رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الرابع والاربعون 44 - بقلم نعمة حسن
_٤٤_
~ فرصة ثانية ! ~
__________
كان حسان يقف أمام مرآة خزانته الصغيرة يصفف شعره بعناية ويطالع هيئته المتأنقة، وبجواره يقف ولدهُ صبر يطالعه بفخر وحماس وهو يصفف شعره كما يفعل أبيه وقال:
_ إلى أين سنذهب يا أبي؟ هل سنزور عمي قاسم ؟
نظر إليه حسان بصمت،ثم جلس على الفراش وأوقفه أمامه وهو يقول مبتسما:
_ لمَ ذكرت عمك قاسم بالتحديد ؟ ما الذي أوحى إليك أننا سنخرج لزيارته دونا عن غيره ؟
_ لقد اشتقته كثيرا ، واشتقت حياة كذلك ، واشتقت أيضا لخالتي حنان. هل تعرف يا أبي؟ لو أنها لم تكن متزوجة من عمي عزيز كنت سأقترح عليك أن تتزوجها.. ومن يدري ربما تتطلق منه قريبا وتتزوجها أنت.
حملق به والده بدهشة وقال:
_ يا إلهي ما هذا الحديث الذي تطير له الرقاب ؟! إياك وقول ذلك مجددا يا صبر، لا تتدخل فيما لا يعنيك مرة أخرى.
أومأ على مضض وهو يهمس لنفسه ويقول:
_ مجرد اقتراح ليس إلا.
هز حسان رأسه بيأس وهو يصفف شعر صبر مبتسما:
_ على كل حال نحن لسنا ذاهبين لزيارة عمك قاسم، وإنما لزيارة عمك عزيز بالمعرض. لقد هاتفني وأخبرني أنه يريد مقابلتي لأمرا هاما.
_ وما هو هذا الأمر يا ترى ؟
قرص حسان وجنته بحنق زائف وقال:
_ سنعرف يا فضولي ، هيا بنا.
________
وصل كلا من حسان وصبر إلى المعرض ودخلا فاستقبلهما عزيز بترحاب شديد ودعاهما للجلوس، ثم بدأ بمشاغبة صبر فقال:
_ كيف حالك يا صبر ؟ هل لا زلت تريد مصاهرتي أم أنك غيرت موقفك ؟
نظر صبر إلى والده بخجل، بينما نظر حسان إليه متعجبا ونقل بصره إلى عزيز وقال:
_ ما الخطب ؟ على ما يبدو لقد فاتني الكثيـر.
_ ليس كثيرا ، ابنك المبجل يريد مصاهرتي، وطلب من خالته حنان أن تنجب له فتاة خصيصًا لكي يتزوجها.
ضحك حسان وقال:
_ لا أفهم متى أصبح هذا الولد مشاغبًا بهذه الطريقة ، هل طالت فترة غيابي بهذا القدر ؟!
نظر عزيز إلى صبر ثم قال:
_ صبر، يمكنك اكتشاف المكان عن قرب أكثر، قم و تجوّل.
نظر إليه الطفل بنظرة العارف، مبتسما ابتسامة كاشفة عن أنيابه الصغيرة، وتحدث بثقة فقال:
_ تقصد أن أترك لكما مجالا لكي تتحدثا على انفراد. أليس كذلك ؟!
ارتفع حاجبا والده في ذهول وأخذ يقلب كفيه بتعجب، بينما قهقه عزيز عاليا وقال:
_ بلى، هيا يا فصيح اتركنا لنتحدث على انفراد.
نهض صبر وأخذ يتجول بالمكان فنظر عزيز إلى حسان وأردف يقول:
_ اسمعني يا حسان ، أنت أكثر من تعرف الدافع وراء ما فعله قاسم عندما سجنك والدافع وراء ما فعله لكي يخرجك من السجن، هذا الموضوع منتهيًا ولن يفيد الجدال فيه.
أومأ حسان مؤكدا وقال:
_ صحيح ، ومهما كان ما فعله قاسم وحتى وإن لم يبرئني كنت سأظل مدينًا له بحياتي جزاء ما فعله لصبر ومساعدته. أنا أعرف قاسم جيدا، معدنه أصيل.
أومأ عزيز موافقا وأردف:
_ لذلك طلب مني أن أعرض عليك العمل برفقتي هنا في المعرض. أنا الآن بمفردي في ظل غياب قاسم، أحل محله في كل شيء. ولن أنكر أن المسؤولية التي أحملها بمفردي مرهقة للغاية. فما رأيك أن نتقاسم العبء سويا ؟ أنا سأكون مسؤولا عما كان يقوم به قاسم من مراجعة الإيرادات اليومية والأسبوعية وتوفير النواقص وقطع الغيار ، وأنت ستكون المسؤول عن حركة البيع والشراء والتسويق.
سطع الحماس بمقلتيه وقال:
_ بالطبع لا مانع لدي، ولكن.. عندما يخرج قاسم من السجن..
قاطعه عزيز عندما فهم ما يقصده وقال:
_ سيقوم قاسم بدوره كما كان، وأنا وأنت سنتقاسم الجزء الخاص بحركة البيع والشراء والتسويق. لا تقلق .. الأمر يقبل القسمة على ثلاث كما كان دوما.
ابتسم حسان ونظر إليه ممتنًا وقال:
_ أشكرك كثيرا عزيز، لقد كنت بحاجة إلى العمل فعلا..
_ لست أنا من يستحق الشكر حسان، بل قاسم. أنا كنت مثلك ذات يوم، أنا أيضا أخطأت تقدير قاسم وأسأت إليه، وبالرغم من ذلك لم يقابل إساءتي بالإساءة ، أنا وأنت محظوظان بمعرفة شخص نقي مثل قاسم.
أومأت الآخر مؤيدًا وقال:
_ أنت محق. جميعنا أخطأنا .
_ على كل حال يمكنك البدء من الغد إذا أردت .
ردد حسان بابتهاج:
_ بالطبع ، سأكون موجودا في الموعد ، والآن علي أن أغادر لكي أتدبر أمري وأستعد.
وغادر حسان سعيدا ، ليس فقط لأنه حصل على عمل جديد في ظروفه الصعبة تلك، ولكن لأنه حصل على فرصة ثانية للبدء مع رفاق عمره من جديد.
_______
وقفت صفية والصدمة تعتري ملامحها بنجاح ! تتطلع نحو حنان التي تفترش الأرض دون حِراك والزجاج يغطي وجهها الملطخ بالدماء برعب وهلع.
_ ماتت ؟! هل ماتت ؟!! هل قتلتها ؟! لا .. مستحيــل !
كانت تهذي بهذه الكلمات وهي تهز رأسها بغير تصديق وتتطلع حولها بانهيار وتشتت، ثم اقتربت بخطوات متمهلة من حنان تطالعها عن قرب، ثم مدت يدها إلى جانب عنقها تختبر نبضها فإذا بها تتراجع فجأة إلى الخلف بخوف ونفور من منظر الدماء وهي تردد بهيستيرية:
_ لم تمت ، إنها تتنفس ، لم تمت ، هذا جيد.
ومسحت يدها بملابسها ثم التقطت جزدانها من الأرض واتجهت نحو الباب ، فتحته ثم هرولت للخارج برعب وهي تبكي بانهيار فإذ بها تصطدم بعزيز الذي دخل من باب البناية للتو.
_ زوجة عمي ؟!
قالها عزيز باستغراب وهو يتفحص حالتها المزرية وما إن رأى الدماء التي تلطخ عباءتها حتى اتسعت حدقتيه بهلع وهرول نحو الداخل على الفور .
حثت صفية الخطى وسارت مسرعةً نحو بيتها وهي في حالة هيستيرية، تتحدث إلى نفسها باضطراب والجميع ينظرون نحوها بدهشة وكأنها من المجاذيب.
دخل عزيز إلى الشقة وهو ينظر حوله بخوف وترقب، فإذ به يُصعق من رؤية حنان بهذه الحـالة ، ركض نحوها مسرعًا وهو يهتف باسمها بأعلى صوت ، جثا بجوارها على ركبتيه بحذر وهو يحاول إبعاد قطع الزجاج المتناثرة من حولها ورفع رأسها إليه وهو ينادي عليها بلهفة يشوبها الذهول:
_ حنان، حبيبتي حنان من الذي فعل بكِ هذا ؟!
في تلك الأثناء كان كريم قد استمع إلى صوت عمه عزيز فاطمأن لوجوده وفتح الباب من الداخل وخرج.
_ حنان، هل تسمعيني ؟ حنــــان ، من الذي فعل بكِ هذا ؟!
_ جدتي !
توقف عزيز عن بكائه عندما استمع إلى هتاف الصغير فنظر إليه وهز رأسه باستفهام لعله يكون مخطئا فيما سمعه، فردد كريم بثقة:
_ جدتي صفية هي من فعلت ذلك.
وانفجر باكيًا فجأة وأخفى عينيه بكفيه وهو يقول:
_ هل ماتت خالتي حنان؟ هل جدتي قتلتها ؟!!
كان عزيز يسترجع ما حدث منذ دقائق، عندما اصطدم بصفية وهي تخرج من البناية وهي تبكي ويديها ملطخة بالدماء، ثم نظر إلى حنان المسجاة بين ذراعيه باستسلام، ثم نهض وهو يحملها وقال:
_ كريم، اتبعني.
خرج متجها إلى سيارته ، وضع حنان بالمقعد الخلفي، ثم ركب خلف المقود وكريم بجواره وتحرك منطلقا نحو المشفى.
______
وصلت صفية للتو؛ دخلت الشقة وهي لا زالت تهذي بخوف واتجهت فورا نحو الحمام، اغتسلت جيدا وخرجت، ثم دخلت إلى غرفتها وصعدت إلى فراشها وتدثرت جيدا وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.
وفجأة استمعت إلى صوت طرقات على باب الشقة ففزعت وجلست بفراشها وهي تنظر نحو الباب بخوف وتردد:
_ هذه هي الشرطة لا محالة ! لقد أبلغ عزيز الشرطة وها قد أتت للقبض علي.
ازدادت الطرقات ورنين جرس الباب تزامنا مع نداء صالح من غرفته لكي تسرع لفتح الباب، فنـزلت من فراشها واتجهت نحو الباب بخطوات متثاقلة، ومدت يدها لتفتح الباب وهي تقاوم لكي لا تسقط أرضا من شدة الخوف.
فتحت الباب وما إن رأت طبيب العلاج الطبيعي حتى تنفست الصعداء وقالت بضعف:
_ تفضل دكتور.
دخل الطبيب متجها نحو غرفة صالح مباشرةً ، ثم دخلت هي إلى غرفتها مجددا وهي تتحدث مع نفسها بضياع وتقول:
_ يا إلهي ماذا سيكون مصيري إن ماتت ؟ هل سأكون قاتلة وأدخل السجن ؟! لا لا.. يا ربي ساعدني، أتوسل إليك لا تجعلها تموت، و أعطني فرصة ثانية كي أكفر عن ذنبي.
مسحت آثار البكاء ثم دخلت إلى الحمام وتوضأت، ثم خرجت وصلت ركعتين ووقفت تدعو الله أن يمنحها فرصة ثانية.
وبعد أن فرغت من صلاتها اتجهت إلى غرفة حياة تنوي التحدث معها وإخبارها بما حدث ولكنها تفاجات عندما رأت الغرفة فارغة، والخزانة خاوية.
_ لا. لا هذا غير معقول ، أين أنتِ يا حياة بربك!!
___________
كانت حيـاة تقف بمنتصف الشقة تتطلع حولها بانهيار صامت. ترى قاسم في كل ركن ، هنا كان يجلس ويرتشف قهوته الصباحية ، وهنا كان يجلس ويُجلسها فوق ركبتيه.
هنا عانقها، وهنا قبّلها ، وهنا كان يحملها ويركض بها في أرجاء الشقة وضحكاتهما تملأ المكان . تكاد ان تجزم أنها تسمع صوته الآن يتغنى باسمها بكل الألحان التي كانت تطرب قلبها قبل أذنيها.
أجفلت فجأة عندما استمعت إلى صوت رنين جرس الباب فمسحت دموعها وتوجهت إلى الباب ففتحته فإذا بها تجد فريال تقف مبتسمة ، ثم أعطتها شيئا ما وهي تقول بابتسامة مشرقة:
_ تفضلي حياة، هذه دعوة عقد قراني هذا المساء. سأكون أكثر من سعيدة إذا أتيتِ.
نظرت حياة إلى بطاقة الدعوة بيدها ثم نظرت إلى فريال وابتسمت بمجاملة وقالت:
_ مبارك عليكما ، سأكون موجودة بإذن الله.
مالت عليها فريال وقبلت خدها فجأة وهي تقول بامتنان:
_ أشكرك جارتي الودودة، كنا نتمنى وجود قاسم أيضا ولكني عرفت أنه مسافرا.
أومأت حياة بموافقة وقالت:
_ صحيح، ولكني سأحضر بدلا منه إن شاء الله.
_ سننتظرك حيوتة ، عن إذنك.
أغلقت حياة الباب ودخلت إلى الشرفة بخطوات متثاقلة ثم جلست فوق المقعد الذي كان يجلس قاسم عليه، وفجأة أحست بشيءٍ ما أسفل قدميها فانحنت لتتفحصه فإذا بها تجد الرسالة المشؤومة التي تركها لها ذلك اليوم.
شعرت بنفس الغصة التي شعرت بها يومها وهي تفتحها وتمر بعينيها على سطورها وتقرأ نواياه بالرحيل دون أن يأبه أو يهتم لما سيتركه وراءه.
وفجأة وبكل غيظ شقت الورقة إلى نصفين وهي تزمجر كوحشٍ يحتضر وينازع الموت ، وألقتها على مد ذراعها وهي تقول:
_ تبًا لك يا قاسم .. أنا أكرهك.. أكرهك كثيرا يا بغيض.
وانخرطت في حالة بائسة مأساوية كانت الدموع هي الراعي الرسمي الوحيد لها .
________
دخل عزيز يركض بطرقات المشفى وهو يحمل حنان على ذراعيه وكريم يركض خلفه بتيه، فأسرع المسعفون بأخذها منه ووضعها على السرير النقال ثم انطلقوا بها نحو غرفة الطوارئ.
وقف قليلا يتطلع حوله بشرود، يحاول صب تركيزه واهتمامه على الموقف العسير الذي يمر به، أحاط كريم بذراعه وبالذراع الأخرى كان يمسح على وجهه بتوتر واستياء وهو يتمتم:
_ يا رب سترك ، ماذا سأفعل الآن ؟ من سأهاتف ؟ ما الذي يتوجب عليّ فعله!
ثم نظر إلى كريم بتفكر وتمعن وهو يقول:
_ كريم ، وجودك بالمشفى هنا غير لائق أبدا ، أين سأتركك ؟!
وزفر زفرةً طويلة يملؤها العجز وهو يفكر مليًا في مكان آمن لكي يترك كريم به ثم نظر إليه وقال:
_ سنذهب إلى بيت عمك حسان والد صبر ، ستبقى هناك هذه الليلة ، حسنا ؟!
أومأ الطفل بانكسار وامتلأت عينيه بالدموع وهو يقول:
_ هل خالتي حنان ستموت أيضا ؟! لم يبقَ لي أحدٌ سواها .
أجهش عزيز بالبكاء وغدرتهُ دموعه فانحني معانقًا الطفل وهو يربت على كتفيه ويقول:
_ لا تخف كريم، خالتك حنان لن تتركنا أبدا .
أومأ كريم متأملا ، حينها أخرج حسان هاتفه من جيبه وقام بالاتصال بحسان الذي أجاب مسرعا فقال:
_ مساء الخير حسان. اسمعني، أنا الآن بالمشفى العام ، حنان حالتها حرجة وأريد أن تأتي لكي تصطحب كريم. سيبقى معك الليلة.
_ لا حول ولا قوة إلا بالله ، تمنياتي بالشفاء يا عزيز ، سأمر بك حالا لكي آخذه ولكن أخبرني أولا، هل تحتاج لشيءٍ لكي أحضره لك؟
_ لا. لا أريد. فقط تعال وخذه. لا ينبغي أن يبقى هنا.
_ حسنا ، مع السلامة.
أنهى الاتصال وفجأة وقع نظره على الطبيب الذي يخرج من الغرفة الموجودة بها حنان فأسرع نحوه متلهفًا وهو يقول:
_ دكتور، من فضلك أخبرني كيف حالها ؟
_ هل أنت زوجها ؟
_ أجل .. هل هي بخير ؟
_ لقد تعرضت لجروح سطحية بجسدها وخدوش بوجهها منها العميق ومنها السطحي ، قمنا بتنظيف الجروح من قطع الزجاج وتعقيمها ولكننا سنقوم بعمل أشعة للتأكد من عدم وجود شذرات زجاج متبقية بالجرح.
تنفس براحة وأردف:
_ هل يمكنني رؤيتها الآن ؟
_ أجل بالطبع ، الدكتور وائل يجري بعض الفحوصات الروتينية وبعدها يمكنك الدخول لزيارتها. زال البأس إن شاء الله.
شكرهُ عزيز ونظر إلى كريم مبتسمًا يحاول طمأنته وقال:
_ هل سمعت ما قاله الطبيب؟ إنها ستكون بخير.
أومأ كريم مبتسما وقال:
_ هل يمكننا رؤيتها ؟
_ بالطبع يمكننا، هيا بنا .
دخل عزيز وبرفقته كريم ، فكانت حنان تتمدد فوق سرير الفحص شبه نائمة، ورأسها مربوطًا بضمادة وعلى وجهها آثار الخدوش والجروح.
نظر إليها عزيز بشفقة وأسف ، واستشاط غضبا عندما قفزت صورة زوجة عمه إلى مخيلته وهو يتخيلها وهي تعتدي على زوجته بكل وحشية حتى أوصلتها إلى هذه الحالة.
نظر إليه الطبيب نظرة غامضة لم تَرُق لعزيز أبدا وهو يقوم بتركيب محلولًا بوريدها تحت نظرات حنان المتعجبة وقال بنزق وتحفز:
_ أنت زوجها أليس كذلك ؟
أومأ عزيز مؤكدا وقال:
_ أجل، أخبرني دكتور هل هي بخير الآن؟
تحدث الطبيب بنبرة مستاءة وقال :
_ هما بخير ، ولكن لدي سؤالا يفرضه عليّ ضميري المهني.
هز عزيز رأسه مستفهما فأجاب الطبيب:
_ هل ما حدث كان بمحض الصدفة ؟ هل هو قضاء وقدر كما قالت زوجتك؟ أم أنه بفعل فاعل وهذا هو الاحتمال الأرجح.
نظر عزيز إلى حنان بصدمة ، لقد تفاجأ أنها نفت أن ما حدث بسبب تعدي زوجة عمها عليها وإرجاء الأمر للصدفة والقدر !! وفهمت حنان مغزى نظراته فأشاحت بوجهها عنه ونظرت إلى الطبيب وقالت بحنق زائد:
_ لا أعرف سر إصرارك على أنه بفعل فاعل!! لقد أخبرتك أيها الطبيب .. لقد زلت قدماي فجأة وسقطت فوق الطاولة وبعدها فقدت الوعي.
مط الطبيب شفتيه بعدم اقتناع، ثم هز رأسه وقال:
_ حسنا، ولكن من أجل الأمانة العلمية علي أن أخبركِ شيئا هاما..
ونظر إلى زوجها وقال:
_ إن كان زوجك هو من فعل بكِ هذا عمدًا فيمكنكِ اتخاذ أشد إجراء نحوه، ويمكنني إعطاؤك رسالةً طبيةً تبين حالتك وطبيعة إصابتك، يمكنك تحرير محضر ضده بواسطة هذه الرسالة إن أردتِ والمطالبة بحقك.. لا تكوني سلبية أبدا.
على الفور هتف كريم بغضب وحمية:
_ لا، عمي لم يفعل شيئا ، من فعل…
قاطعته حنان فجأة وهي تنظر إليه بتحذير صارم وتقول موجهةً حديثها إلى الطبيب:
_ حتى الطفل تكلم وأخبرك بالحقيقة دكتور. صدقني الأمر بسيط. مجرد حادث قدري مثل أي حادث تتعرض له ربات البيوت.
أومأ الطبيب موافقا ثم قال:
_ على كل حال أنتم أدرى ، سأصف لكِ بعض الكريمات التجميلية التي ستزيل آثار الخدوش السطحية، وأخرى ستعمل كمضاد حيوي لكي تساعد على التئام الجروح ، وهذه الحبوب المسكنة ستتناولينها مرة يوميا.
أومأت بتفهم ثم نظرت إلى المحلول الموصول بوريدها وقالت:
_ وما فائدة هذا المحلول ؟
_ هذا محلول جلوكوز لعلاج هبوط الدورة الدموية ، لا يوجد ضرر منه على الجنين لا تقلقي.
نظرت إليه حنان بصدمة وكأنه برأسين!! ونظرت إلى عزيز الذي بادلها نفس النظرة البلهاء وقالا في نفس واحد :
_ جنين !!
نظر إليهما الطبيب متعجبا وأومأ ببساطة وقال:
_ أجل .
_ أيُ جنين ؟!
قالها عزيز مصدوما فنظر إليه الطبيب باستغراب وقال:
_ المدام حامل ببداية الشهر الثاني ، أليس لديكما علمًا بالحمل ؟!
نظرت إليه حنان بغير تصديق وطفقت الدموع تسيل من عينيها بصدمة لا تقل عن صدمة عزيز الذي أومأ برأسه أن لا وقال:
_ لا، لا نعرف شيئا عن الحمل .
ابتسم الطبيب بود وقال:
_ إذا بعد الخروج من المشفى عليكما الذهاب لطبيب النساء والتوليد ، أو بإمكانكما المتابعة مع طبيبة النساء هنا بالمشفى إن أردتما. على كل حال سينتهي هذا المحلول بعد حوالي نصف ساعة ، يمكنكما الانصراف بعدها. زال البأس إن شاء الله.
غادر الطبيب الغرفة، فنظر كلا من عزيز وحنان إلى بعضهما البعض بعدم استيعاب ، اقترب عزيز من حنان وجلس على طرف السرير وهو ينظر إليها ببلاهة وقال:
_ هل أنتِ حامل ؟!
هزت رأسها والدموع تتساقط من عينيها وقالت بابتسامة:
_ على ما يبدو ذلك.
احتضنها فجأة بقوة فتألمت وهي تضحك وتبكي في آنٍ واحد وقالت:
_ رفقا عزيز ، جسدي يؤلمني بشدة.
ابتعد عنها فجأة وهو يتفحص وجهها بلهفة وقال:
_ أنا آسف، لم تسعنِ الفرحة لذلك لم أنتبه . صحيح لقد تذكرتُ.. ما هذا الذي قلتهِ للطبيب ؟
أشارت بعينيها إلى الخلف حيث يقف كريم ففهم مقصدها والتزم الصمت، حينها رن هاتفه برقم حسان فاصطحب كريم وخرج من الغرفة لكي يسلمه إلى حسان ثم عاد إليها وجلس بجوارها ، ممسكا بيديها يغدقها بالقبل بكل حب وغرام ، ثم نظر إليها قائلا:
_ لماذا يا حنان ؟ كان بإمكاننا الإبلاغ عنها وحجتنا قوية، هذه مجرمة وكانت ستقتلك !
نظرت إليه وتململت بتعب ثم قالت:
_ أولا أنت لا تعرف ما الذي حدث بالتفصيل..
قاطعها وقال:
_ بلى ، كريم أخبرني بكل شيء ونحن في طريقنا إلى هنا.
_ كريم سمع شجارنا فقط، هي لم تقصد قتلي ولم تتعمد إيذائي..
_ أما زلتِ تدافعين عنها حتى الآن ؟
_ صدقني عزيز أنا لا أدافع عنها بالمرة، ولكني أقول الحقيقة، زوجة عمي أجبن من أن تتعمد قتل دجاجة حتى، هي أساءت الفهم وظنت أنني قمت بحبس كريم في الحمام ولم تعطني الفرصة كي أثبت لها أنه هو من أوصد الباب من الداخل خوفا منها، لذلك دفعتني بهذه الهمجية وحدث ما حدث.
_ وبعد أن حدث ما حدث تركتك في تلك الحالة وفرت هاربة ، لم تحاول أن تسعفك أو تساعدك أو تتصل بي حتى ! لا تحاولي التبرير لها عبثا يا حنان.
_ فرت هاربة لأنها جبانة كما قلت لك، أقسم أنها الآن تختبئ في غرفتها كالأرنب المذعور خوفا مما حدث .
_ تقصدين خوفا مما سيحدث. أنا لن أتخلى عن حقك أبدا. هذه المرأة تمادت كثيرا ولا بد أن تنال عقابها .
أمسكت بيده في استجداء وقالت بلطف:
_ عزيز أرجوك، لقد نجاني الله بكرمه ولطفه، لذا أرى أنه لا داعي من إخبار الشرطة بما حدث. إن لم يكن من أجل عمي فمن أجل حياة. حياة الآن حامل وفي حاجة والدتها ، وعمي لن يتحمل مصيبة أخرى وهو لم يتجاوز كم المصائب المهولة التي تنزل به يوميا . ثم أننا قد رزقنا بطفل والحمد لله..
ضغط على يديها بحماس وفرحة وتلألأت ابتسامته فقالت:
_ نريد الابتعاد عن المشاحنات والعداوات تماما، لقد منحنا الله فرصةً ثانيةً وعلينا البدء بها من جديد.. سيكون لدينا عائلةً صغيرة جميلة مكونة من أربعة أفراد. أنت وأنا وكريم والطفل .
أومأ عزيز مؤكدا كلامها بابتسامة واقترب منها وطبع قبلةً عاشقة على جبينها، ثم قبل يدها وقال:
_ صحيح. سيكون لدينا عائلةً صغيرة جميلة.. جميلة جدا حنان.
__________
فـي المساء .
احتشد الجميع بتلك القاعة الصغيرة المقام بها عقد القران وسط جو من البهجة والفرح، حيث دعت العروس جيرانها بالعمارة فقط وقام العريس بدعوة بعض من أصدقائه و أقربائه من الدرجة الأولى.
كان المأذون يتوسط طاولةً بيضاء وعن يمينه تجلس العروس متأنقةً بفستانها الأبيض اللؤلؤي ، أما عن شماله فيجلس العريس والذي يرتدي حلةً بيضاء من اختيار العروس.
بدأت مراسم عقد القران ، فوقف قصي بالقرب من والده يعلن دعمه الكامل له حيث كانت ابتسامته لا تفارق شفتيه، وعلى بعد خطوات كانت سارة تقف بهدوء نقيض ذلك الضجيج الذي يملأ قلبها ويشعل كيانها.
التقت أعينهما فجأة فأشاحت سارة بوجهها للجهة الأخرى وزفرت باختناق ثم همست إلى والدتها التي تقف بجوارها منهمكةً بتصوير العروس وقالت:
_ سأذهب إلى الحمام. لن أتأخر.
غادرت سارة ، أو بمعنى أدق هربت من نظراته التي تحاصرها وتُشعرها بالاختناق، فاصطدمت بحياة التي دخلت من باب القاعة للتو فاتسعت ابتسامتها فورا ومالت لتقبل وجنتيها بود وقالت:
_ حياة، ما هذه المفاجأة السعيدة ؟ سررت برؤيتك .
ابتسمت حياة بلطف وقالت:
_ وأنا أيضا سررت برؤيتك سارة، كيف حالك ؟
ابتسمت بفتور وقالت:
_ بخير، كيف حال قاسم ؟ هل تزورينه؟
أطرقت حياة عينيها أرضا بألم وقالت:
_ لا، ولكن المحامي يزوره ويطمئننا على أحواله. هو بخير لا تقلقي.
أومأت سارة بهدوء ثم وضعت يدها بحركة مفاجئة على بطن حياة التي شرعت في الظهور وقالت:
_ متى ستلدين ؟
ابتسمت حياة وقالت:
_ لا زال باكرًا جدا ، لا زلت بشهري الثالث.
_ وهل سيكون قاسم حاضرا الولادة؟
نظرت حياة أمامها بألم وشرود وهمست بتمني:
_ إن شاء الله.
مسحت سارة على ذراع حياة وقالت بابتسامة:
_ إن شاء الله ، لا تقلقي كل شيء يمر.
أومأت الأخرى بابتسامة وقالت:
_ إلى أين أنتِ ذاهبة ؟ أعتقد أن الاحتفال لم يبدأ بعد !
_ صحيح، ولكني شعرت بالصداع، سأعود لاحقا.
كان قصي يراقب المشهد عن بُعد، وما إن ابتعدت حياة حتى خرج هو من القاعة يلحق بسارة التي تفاجأت به يجذب ذراعها فنظرت إليه بتحفز وهمت بصفعه ولكنها تراجعت عندما رأته وقالت بغضب:
_ هذا أنت ؟!
_ انتظري سارة، علينا أن نتحدث.
جذبت ذراعها من قبضته بعنف وانفعال وهي تقول:
_ ابتعد عني قصي، لم يعد بيننا ما يستحق الكلام.
نظر إليها بتوتر وارتباك، ثم قال :
_ أنتِ مخطئة، على الأقل أنا لدي ما أريد قوله.
_ لاا.. لقد قلت كل شيء ..
واقتربت منه وهي تنظر إلى عينيه مباشرةً وقالت بهمسٍ مختنق:
_ نظراتك قالت كل شيء. نظراتك فاحت بما يحتويه قلبك فلا تحاول عبثا.
حاولت التحرك فأمسك بساعدها لكي يمنعها وقال:
_ اسمعيني سارة..
جذبت ساعدها من قبضته مجددا وصرخت بوجهه بألم حارق:
_ كفى قصي، كفاك عبثا بحياتي. أنا لم أطلب منك الاقتراب منذ البداية ، لقد كنت أعيش في قوقعة مغلقة لأنني اكتفيت من الخذلان، جئت أنت ووطأت بقدمك هذه المنطقة المحظورة وجعلتني أخرج منها وأغوص بقدمي في بحور جديدة من الخذلان. جعلتني أتذوق مرارة الألم والفقد والخزي من جديد ، بعد أن كنت قد تخطيت كل هذا بالكاد جئت أنت وبكل بساطة لتعيدني إلى هناك كي أعيد هذه التجربة المشؤومة من جديد.
نظر إليها قصي بأسف وندم وقال:
_ أنا آسف سارة، لم أقصد إيذائك بهذه الطريقة.
زفرت زفرة طويلة وهي تحاول لجم دموعها قدر الإمكان ثم نظرت إليه بانكسار وقالت:
_ من فضلك عُد إلى حيث كنت ولا تعترض طريقي مرةً أخرى.
وانصرفت وتركتهُ واقفا يتطلع في أثرها بحزن وانكسار.
___________
دخل حسان إلى الغرفة التي يجلس بها كلا من صبر وكريم وهو يحمل صينية عليها بعض الشطائر وكوبين من العصير وهو يدندن ، فوجد صبر يجلس محبطًا وهو يسند خده على قبضته الصغيرة ويتطلع إلى كريم الذي يجلس مكانه منذ أتى بانغلاق وتوتر.
_ هيا يا شباب، العشاء جاهز.
قالها حسان وهو يضع الصينية أمامهما قبل أن يلاحظ الصمت المريب الذي يلف الغرفة نظر إليهما متعجبا وهو يقول:
_ ما خطبكما ؟!
تحدث صبر بيأس وقال:
_ كريم يمتنع عن الكلام تماما منذ أن أتى إلى هنا، عرضت عليه أن نلعب سويا ولكنه رفض.
نظر حسان إلى كريم وقال:
_ لماذا يا كريم ؟ ماذا بك ؟
أجاب كريم بانكسار:
_ أريد الاتصال بعمي أولا لكي أطمئن على خالتي حنان.
_ هي بخير لا تقلق، ولكن إن كنت تريد التحدث معهما فلا مانع طبعا، سأتصل به.
قام حسان بالاتصال برقم عزيز وأعطى الهاتف إلى كريم فأخذ كريم الهاتف وخرج من الغرفة ليتحدث بحرية.
استمع كريم إلى صوت عمه يقول:
_ مرحبا حسان، كيف حالك ؟
فأجابه بلهفة قائلا:
_ عمي، أنا كريم.
_ مرحبا حبيبي كريم، كيف حالك ؟
_ أنا بخير، ولكني قلِق للغاية على خالتي حنان.
_ لا تقلق كريم، خالتك حنان بخير. هي الآن نائمة وعندما تصحو ستحدثك.
_ حسنا، وأنا متى سأعود إليكما ؟
_ صباحا حبيبي، سيعيدك عمك حسان إلى البيت صباحا وسيكون صبر برفقتك أيضا.
_ حسنا، اعتني بخالتي.
ابتسم عزيز قائلا:
_ حسنا، اعتني بنفسك كريم. مع السلامة.
أنهى كريم الاتصال وظل ممسكا بالهاتف وللحظة شعر بالرغبة في سماع صوت حياة، فلقد كان يفتقدها بشدة في هذه الأثناء. يفتقد لأي شخص من رائحة أمه كما يقولون؛ لذا قام بالاتصال برقم هاتفها الذي يحفظه جيدا ولكنها لم تُجب، فانساق لرغبته وقام بالاتصال بهاتف جده .
ثوان ووصله صوت جده المرهق وهو يقول:
_ السلام عليكم ، مَن معي ؟!
_ جدي، أنا كريم.
اهتز قلب صالح واقشعر بدنه عندما استمع إلى صوت حفيده وأحس بالندم لأنه أدرك في هذه اللحظة كم هو مقصرًا معه فقال:
_ يا قرة عين جدك ، كيف حالك حبيبي ؟
أخذ الطفل يبكي بانكسار وهو يقول كلمات متداخلة تملؤها الحسرة:
_ لست جيدا ، أشعر بالخوف هنا ، لا أريدُ البقاء هنا ببيت صبر ، أحتاج إلى أمي ، وأشعر بالخوف على خالتي حنان .
_ كريم، أنا لا أفهم ما تقوله يا بني، ماذا تفعل ببيت صبر؟ ولمَ تشعر بالخوف على خالتك حنان ؟ ماذا بها ؟
مسح دموعه وقد توقف عن البكاء وقال:
_ جدي، أريد الانتقال لعندك، أنا خائف لأني سأبقى ببيت صبر هذه الليلة.. هل يمكنك أن ترسل أحدا ليأخذني ؟
_ حسنا أود أن أفهم أولا، لماذا ستبقى ببيت صبر ؟ لمَ أنت لست برفقة عمك عزيز وخالتك حنان ؟!
أجابه بصوت متقطع من أثر البكاء وهو يقول:
_ خالتي حنان لا زالت بالمشفى وعمي طلب من والد صبر أن أبقى برفقته حتى الغد.
_ مشفى؟! أيُ مشفى؟! ماذا بها حنان ؟!
تعجب الطفل وتساءل ببراءة:
_ ألا تعرف ما حدث؟! لقد تشاجرت مع جدتي اليوم وجدتي حاولت قتلها.
هتف صالح بصدمة:
_ ماذا ؟!! من قال لك هذا يا كريم ؟! أيُ هراء تتحدث به يا ولد ؟!
_ الجميع يقولون هذا، حتى طبيب المشفى ظن أن عمي هو من حاول قتل خالتي حنان.. جدي ، أريد المجيء لعندك ولكنني أشعر بالخوف من جدتي.
كان صالح يشعر بالدم يغلي في عروقه من فرط الانفعال وقال بتوتر وتشتت:
_ كريم ، لا تخف. سأتصل بخالتك حياة وستأتي لتأخذك. ولكن الآن علي أن أتصل بعمك عزيز لكي أطمئن على حالة خالتك حنان، حسنا ؟
أومأ الطفل بقهر وقال:
_ هل هو وعد ؟ هل ستأتي حياة لتأخذني ؟
أجابه صالح بقلة حيلة وقال:
_ نعم نعم ، وعد. لا تخف .. هيا مع السلامة.
أنهى كريم الاتصال وعاد إلى الغرفة التي يجلسون بها، ولكنه توقف عند الباب وهو يشاهد حسان وهو يحمل صبر على أكتافه ويطعمهُ بيديه وهو يدلله، وهو ما أثار حزنه وجعله يشعر باليتم والانكسار والوحدة وظل يراقبهما بعيون مملوءة بالدموع.
هتف صبر باسم كريم فنظر حسان إليه ولم تَفُتهُ نظرة الحسرة بعينيه الصغيرتين فأنزل صبر عن كتفيه فورا وهو ينظر إلى كريم مبتسما وقال:
_ كيمو، ما رأيك أن أحملك كما كنت أحمل هذا القرد؟
هتف صبر بحنق:
_ لستُ قردًا.
هز كريم رأسه بنفي وقال:
_ لا أريد .
_ إذًا ما رأيك أن نتناول العشاء ثم نخرج ونتسلى قليلا ؟!
_ لا، لا أريد.
وتركهما وجلس على الفراش مهمومًا ، تدور برأسه الأفكار وتعصف بها دون رحمة حتى غط في النــوم بكل وداعة.
____________
قبل دقائـــق **
أنهى صالح الاتصال مع كريم وقام بالاتصال بعزيـز فورا الذي أجاب بهدوء:
_ مرحبا عمي، كيف حالك ؟
_ عزيز، ماذا حدث لحنان ؟! أخبرني ماذا بها ؟!!
صمت عزيز للحظات وكأنه تفاجأ بمعرفة عمه للأمر، ثم تنهد وقال:
_ لا تقلق يا عمي، حنان بخير .
_ ماذا يعني حنان بخير ؟! ماذا فعلت بها هذه المجرمة صفية؟ ما الذي قاله كريم هذا !! كيف حاولت قتلها؟ وكيف تُخفي عني شيئا خطيرا كهذا ؟!
_ الأمر ليس بهذه الخطورة صدقني، لقد تشاجرت مع حنان شجارا حادا ودفعتها فسقطت على الطاولة الزجاجية، هذا ما سبب لها بعض الجروح المتفرقة ، ولكنها الآن بخير والحمد لله.
_ هل هذا كل شيء؟ ألن تخبر الشرطة عما فعلتهُ هذه المجرمة؟ اسمعني عزيز، لديك كل الصلاحيات ، أنا من أقول لك لا تترك حق زوجتك . هذه المرة لن يمر الأمر مرور الكرام أبدا. لا بد من رادع لها.
_ أنا أفهمك وأقدر موقفك يا عمي، ولكن حنان هي من قررت ذلك.. وأنا أحترم قرارها.
_ ولمَ لم تخبرني ؟! هل هذا شيئا يمكن إخفاؤه ؟!
_ لم أُرد إزعاجك بالأمر صدقني ، ثم أنك لديك ما يكفيك أساسا .
صمت صالح بعد أن تنهد باختناق وعجز، ثم أخذ يتمتم بيأس:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولمَ تركت كريم برفقة حسان ؟! الولد هاتفني وهو يبكي ويقول أنه لا يود البقاء هناك.
_ لم أفضل بقاؤه في المشفى كل هذا الوقت، خصوصا أن الغادي والآتي يكرر نفس الأسئلة والاستفسارات ، ولم أحاول الاتصال بحياة لأني أعرف أنه بمجرد معرفتها سينتقل الخبر إليكم فقررت الاستعانة بحسان.
_ حسنا ، سأحدثك لاحقا ، لا بد أن أطمئن على حنان بنفسي.
_ حسنا ، لا تُرهق نفسك يا عمي من فضلك. مع السلامة.
كانت صفية تقف وراء الباب تتنصتُ إلى مكالمتهما وبصدد الرجوع إلى غرفتها ولكنها أجفلت فجأة عندما استمعت إلى نداء صالح وهو يقول:
_ صفيــــــــة !!!!!!
قصف صوتُ صالح مُدويًا يهز أرجاء البيت، وما إن سمعته صفية حتى شعرت بقلبها ينتفض بصدرها من شدة الخوف، لتستمع إلى صوت تحطيم شيئا ما بغرفته فأسرعت نحوه على الفور وهي تدعو الله ألا يكون موتها على يديه هذا المساء.
_ صفيـــة ؛ يا مجرمة.. أين أنتِ ؟!
دخلت الغرفة ليصطدم رأسها فجأة بجهاز قياس الضغط الذي ألقاه صوب الباب بانفعال فتألمت بشدة وشعرت بالدوار يلف رأسها.
_ ماذا فعلتِ يا قاتلة ؟! اقتربي ..
نظرت إليه بخوف وتسمرت بمكانها فقال بصراخ :
_ قلت لكِ اقتربي حالااا..
_ لا، لن أقترب.. لا بد أن أشرح لك أولا..
نظر إليها والغضب يرتسم على ملامحه بشدة وقال:
_ تشرحين !! ماذا ستشرحين ؟! هل لديكِ ما تقولينه أساسا ؟! هل لا زلتِ تملكين الجرأة لكي تتحدثي بعد ما فعلتِه ؟!
_ صالح صدقني..
_ اخرسـي.. أنتِ طالق يا صفية، طالق يا قاتلة..
توسعت عينيها بصدمة وعدم استيعاب وهتفت بلوعة:
_ لاااا.. أرجوك لا تكررها أرجوك..
أزادت كلماتها ضيقه واستفزازه فكرر بغضب أعمى:
_ أنتِ طالـــق ، طااااااالق… أنتِ طالق يا مجرمة. سأقولها لكِ بكل اللغات علكِ تفهمينها ، من اليوم فصاعدا لن تطئي هذا البيت بقدميكِ أبدا وإلا سيكون هلاككِ على يديّ هاتين.
اقتربت منه وهي تبكي بحسرة وأمسكت بيديه وقبلتهما باستجداء وتذلل وهي تقول:
_ لا تفعل بي هذا يا صالح أرجوك..
_ لااا، لقد تأخرتُ كثيرا في فعل هذا ، تأخرتُ عشر سنوات كاملة. لو أنني فعلتها قبل عشر سنوات لكان اختلف الكثير .
انحنت على قدميه تقبلهما وهي تبكي بانفطار والتياع:
_ أرجوك، لا تكن قاسيًا عليّ بهذا القدر يا صالح، أنت تعرف أنني لا أملك مأوى لكي أذهب إليه..
_ الشارع موجود ، هو من يحوي القتلة المجرمين أمثالك .
عادت لتنظر إليه وهي تمسك بيديه تحاول استمالة عطفه وهي تقول:
_ أقسم لك أني لم أتعمد إيذائها، ما حدث لم يكن متعمدا أبدا.
فدفع يدها بعيدا عنه بقوة وعنف لم يسبق لهما مثيل حتى أنها ترنحت فسقطت أرضا وهو يقول:
_ كاذبة، مهما قلتِ كاذبة ، نحن لم نرَ منكِ إلا الشر والأذى منذ اليوم الأول الذي دخلتِ فيه إلى هذا البيت ، من منا لم يتعرض إلى أذاكِ ولم يذق سمّك ؟ كلنا بدايةً من إخوتي وزوجاتهم ووصولا إلى أولادهم ، هل نسيتِ غالية وما كنتِ تفعلينه بها ؟ هل نسيتِ محاولاتك المستميتة الدنيئة لتشويه صورتها لأنكِ فقط تغارين منها وتحقدين عليها بدون سبب!! هذا الحقد والكره لم يَمُت بموتها ، بل ورثهُ أولادها، قاسم وحنان! تكرهينهما وتحقدين عليهما لأنهما فقط أولاد غالية . غالية التي كانت ولا زالت كابوس حياتك !!
صرخت به بانهيار شديد وقالت:
_ نعم ، كانت ولا زالت وستبقى كابوس حياتي يا صالح ، أتدري لمَ ؟ لأنك كنت تحبها. كنت أرى هذا الحب والانبهار واضحا بعينيك.
_ اخرسي، كفاكي إثما وافتراءً ، كفاكي خسة وحقارة يا حقيـــرة ! أنتِ من أوهمتِ عقلكِ المريض بهذه الوساوس الخبيثة وأقنعتِ نفسك بها حتى تجدي مبررا منطقيا لكرهك لها ، ظننتِ أن الجميع واقعين بغرامها ، أنا .. و أخي ورجال العائلة جميعهم، بالرغم من أننا جميعا كنا نقدرها ونحترمها لأنها إنسانة فاضلة محترمة، ولكنكِ فسرتِ هذه النظرات على أساس خاطئ ، أساس عبثي وشيطاني مثل بقية أفكارك المريضة، هذا لأنكِ كنتِ تعانين من عقدة نقص لا زالت تلازمك حتى الآن.
نهضت من الأرض واقتربت منه ولكنها أشهر سبابته في وجهها بتحذير وهو يقول:
_ إياكِ، لا تقتربي ثانيةً، هيا لملمي أغراضك واخرجي من هذا البيت حالا..
_ لا.. لا يمكنك أن تفعل بي هكذا يا صالح، أرجوك أعطني فرصة ثانية أرجوك..
_ أبدا.. على جثتي يا صفية. لن تبقين على ذمتي ولو ليوم آخر. لقد كرهتك وأصبحت أشعر بالخزي لأنك زوجتي وعلى إسمي، أصبحت أشعر بالعار من تصرفاتك ، لقد منحتكِ بدلا من الفرصة الواحدة آلاف الفرص ولكنكِ استهترتي بي وأسأتِ تقديري؛ لذا فلن أمنحك ولو نصف فرصة ، هيا أخرجي.
انهالت على يديه تقبلها بتذلل ورجاء خائب وهي تبكي بانهيار وتقول:
_ لا، أرجوك سامحني، أرجوك سامحني من أجل بناتنا..
نظر إليها بنفور وقال بحزن يتخلل قلبه:
_ بناتنا ؟! أين هن ؟! إحداهما سيفنى شبابها بالسجن، والأخرى أصبحت تكرهك وتكره بيتها بسببك ، أين هي حياة برأيك ؟ ألم تلحظي اختفائها ؟ حياة غادرت ولن تنظر بوجهك للأبد. عادت إلى بيت زوجها وستبقى وحيدة وهي في أشد الحاجة إلينا وكل هذا بسببك. حياة ستعيش يتيمة الأب والأم بالرغم من أن والديها على قيد الحياة بسبب جشعك وبشاعة قلبك. حياة أصبحت لا تريدك كأم، وأقسم أن عنبر أيضا أصبحت لا تريدك كأم، وأنا أيضا لا أريدك، هيا أغربي عن وجهي حالا.. هيا يا خسيسة يا عديمة الضمير.
جرحت كلماته كرامتها بشدة وأيقظت الروح الشريرة بداخلها فنظرت إليه بغضب واستياء وقالت:
_ لن أغادر !
نظر إليها مصدوما وقال:
_ مجددا ؟! هل تجادلين مجددا ؟! هل لا زلتِ تملكين الجرأة لكي تعترضي ؟!
_ نعم. هذا بيتي ولن أغادره أبدا. لن أذهب وأبقى بالشارع في حين أنني أملك بيتا يأويني.
_ لم يعد، هذا لم يعد بيتك. لقد طلقتك، وسأطلقك رسميا لكي تنقطع كل أحبال الوهم التي تتشبثين بها.
نظرت إليه بغيظ وغضب وأردفت:
_ حسنا، إلى أن يحدث ونتطلق رسميا لن أتحرك من هنا ، هذا بيتي ما دمت زوجتك وعلى ذمتك.
أخذ يقلب كفيه متعجبا من وقاحتها وجرأتها وقرر استخدام آخر بطاقة لديه فقال بنبرة صارمة لا تقبل النقاش:
_ إن لم تخرجي من هذه الغرفة فورا وتجمعي أغراضك وتغادري بصمت سأتصل بالشرطة وأخبرهم أنكِ أقدمتِ على قتل ابنة أخي، والشاهد موجود .. كريم !
فغرت فاها وحملقت به بدهشة فعلم أن تهديده قد أصاب هدفه فقال:
_ هيا أخرجي حالا.. حالا .
هدر بالكلمة الأخيرة فانتفضت بمكانها ونظرت إليه فإذ بها تجد عينيه وقد تحولت لكؤوس من الدم فعلمت أن الغضب قد بلغ منه مبلغه، فخرجت من الغرفة صاغرةً ودخلت إلى غرفتها وارتدت عباءتها ثم أحضرت حقيبتها وجمعت بها بعضا من ملابسها وجزدانها وغادرت المنزل وهي تبكي بقهر حقيقي تختبر مذاقه لأول مرة.
__________
كان يتنفس بصوتٍ عال، يلهث وكأنه يركض خلفه وحشًا يطارده ، وجبينه يتصبب عرقا بغزارة ، يهز رأسه بخوف وهو يستمع إلى كلمات حنان وهي تقول " عنبر هي من قتلته ووضعت له السم بالطعام " ثم تقفز عبارة أخرى أقسى وأمر إلى ذهنه عندما قالت جدته " جميعكم تسببتم في قتل والده وسجن والدته " وعبارات أخرى متداخلة وأصوات مخيفة يتلوها أصوات صراخ وتحطيم ثم يفتح عينيه فجأة وينظر حوله ليجد أنه كان يواجه كابوسا ، لا ليس كابوسا وإنما هو عبارة عن استرجاع ذهني لما عاناه وعاشه قبل ساعات قليلة ظلت محفورة بذهنه ولن تغادره أبدا.
أخذ كريم ينظر حوله بخوف شديد ، فوجد صبر ينام بجواره بينما حسان ينام فوق الأريكة بزاوية الغرفة، فنهض من مكانه ونزل من السرير، ثم تقدم نحو هاتف حسان ونظر إليه ليجد الساعة وقد أشارت إلى الثانية صباحا، فانقبض قلبه ووقف يتمتم:
_ لماذا تأخر جدي؟ لقد وعدني أنه سيبعث لأخذي من هنا ولكنه لم يفِ بوعده.
وأخذ ينظر حوله بخوف وسالت دموعه وهو يقول:
_ لا يمكنني أن أبقى هنا. أريد العودة إلى عمي عزيز وخالتي حنان.
وتسلل نحو الباب وهو يسير على أطراف أصابعه ثم فتح الباب وخرج !!!!
_________
يتبع
حب_في_الدقيقة_التسعين!
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق