لقد طلقها أبي.


ارتفع حاجبيه بدهشة وأخذ منه الأمر وقتا حتى استوعب ما قالته فاسترسلت هي:

_ وبعد أن طلقها جمعت أغراضها وخرجت .


_ طلقها ؟! لماذا ؟! ماذا حدث؟


تنهدت بقلق وأشاحت بعينيها عنه وهي تقول:

_ الموضوع طويل .. دعنا لا نضيع وقت الزيارة في الحديث عنه.


اقترب منها وقبل وجنتها وامتدت يده إلى بطنها وأخذ يمسح عليها بحنان وهو يقول:

_ كيف حال طفلنا ؟! هل انتهت شهور الوحام؟! هل تبلين حسنا الآن ؟


ابتسمت بانكسار وقالت:

_ طفلنا بخير، يشتاقك كثيرا.. وأمه كذلك تحترق كل يومٍ شوقا إليك.


منح جبينها قبلةً مخلصةً وقال:

_ وأنا أشتعل شوقا إليها.. 


وانحنى نحوها وطبع قبلة على ثغرها وقال:

_ يا إلهي .. فديتهُ.. و فديتُ أمه.. حياة هل أخبرك أمرا ؟!


أومأت بموافقة ، هَم بالنطق ولكنه تراجع وأخذ يتطلع حوله في أركان المكتب وقال:

_ لا.. ليس ضروريا. أريد أن تنقضي محكوميتي على خير، وأخرج قبل المدة المحددة لحسن السير والسلوك..  .. إذا سمع المأمور ما سأقوله من الممكن أن يتهمني بخدش الحياء العام ويزيد على مدة سجني أشهرا إضافية.


نجح في إضحاكها أخيرا والتمعت عينيها وتوردت وجنتيها كزهرة تلقفتها أيدي الربيع من بعد خريفٍ عاتٍ.


تبسم قاسم ولكم اشتاقت ابتسامته، فمالت على وجنته وطبعت قبلةً دافئةً فقال:

_ يا إلهي، أفتقد قبلاتك المتوحشة كثيرا يا حياتي.


طرق العسكري الباب ودخل بعدها المأمور معلنا عن انتهاء مدة الزيارة. فأمسك قاسم بيدها وقبلها ثم ربت على بطنها برفق وهو يقول:

_ اعتني بنفسك حياتي، اعتني بصغيرنا كذلك. 


أومأت بموافقة فاسترسل بإيجاز وهو يعانقها العناق الأخير:

_ أنتِ قوية جدا يا حياة، أقوى مما تظنين ، لا تجعلي شيئا يهزمك. حسنا ؟! 


أومأت والدموع تلمع بعينيها فقال وهو يستعد للخروج:

_ عديني، لا تراجع ولا استسلام يا فتاتي.


أومأت بإيجاب وأردفت بابتسامة ممزوجة بالدموع:

_ لا تراجع ولا استسلام حبيبي.


منحها قاسم ابتسامة من أجمل ما يكون، ثم  لوّح لها مودعا وخرج برفقة العسكري. فشكرت هي المأمور وانصرفت بعدما شحذت همتها بهذا اللقاء الذي بعث في نفسها السرور والطمأنينة.


___________


بعد مرور أسبوع.. 

تزامنًا مع حلول أول أيام الشهر المبارك..


رضخ الكل لرغبة صالح في تناول إفطار أول أيام شهر رمضان ببيته.. وبالرغم من رفض حياة الشديد إلا أنها لم تجد بدا من الانصياع لأوامره في النهاية. كذلك حنان وعزيز اللذان قررا طاعة عمهما ومشاركته فرحة هذا اليوم.


ذهبت حياة قبل آذان المغرب بساعة.. بعد أن تأكدت من ذهاب حنان وعزيز قبلها، لأنها لم تكن مستعدة أبدا لمواجهة والدها وزوجته بمفردها. 


دخلت البيت وكأنها تدخله للمرة الأولى.. فتوقفت أمام شقة عنبر وعبدالله .. وابتلعتها الذكريات فجأة .. ذات يوم كانت هنا أسرة.. زوجان وطفل.. حياة تمتاز بالضجيج ولكنها كانت شبه مستقرة… أشبه ببركان خامد .. وانفجر ذلك البركان وتناثرت أشلاء تلك الحياة فجأة بفعل محفز واحد .


مسحت دموعها وأكملت طريقها إلى الأعلى حيث شقة والديها.. لا تدري لمَ تذكرت اليوم الأول الذي خرج فيه قاسم من السجن وطرق بابهم.. حينها تشبثت بعنقه كالبلهاء ومن يومها لم تستطع الفكاك منه.


هل تطرق الباب ؟! تُرى من سيفتح لها ؟! بالطبع ليست أمها المفقودة.. ربما عزيز وربما حنان .. والاحتمال الأرجح أن تفتح زوجة والدها.. سيدة البيت!!


شعرت بالاختناق والحزن يكوي قلبها ووجدت نفسها تهرع إلى الطابق العلوي !


حيث شقة قاسم !!!


توقفت أمام الشقة وأسندت رأسها على الباب وانهارت.. 


يا إلهي.. إنها لا تجيد فعل شيء مثل البكاء فعلا كما أخبرها قاسم. 


فيضان من الذكريات والمشاعر اجتاح وجدانها في لحظة.. كمًّا هائلًا من الاسترجاعات الزمنية التي أحدثها عقلها في أقل من دقيقة..


اليوم الذي صعدت لكي تسأل قاسم عن سر اهتمامه بسارة.. واتهامها له بأنه بيدوفيلي!! يومها فتح قلبه وحكى لها حكايته مع الزمان .. 


في يوم آخر كانت شاهدة على أختها وهي تنزل من هذه الشقة ذليلة مطأطأة الرأس.. 


في يوم آخر طردها قاسم وأخبرها أنه سيدق رأسها إن رآها مجددا.. 


ذكريات جامحة.. لا تبارح خيالها ولا تنفك عنه أبدا.. هذا البيت كان ولا زال وسيبقى محور حياتها.. لن تستطيع تبديله بأي بيت آخر مهما كانت المقارنات.


تذكرت كلام قاسم لها عند زيارته.. عندما أوصاها بألا تيأس وألا تضعف أو تستسلم.. فنصبت ظهرها وأخذت نفسا عميقا وهي تردد وعدها له:

_ لا تراجع ولا استسلام يا قاسم .


ثم نزلت درجات السلم ووقفت أمام باب شقتهم من جديد وطرقت الباب.. زفرت عدة مرات بتوتر قبل أن ينفرج الباب وتتفاجأ بوالدها الذي يفتح لها الباب وهو يجلس على كرسيه المتحرك..


تفاجأت.. لم تتوقع ان يستقبلها هو بنفسه.. وفورا التقطت الإشارة؛ أن هذا البيت بيت والدها وسيكون والدها في انتظارها واستقبالها دوما .. 


انحنت عليه واحتضنته بقوة وتأثر ثم قبلت يده وقالت بابتسامة:

_ كل عام وأنت بخير بابا.


_ وأنتِ بخير حبيبتي ، تفضلي.. 


على بعد خطوتين كانت حسناء تقف بتأهب.. وعلى ثغرها ابتسامة حيوية ومرنة .. لا تنم عن الانزعاج أو الضيق وهذا ما شجع حياة للمبادرة بالسلام فقالت:

_ مرحبا.. كل عام وأنتِ بخير.


تفاجات عندما أقدمت عليها حسناء واحتضنتها وقبلت وجنتيها وهي تقول:

_ وأنتِ بخير حياة، تفضلي.. مرحبا بكِ.


صافحت حياة كلا من عزيز وحنان وعانقت كريم باشتياق جارف.. ومن ثم تبادلوا المباركات وجلسوا سويا وصالح بينهم يتجاذبون أطراف الحديث ، ثم دخلت حسناء إلى المطبخ لكي


• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين  " اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات