Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثالث والاربعون 43 - بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثالث والاربعون 43 - بقلم نعمة حسن 

_٤٣_


~ لوحة مرعبة !! ~

_________


تقف بمكانٍ مظلم، مُوحش للغاية، يُسري الرهبة بنفسها والقشعريرة بأطرافها.


تتلفت يمينا ويسارا بحثًا عنه ولكن لا وجود له، فتحاول الصراخ باسمه والاستغاثة به ولكن صوتها كأنه قد حُجب تماما، وأمام هذا العجز الذي يلفها لم يسعها سوى أن تجثو على ركبتيها وتبكي بحرقة.


وفجأة انبعث صوته من مكانٍ بعيد جدا، ملازما صوت الرعد المخيف الذي أرعبها وجعلها تصم أذنيها من شدة الخوف.


_ حياة، أنتِ بخير أليس كذلك ؟


أجابته وهي لازالت تضع يديها على أذنيها وتبكي:

_ لا ، لست بخير أبدا قاسم، أين أنت؟


_ لا، أنتِ بخير حياتي أشعر بكِ، كوني بخير لأجلي.


انهارت أكثر وصرخت بكل قوتها وهي تتلفت حولها بضياع وتقول:

_ أقول أنني لست بخير، لمَ تقرر بالنيابة عني؟ أنا أحتاجك بشدة قاسم أرجوك..


وجثت على ركبتيها مجددا بانهيار وتابعت:

_ أرجوك لا تتركني هنا ، أرجوك قاسم.


برز صوته مجددا ولكنه كان بعيدا جدا فكانت تسمعه بالكاد وهو يقول:

_ لا تخافي يا حياتي، يا طوق نجاتي، لا يليق بكِ الخوف حياة، أنا دائما أستمد منكِ قوتي وصمودي.


_ ولكنني الآن ضعيفة جدا بدونك قاسم، أحتاجك بشدة أرجوك لا تتركني بمفردي .


غاب صوته فجأة فأخذت تنادي بقوة تارة ، وتصرخ تارة أخرى ، حتى عاد إليها صوته الخافت يقول:

_ سنلتقي قريبا حياة، أقرب مما تخيلين ، بمجرد أن تفرقي ما بين جفنيكِ ستجدينني أمامك.


_ لا، لا تتركني قاسم من فضلك.


_ لستِ بمفردك حياة. لا تنسي، بمجرد أن تفرقي ما بين جفنيكِ ستجديني أمامك.


_ لا.. لا تذهب قاسم.. قاسم.. قااااســـم.


اختفى صوته تماما تزامنا مع هطول الأمطار بقوة، وهذا ما جعلها تنهض من مكانها سريعا وتختبئ أسفل شجرة ضخمة عملاقة ظهرت أمامها للتو. جلست أسفل الشجرة لتحتمي بها ريثما تتوقف الأمطار وأسندت رأسها إليها ثم غفت غفوةً قصيرة. 


و فجأة انتفضت عندما شعرت بشيءٍ ما يصطدم برأسها فنظرت حولها فإذ بها تجد تفاحتين بجوارها. إحداهما حمراء والأخرى خضراء . فمدت يدها وأمسكت بكلتا التفاحتين وأخذت تنظر إليهما بحبور وهي تحدث نفسها وتقول:

_ يا إلهي، أنا حقًا جائعة.


وهمت بقضم التفاحة الأولى ولكنها فوجئت بوالدها واقفًا أمامها ويقول:

_ لا تفعلي.


نظرت إليه بتعجب فقال:

_ هما لَيستا للأكل، وإنما للزينـة !


نظرت إليه بتعجب واستفهام وقبل أن تتسائل عن مقصده كان قد اختفى فجأة كما ظهر فجأة.


وفجأة فتحت عينيها ليتخذ منها الأمر وقتًا حتى استوعبت أنه كان مجرد حلم ليس إلا. اعتدلت حتى جلست وأسندت رأسها على ظهر الفراش وبدأت تنظر حولها وهي تسترجع أحداث المنام الذي رأته ثم همست بإحباط:

_ ها قد فرقتُ ما  بين جفنيَّ ولم أجدُك يا قاسم الكذاب.


غص قلبها واختنقت العَبـرات بعينيها، ثم وأدت دمعةً بمحجرها وفاءا منها بوعدها لنفسها ألا تذرف عليه دمعة واحدة مجددا، ثم حمحمت لتجلي حلقها و عقصت شعرها كعكة استعدادا منها للنزول من الفراش والتوجه إلى الحمام.

ولكنها توقفت فجأة ومدت أنفها للأمام وهي تقطب حاجبيها بتعجب وتقول:

_ ما هذا ؟! ما هذه الرائحة! أشم رائحة تفاح قوية جدا تتغلغل إلى أنفي.


وفي تلك اللحظة ومض عقلها بمشهد الشجرة والتفاحتين اللتين رأتهما بمنامها فازدادت حيرتها وبدأت تحدث نفسها وتقول:

_ هل هي صدفة أن أرى التفاح بمنامي وأشم رائحته بيقظتي؟! أم أنه فصل جديد من فصول الـوِحام التي لا تنتهي؟! وهل رائحة التفاح هذه حقيقية أم أن الجائع يحلم بسوق الخبز !


وانحنت تحدث جنينها وهي تمسد بطنها برفق وتقول:

_ أم أنك أنت من تشتهي التفاح يا صغيري؟ إن كنت تشتهيه سألبي رغبتك حالا. لقد قطعت وعدا على نفسي أن ألبي كل حاجاتك حتى لو خالفت حاجاتك رغبتي، أنت أولا وأخيرا ودائما يا حبيبي . 


فتحت حقيبتها وأخرجت منها دفترها الخاص الذي تدون به رسائلها اليومية إلى قاسم وبدأت تكتب:

_ ( إليك يا قاسم الكذاب الحنون.. اشتقتك كثيرا. اشتقت لعناقك وقبلاتك ورائحتك التي كنت أنفر منها مؤخرا، اشتقت لرائحة عطرك الممزوجة برائحة سجائرك التي كانت تُسكرني وتجعلني فريسة سهلة لك كما كنت تخبرني دوما، اشتقت لوجودك بقربي حبيبي ، إلى كلمة حياتي، كهرمانة، اشتقت لرائحة أنفاسك بالقرب مني، لا أعرف كيف ستمضي الستة أشهر اللعينة تلك، الساعات تمضي ببطء وكأنها أعواما طويلة، لا أظنني سأبقى وفية لوعدي طويلا ، أعتقد أنني سأنقض وعدي وآتي إليك هرولةً كي أنعم بدفء عناقك ولو لثوانٍ قليلة، أحتاج لتلك الثواني أكثر مما تتخيل. 

اليوم رأيتك بمنامي، لا، لم أرك. سمعت صوتك فقط. أخبرتني أنني سأجدك بجواري بمجرد أن أفتح عيناي ولكنك كذبت عليّ، ها أنا أجلس بمفردي أفتقدك. لن تصدق ما الذي رأيته بمنامي أيضا ! كنت أجلس أسفل شجرة عملاقة ، وكأنني كنتُ أكتشف الجاذبية، وفجأة سقط على رأسي تفاحتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء ، وعندما هممتُ بأكلهما منعني أبي وأخبرني أنهما للزينة. لا أعرف أيُ تفاح للزينة هذا ، لا أعرف سوى التفاح الحرام والذي أشاهده يوميا كي أجدُ سببا مقنعا للبكاء لأني أرفض أن أعترف أمام نفسي أنني أبكي شوقا إليك.. ولكن الحقيقة المؤلمة أنني أشتاقك فعلا قاسم، أشتاقك يا مُعذبي الجميـل )


أغلقت الدفتر، ثم أعادته حيث كان بحقيبتها، ثم نهضت من السرير وخرجت من غرفتها قاصدةً الحمام ولكنها توقفت فور أن استمعت لصوت جدال حاد بين والديها وكأن القيامة قد قامت بغرفتهما فأسرعت نحوهما على الفور.


_ أنتِ لا تفهمين أبدا، من أعطاكِ الحق كي تصرفيها بتلك الطريقة قليلة التهذيب؟ من سمح لكِ بهذا؟


هكذا هتف صالح بغضب وانفعال وهو يوجه أصابع الاتهام العشرة نحو صفية التي تقف أمامه متخصرةً بيديها وقد ثارت ثائرتها وجن جنونها تماما فقالت:

_ أنا من سمحت بذلك. لقد انتهى دورها ولم نعد بحاجتها، أساسا أنا لم أرحب بوجودها من الأساس ولكني اضطررت إلى القبول نزولا عند رغبتك أنت ولأنك كنت تمنعني من خدمتك وتمريضك. ولكن الآن الوضع قد اختلف. أنت تتعافى تدريجيا والحمد لله ولم نعد بحاجتها. ثم أن طبيب العلاج الطبيعي أكد أنه من الضروري أن تزاول بعض الأنشطة بمفردك ودون حتى الاعتماد عليّ. برأيك ما الداعي للإبقاء عليها هنا ؟!


نظر صالح إلى حياة التي تراقب المشهد دون تدخل وقال:

_ أرأيتِ حياة؟ أمك الحنونة قد طردت الممرضة التي أتت إلى بابنا خصيصا لمراعاتي دون حتى الرجوع إليّ.


نظرت صفية إلى حياة كذلك وقالت باندفاع غاضب:

_ لم نطلب منها أن تأتي مجددا، لقد طلبت إجازة لمدة أسبوع لظروف طارئة وخلال هذه الفترة هاتفتها و أخبرتها أننا قد استغنينا عن خدماتها، لماذا أتت مجددًا ووضعت نفسها بذلك الموقف المخجل إذًا ؟!


كان صالح على وشك ضرب رأسه بالحائط من ورائه من شدة انفعاله وغضبه الذي بلغ مبلغه وأخذ يستغفر محاولا التنفيس عن غضبه لكي لا يصاب بجلطة جديدة غير التي لم يتعافَ منها بعد.


بينما صفية قد انطلق لسانها على آخره وطفقت تكيل له الاتهامات وتقول:

_ من البداية ومنذ اليوم الأول الذي رأيتها به هنا وأنا أشعر من نظراتك أنك معجب بها.


نظرت إليها حياة بصدمة وتمتم صالح بقلة حيلة:

_ أستغفر الله العظيم.


_ مثلما رأيت بعينيها نظرات الإعجاب والتقدير نحوك والرغبة في التودد والتقرب إليك بأي وسيلة ولكنني كنت أقف لكما بالمرصاد دوما وأقطع عليكما الطريق.


ردد صالح بصوت أعلى وبنفاذ صبر:

_ أستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله.


_ لقد أنقذت بيتي من الخراب سيد صالح، و أنقذتك كذلك من الوقوع في براثن هذه الماكرة صائدة الرجال التي كانت تتحيّن الفرصة المناسبة للإيقاع بك.


كتمت حياة ضحكاتها بصعوبة بينما كان صالح يدلك صدره بتعب وهو يقاوم كي لا يستسلم لأعراض الذبحة الصدرية التي تقترب منه لا محالة ، ويشغل لسانه بالاستغفار محاولا الالتهاء عن ثرثرتها وطنينها فوق أذنيه بكلامها الفارغ هذا.


_ من المفترض أن تشكرني لأنني زوجة أصيلة تحافظ على بيتها وزوجها وتقف في وجه النساء الماكرات مثلها.


نظر صالح إلى حياة بعجز وقلة حيلة وكأنه يستنجد بها كي تنجده من لسان أمها السليط الذي سيودي بحياته فتحركت فورا نحو أمها وقالت بلطف:

_ كلنا نشكرك أمي، ولكن من فضلك أنا أحتاج للحديث مع أبي الآن بصفة ضرورية.


نظرت إليها والدتها بحنق وقالت:

_ ولكنني لم أكمل حديثي مع والدك بعد.


_ أعرف، ولكن ما أحتاج لقوله الآن أهم من حديثك عن خاطفة الرجال ومحاولاتها المستميتة للإيقاع بأبي في شباكها؛ لذا من فضلك أمهلينا بعض الوقت.


تنهدت بضيق وقالت:

_ هل هو حديثا خاصا ؟ أنا أمك إن كنتِ نسيتِ ولست أم الجيران.


هنا صدح صوت صالح الذي قال متهكما بغضب:

_ من حسن حظهم.


نظرت إليه صفية بصدمة و كانت بصدد توجيه ردا ناريا نحوه ولكن حياة تدخلت وقالت وهي تحاول تلطيف الجو بينهما واستمالة عطفها:

_ أبي يقصد من حسن حظنا نحن، أرجوكِ لا تغضبي ، هيا أمي من فضلك أشتهي التفاح كثيرا، أرجوك اذهبي واشتري من أجلي.


_ ولكن التفاح موجود بالمطبخ .


_ هذا أحمر، أريده أخضر من فضلك.


نظرت إليها أمها بحنق وقالت باستهجان:

_ لا داعي لكل هذه المراوغة يا ابنة صالح، على كل حال كنت سأنصرف.


خرجت صفية بعد أن شملت صالح بنظرة صارخة مليئة بالتحدي والتحفز، فأغلقت حياة الباب وتنهدت بتعب، ثم تقدمت من والدها وهي تضحك وجلست بجواره فقال:

_ أتضحكين؟ ستصيبني بجلطة جديدة أقسم لكِ.


ربتت حياة على يديه وقالت:

_ أعوذ بالله ، سلمك الله من كل أذى يا أبي. أتعرف؟ لأول مرة أرى أمي تغار كبقية النساء!


_ تغار؟ وهل هذا الجنون يسمى غيرة ؟


أومأت بتأكيد وقالت:

_ بالطبع غيرة ، صدقني أبي أنا أفهم أمي جيدا لأنني شعرت بنفس الشعور سابقا وأعرف كيف تكون حالة المرأة عندما تغار على رجلها.


وأسقطت رأسها أرضا وهي تتذكر اليوم الذي شعرت فيه بالغيرة على قاسم عندما رأته يبتسم لتلك الممرضة واشتعلت النيران بقلبها.


فطن والدها سبب الصمت المفاجئ الذي اجتاحها وربت على وجنتها بحنان وقال:

_ لا تتجاهلي مشاعرك يا حياة، لا تتجاهلي رغبتك في البكاء، ابكي .


وكأنها كانت تنتظر منه الضوء الأخضر لكي تفعـل؛ فانخرطت في نوبة بكـاء عاتيـة وأخذت تشهق وتبكي بلوعة، ثم ارتمت على كتف والدها وأخذت تنتحب بقوة وهي تقول:

_ أشتاقه كثيرا أبي، كنت قد عاهدتُ نفسي ألا أشتاق إليه أو أفكر به ولكن العكس تماما هو ما يحدث. لم أستطع التوقف عن التفكير به أبدا ولو للحظة، أحتاجه بشدة.


كان صالح يشعر بتمزق نياط قلبه حزنًا على حالة ابنته تلك، مد يده يمسح بها على شعرها وقال:

_ سيمضي ويزول يا حياة، الحمد لله كل ما في الأمر ستة أشهر وليس ست سنوات. سيمرون صدقيني وعندما يخرج وتأنسي بوجوده من جديد ستشكرينه على هذه الخطوة وتوقنين وقتها أنه قام بها في الوقت المناسب تماما.


نظرت إليه بتعجب فأومأ مؤكدا وقال:

_ أعرف أنها فترة صعبة، وأنكِ تحتاجين لوجوده بجوارك بشدة، ولكن تخيلي الأمر بعد سنة مثلا؟ أن يترك طفله وزوجته ويسلم نفسه ، كيف ستكون حالتك أنتِ وطفلكما في ظل غيابه ؟ كيف سيكون حاله هو وقد ترك طفله وحُرِم منه كل تلك المدة؟ على الجانب الآخر عليكِ ألا تكوني أنانية وأن تفكري بالطفل البرئ صبر، ما ذنبه أن يُحرم من أبيه كل تلك المدة بدون أي وجه حق؟ فكري لو أنه لاقدر الله ساءت حالته مجددا أليس من حقه أن يكون والده بقربه، فكري أيضا بحسان، أليس من الظلم أن يُسجن على ذمة قضية وهمية ويعاقب على تهمة لم يرتكبها ويبقى بالسجن ريثما يقرر زوجك الاعتراف في الوقت الذي يراه مناسبا ؟؟ من يضمن أنه لم يكن ليموت بالسجن!! من يضمن أن لو كان قاسم انتظر الوقت المناسب لكما للاعتراف بما فعله أن يكون هذا هو الوقت الصائب فعلا لحسان وولده ؟! لا يصح إلا الصحيح حبيبتي ، لا تتركي زمام الأمور لقلبك أبدا لأنه سيضلك في أغلب الأحيان، ولكن دعي الأمر لعقلك وأنا أثق أنكِ حينها ستجدين أن ما فعله زوجك عين العقل.


أومأت حياة بموافقة عن اقتناع تام بما قاله والدها وإقرارا منها بأن كل حرف قاله صحيحا فعلا، فقبّلت يده بامتنان ومسحت دمعاتها وهي تقول:

_ أشكرك كثيرا أبي، من حسن حظي أنك أبي.


ابتسم صالح بحب وربت على يدها وقال:

_ ومن حسن حظي أنكِ ابنتي يا حياة. هيا أخبريني. هل حفيدي يشتهي التفاح فعلا أم أنها ذريعة لصرف والدتك.


ضحكت وقالت:

_ لا ليست ذريعة، أنا فعلا أشتهي التفاح ، على ذِكر التفاح لقد رأيت مناما غريبا يا أبي، والأغرب هو ما قلته لي في النهاية.


نظر إليها مستفهما وقال:

_ خيرا إن شاء الله ؟ ماذا رأيتِ وماذا قلتُ لكِ؟


قصت عليه حياة منامها بالتفصيل بدايةً من حوارها مع قاسـم وصولا إلى جلوسها تحت الشجرة وسقوط التفاحتين بجوارها وما قاله والدها لها.


_ أَليس غريبا ما قلته يا أبي؟ ماذا يعني أنهما للزينة ؟!


ظل والدها صامتًا للحظات طويلة وهو يراجع ما قالته بذهنه وعلى محياه ارتسمت ابتسامة جميلة، ثم نظر إليها مبتسما بانشراح وقال:

_ المال والبنون زينة يا ابنتي، والتفاحتين اللتين سقطتا على رأسك هما أولادك إن شاء الله.


نظرت إليه بتعجب وسرعان ما انفرجت أساريرها واتسعت ابتسامتها بسعادة مفرطة وقالت:

_ أولادي؟! هل تقصد أنني حامل بتفاحتين، أقصد بتوأم ؟!


ضحك وهو ينظر إليها بحنان ثم قال:

_ العلم عند الله، ولكنني أميل إلى ذلك التفسير إن شاء الله. 


شردت قليلا وتذكرت حديثها مع قاسم عن احتمالية إنجابها لتوأم وكيف أنها فزعت لمجرد التخيـل. فنظر إليها والدها مبتسما وأشفق على حالها ثم ربت على وجنتها وقال:

_ لا تفكري كثيرا حبيبتي ، ليفعل الله خيرا.


نظرت إليه مبتسمةً بهدوء وأومأت بموافقة ثم قالت:

_ إن شاء الله ، سأذهب لأتناول فطوري.


وانسحبت بصمت، ثم عادت إلى غرفتها وأوصدت الباب خلفها ثم عادت إلى فراشها وارتمت فوقه من جديد، شاخصةً ببصرها بعيدا وبالها مشغولا بالتفكير في المنام الذي رأته وتفسير والدها له.

_ توأم ؟! أيعقل ؟! يا إلهي أيعقل أن أكون حاملا بتوأم فعلا ؟ غير معقول.


التقطت هاتفها على الفور وقامت بالاتصال بحنان التي سرعان ما أجابتها وقالت:

_ صباح الخير حياة.


_ صباح الخير حنان، اتصلت بكِ لأنني لدي استفسارا هاما.


_ تفضلي.


_ هل يمكن أن أكون حاملا بتوأم ؟!


صمتت حنان للحظات بحيرة، ثم أجابت بتفكر:

_ كل شيء جائز حياة، ولمَ لا تكونين، ولكن.. صراحةً لا أعرف .. أقصد ما أدراني ؟!


_ ما أقصده هو أن من المفترض أن يكتشف الطبيب أنني حامل بتوأم لو كان هذا الأمر صحيحا أليس كذلك ؟


_ بلى، ولكن ليس ضروريا أن يكتشف الأمر منذ البداية على حد علمي، أعرف جارة لم تكتشف حملها بتوأم إلا في مرحلة متقدمة جدا من الحمل.


انفرجت أساريرها وقالت ببهجة:

_ هذا يعني أن هناك احتمالا أن أكون حاملًا بتوأم!


قطبت حنان حاجبيها بتعجب وقالت:

_ كل الاحتمالات واردة ولكني لا أفهمك، هل تتمنين توأما ؟!


صمتت قليلا ثم أجابت:

_ الأمر ليس كذلك ، على كل حال أود زيارة طبيبي اليوم وهناك سأشرح لكِ.


_ حسنا. 


_ كيف حال كريم؟ ألا يشتاقني أبدا هذا النذل ؟! 


تنهدت حنان بثقل وتردد، ثم قالت وقد بدا الضيق جليًا على صوتها:

_ حياة، المحامي أخبر عزيز أنه قد تم الحكم على عنبر بالسجن المشدد لمدة خمسة وعشرون عاما.


كممت حياة فمها بكفها تكتم شهقةً انفلتت بحسرة، وأجهشت بالبكاء بلا توقف، ثم قالت :

_ يا أسفي عليكِ يا عنبر، لا يعقل، هذا الحكم ليس عادلا أبدا. ما رأته عنبر بحياتها ليس قليلا أبدا، هذا ليس إنصافا بالمرة.


أطلقت حنان زفرة طويلة متألمة وأردفت:

_ حياة، لا أود إزعاجك ولكن إحقاقا للحق أقول أن لو المحامي وجدي هو من تولى القضية كان من المؤكد أنه سينجح في الحصول على حكم أخف من هذا، الجميع يقولون أن المحامي الذي وكلته زوجة عمي محامٍ فاشل.


أسندت حياة جبهتها على يدها وقد بدأت تشعر بالألم يفتك برأسها وقالت وهي تحاول التوقف عن البكاء دون جدوى :

_ أساسا أمي هي سبب كل شيء.. يا أسفي عليكِ يا عنبر، تجرعتِ كل أنواع الظلم في وجود عبدالله ، وبدلا من أن تتخلصي من ظلمه وجبروته وحقارته تخلصتِ من حريتك وحكمتِ على نفسكِ بالمـوت البطيء.


_ حياة، لقد طلبت من عزيز أن يُرجئ موضوع إخبار عمي بهذا الخبر لأننا نخشى أن تسوء حالته مجددا، وأرى أنه من الأفضل ألا تخبري أمك الآن لأنها بالطبع ستخبره.


_ للأسف حنان، أبـي ينتظر الحكم بفارغ الصبر، وانتظاره هذا ليس في صالحه أيضا لأنه يعيش تحت الضغط النفسي والعصبي طوال الوقت ويفكر مليًا في مصير عنبر.. لذا علي أن أخبره في أقرب وقت. ولكني لا أعرف كيف سأخبره بهذا الخبر.. لا أعرف كيف سأقف أمامه وأنظر بعينيه وأنا أبلغه أن عنبر عوقبت بخمس وعشرين سنة. الأمر ليس هينًا أبدا 


في هذه اللحظة انفرج الباب فجأة وظهرت صفية من خلفه وهي تنظر إلى حياة بذهول وتقترب للداخل وهي تقول:

_ ماذا ؟ ماذا تقولين؟! 


نظرت إليها حياة بصدمة وأبعدت الهاتف عن أذنها تلقائيا وهي تنظر إلى أمها التي تدنو منها بهدوء يسبق العاصفة وتردد بغير تصديق:

_ كم سنة ؟ خمسٌ وعشرون سنة ؟ 


وفجأة صرخت وبدأت تلطم خديها بانهيار وهي تقول:

_ لاااا ، لا يمكن ، آاااهٍ يا عنبر .. يا أسفي على شبابكِ يا ابنتي ، يا ويلي على ما نزل بكِ يا حبيبتي.


نهضت حياة من فراشها واقتربت منها وهي تحاول إحاطتها بذراعيها لمواساتها وتقول:

_ اهدئي أمي من فضلك ، ستفقدين وعيك.


دفعتها صفية بعيدا عنها بلا مراعاة وقالت وسط انهيارها:

_ ليحدث ما يحدث، هل تهتمي فعلا ؟ كل ما حدث لأختك بسبب زوجك الخسيس، أختك ستتعفن وتموت بالسجن بسببه.. حسبي الله ونعم الوكيل في زوجك الحقير، لا أراه الله راحةً أبدا وحرمهُ نور عينيه كما حرمني ابنتي. 


تلقت حياة هذه الكلمات بذهول شديد ؛ ذهول جعلها تتسمر مكانها وهي تشعر بدبيب ضربات قلبها الذي يكاد أن يشق صدرها من قوة وعنف نبضاته ، حتى أنها شعرت أن كل ما يحدث أمامها الآن وهمًا من نسج خيالها وأن ذلك المشهد ما هو إلا مشهدا هلاميا ليس إلا.


خارت قواها فجلست مجددا على الفراش وأخذت تتابع رد فعل أمها الهيستيري وهي تردد أقسى الدعوات على قاسم مما جعلها تشعر بالنفور واقشعر بدنها فوضعت كفيها على أذنيها وأغمضت عينيها وهي تحاول عبثا أن تهرب من هذا الموقف الرهيب فإذا بوالدتها تنزع يديها من على أذنيها بكل قوة وهي تنظر إليها بغضب جامح وتقول:

_ لا تصمي أذنيكِ ، لا بد أن تسمعي جيدا ما أقوله وتقحميه إلى عقلك الغبي هذا، زوجك هذا شيطان، شيطاااان ، خطط ونفذ كما يحلو له ونجحت كل مخططاته من حسن حظه، حتى هذه التضحية والموقف البطولي الذي قام به مع حسان ليس نبلًا منه، أقسم لكِ أنه يدبر شيئا آخرا له أقسى وأحقر، أخرجه من السجن كما فعل تماما مع عبدالله كي يتلاعب به كيفما يشاء ، ونسيبه عزيز القذر يد الشيطان اليمنى هو من سيساعده في ذلك، مصير حسان سيكون نفس مصير عبدالله ومصير أختك سيكون نفس مصيرهما. 


ثم صمتت للحظات تلتقط أنفاسها ثم تابعت بحزم والشرر يتطاير من عينيها :

_ لقد حاولت إعطاءه فرصة من قبل لأجلك، ولكن بعد ما حدث فلن أنظر بوجهه أبدا، والآن هي فرصتك الأخيرة يا حياة، إن لم تطلبي الطلاق منه فلن تكوني ابنتي وسوف أُشهد الله أني بريئة منكِ إلى يوم القيامة.


خرجت صفية من الغرفة ولم تدخل إلى غرفة صالح لأنها تعرف أن تعقيبه لن يروقها أبدا، بل ارتدت عباءتها وخرجت من البيت متجهة إلى بيت عزيز.


بمجرد أن استمعت حياة إلى صوت الباب ارتدت ملابسها وجمعت أغراضها ثم خرجت من غرفتها نحو غرفة والدها الذي كان يجلس ممسكًا بمصحفه يقرأ فيه وهو يبكي بشدة.


اقتربت منه فانتبه لوجودها، وضع المصحف بجواره ثم نظر إليها ومن ثم إلى حقيبتها وقال:

_ إلى أين أنتِ ذاهبة يا حياة؟


_ إلى بيتي يا أبي، أنا وأمي لن يسعنا مكانا واحدا من الآن فصاعدا.


نظر إليها بقلة حيلة وكفكف دمعاته وقال:

_ لا تذهبي يا حياة، تعرفين أنها قالت ما قالته بسبب حزنها على عنبر، ابقي بجوارها .


_ أعتذر منك أبي، لن أستطيع الخضوع لابتزازها أبدا، لا يمكنني التغاضي عن دعواتها القاسية والغل والكره الصريحين إلى زوجي، مهما كان موقفي منه ولكنني لن أقبل بإهانته أبدا.


_ أنا أعتذر لكِ بالنيابة عنها يا حياة، لا يمكنكِ تخيل صدمتها وشعورها الآن، إلتمسي لها العذر.


_ أنا من أعتذر منك يا أبي، هذه الفترة التي أمر بها صعبة ومجهدة للغاية، تستنزف كل طاقتي وتحملي، بالكاد أتعايش وأحاول جاهدةً لكي أتكيف مع ظروفي، لذا لن يكون بمقدوري أبدا تحمل أمي أيضا ، أرى أنه من الأفضل أن أبتعد لأنها كلما رأتني ستتذكر زوجي وما فعله.


_ لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكيف ستعتني بنفسك بمفردك؟ ثم أننا بانتظار حلول الشهر الكريم، هل ستقضينه بمفردك ؟ هذا لا يصح أبدا.


اقتربت منه وقبلت وجنته وقالت بابتسامة منكسرة:

_ لا تقلق أبي، سأكون بخير، ثم أنني أثق أن دعواتك الطيبة سترافقني أينما ذهبت.


ودعها صالح بنظرات منكسرة حتى غابت عن عينيه واستمع إلى صوت باب الشقة فأطلق العنان لدموعه وأخذ يبكي ويشهق بقهر وهو يردد:

_ اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه . 


_______________


كانت سارة تجلس بذلك المكان الذي اعتادت الجلوس به بعيدا عن ضجيج المقاهي المزدحمة والأماكن التي تعج بالناس من كل الأعمار والفئات.


تمسك بيديها كوبا من القهوة المثلجة تحتسيه على مهل، شاردةً تفكر في حوارها الأخير مع قصي، وكيف تنصلت من الإجابة وأخفت الأمر ككل مرة بالرغم من عقدها النية أنها ستخبره بحقيقة الأمر ولكنها تتراجع.


_ كم أنتِ جبانة يا سارة، والدك ليس مجرما، وليس كل مسجونا مجرما، لا ينبغي أن تخجلي منه وكأنه مدعاةً للخزي والعار، أنتِ أشجع من هذا .


أومأت وكأنها تؤكد لنفسها صحة قرارها هذا بل وتشجع ذاتها لكي تتحلى بأكبر قدر من الجرأة والشجاعة حتى تتم هذه المهمة سريعا.


_ سأذهب إلى البيت حالا ، بالتأكيد سيكون بانتظاري ، لن أهرب منه هذه المرة ، سأقف أمامه بكل جرأة وأخبره بالحقيقة كاملة وبعدها له حرية القرار، إن كان يحبني حقا فلن يهتم بالأمر كثيرا ، وإن لم يتقبله وصرف نظره عن عرض الزواج فلن أخسر كثيرا. رد فعله هو من سيحسم الموقف.


التقطت حقيبة يدها ونهضت لكي تغادر ولكنها تفاجئت عندما رأته يدخل المقهى وبرفقته عددا من رفاقه.


نظر إليها مبتسما وللعجب لم يندهش أو يتفاجأ فأدركت أنه كان يعلم بوجودها هنا وتأكدت من ذلك عندما تقدم نحوها مبتسما ابتسامته الساحرة المتألقة وقال:

_ كنتِ تنوين الهرب ؟


قطبت حاجبيها بتعجب ورددت:

_ الهرب ؟!


أومأ مؤكدا وأردف:

_ الهرب الذي تنجحين فيه كل يوم. ولكن يؤسفني أن أخبرك أن لا مفر مني، كل الطرق تؤدي إليّ يا سارة.


اهتز قلبها وابتلعت ريقها بتلعثم فنظر إلى النادل الذي التقط الإشارة فورا وقام بإطفاء الضوء وأشعل بدلا منه ضوءا خافتا رومانسيا، ثم قام بتشغيل موسيقى هادئة. كل هذا وسط اندهاش سارة التي توجهت نحوها كل الأنظار.


في تلك اللحظة أخرج قصي نفس الخاتم من جيبه وأعطاه لها وهو يقول مبتسما:

_ كان من المفترض أن أجثو على ركبة واحدة وأقدم لكِ الخاتم كي يكتمل المشهد ولكن اعذريني، وقاري يمنعني من القيام بهذه الحركة الاستعراضية.


واقترب خطوةً وأردف:

_ هل تتزوجيني سارة؟


نظرت إليه بصدمة وكأنها تتلقى هذا العرض منه للمرة الأولى، احتقن وجهها بالدماء وشعرت بجبينها يتصبب عرقا وهي تنظر إليه وقد تاهت الأحرف من على شفتيها. ولما امتنعت عن الكلام نظر قصي إلى أصدقائه وقال بصوت مرتفع:

_ حسنا يا رفاق، سأفعل ما أحضرتكم من أجله، أردت أن تكونوا جميعكم حاضرين هذه اللحظة، لأن هذه اللحظة ستكون لحظةً فارقةً بكل تأكيد.


ونظر إليها مجددا وأمسك بيدها وهو ينظر إلى رفاقه وقال:

_ أقر أنا وبكامل قواي العقلية أني قد وقعتُ في حب جارتي المتمردة الآنسة سارة حبيب.. ابنة رجل الأعمال الكبير السيد حبيب أبو المكارم. وأقول لها أمامكم أني لن أرضى بغيرها بديلا أبدا، ولن أيأس ولن أتراجع مهما كانت الظروف.


ثم وقف أمامها ونظر إلى عينيها مباشرةً وقال:

_ ألا أستحق منكِ فرصة لكي أثبت لكِ مدى عشقي يا مدللتي؟ 


أحست بالبرودة تسري في أطرافها وجف حلقها من فرط التوتر .


_ حسنا، لا داعي للكلام، يقولون أن الصمت علامة الرضا. 


قالها قصي بفرحة ونظر إلى رفاقه والحضور جميعا ثم قال بابتسامة مبتهجة:

_ وأخيرا نلتُ موافقتها، صحيح أنها لم توافق ولكنها لم ترفض أيضا وهذا في حد ذاته إنجازا، تعرفون خجل الفتيات بالطبع.


تعالت ضحكات الحضور وهمساتهم حيث أبدوا جميعا إعجابهم بهذا العرض الرومانتيكي عندما صفقوا تصفيقا حارا وارتفع صفير الشباب مشجعين لصاحبهم الذي بدت عليه علامات السعادة والسرور وهو يقول:

_ وبمناسبة هذا الخبر السار وددت مشاركتكم الفرحة جميعا ؛ المقهى تحت أمركم وجميع الطلبات مدفوعة .


حيّاه الجميع بامتنان وتمنوا لهما السعادة فنظر إلى ساره التي لم تتخلص من ذهولها بعد وقال:

_ ونحن أيضا لا بد أن نحتفل..


_ كفى.


قالتها وهي تسحب يدها من بين قبضته عنوةً وغادرت المكان مسرعةً دون أن تلتقط حقيبة يدها مما أثار دهشة قصى وتساؤلات الجميع، فأخذ قصي الحقيبة ولحق بها فورا ليجدها تقف بصدد استدعاء إحدى سيارات الأجرة فأمسك بذراعها يجذبها نحوه وهو يقول:

_ ما خطبكِ سارة ؟ ما الذي بدل حالكِ هكذا ؟!


نظرت إليه بغضب جامح وقالت:

_ ما خطبك أنت؟ ما فائدة هذا العرض المسرحي الذي قمت به قبل قليل؟ كيف تضعني بهذا الموضع المحرج ؟


_ أي موضع محرج؟ ماذا تقصدين؟


زفرت مطولا وهي تحاول استلهام الصبر والهدوء ثم نظرت إليه وقالت:

_ الأمر ليس بتلك البساطة قصي، أنت لا تعرف عني كل شيء.


_ بلى، أعرف عنكِ كل شيء، اسمك سارة حبيب أبو المكارم، تبلغين من العمر سبعة عشر عاما وبضعة شهور، ستلتحقين بالجامعة العام المقبل، والدك رجل أعمال مشهور ويعيش في كندا، ووالدتك سيدة فاضلة جدا..


انفلتت ضحكاتها بتهكم وسخرية مبطنة فأضاف ضاحكا :

_ كدتُ أنسى، أنتم تقطنون بنفس بنايتنا. 


وضحك على أمل أن ينجح في إضحاكها ولكن العكس تماما هو ما حدث؛ رآها وقد انهارت وأخذت تبكي بقوة فقال بصدمة:

_ سارة ، ما سبب بكاءكِ ؟ ما الخطب ؟!


نظرت إليه طويلا وهي تحاول استعادة رباطة جأشها وشجاعتها ثم قالت:

_ والدي ليس مسافرا ولا يعيش في كندا..


صمتت تراقب ردة فعله فرأته وقد قطب جبينه باستغراب فقالت:

_ والدي بالسجـن !


تجرد وجهه من الانفعالات تماما ونظر إليها بجمود ، وما لبث أن استوعب الأمر نظر إليها بذهول وقد فشل في إخفاء صدمته واستياءه وقال:

_ ماذا ؟ في السجـن ؟!!!!


كورت قبضتيها وهي تحاول استجماع كل قوتها في هذه اللحظة وأومأت بموافقة وأردفت:

_ نعم ، و لا زال لديه سبع سنوات كاملة حتى تنتهي محكوميته.


ازدرد ريقه بتوتر، ثم نظر إليها وهو يخشى إجابة السؤال الذي سيسأله ولكنه سؤالا مصيريا من وجهة نظره فقال:

_ ما هي تهمته؟ 


أغمضت عينيها للحظات وزفرت زفرةً طويلة تخفف بها الضغط الواقع عليها ثم قالت:

_ قتـل !


اتسعت حدقتيه بصدمة وذهول، بينما سارة كانت تنظر إليه بأمل وترقب، تأمل أن يزول ذهوله سريعا وأن يتجاوز الأمر ببساطة ويخبرها أن هذا الأمر لن يكون عائقا بينهما، ولكن على ما يبدو أن هذا مجرد وهم ! ظلت واقفة أمامه للحظات لم يتخطَ فيها صدمته وظل على جموده، فمسحت دموعها بهدوء وابتعدت عنه خطوات ثم استوقفت سيارة أجرة، لآخر لحظة كانت تأمل أن يمنعها من ركوب السيارة ولكنه لم يحرك ساكنا فاستقلت السيارة وهي تبكي بلوعة الحب والخذلان.


_______________


كانت حنان تقف بالمطبخ وبرفقتها كريم الذي يساعدها في إعداد البيتزا كما طلب منها وهما يتحاوران فقالت:

_ هل أنت مستعد للصيام هذه السنة يا كيمو ؟ أنت لم تعد طفلا ضعيفا، بل أراك أصبحت رجلا قويا ويمكنك صيام اليوم كاملا.


نفخ عضلاته بحماس وقال:

_ بالطبع سوف أصوم اليوم كاملا، كم يوم بقي على حلول شهر رمضان ؟


_ أسبوع فقط.


فرك يديه بحماس ثم قال:

_ وهل صبر أيضا سيصوم ؟


أجابته وهي تفرد العجين وتنظر بعيدا بشرود:

_ لا، حالته تمنعه من الصيام لأنه يتناول العديد من الأدوية على مدار اليوم ، ولكن في العام المقبل إن شاء الله سيكون قد تعافى وأصبح باستطاعته الصوم.


_ وهل في العام المقبل أمي ستكون موجودة؟


نظرت إليه بتفاجؤ ثم حاولت رسم الإبتسامة على شفتيها وهي تقول:

_ إن شاء الله.


لم يبدُ أنه اقتنع بإجابتها أو أن تلك الإجابة المقتضبة كانت شافيةً بالنسبة له، ولكنه تجاوزها وسأل مجددا:

_ وهل سيكون عمي قاسم موجودا ؟!


انتفض قلبها بين ربوعها وابتسمت ابتسامة حنين منكسرة وقالت:

_ إن شاء الله سيكون موجودا.


ورسمت ابتسامة عريضة على شفتيها وقالت:

_ هل أخبرك خبرا سارا ؟ حياة ستنجب طفلا، سيصبح لديك ابن أو ابنة خالة تهتم به أو بها.. 


وصمتت للحظات وهي تتذكر كلام حياة ثم ضحكت وأردفت:

_ أو بهما ، الله أعلم.


التمعت حدقتيه بحماس فمالت نحوه وحملته ثم أجلسته على طاولة المطبخ فضحك قائلا:

_ هل يُحمل الرجال بتلك الطريقة ؟!


ضحكت وقالت:

_ مهما كبرت وأصبحت رجلا ستظل بنظري طفلي المدلل ، هل لديك مانع؟


ضحك بحب صادق وأردف:

_لا، ليس لدي مانعا، ولكن .. كنتِ قد وعدتِني أننا سنزور أمي.. متى إذًا ؟


اهتزت ابتسامتها بتردد وقالت بصوتٍ خافت:

_ إن شاء الله ، في أقرب وقت.


كان كريم بصدد طرح المزيد من التساؤلات ولكن ما أنقذ حنان هو جرس الباب، فذهبت لتفتحه وصُعقت عندما رأت صفية بهيئتها الغاضبة المتجهمة تقف بالباب وهي تسند يدا إلى إطار الباب الخشبي، ويدا أخرى على خصرها وهي تنظر إليها بتحفز وتقول:

_ أين كريم ؟!


قطبت حنان جبينها بتعجب وقالت:

_ تفضلي ، أهلا بكِ.


_ لا أهلا ولا سهلا ، أريد حفيدي، سآخذه معي، أين هو ؟


واقتحمت الشقة فجأة وأخذت تبحث عنه وهي تنادي :

_ كريــم.. حبيبي لقد أتيت بطلب من جدك صالح لكي تأتي وتبقى معنا.


تحدثت حنان بحرج وتردد وقالت:

_من فضلك زوجة عمي..


قاطعتها صفية وهتفت بصوتٍ قاسٍ حاد :

_ ماذا تريدين حنان هانم؟ حفيدي سيبقى معي من الآن فصاعدا، نحن أحق برعايته وتربيته ولستِ أنتِ. من تكونين أنتِ من الأساس؟ لستِ أمه ولا خالته ولا عمته..


قاطعتها حنان بغضب وقالت:

_ ولكني زوجة عمه، وعمه هو الوصي الوحيد عليه بالقانون، وطالما أن كريم تحت وصايته فلن يحق لكِ ولا لأي مخلوق أن يتحكم فيه أو يفرض سيطرته عليه.


اشتعل فتيل غضب صفية ونظرت إليها شزرا وقالت:

_ أحسنتم، أحسنتم جميعا.. لقد دبرتم ونصبتم الشِرك لأمه المسكينة وألقيتم بها إلى السجن ثم استوليتم على ابنها ووضعتموه تحت سيطرتكم.


نظرت إليها حنان بغضب وتحذير وقالت بصوتٍ خافت:

_ ما هذا الذي تتحدثين فيه، الولد سيسمعك.


_ وهل أخفيتم عنه الحقيقة كذلك ؟ بالطبع لن تجدوا ما تقولوه له ولن تستطيعوا تبرير موقفكم الدنيء أمامه، ماذا ستقولون له ؟ هل ستقولون أنكم جميعا تكاتفـتم وألقيتم بأمه في السجن لخمس وعشرين عاما وتتـفـننـون في إيهامه أنكم تحبونه وتسهرون على راحته..


_ اصمتي، ما تقولينه ليس صحيحا أبدا. نحن لم نفعل ذلك، ما تقولينه ليس في صالح حفيدك بالمرة.


_ مصلحة حفيدي أنا أعرفها أكثر منكم جميعا يا خونة يا عديمي الضمير، ولا تتوهمي يا ماكرة أنتِ أو أخيكِ الحقير أو زوجكِ خائب الرجاء ذاك أنني سأترك حفيدي تحت رحمتكم أبدا. لاا.. سأطالب بوصايته مهما كلفني الأمر، سأنفق كل قرشٍ أملكه لكي أسترد حفيدي وأربيه على عيني، لن أتركه معكم لكي تصنعون منه مجرما آخرا. يكفي إجرام .


كان كريم يختبأ خلف باب المطبخ يسمع ويشاهد ما يدور بأعين مذعورة، كان خائفا جدا في هذه اللحظة وكل ما يشغله أن يختبيء لئلا تعرف جدته مكانه وتأخذه رغما عنه.


بينما صفية تبحث عنه في الأرجاء بجنون وهي تصرخ باسمه:

_ كريــم.. أين أنت ؟ جئت لآخذك لكي تبقى معنا، سنعتني بك جيدا وخالتك حياة ستلعب معك أيضا، لا بد أن تترك هؤلاء المجرمين .


نظرت إليها حنان بغضب شديد وقالت:

_ كفى زوجة عمي والتزمي بحدودك إذا سمحتِ، نحن لسنا مجرمين وما تفعلينه هذا لن يضر سوى حفيدك .


نظرت إليها صفية نظرة أخرستها وقالت:

_ أنتِ آخر من يتحدث عن حفيدي، هل سمعتِ؟ تريدين السيطرة عليه لكي يكون لكِ عوضا عن ابنتك التي ماتت ولكن هيهات ، حفيدي لن يكون ابنا لكِ أبدا مهما فعلتِ، لا بد أن يعرف حقيقتكم جميعا وأن يعرف أن الملائكة الذين يحيطون به من كل جانب ما هم إلا شياطين خبيثة ظالمة، تسببوا في قتل والده وسجن والدته.. نعم.. أنتم السبب، وكريم لا بد أن يعرف ذلك حتى يعرف مع من يتوجب عليه أن يقف.


طالعتها حنان بصدمة وهي تقول بغضب:

_ ما هذا الهراء ؟! نحن لم نتسبب بقتل عبدالله ، عنبر هي من قتلته ووضعت له السم في الطعام، نحن لسنا مسؤولين عن ذلك، اللعنة، ما الذي تحاولين فعله؟ أنتِ ستدمرين الولد بما تنوين قوله.


_ الدمار الشامل فعلا أن يبقى معك أيتها الشيطانة المستترة، أنتِ تنفذين مخططات أخيكي الحقير ، أنتِ وزوجك مجرد أدوات رخيصة بيده الحقيرة يحرككما كيفما يشاء ويستعملكما فيما يشاء وهو يجلس بالسجن بكل أريحية.


_ ما هذا ، ما الذي تقولينه ؟ أنتِ لستِ طبيعية أبدا أقسم بذلك، ولولا احترامي لعمي كنت سأقوم بطردك من بيتي حالا.


نظرت إليها صفية بغضب وحنق وهي تقول:

_ وأنا لست متيمة بكِ وببيتك لكي أبقى، سآخذ حفيدي وأنصرف ولكن ليس قبل أن أخبره الحقيقة كاملة.


وأخذت تفتش عنه في الغرف بينما هو قد دخل إلى الحمام وأوصد الباب من الداخل.


_ كريم… كريـــم.. أين أنت يا ولد ؟


أمسكت حنان يدها وهي تحاول منعها من اقتحام المطبخ وهي تقول:

_ يكفي إلى هذا الحد ، من فضلك غادري حالا.


دفعت صفية يدها بعيدا عنها ولم تبالِ بها ودخلت المطبخ وهي تبحث عن الطفل دون جدوى فنظرت إليها بغضب وانفعال وقالت:

_ أين كريم؟ أين حفيدي تكلمي.. ماذا فعلتم به ؟


أشارت حنان نحو الخارج وهي تحاول التماسك قدر الإمكان لئلا تثور ثائرتها أو تعاملها بقلة تهذيب وقالت بغضب مكتوم:

_ أخرجي من هنا حالا وإلا سأتصل بالشرطة وأخبرهم أنكِ تتهجمين على ببيتي .. أخرجـــي حالا !!!!


صرخت حنان بالأخيرة بغضب وحدة، ثم ساد الصمت فجأة عندما استمعتا إلى صوت بكاء كريم بالحمام، فنظرت صفية نحو الحمام بصدمة وهي تقول:

_ هل حبستِ الطفل بالحمام ؟


نظرت إليها حنان بصدمة مماثلة وقد فاجئها الاتهام وقالت:

_ تبا، ما هذا الجنون؟ 


اقتربت صفية من باب الحمام هي تحاول فتحه عبثا ثم صرخت بوجه حنان وقالت:

_ أعطني المفتاح حالا يا مجرمة ، هل وصلت بكِ الدناءة والإجرام أن تحبسي حفيدي بالحمام ؟ 


كانت حنان قد فقدت أعصابها وسيطرتها على نفسها تماما وأخذت ترتجف وهي تبكي وتقول:

_ توقفي عن قول ذلك ، الباب موصد من الداخل.. 


ضربت صفية بكلتا قبضتيها فوق الباب بعنف وهي تقول:

_ كريــم.. هل تسمعني حبيبي ؟ لا تخف، ستخرج من هنا حالا.. لن أدعك وسط أولئك المجرمين ابدا .


جذبت حنان ساعدها وهي تحاول إبعادها عن الباب لكي تفتحه ولكن صفية قاومتها بقوة وصرخت بوجهها:

_ لن أخرج، سأقوم بكسر الباب وإنقاذ حفيدي.


_ كفاكِ صراخا سترهبين الطفل بالداخل ، ما الذي تفعلينه بربك ؟


_ ابتعدي، ابتعــــــــدي !!!


صرخت بالكلمة الأخيرة وهي تدفعها للخلف بكلتا يديها بقوة فسقطت حنان فوق طاولة زجاجية مستديرة فتهشم الزجاج بالكامل فوق حنان التي سقطت فاقدة للوعي، والدماء على وجهها ترسم لوحةً مرعبة !!


_____________


يتبع

حب_في_الدقيقة_التسعين!


• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين  " اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات