رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الخامس والثلاثون 35 - بقلم نعمة حسن
_٣٥_
~ رحلتي من ملاك لشيطان! ~
_____________
_ أنتِ طالق حياة!
قالها وفتح الباب وخرج دون أن ينظر إليها حتى أو أن يهتم بردة فعلها، خرج موليًا ولم يكترث بتلك المسكينة التي تركها وراءه تنظر باتجاه الباب بصدمة وذهول وهي تحاول أن تتكلم، أو تصرخ ولكنها لم تجد صوتها لتفعل وفجأة شعرت بأن الأرض تميد بها وسقطت فاقدةً للوعي.
على الفور أسرع عزيز بحملها وقام بوضعها على الأريكة المجاورة ثم ذهب للمطبخ لإحضار كوب ماء محلى بالسكر كما أمرته صفية التي جلست بجوار ابنتها وهي تتحدث بشفقة وعينين دامعتين وتقول:
_ يا إلهي ارفع عنا غضبك، ماذا حدث لكِ يا ابنتي، بسم الله عليكِ حبيبتي..
حاولت إفاقتها وأخذت تمسح على جسدها وهي تقرأ بعضا من الآيات القرآنية حتى أفاقت حياة من إغمائها وأخذت تتطلع حولها بتيه وتقول:
_ أمي، أين ذهب قاسم؟ هل طلقني فعلا ؟
وأجهشت بالبكاء بمرارة وهي تتحدث إلى عزيز قائلة:
_ هل قاسم طلقني فعلا عزيز؟ أم أني كنت أتوهم؟
أطرق عزيز برأسه أرضا ولم ينطق وما أنقذه من هذا المأزق هو اتصال حنان فانصرف نحو الشرفة على الفور.
_ أمي أخبريني، لقد طلقني قاسم، ماذا سأفعل أنا؟ كيف يمكنني الابتعاد عنه؟
ناولتها أمها كأس الماء وساعدتها لتشربه وهي تقول بحزن:
_ ما هذا الذي تفعلينه بنفسك حياة! إهدئي حبيبتي ولا تفكري بشيء.
نظرت إليها بعيون مستنكرة وقالت:
_ كيف لا أفكر بشيء؟ أقول لكِ قاسم طلقني، كيف استطاع فعلها بتلك السهولة؟
وأوصدت عينيها وهي تبكي وتنتحب بقسوة شديدة فقالت أمها :
_ ماذا كنتِ تنتظرين منه حياة؟ هل أنتِ موهومة؟ هل صدقتِ أنه يحبك فعلا؟ هذا الوغد من نفس فئة عبدالله أجحمهُ الله لا يحب سوى نفسه فقط.
ثم لان صوتها وخفت نسبيا وقالت بحدة أخف:
_ اسمعيني حياة، قاسم هذا لم يتزوجك إلا ليستخدمك كوسيلة للسعي إلى انتقامه، أنتِ كنتِ مجرد أداة، وعندما فشل في استخدامك ألقاكِ في سلة مهملاته، وهذا العرض المسرحي الذي فعله أمامنا الآن والتأثر الذي بدا على وجهه ودموعه التي استدعاها ببراعة ، كل هذا ما هو إلا حبكة متقنة تدرب عليها كثيرا كي يستطيع الفرار دون أن يرف له جفن، وهذا ما حدث بالفعل، طلقكِ وغادر بكل أريحية وكأن شيئا لم يكن.. مثل هذا الشخص لا ينبغي أن تحزني عليه ساعة واحدة من عمرك !
نهضت حياة وتركتها ترغي وتزبد بمفردها، ثم دخلت غرفتها وأوصدت الباب خلفها وضمت وسادة قاسم لأحضانها وأخذت تبكي بقهر!
_________
مر قاسم بالمشفى ليطمئن على حالة عمه ولكنهم منعوه من الدخول واكتفوا بإخباره أن حالته مستقرة ويمكنه المغادرة بعد يومين على الأكثر، فقام بدفع حساب المشفى وترك لهم مبلغا تحت الحساب وغادر، استقل سيارته وعاد نحو مدينته والقهر يبدد إحساسه ويمحو كل معالم الحياة بداخله.
بعد مرور ثلاث ساعات..
صف قاسم سيارته أمام البناية، ثم ترجل ليلتقي بسارة التي كانت تخرج من البناية وفور أن رأته هرولت نحوه واحتضنته بغتةً وهي تقول:
_ أين كنت يا رجل، لقد اشتقتك كثيرا!
ربت على كتفها بود صادق وابتعد عنها وهو يقول:
_ مرحبا سارة، كيف حالك؟
نظرت إليه مبتسمة وقالت:
_ بخير، أين كنت كل هذه المدة؟ حاولت الاتصال بك كثيرا ولكنك لم تجب!
هز رأسه مع ابتسامة قصيرة وقال:
_ أعتذر، لم أكن متفرغا أبدا.
_ لا عليك، أين حياة؟ هل هي بخير؟
رق قلبه واهتز بدنه عند سماع اسمها ولكنه لم يتخلَ عن ابتسامته وقال:
_ هي بخير، عن إذنك سأصعد للاطمئنان على أختي، أراكِ لاحقا.
فر هاربا من أمامها وصعد لشقته، فتح الباب ليتفاجأ بشقته وكأنها تحولت لمدينة ملاهِ صغيرة!
دخل وهو يتطلع حوله باستغراب إلى كم الفوضى الذي حل بالشقة، فكان يسير متمهلا وهو ينظر حوله ببطء متمهلا وكأنه يخشى أن يتفاجأ بأناس غريبين يتجولون بداخل الشقـة ولكنه لم يجد سوى الصمت!
اقترب من غرفة صبر التي خصصها له ولكنها كانت فارغة، فاقترب من الغرفة المجاورة لها ليجد الباب مواربًا فطل برأسه فإذ به يرى حنان وهي ترقد أرضا على ظهرها، باسطةً ذراعيها بجوارها ، وعلى ذراعها الأيمن يرقد صبر وعلى الذراع الآخر كريم، والثلاثة يتخذون نفس الوضعية حيث يضعون قدما فوق الأخرى.
كان قاسم على وشك الحديث وإخبارهم بوجوده ولكنه انتبه بأنهما ينسجمان معها وهي تحكي لهم حكاية شيقة على ما يبدو لذا استحوذت على اهتمامهم فوقف ليستمع إليها وهي تقول:
_ كان الصياد سعيدا بحياته، راضيا دائما على عكس زوجته التي مهما فعل لأجلها لم يكن يستطيع جعلها راضية أبدا، وفي يوم ذهب الصياد للبحر كالمعتاد، ألقى بصنارته للماء وانتظر، وبعد ساعات أمسكت الصنارة بشيءٍ ما، ظل يسحب ويسحب واندهش عندما رأى سمكةً ذهبيةً عملاقة تلمع بشدة في طرف صنارته. وما إن سحبها خارج الماء حتى تحدثت السمكة وأخبرته أنها أميرٌ مسحورٌ يحقق لكل شخص أربع أمنيات فقط!! ولكن عليه أن يحرره أولا ويلقيه بداخل الماء مرة أخرى لأن السحر لن ينتهي مفعوله إلا إذا حل عقدات السحر الأربعة ، وكلما قام بتحقيق أمنية من الأربعة نقصت عقدة من عقدات السحر؛ لذا ألقى الصياد بالسمكة المسحورة في الماء وغادر إلى زوجته مذهولا يحكي لها ما حدث معه، وما كان منها إلا أن انفعلت وعنّفته بشدة وطلبت منه أن يرجع للأمير المسحور ويطلب منه أن يحول ذلك الكوخ إلى بيت جميل، عاد الصياد وأخرج السمكة وطلب منها أن تحول كوخه إلى بيت جميل فحدث، فرحت زوجته جدا ولم تنم ليلتها من شدة الفرح، وفي اليوم التالي أخبرت زوجها أن هذا البيت ضيق جدا وطلبت منه أن يذهب للأمير المسحور ويطلب منه أن يحول البيت الصغير إلى قصرٍ كبير وأن يجعلها ملكة تتربع على عرش ذلك القصر، فعاد الصياد مثقلا إلى البحر وأخرج السمكة وطلب منها ذلك وعندما عاد وجد زوجته وقد تحولت لملكة تجلس على عرش القصر وكانت سعيدة للغاية، ولكن هذه السعادة لم تدم طويلا، فلقد طلبت منه في اليوم التالي أن يذهب إلى الأمير المسحور ويطلب منه أن يحولها من ملكة لإمبراطورة..
قاطعها صبر قائلا:
_ وطبعا هذا الصياد عديم الشخصية عاد إلى الأمير المسحور وطلب منه أن يحول زوجته من ملكة لإمبراطورة.
ضحكت حنان وأكملت:
_ صحيح، وعندما عاد الصياد لبيته فوجئ بقصرٍ ضخم يقف على بابه الحراس، دخل فوجد زوجته تجلس على عرشٍ إمبراطوري وابتسامتها تصل عنان السماء من فرط السعادة..
تحدث كريم قائلا بضيق:
_ أكيد هذه السعادة لم تدم طويلا أيضا.
رد عليه صبر قائلا بغيظ:
_ أقسم لو كانت زوجتي لألقيت بها للسمكة المسحورة حتى تتغذى عليها وأكون قد اصطدت عصفورين بحجر واحد، تخلصت منها وأسديت خدمة للسمكة.
ابتسم قاسم الذي كان يقف يراقبهم ويستمتع كذلك بالقصة، فضحكت حنان بشدة وتابعت:
_ وبعد أسبوع، أحست زوجة الصياد بأنها غير سعيدة، لذا طلبت من زوجها أن يعود للأمير المسحور ويطلب منه أن يجعلها تملك الشمس والقمر وتتحكم بهما فوق الغيوم، في البداية رفض ولكن في النهاية رضخ لأمرها..
علق صبر قائلا:
_ حقا عديم الشخصية.
تابعت حنان وقالت:
_ عاد الصياد للبحر وطلب من السمكة أن تلبي أمنية زوجته وعندما عاد تفاجأ بأن القصر غير موجود تماما.. عاد إلى الأمير المسحور وسأله عن زوجته فأخبره أنها طلبت أن تملك الشمس والقمر وتتحكم بهما فوق الغيوم، لذلك تحولت إلى سحابة. ثم اختفت السمكة فجأة، أخذ الصياد ينادي على السمكة ويطلب منها الخروج ولكنها لم تظهر، جلس على شاطئ البحر يبكي وفجأة تذكر عهده مع السمكة المسحورة، أن تلبي له أربع أمنيات وفي المقابل عن كل أمنية ستنحل عقدة من عقدات السحر ، فأدرك أنه قد استنفذ جميع أمنياته و أن السحر قد بطُل ولا سبيل لاستعادة زوجته مرة أخرى وأيقن أن الطمع قلّ ما جمع.
حينها صفق قاسم بقوة متمهلا وهو يقترب منهم ليتفاجئوا جميعهم بوجوده فنهضت حنان على الفور واحتضنته بقوة وهي تقول:
_ حمدا لله على سلامتك، متى أتيت؟
_ وصلت للتو.
احتضن صبر وكريم كذلك وجلس برفقتهما فقالت حنان بلهفة:
_ ماذا حدث معك؟ كيف خرجت؟ كنت أثق أنك برئ ومع ذلك كنت متخوفة بشدة.
ابتسم مربتًا على كتفها وهو يقول:
_ لا تقلقي، أنا بخير للغاية.
_ وأين حياة؟
سألته بهدوء فتلاشت ابتسامته تدريجيا ولم يجب فقالت:
_ كيف حال عمي؟ هل أصبح بخير؟
_ يتعافى!
_ وهل تركت حياة بمفردها هناك؟
تجهم وجهه وقال بضيق :
_ حياة ليست بمفردها، حياة لديها أمًا تقف بظهرها كالجبل.
استشفت تهكمه ولكنها شعرت بأن هناك خطبا ما لذا آثرت الصمت، نظر قاسم إلى صبر مبتسما وقال:
_ كيف حالك يا فرقع لوز ؟
ابتسم صبر وقال:
_ بأحسن حال كما ترى، الخالة حنان لا تدخر جهدا كي ترعاني.
نظر قاسم إلى أخته بامتنان وقال:
_ أنت محق، الخالة حنان خالة ودودة وحنونة للغاية، أليس كذلك ؟
أومأ صبر مؤكدا وأضاف:
_ وتحكي الحكايات بشكلٍ رائع.
انضم كريم إليه قائلا بحماس:
_ أجل، بالأمس كانت تحكي لنا حكاية بائعة الحساء الفقيرة.
ابتسم قاسم وقال:
_ أخبراني يا شباب، لو أنكما قابلتما يوما ما هذه السمكة المسحورة ماذا ستتمنان منها، بإمكانكما أن تعتبراني سمكة مسحورة ولكني سألبي لكلٍ منكما طلبا واحدا.
هتف صبر بحماس على الفور وقال:
_ هل يمكنك الاتصال بأبي وأن تطلب منه العودة؟ لقد اشتقته كثيرا.
تيبست ملامح قاسم واختفت ابتسامته مما أثار تعجب حنان التي تفاقم شعورها بالشك نحو قاسم.
نظر قاسم إلى كريم محاولا رسم ابتسامة على وجهه، هاربا من أمنية صبر وقال:
_ وأنت يا كريم؟ ما هي أمنيتك؟
شرد كريم قليلا ثم قال بصوتٍ بائس:
_ أمنيتي مستحيلة، أتمنى لو أن يعود أبي للحياة مجددا ونجتمع ثلاثتنا ، أنا وأبي وأمي
انقبض قلبه ونظر إلى حنان التي أطرقت برأسها أرضا وسالت دمعاتها، ثم نهض وهو ينوي الهرب إلى غرفته ولكن صبر استوقفه وهو يقول:
_ يا أيها الرجل السمكة، ألا تنوي تحقيق أمنيتي ؟
نظر إليه قاسم بهدوء يخفي خلفه بركانًا ثائرًا وقال:
_ لا تقلق صبر، سيحدث.
ودخل غرفته مسرعا وأوصد الباب تاركا خلفه حنان التي تنظر نحوه بشك وريبة.
______
دخل قاسم الغرفة وأخذ يتطلع بأرجائها وهو يتذكر اللحظات القليلة التي قضتها حياة بهذه الغرفة، فتح الخزانة ليجد حقيبتها الوردية فابتسم وفتحها لتتسع ابتسامته الممتزجة بالحنين وهو يطالع محتويات الحقيبة من ألبسة للنوم فأغلق الحقيبة مرة أخرى وتنهد بحسرة وهو يقول:
_ للأسف يا حياتي الغبية، هذا قدرنا.
جلس بشرفة الغرفة وأمسك بهاتفه وقام بالاتصال بالمحامي وجدي الذي أجابه على الفور قائلا:
_ مساء الخير قاسم، هل حدث معك شيئا آخر؟
_ لا تقلق أستاذي، في الحقيقة كنت أود استشارتك في أمرٍ هام، لدي صديقًا حُكِم عليه بثلاث سنوات بتهمة حيازة مخدرات، في الحقيقة المخدرات ليست له ولكنه اعترف أنها له تحت ضغط، الأمر معقد قليلا ولكني أردت معرفة ما إذا كان بإمكاننا مساعدته وتبرئته مثلا، أو على الأقل تخفيف الحكم عنه أم لا!!
تنهد وجدي بعد تفكير عميق ثم قال:
_ إذا أثبتنا أنه تم الضغط عليه أو ابتزازه أو مساومته فيمكننا تبرئته طبعا، هل لديك فكرة عن صاحب المخدرات الحقيقي؟
_ أجل، عبدالله.. وبالمناسبة تم القبض على عبدالله متلبسًا بالمخدرات وبعدها تم تبرئته لأن الآخر ظهر واعترف أنها له وأنه من دسها بالمحل.
همهم وجدي بتركيز ثم قال:
_ حسنا، أترك لي الأمر ولا تقلق، طالما أن عبدالله هو المتهم الحقيقي يمكننا فعل شيء لا تقلق لأن صحيفة سوابقه مليئة بالفعل، على كل حال سأفكر بالأمر سريعا وليفعل الله خيرا.
_ إن شاء الله ، مع السلامة.
أنهى قاسم الاتصال وانتبه لرسالة صوتية وصلته من حياة فكان بصدد فتحها ولكنه تراجع وربط حجرا على قلبه وألقى الهاتف ثم نهض ليدخل الحمام ويتوضأ استعدادا للصلاة.
__________
كانت حياة تجلس بفراشها وهي تبكي وهاتفها بيدها تحاول الاتصال بقاسم مرارا ولكنه يتجاهل اتصالاتها دوما مما جعلها تشعر بنصل سكينٍ حاد وكأنه انغرس بقلبها فأخذت تبكي وهي تضرب جبهتها بقبضتها وتلعن غبائها وتقول:
_ اللعنة عليكِ وعلى غبائك حياة، قاسم لن يسامحني أبدا مهما فعلت، حتى إن ارتميت أسفل قدميه لن يغفر لي هذا الخطأ أبدا، لقد خذلته، قاسم حبيبي يشعر بالخذلان بكل تأكيد، تبا لكِ ولرأسك الغبي حياة.
__________
كانت سارة تقف أمام البناية لاتزال بانتظار حسين السائق الذي أخبرها أنه سيقوم بتوصيل والدتها للنادي ويعود إليها، ولأنها رأت كم التعب والارهاق الواضحين على وجه قاسم لم تتجرأ وتطلب منه أن يوصلها إلى المكان الذي ستجتمع فيه هي وصديقاتها للاحتفال بانتهاء الامتحانات.
وبينما تقف شاردةً توقفت سيارة قُصي أمامها ونزل منها بوسامته المعهودة فاقترب منها مبتسما وهو يقول:
_ مساء الخير جارتي العزيزة.
ابتسمت على استحياء وقالت:
_ مساء الخير قصي، كيف حالك؟
_ أنا بخير، إلى أين تذهبين؟
_ سألتقي برفيقاتي.
_ حسنا يمكنني توصيلك للمكان الذي ستجتمعن فيه.
_ لا لا شكرا لك، أنا أنتظر السائق.
ابتسم وهو يهندم خصلاته البنية قائلا:
_ هيا سارة سأوصلك، الأمر منتهي.
استدار وفتح لها باب السيارة فركبت بحرج بينما ركب هو خلف المقود وانطلق متحركا وهو يرمقها بابتسامة من فينة لأخرى ثم قال:
_ لمَ لا تملكين سيارةً خاصة حتى تتحركي بأريحية وقتما شئتِ؟
ابتسمت وقالت:
_ في الحقيقة عرضت الموضوع على والدتي ولكنها ترى أنني لا زلت صغيرة حتى أملك سيارة خاصة، وصراحةً أنا أرى أنها محقة، ليس بعد.
ابتسم وهو يهز رأسه مؤكدا ثم نظر إليها نظرة خاطفة وهو يقول:
_ على ما يبدو أن علاقتك بوالدتك أفضل من علاقتك بوالدك، بالمناسبة، أين هو؟ هل يعمل بالخارج؟ سألتك لأني لم أرَه منذ سكنّا بالبناية.
توترت وشحب وجهها ثم همت بالرد ولكنها تلعثمت وتقطعت أحرف كلماتها ثم هزت رأسها بتوتر وهي تقول:
_ أ.. أجل.. نعم هو مسافر.
_ أين؟
_آآآ.. بكندا.. لديه عمله الخاص هناك.
أومأ متفهما ثم تساءل بهدوء وبساطة :
_ هل هو رجل أعمال؟
أومأت بموافقة وقالت:
_ أجل.
ابتسم ابتسامة مشرقة وقال:
_ أتمنى أن أتعرف عليه قريبا.
ابتسمت ابتسامة مهزوزة وقالت:
_ إن شاء الله.
ارتفع رنين هاتفها فأجابت بانفعال:
_ نعم حسين؟ لا تتعب نفسك لقد حصلت على المساعدة، حسنا مع السلامة.
وأنهت الاتصال فحانت منها التفاتة نحو قصي الذي لم يتخلَ عن ابتسامته فقال:
_ هل أنتِ بخير ؟ أشعر وكأن هناك ثمة خطب ما قد أصابك.
ابتسمت بتكلف وقالت:
_ لا أبدا، أنا بخير، شكرا لاهتمامك، على كل حال لقد وصلنا، أشكرك كثيرا.
ابتسم ابتسامة واسعة وقال:
_ لا داعي للشكر ، سررت برؤيتك سارة.
ومد يده ليصافحها فصافحته وابتسمت، ثم غادرت السيارة على الفور.
بينما ظل هو ينظر في أثرها ويتمتم بابتسامة:
_ سارة؛ الفتاة اللذيذة الغامضة !
_______
في اليوم التالي..
كانت حياة تجلس بالمستشفى برفقة والدتها في انتظار السماح لهما بزيارة والدها، بينما يقف عزيز بجوارهما وفجأة رن هاتفه فنظر إليهما قائلا:
_ حنان تتصل بي.
وابتعد عنهما مسافة آمنة بحيث تسمح له بالتحدث بحرية وأجاب قائلا:
_ نعم قاسم.
_ هل أنتم بالمشفى الآن؟
_ أجل، ننتظر ميعاد الزيارة.
_ إذا تحسنت حالة عمي أطلب منهم أن يسمحوا له بالخروج، أرى أنه من الأفضل أن يعود لبيته ويستكمل علاجه بالمنزل.
_ سأرى ما يمكنني فعله لا تقلق، هل حنان برفقتك؟
_ أجل، لا تقلق زوجتك بأمانتي.
تنهد عزيز وهو يهز رأسه براحة ثم قال:
_ وأنت أيضا لا تقلق، زوجتك بأمانتي.
صمت قاسم للحظات ثم قال باستسلام:
_ هل هي بخير؟
نظر عزيز إلى حياة التي تجلس بجوار أمها شاردة، هائمة على وجهها وقال بأسف:
_ لا أخفيك سرا، حالتها يرثى لها.
_ هل أمها بجوارها؟
_ أجل.
زفر قاسم مطولا بضيق وقال:
_ طالما أمها بجوارها ستكون بحالة يرثى لها بالتأكيد، اعتنِ بها عزيز من فضلك.
وأنهى الاتصال بضيق فعاد عزيز إليهما فسألته حياة بأمل:
_ هل هذه حنان؟ أم قاسم ؟
طالعتها أمها بطرف عينها والتزمت الصمت بينما أجاب عزيز:
_ حنان كانت تطمئن على عمي.
تشدقت صفية بنزق وتهكم:
_ بها الخيـر.
تجاهلها عزيز ونظر إلى حياة وقال بصدق:
_ وكانت تطمئن عليكِ أيضا.
نظرت إليه صفية بغضب مكتوم وقالت:
_ هي بخير، ابنتي ستكون بخير لو أن هذا المعتوه وأخته يبتعدون عن طريقها.
تنهد عزيز بضيق ولم يعقب وانتبه للمرضة التي أشارت لهم كدلالة لقدوم موعد الزيارة فركضوا جميعهم نحو الغرفة.
كان صالح يجلس بفراشه وقد بدا الاستقرار جليا على حالته، فابتسم لحياة التي اقتربت منه وقبلت يده ووجنته وقالت:
_ اشتقتك أبي.
مد يده اليمنى وربت على كفها ومسح بها على وجنتها وقال بثقل:
_ كيف حالكِ حبيبتي ؟
سالت دمعاتها رغما عنها فحاولت أن تتماسك ولكنها انفجرت بقوة في البكاء مما جعل والدتها تتحدث بحنق وتقول:
_ تسألها عن حالها؟ بعد أن وضعتها أمانة بيد الخسيس قاسم ؟ لقد طلقها.
نظر إليها والدها مصدوما فاقترب منه عزيز بخوف وهو يقول ممسكا بيده:
_ عمي أرجوك لا تكترث، ما حدث ليس مهما بقدر أهمية صحتك، كل شيء يمكننا مداواته مع الوقت، المهم الآن أن تتحسن وتخرج من هنا وتسترد عافيتك.
أومأت حياة بموافقة وقالت وهي تمسح دموعها:
_ صحيح، عزيز محق أبي، المهم الآن أن تتحسن وتخرج من هنا، أحتاجك بشدة بابا.
ابتسم صالح ابتسامة مهزوزة وربت بيده الحرة على يدها وهز رأسه وهو يحاول طمأنتها، ثم نظر إلى عزيز وقال:
_ استدعِ الطبيب.
خرج عزيز وقام باستدعاء الطبيب فقال له صالح :
_ أود مغادرة المشفى ، لم أعد أرغب في البقاء هنا.
نظر إليه الطبيب قائلا:
_ كما تحب، ستمضي على إقرار بالخروج على مسئووليتك الشخصية، وبعد أن تخرج يتوجب عليك متابعة العلاج من المنزل مع ضرورة الالتزام بالزيارات الدورية للمشفى.
أومأ صالح موافقا فخرج الطبيب كي يرسل الممرضة التي ستنهي الإجراءات ، فبدأت حياة ووالدتها تستعدان لمغادرة المشفى برفقة صالح.
________
كان قاسم يستعد للخروج من غرفته بعد أن تجهز للذهاب للمعرض بعد غياب دام طويلا، فإذ به يستمع إلى طرقات الباب فقال:
_ ادخلي حنان.
دخلت حنان وهي تبتسم على استحياء فابتسم قائلا:
_ تعالي حنونة، تقدمي.
وقفت أمامه وقالت بتردد:
_ صراحةً لقد ترددت كثيرا قبل المجيء إليك ولكني حسمت قراري في النهاية وجئت لأتحدث معك.
ابتسم بثقة وقال:
_ تريدين معرفة من هو صبر أليس كذلك ؟
ابتسمت وهزت رأسها بموافقة فقال:
_ ابن حسان.
_ حسان صديقك أليس كذلك ؟
_ أجل، حسان بالسجن وصبر سيبقى معي لحين خروجه.
_ كم سنه سيبقى بالسجن؟
_ محكوميته ثلاث سنوات ولكني أسعى لتحفيف الحكم عنه أو إثبات براءته، أتمنى أن أفلح في ذلك.
صمتت لدقائق ثم تساءلت بهمس خافت:
_ قاسم، هل لك يدًا في دخول حسان السجن؟
أشاح بوجهه للجانب الآخر، ونظر للأمام حيث موج البحر الهادر، وابتلع ريقه في وجل وقال باقتضاب:
_لا.
لم يكن من السهل عليه الاعتراف لها أبدا، يشعر بالخزي من نفسه ويشعر بالندم الشديد بعد أن رأى نظرات الفقد بعيني كلا من صبر وكريم، وهذا ما جعل إحساس الذنب ينبعث بداخله بعد أن كان قد أخمده لفترة، ولا ينقصه الآن أن يتلقى الاتهامات واللوم من أخته على ما فعله.
الوحيدة التي كان يقبل منها ذلك هي حياة، كانت هي صحوة الضمير الميت به دائما، كان يعرف أنها ستجلده بكل تأكيد ولكنه كان يخلع ثوب الفضيلة أمامها بكل سهولة، حياة وحدها هي من كان يتعرى أمامها بكل رضا وسلام.
ولكن حنان التي تقف أمامه الآن تتفحصه بنظراتٍ شمولية لم تكن لتنطلي عليها كذبته أبدا، لذا اقتربت منه ببطء فكان يفر منها بعينيه كالطفل المذنب إلى أن جلست أمامه مباشرةً وقالت:
_ ولكن عينيك تقول كلاما آخرا.
نظر إليها محاولا رسم اللامبالاة على محياه وقال:
_ وماذا تقول عيناي؟
تهدل كتفيها باحباط وقالت بضيق:
_ تقول أنك فعلت!
زفر قاسم مطولا بضيق وأسقط رأسه للوراء، أغمض عينيه وهو يحاول الانفصال عن ذلك الواقع المرير وقال بصوتٍ مرتجف:
_ نعم فعلت، أنا من أدخلت حسان السجن وأنا من أحاول إخراجه؟
سالت دمعاتها بصدمة وجاهدت كي تبث صوتها بهدوء وتماسك فقالت:
_ و لمَ؟
سألها بتلاعب ينوي منه الهرب وقال:
_ لمَ أدخلته السجن؟ أم لمَ أحاول إخراجه؟
سألته بجدية وقصف صوتها مدويا بغضب:
_ لمَ فعلت كل هذا؟ لماذا سجنته؟ ولماذا تحاول إخراجه؟ لماذا ألقيت سماهر بطريق عبدالله ؟ ولماذا بعت لنفسك كل أملاكه؟ لماذا تلاعبت بالجميع قاسم؟؟
فتح عينيه فجأة ونظر إليها بغضب جامح وقال بعنفٍ حاول إخماده لشهور طويلة:
_ ولماذا سامحتك؟ ولماذا سامحت زوجك؟ ولماذا وقفت بجوار القذرة عنبر بعد أن اتهمتني ثلاث مرات ظلما؟ ألم تخطر هذه الأسئلة برأسك هذا؟ أم أنكم جميعا لا ترون سوى سيئاتي؟
صمتت وأطرقت برأسها أرضا فاقترب منها في حركة مباغتة وأمسك برسغها وهو يطالعها بغضب قوي وقال:
_ أنتم جميعا ظلمتوني، إبتداءً منكِ يا حنان وختاما بحياة، أنا أصبحت أكره نفسي لأني فرد من هذه العائلة، عائلة لم أرَ منها خيرا أبدا..
أجهشت حنان بالبكاء بينما هو يتابع بغضب أعمى:
_ أنا ربيتك، ولم أتوقع يوما أن تطعنيني بظهري ولكنكِ فعلتِ، ومع ذلك وجدتُ لكِ ألف حجة وعذر لكي لا ينالك غضبي، ومع ذلك تسأليني الآن بكل برود لماذا فعلت ما فعلت؟!! أجيبك شقيقتي.. فعلت لأني لست ملاكا كي أتحمل الظلم عشر سنوات وأخرج من السجن بقلب أبيض كالحليب، فعلت لأني أنا من ضاع عمري هباءً، عشر سنوات قضيتهم في مكان مظلم لم أستحق يوما البقاء فيه ولو لساعة، فعلت لأنكم غدرتوا بي، جميعكم بلا استثناء.. جعلتوني أتذوق طعم الظلم والقهر والخذلان والوحدة، أنتم من عرفتوني على معنى الحقد والعداء، الفضل يرجع لكم جميعا لأنكم الدافع والملهم الأول والأوحد كي أخوض رحلتي من ملاك لشيطان!
وترك رسغها بقوة وابتعد المسافة التي تقدمها وأطرق رأسه للوراء مرة أخرى مغمضا عينيه مجددا ووضع ذراعه فوق عينيه فعلمت أن النقاش بينهما قد لقى حتفه فنهضت وغادرت الغرفة بصمت.
_______
بعد مرور ساعتين..
قام قاسم بالاتصال بعزيز فأجابه قائلا:
_ مرحبا.
_ أين أنت الآن؟
_ نحن الآن بطريقنا للعودة.
_ جيد، بعد أن تقوم بتوصيلهم للمنزل تعال وخذ زوجتك.
تساءل عزيز باستغراب قائلا:
_ لماذا؟ ما بها حنان؟
تحدث قاسم بهدوء ولكنه لم يفلح في إخفاء ضيقه وقال:
_ زوجتك هذه رأسها فارغ، وصراحةً أنا قد بلغ ضيقي مبلغه من الجميع ولا ينقصني ثرثرتها ولن أتحملها على كل حال، أما أنت فرجل بصحة جيدة لن تتأثر بسخافاتها؛ لذا تعال وخذها ، يمكنكما الثرثرة سويا بشكلٍ جميل.
تنهد عزيز باستياء وقال:
_ حسنا، سأمر بكما حال وصولي، مع السلامة.
أنهى عزيز الاتصال وابتسم بأسف فقالت حياة:
_ هل كان هذا قاسم؟
أومأ بهدوء فهزت رأسها وأشاحت بوجهها نحو النافذة المجاورة لها وأغمضت عينيها وهي تشعر بالإعياء الشديد.
_________
كانت سارة تجلس بغرفتها شاردةً ، تتذكر ما حدث أمس باستياء وضيق، أمسكت بهاتفها وهي تفكر الاتصال بقاسم ولكنها تراجعت مجددا وهمست لنفسها وقالت:
_ لا تضغطي عليه أكثر سارة، أساسا الرجل يبدو مهموما ولديه ما يكفيه ، لا داعي ليتحمل أعباءً فوق أعباءه.
زفرت بضيق وقامت بالاتصال بإحدى صديقاتها ولكنها تراجعت أيضا وأنهت الاتصال ، وبينما هي غارقة وسط حالة من التشتت والضياع استمعت لطرقات على باب غرفتها فسمحت لوالدتها بالدخول فدخلت وهي ترسم على وجهها ابتسامة حانية، وبيدها تحمل كوبا من القهوة المثلجة وقالت:
_ لقد أعددتها لكِ. تفضلي.
تعجبت سارة هذا الاهتمام المفاجئ وقالت وهي تلتقط منها كوب القهوة:
_ شكرا لكِ.
جلست فتون على المقعد المجاور لسريرها وقالت:
_ ما بكِ؟ أشعر وكأنكِ لستِ بخير!
نظرت إليها سارة بإمعان وقالت:
_ تشعرين؟
أومأت فتون ببساطة وقالت:
_ أجل، ألست أمًا ؟ والأمهات يشعرون بأبنائهم دائما.
أومأت سارة بتأكيد وقالت:
_ أجل، أم تحت التدريب.
ابتسمت فتون برغم شعورها بالضيق ولكنها قالت بمرح:
_ أجل، ولكن لا يمكنكِ إنكار أني أم مجتهدة وأحرز علامات جيدة بخطوات أسرع مما تتخيلين.
ابتسمت سارة قائلة بنفس المرح:
_ حقيقةً أنتِ من الأمهات النجيبات، تستحقين وساما.
هزت فتون رأسها بفخر ثم قالت:
_ إذًا أنا جديرة بأن تثقي بي وتخبريني عما يشغلك.
تنهدت سارة بضيق وقالت بتخبط:
_ صراحةً لا أعرف السبب بالتحديد، أو أعرفه ولا أقتنع به..
ثم نظرت إلى أمها التي تنظر إليها باهتمام وابتسامة وكأنها تخبرها أنها ستفهمها مهما تلعثمت فقالت:
_ قصي، ابن الدكتور ممدوح.. تعرفينه..
هزت فتون رأسها أن نعم فتابعت سارة:
_ بالأمس عرض علي أن يوصلني عندما كنت أقف بانتظار حسين، قبلت وركبت معه فسألني عن أبي فأخبرته أنه مسافرا.
زمت فتون شفتيها بأسف بينما تهاوت دمعات ابنتها وقالت:
_ أشعر بالخزي من نفسي كثيرا، لقد كذبت لأني شعرت بالخجل من أن أخبره أنه مسجونا، بالرغم من أني كنت أعتقد أني فخورة بأبي أينما كان وكيف كان وضعه وأخبرته بذلك، قلت له أفتخر بك كثيرا أبي، ولكن ما فعلته هذا لا يوحي بصدق كلامي وشعوري أبدا.
وضعت كفيها تخفي بهما عينيها وهي تبكي فربتت أمها على كتفها وهي تقول:
_ لا بأس حبيبتي ، لا تحملي نفسك أكثر من طاقتها.
نظرت إليها سارة قائلة ببكاء:
_ أنا جبانة، لا أستطيع المواجهة، هربت من الحقيقة بالكذب والتنصل وهذا ما يشعرني بالأسى، أبي ليس مجرما لكي أستعر منه، سجن أبي لا يدعو للعار أبدا كي أخفيه.
ونظرت إلى أمها وهي تبكي وقالت بأرجاء أقرب منه لسؤال:
_ أليس كذلك أمي؟
كانت فتون تحاول رسم الابتسامة على وجهها ولكنها فشلت في النهاية وانفجرت باكية بدورها وظلت تتمتم بضياع وأسى:
_ أنا آسفة سارة، حقا أنا آسفة.
مسحت سارة دمعاتها بحسم وهي تتحدث إلى نفسها وتقول:
_ لا بأس، ما حدث قد حدث، عندما أراه في المرة المقبلة سأصحح له تلك المعلومة ، لن أكذب أو أتهرب من أي شيء يخص أبي من الآن، ثم من قصي هذا أساسا كي أهتم به أو بما سيظن أو يفكر، لا داعي للكذب أبدا.
أومأت فتون بهدوء وهي تقول باقتضاب:
_ صحيح، لا داعي للكذب، في النهاية كلنا بشر وكلنا نخطئ ، نحن لسنا ملائكة.
نظرت إليها سارة بارتياح وقالت:
_ أجل.
فنهضت فتون واقتربت منها ثم قبلت وجنتها وغادرت، أو بالأحرى هربت لغرفتها، وفور أن دخلت أوصدت الباب خلفها واندلع لهيب قلبها أكثر ففاض الدمع من عينيها بقهرٍ لا سبيل للخلاص منه.
____________
بعد عودة حياة ووالديها إلى البيت قام عزيز بالانصراف بعد الاطمئنان على عمه ووعده بزيارته يوميا.
دخلت حياة إلى غرفتها وأوصدت الباب، ثم وقفت تتطلع حولها وهي تتذكر اليوم الذي خرجت فيه من هذه الغرفة وهي عروس بالأبيض وكانت كالفراشة تطير بجناح السعادة والأمل وقد ظنت أنها ملكت الدنيا، لم تكن تعرف ما ينتظرهم جميعا، ولم تتخيل يوما أن تعود لهذه الغرفة بهذه الحالة التي هي عليها الآن.
جلست على فراشها وأخذت تتطلع نحو السرير المجاور الذي كانت تنام عليه عنبر وانخرطت في نوبة من البكاء ثم سرعان ما صمتت وتوقفت عن البكاء وهي تقول بغضب:
_ اللعنة عليكِ يا عنبر الكاذبة.
نهضت من فراشها وتوجهت نحو طاولة الرسم خاصتها وأخذت تتمتم بحسرة:
_ كان لدي طموحا أن أصبح فنانة تشكيلية ولدي معرضا خاصا وأن تشارك لوحاتي في المعارض الدولية، وها قد ضاعت سنة وتخلفت عن امتحاناتي بسبب ما حدث.
وزفرت بحنق وهي تردد:
_ لا بأس حياة، على كل حال لن تصبحي فان جوخ زمانك مهما فعلتِ.
وفجأة تذكرت اللوحة التي ضمت ملامحها وملامح قاسم، ففتحت الخزانة لتجدها بداخلها، أمسكتها وأخذت تتطلع إليها وهي تبكي بشدة وتقول:
_ أعتذر قاسم، أنا آسفة حبيبي.
جلست على الأرض وهي تبكي بانهيار وتردد بهيستيرية:
_ لم أستحق يوما أن تلقبني طوق نجاتك، لقد أغرقتك في بحور الظلم والخذلان كما فعلوا هم، لم أمنحك الثقة المطلقة كما وعدتك، لم أنجح في الاختبار الأول قاسم، اللعنة على غبائي كيف أمكنني فعل هذا بك.. ما الفرق بيني وبينهم إذا؟ أنا من كان يتوجب عليه الدفاع عنك والوقوف بجوارك ضدهم، ولكني لم أكن شجاعة بالقدر الذي ظننتني عليه، تركت رأسي الفارغ لأمي تملؤه كيفما شاءت ولم أفكر بالمنطق لدقيقة واحدة، لم أغامر حتى من أجل حبنا.
لم تكن تعلم أن صوت نحيبها قد وصل للخارج إلا عندما استمعت لصوت والدتها وهي تصرخ بها بجنون وتقول بغضب:
_ لا تتوقفي عن البكاء أبدا حياة هانم، لا تفعلي، وكأن هذا الطويل يستحق ما تفعلينه بنفسك لأجلك، إنه لم يتريث حتى لحين الاطمئنان على عمه وألقى بكِ كالخرقة المهملة في أول فرصة وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة بفارغ الصبر كي يطلقك ويحرق قلب أبيكِ عليكِ، هل هو انتقاما من نوع آخر أم ماذا؟
أحست حياة بالضيق ونفاذ الصبر فاقتربت من الباب وهي تحاول تجاهل شعورها بالإرهاق والخمول الشديد وفتحت الباب بكل قوتها وهي تنظر لأمها بغضب وقالت:
_ لن أسمح لكِ بالتحدث عن قاسم بتلك الطريقة مرة أخرى.
نظرت إليها أمها بصدمة وقالت:
_ ألا زلتِ تدافعين عنه يا غبية؟ افهمي يا عديمة الفهم، هذا النذل طلقك وانتهى، هل فهمتِ؟ كل شيء انتهى!!
فجأة أحست حياة بالإعياء الشديد وزاغ بصرها وشعرت بأن الأرض تتحرك من أسفلها وفقدت توازنها فسقطت مغشيا عليها.
هرولت صفية إلى صالح الذي كان يجلس بغرفته قليل الحيلة وأخبرته بفزع وقالت:
_ حياة أغمى عليها، اتصل بعزيز حالا كي يأتي لنأخذها للطبيب
ركضت إليها وجلست بجوارها وهي تحاول افاقتها وهي تبكي وتقول:
_ لماذا تفعلين ذلك بنفسك يا ابنتي؟ ستموتين بقهرك حياة، هو لا يستحق ذلك أبدا ..
بعد قليل فتحت حياة عينيها ونظرت إلى أمها بأعين تائهة دامعه فقالت صفية:
_ يجب أن نذهب للطبيب للاطمئنان عليكِ، هذه ليست أول مرة تتعرضين للإغماء، ربما تعانين من أنيميا حادة ونحن لا نعرف.
ارتفع رنين جرس الباب فذهبت صفية لتجد عزيز الذي دخل راكضا وهو يقول:
_ ماذا بها حياة؟ هل أغمى عليها مجددا؟
_ نعم، لا بد أن نذهب للطبيب للاطمئنان عليها.
دخل عزيز للغرفة فوجد حياة تجلس على حافة الفراش بتعب فقال:
_ استعدي حياة سنذهب لزيارة الطبيب حالا وحنان ستتبعنا إلى هناك.
تحدثت صفية وقالت:
_ سأبدل ملابسي حالا.
_ لا داعي يا زوجة عمي، أنا وحنان سنكون برفقتها، ثم أنه لن يكون لائقا أن تتركي عمي بمفرده.
ارتدت حياة عباءتها البسيطة على مضض وخرجت برفقة عزيز ليس لأنها تريد الاطمئنان على حالها ولكنها لا تطيق البقاء برفقة أمها في مكان واحد الآن.
استوقف عزيز سيارة أجرة تقله هو وحياة إلى العنوان الذي وصفته له حنان.
ثم ارتدت حنان ملابسها على عجالة وخرجت بعد أن أخبرت قاسم أنها ستذهب برفقة حياة للطبيب..
وبالرغم من قلقه وخوفه الشديد عليها ولكنه لم يظهر اهتماما كبيرا بالخبر.
التقوا ثلاثتهم بمركز الطبيب ودخلت كلا من حياة وحنان لغرفة الفحص وفجأة استوعبت المكان الموجودة فيه.. مركز دكتور علاء السويسي طبيب النساء والتوليد!!
نظرت إلى حنان بتعجب وهمست:
_ ماذا نفعل هنا؟
فتجاهلتها حنان ونظرت إلى الطبيب وبدأت تتحدث معه عن حالة حياة والأعراض التي تتعرض لها من إعياء وإغماء متكرر فطلب الطبيب من حياة الصعود لسرير الكشف على الفور.
تقدمت حياة لتنفذ ما طلبه منها الطبيب بغير فهم وهي لازالت تطالع حنان بتعجب وعدم فهم.
تمددت فوق السرير وبدأ الطبيب بفحصها بواسطة جهاز " السونار " ثم سرعان ما ابتسم قائلا:
_ مبارك مدام حياة، أنتِ حامل!
____________
يتبع..
حب_في_الدقيقة_التسعين!
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق