رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثانى 2 - بقلم نعمة حسن
_ ٢ _
~ المجرم الوسيم! ~
كان صالح يجلس على حافة الفراش بجوار زوجته وحاله لا يفرق كثيرا عن حالها، وجهه شاحبا والبرودة تسري في أطرافه حتى أنه شعر بالارتجاف قليلا.
_ صالح، لمَ أنت صامت هكذا؟ أليس لديك ما تقوله؟
_ ماذا عليّ أن أقول؟ كنا نعرف أنه مهما طال الزمن أكيد سيخرج من السجن ويعود إلى بيته، في النهاية هذا بيته ولن نستطيع منعه من البقاء به.
استمعت لكلماته وقالت بسخرية:
_ حقا؟ وماذا بخصوص إبنتك؟ ترى هل سيدعها وشأنها؟
_ أكيد، أنتِ لا تعرفين قاسم مثلما أعرفه أنا، قاسم شهم ولن يحاول التعرض لها ابدا.
_ قاسم شهم برأيك؟ أترى أن الشهم الذي سُجن ظلم وأفنى من عمره عشر سنوات كاملة عندما يخرج من السجن سيظل شهما كما كان؟
_ ها قد قلتِها، سُجن ظلم.
_ حسنا، ولكن هذا لا يفيد الآن، صالح.. ابنتك الآن متزوجة ولديها طفل وبالكاد إستطاعت أن ترمي الماضي وراء ظهرها وتنشئ حياة مستقرة مع زوجها، ولكن بظهور ابن أخيك الآن لن يكون شيء كالسابق أبدا صدقني. قاسم أكيد يفكر في الانتقام الآن.
نهرها صالح على الفور وقال بحدة:
_ بأية حماقة تتفوهين صفية؟ قاسم طيب وشهم ومعدنه أصيل، يعرف أنها لا ذنب لها فيما حدث، والآن برؤية طفلها وحياتها المستقرة أكيد لن يمسها بأذى أنا أثق به.
كانت صفية تضرب صدرها تارة وفخذيها تارة أخرى وهي تنتحب بصمت وقالت بإصرار:
_ لكن أنا لا أثق به، ولأكون صريحة معك لا أثق بابنتك.. يا إلهي لا يمكننا وضع النار بجوار الوقود.. قاسم لن يدعها وشأنها أنا متأكدة وهي لن تصمد أمامه كثيرا. حمقاء وأعرفها.
عنذ ذكر تلك السيرة هب واقفا بغضب وقال بحدة أجفلتها:
_ أية نار وأي وقود يا مخبولة؟ صفية اسمعيني وأبلغي بدوركِ هذا الكلام لإبنتكِ الحمقاء لأنني لن أكون متفهما أبدا إذا اضطررتُ لإبلاغها إياه بنفسي، أي خطأ من الآن فصاعدا هي وحدها من ستُحاسب عليه.. وحدها يا صفية.
كان بصدد الخروج من الغرفة فأسرعت تتشبث بيديه وهي ترجوه قائلة:
_ صالح أرجوك، اصعد وتكلم معه قليلا حتى تستشف ما ينوي عليه، انصحه أن يترك تلك الشقة ويستأجر غيرها في مكان آخر، حتى.. حتى أنه من الممكن أن نقايضه ببيت المعمورة إذا أحب، المهم أن يبتعد عن هنا بأسرع وقت.
زفر الرجل بغضب وقلة حيلة ولم يعقب، خرج صافقا الباب خلفه واتجه إلى شقة قاسم والتوتر قد أوهن ركبتيه.
|||||||||||||||||||
كان يستلقي نصف جالسًا وهو يمسك بهاتفه ويتحدث به بثبات يترك أثرا في نفس من يحدثه:
_ حسنا سيد أكثم ، سأمر بهم غدا وحينها نتحدث في التفاصيل. مع السلامة.
أنهى الاتصال وأمسك بالهاتف يقلبه بين يديه بشرود قبل أن يصل إلى مسامعه صوت جرس الباب.
نهض مخمنا هوية القادم وما إن فتح الباب حتى ظهرت ابتسامته الواثقة وهو يقول بترحيب:
_ عمي، أهلا بك.
عانقهُ صالح مربتًا على كتفيه وهو يقول بصدق:
_ حمدا لله على سلامتك يا بني، لقد اشتقنا إليك كثيرا والله.
_ وأنا اشتقت لكم يا عمي، تفضل.
ولج صالح وتقدمهُ قاسم للداخل مشيرا بيده إلى شرفة الصالون وهو يقول:
_ تفضل يا عمي، ما رأيك أن نجلس بالشرفة؟ كما ترى الشقة مغطاة بالأتربة والعنكبوت ينسج خيوطه في كل مكان .
ضحك عمه وهو يتفحص المكان من حوله بحنين وقال:
_ نعم، لو كنت أعلم ميقات خروجك كنت استدعيت إحدى عاملات التنظيف ولكنك فاجأتنا.
إبتسم قاسم وهو يبسط كفه أمامه مشيرا له بالدخول وهو يقول:
_ لا بأس، القليل من الأتربة والعناكب لن تضر، لقد تعايشت مع ما هو أسوأ بكثير فلا بأس.
ألقاها قاسم ضاحكًا أما عمه فلم تعرف الابتسامة سبيلا إلى شفتيه ، أومأ بصمت ودخل إلى الشرفة أسرع قاسم ينفض الغبار عن المقعدين اللذين تتوسطهما طاولة صغيرة مستديرة ثم أشار لعمه بالجلوس وجلس مقابله وقال:
_ كيف حالك يا عمي؟
_ بخير إبني، أنت كيف حالك؟
ابتسم الآخر برضا وقال:
_بأفضل حال كما ترى.. كيف حال زوجة عمي؟ سأمر لرؤيتها في وقت لاحق.
_ بخير بني، عادت لتوها من الخارج وستصعد لرؤيتك بعد أن تستريح، نستعد لزفاف حياة بعد العيد لذلك ليست متفرغة لحك أنفها حتى.
شبك قاسم أصابعه، وألقى نظرة خاطفة على الطريق من أمامه، ثم عاد بنظره إلى عمه وقال:
_ ممن ستتزوج حياة؟
_ شابًا محترم يدعى خالد، طبيبًا صيدلانيًا وصيدليته بميدان الساعة، وفوقها شقة الزوجية التي ستتزوج فيها حياة.
أومأ قاسم بهدوء وعاد يتأمل أضواء المدينة من حوله بشرود، ثم نظر إلى عمه مجددا وسأل بتردد:
_ و عنبر، كيف حالها؟
أحس صالح وكأن الكلمات جفت بحلقه ونظر إليه مشدوهًا، ثم تنحنح محاولا استعادة توازنه وأجاب باقتضاب:
_ بخير ، لديها الآن طفل يبلغ من العمر عشرة سنوات، وحياتها مع عبدالله مستقرة الحمدلله.
أخفى قاسم إنفعالاته ببراعة ورسم الرضا على ملامحه باحتراف وقال:
_ الحمد لله.
أسرع صالح يسأله:
_ وأنت؟ ألا تنوي الزواج والاستقرار؟
كان رجاءًا أكثر منه سؤالًا ؛ فأخشى ما يخشاه صالح أن يصدق حدس زوجته وأن يكون قاسم قد عاد لينتقم فقط!
التقط قاسم نبرته المهزوزة وملامحه المتوسلة بعينيه الثاقبتين وقال:
_ ليس بعد، لدي خططًا وطموحاتًا أهم من الزواج والاستقرار، ولكن على كل حال سأتزوج ، في النهاية لن أبقى أعزب ما تبقى من عمري.
تنهد صالح بارتياح جاهد في إخفائه وقال:
_ يفعل الله خيرا يا بني.
|||||||||||||||||||
في المساء.
جلست حياة أمام طاولة الرسم خاصتها والتقطت أحد الأقلام ثم رفعت شعرها بواسطته وبدأت بإكمال تلك الرسمة التي كانت بصدد إنهائها بالفعل قبل مجيء قاسم، قاطعها رنين هاتفها فأسرعت تلتقطه وأجابت بحماس شديد:
_ مرحبا حبيبي.
أتاها صوته الأجش الذي يثير عاطفتها بشدة وقال:
_ مرحبا عزيزتي، كيف حالكِ؟
_ بخير، وأنت ؟
_ أصبحت بخير الآن بعد أن سمعت صوتك.
تنهدت بحالمية واتسعت ابتسامتها مردفةً بحب:
_ اشتقتُ إليك كثيرا، لمَ لا نخرج سويا لبعض الوقت، أشعر بالملل الشديد.
_ أعلم حبيبتي ، ولكن للأسف لا أستطيع مبارحة الصيدلية تلك الفترة ، أعدِك أن أصطحبك قريبا ونخرج لأي مكان تفضلينه.
ابتسمت وقالت بلطف:
_ لا عليك يا خالد، أعلم أنك لست متفرغًا وأقدر ذلك، أنا فقط اشتقت إليك.
_ وأنا اشتقت إليكِ يا قمري، حياة.. لقد وصلتني أخبار أن ابن عمك المسجون قد أطلق سراحه اليوم. هل هذا صحيح ؟
أجابت بحماس:
_ نعم، بالمناسبة .. لا بد أن تتعرف عليه فهو شخصية لطيفة جدا ومرح و…
_ حياة.. لمَ عليّ التعرف على مجرمًا كهذا؟ لقد اتصلت بكِ كي أحذركِ من الحديث معه .. إياكِ وأن تتعاطي معه أو تجالسينه بمفردك، ولا حتى برفقة أهلك.. لا تظهري أمامه ابدا.
قطبت جبينها بتعجب من موقفه العدائي الغير مبرر وقالت بضيق واضح:
_ أولا قاسم ليس مجرم ، ثانيا هو ابن عمي وبمثابة أخ أكبر وأنا أثق به كثيرا، ثالثا والأهم أنا لن أقبل أن تتحدث عنه بتلك اللهجة أبدا.
على الجانب الآخر قصف صوت خالد مدويّا وهو يقول بعصبية:
_ ماذا دهاكِ حياة ؟ أقول لكِ أنه مجرم و….
كبح لسانه بصعوبة واستطرد محاولا التحلي ببعض الهدوء:
_ اسمعيني حياة، أنا لا أتكلم عبثا أبدا ولا أنطق بما لا أعلم، لقد تقصيت عن ابن عمك المبجل سابقا والمعلومات التي عرفتها غير مشرفة بالمرة ؛ لذلك أنا أطلب منك… لا.. أنا آمرك أن تبتعدي عنه تماما وأن تقطعي صلتك به نهائيا و إلا…
قاطعته حياة هاتفة بحنق وهي تقول:
_ و إلا ماذا يا دكتور؟
تنفس خالد الصعداء وقال برصانة أكبر جاهد في الحصول عليها:
_ قمري، اسمعيني من فضلك.. تعلمين كم أحبك، أليس كذلك ؟
_ بلى.
_ جيد، وتثقين في، أليس كذلك ؟
_ بلى.
_ ممتاز، عزيزتي.. ابن عمك هذا مصيبة ووقعت فوق رأس العائلة بأكملها، أنتِ لا تعرفين عنه شيئا مما أعرفه أنا.. ولأكون صريحا معكِ ما أعرفه لا ينبغي أن تعرفيه أنتِ.. أنا أعرفك جيدا.. حساسة وهشة للغاية ولن تتحكمي في ردات فعلك أمامه وإذا أخبرتك ما أعرفه قد تصفعينه في أول مرة يظهر فيها أمامك.
ابتلعت ريقها بصعوبة وخوف وهي تقول:
_ ما الذي تعرفه بخصوص قاسم؟ أخبرني حالا.
_ ما أعرفه لن يفيدك بشيء، قمري اسمعيني جيدا.. قاسم هذا مختل عقليا على الأرجح، أرجوكِ لا تتعاطي معه أبدا، عِديني.
اختلطت الأفكار والظنون برأسها وتشوشت بشدة حتى أنها لم تسمعه إلا عندما كرر طلبه:
_ عِديني قمري.
تنهدت حينها وقالت بإذعان:
_ حسنا أعِدك.
تنهد بارتياح قائلا:
_ حسنا حبيبتي ، والآن اذهبي للنوم كطفلة مطيعة ولا تكلفي نفسك عناء التفكير والتخمين، سأخبرك كل شيء في الوقت المناسب.. مع السلامه.
أنهت حياة الاتصال وظلت لدقائق شاردة لا تعرف ما الذي عليها أن تفكر به، اتصال خالد أربكها و شوش فكرها للغاية، وما تلك الحماقات التي تفوه بها؟ قاسم . مختل عقليا ؟!! مجرم؟!!! يا إلهي لا يعقل.. هي تعرف أنه حُكِم لعشر سنوات كاملة وهذا فقط كل ما تعرفه عن ظروف سجنه وتلك التجربة القاسية التي عاشها، لكن لا تعرف السبب الذي استحق عليه السجن كل تلك المدة! لقد سألت مرارا وتكرارا حتى جف حلقها ولم يخبرها أحدا بالحقيقة، كل ما تكرموا به أنه ارتكب خطًأ فادحًا استحق عليه ذلك العقاب! إذا ما هو ذلك الخطأ ؟؟ لا تعرف.. والغريب أن كل تلك السنوات لم يذكر أحدهم اسم قاسم بتاتًا وكأنه ليس فرد من أفراد العائلة! وكأنه فعلا مجرمًا خطيرًا واستحق النبذ !!
نزعت القلم من شعرها عندما أحست بالصداع يداهمها وأسقطت رأسها للخلف بتعب وهي تهمس:
_ يا إلهي! قاسم مجرم؟؟ مستحيل.
|||||||||||||||
وقف قاسم أمام مرآة الحمام ومد يده يمسح بها آثار البخار كي يرى إنعكاس صورته بوضوح، تأمل شعره الأسود الغزير الذي طال كثيرا مؤخرا فكان يصل فوق كتفيه بقليل، ولحيته الكثيفة بلونها المحايد بين الأسود والبني، شاربه الكث المنمق، دار بعينيه على قسمات وجهه وكأنه يكتشفها لأول مرة، ثم التقط ماكينة الحلاقة الخاصة به وكبس الزر وبدأ بتمريرها على لحيته الطويلة ثم شاربه العريض، بعد أن انتهى عاود النظر لصورته في المرآة برضا ثم غسل وجهه والتقط المنشفة من موضعها وخرج.
فتح تلك الحقيبة التي أحضرها معهُ وانتقى منها سروالا من الجينز الأسود وقميصًا بنفس اللون ارتداهما على عجالة وخرج.
في تلك الأثناء كانت حياة بصدد الخروج من شقتهم، ولكنها تيبست بأرضها عندما رأت إبن عمها المجرم الوسيم وهو يركض بخفة فوق درجات السلم نحو الأسفل.
توقف قاسم أمامها مبتسما وألقى التحية بود:
_ مساء الخير حياة.
ترددت حياة وقفزت كل الكلمات التي ألقاها خالد إلى رأسها حتى أنها رمشت مرتين كعادتها عندما تتوتر وردت بصوت مهزوز بالكاد سمعه قاسم:
_ مساء الخير.
ضيق ما بين حاجبيه بتعجب وقال ببساطة:
_ لمَ وجهك شاحب هكذا؟
مدت يدها تتلمس بشرتها بعفوية وأجابت بخفوت:
_ أظنني على وشك الإصابة بنزلة برد.
زم شفتيه بأسف وقال:
_ وإلى أين في هذا الوقت المتأخر؟
أجابت فورا :
_ إلى شقة عنبر، هاتفتني وقالت أنها تشعر بالملل خاصة أن عبدالله سيعود متأخرا كعادة الخميس من كل أسبوع.
اهتز قلبه فور أن سمع اسمها ولكنه ابتسم محاولا التظاهر باللامبالاه وقال:
_ حسنا، أبلغيها سلامي الحار.
أومأت بصمت فاستدار ليكمل طريقه ولكنه توقف وعاد ينظر إليها فجأة فأجفلت وعادت برأسها للخلف بتحفز ونظرت إليه باستفهام فقال:
_ حياة، ألم يكن لون عينيكِ كهرماني؟ متى تحول للأزرق؟! حسب ما أذكر كانت عيناكِ مميزة جدا بلونهما الفريد ذاك.. أو أنني مخطئ ؟ يا إلهي هل غِبت مطولا لتلك الدرجة؟
رفرفت بعينيها مرتين ودق قلبها بتوتر وقالت بخجل واضح:
_ أجل معلوماتك صحيحة، لونهما كذلك.. هذه عدسات طبية.
ارتفع حاجبيه متعجبا وقال:
_ عدسات طبية؟
_ أجل، ضَعُف نظري واضطررت لعمل عدسات طبية واخترت أن تكون باللون الأزرق.
مط شفتيه في تعجب واضح مما أثار حفيظتها فسارعت بسؤاله:
_ أليست مناسبة؟
تفحصها أكثر وجال بعينيه على قسماتها الجميلة بتقييم وقال:
_ لا .. إطلاقا.
جحظت عدستيها الزرقاوتين بصدمة، لم تتوقع أن يكون فظا بهذا القدر، حسناا هي تتذكر عنه لمحات من طفولتها .. لطالما كان صريحا واضحا لا يحب المداهنة أو المراوغة، ولكنها لم تتذكر أنه كان يتصرف بقلة ذوق وفظاظة أبدا!
والآن.. بعد أن رماها بذلك التصريح الأحمق لا تعرف كيف عليها أن تتدارك الموقف وتخفي إحراجها كي لا تبدو ساذجة أكثر؛ فاكتفت بأن قالت:
_ شكرا.
شعر بأنه أحرجها .. أو ربما هو أحرجها بالفعل؛ فتنحنح وقال بنبرة مراعية أكثر:
_ أنا آسف لم أقصد مضايقتك أبدا ولكن عليكِ تقبل صراحتي بما إننا سنتقابل كثيرا من الآن فصاعدا..
إبتسمت بتكلف وقالت:
_ لا عليك.
ابتسم هو بصدق وقال:
_ لقد أخرتكِ .. عن إذنك.
_ تفضل.
إستدار ليكمل طريقه قبل أن تستوقفه هاتفةً:
_ قاسم، هل حلقت لحيتك؟
إستدار إليها باسمًا وقال:
_ أجل، من باب التغيير.
هزت رأسها بصمت فسألها بترقب:
_ ألا أبدو أكثر وسامة الآن؟
_ لا، إطلاقا.
أفحمتهُ بجوابها الهادئ وابتسامتها المتزنة فما كان منه إلا أن مرر أصابعه بخصلات شعره مخفيًا حرجهُ وقال مبتسما:
_ شكرا.
تألقت ابتسامتها أكثر وقد أدركت أنها أصابت هدفها ورددت:
_ على الرحب.
/////////////
بعد قليل، ترجل قاسم من سيارة الأجرة عندما أبلغه السائق أنهما قد وصلا للعنوان المنشود.
وقف يتفحص المكان بدقة ثم تحدث في الهاتف قائلاً:
_ لقد وصلتُ، أنا الآن أقف عند البوابة الخارجية.
ثوان معدودة وانفرج الباب إلكترونيًا أمامه فدخل متجهًا نحو باب الڤيلا ليجد في انتظاره شابة سمراء ترتدي زيًا منمقًا استطاع أن يخمن أنها خادمة بالمنزل تحدثت بلغة غير مفهومة وهي تشير بيدها للداخل.
دخل قاسم وهو يتطلع إلى المكان من حوله بثبات قبل أن يجذب انتباهه صوت خطوات أنثوية متمثلة في رنين كعب حذاء عالي تتمايل صاحبته بخطىً رشيقةً للغاية.
بالرغم من أن صوت خطواتها أثار فضوله ولكنه لم يحرك ساكنا، لم يلتفت وظل ثابتا بمكانه إلى أن اضطرت هي للوقوف أمامه وهي تقول بابتسامة:
_ أهذا أنت قاسم؟
كانت أمامه امرأة شابة فاتنة للغاية، في عقدها الرابع تقريبا، مظهرها ينم عن الترف والرفاهية الشديدة التي تحياها؛ فكانت ترتدي فستانًا حريريا باللون الأخضر الملكي يصل لأعلى ركبتيها بقليل ويحتضن انحناءاتها برفق، إضافة إلى تلك المجوهرات التي يكفي ثمن القطعة منها لشراء بيت من عشرة طوابق في منطقته البائسة، ناهيك عن زينتها المصطنعة بواسطة مستحضرات التجميل العالمية.
كانت تلك نظرة تقييمية شمل بها قاسم تلك السيدة التي تقف أمامه تراقبه بعينين عربيتين أصيلتين بلونهما الأسود الحاد قبل أن تنتزعه من صمته وهي تقول:
_ لم أكن أعلم أنك شابًا وسيمًا بهذا القدر.
أخفض قاسم ناظريه عنها متمتمًا:
_ استغفر الله العظيم.
ثم عاد ينظر إليها وهو يقول باختصار:
_ نعم أنا قاسم، في الأمس عندما هاتفتِني لم أكن متفرغًا للأسف للمرور بكم، على كل حال أنا أعلم جيدا ماذا يتوجب علي فعله، لقد أخبرني سيد حبيب بكل شيء قبل خروجي من السجن.
أعادت شعرها للخلف بخيلاء وهي تتفرسهُ بعيناها الثاقبتان وقالت:
_ وما الذي أخبرك به سيد حبيب؟
_ استرجاع زمني _
_ إنه يكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أخبروا الطبيب سريعًا. !!!!
هتف بها قاسم بقوة وهو يحدث فرد الأمن الواقف خارج الزنزانة من خلال النافذة الصغيرة بالباب الحديدي، ثم عاد مسرعًا وجثا بجوار ذلك الرجل المغشي عليه أرضا وهو يحاول إسعافه بخوف بالغ.
حينها انفرج الباب وقام اثنان من العساكر بحمله ووضعه على السرير النقال، ثم نقله لغرفة طبيب السجن.
في تلك الأثناء كان قاسم يدعو ويبتهل إلى الله أن يبلغه السلامة، فقد كان يعتبره بمثابة أخ كبير له وهو الوحيد الذي استطاع أن يجعله يتأقلم على أجواء السجن سريعًا وكان ينصحه دائما كي يستطيع تجاوز تلك الفترة، إضافة إلى أنه استئمنه على أسراره وباح له عما يخبئه فما كان من قاسم إلا أن أفضى له ما بجعبته هو الآخر وقص عليه كل ما حدث معه بأدق التفاصيل، ومن يومها وقاسم بحماية سيد حبيب أبو المكارم، لا يستطيع أحد إيذائه ولا يسمح لهم حبيب بمضايقته حتى وطالما كف أيدي مجرمين الزنزانة عنه وكفاه شرورهم ومضايقاتهم التي لا بد أن ينالها أي مسجون حديث العهد بتلك الزنزانة.
بعد دقائق انفرج الباب الحديدي مصدرًا صريرًا عاليًا للغاية ودخل حبيب وهو يتأنى بخطاه فأسرع نحوه قاسم يساعده وأمسك بذراعه ووضعها فوق كتفه وهو يسانده حتى وصل لسريره.
جلس قاسم بجواره متسائلا بلهفة وخوف حقيقي:
_ هل أنت بخير؟
أومأ حبيب بتعب وقال:
_ لا تخف، أُبلي حسنا الآن، فقط كانت غيبوبة سكر.
إبتلع قاسم ريقه بخوف وقال:
_ ألم تتناول دوائك اليوم؟
أطلق الآخر ابتسامة ساخرة وقال:
_ لا، لقد مللت. سبعة أعوام كاملة أتناول يوميًا أقراص الضغط والسكر ولا جديد يذكر. الضغط مستقر والسكر مستقر .. وماذا بعد؟
_ ولكنك نجوت من موت محقق للتو!
_ وإذا؟ ألن يكون الموت بغيبوبة سكر أفضل من الموت البطيء الذي نعيشه؟ على الأقل سيقال لقد مات بغيبوبة سكر ولن يقال تعفن في السجن ومات بقهره في النهاية.
زم قاسم شفتيه بأسف على حال كلاهما ثم قال:
_ أثق بأنك ستقضي فترة عقوبتك وتخرج بخير، ستمر الأعوام الثمانية المتبقية كما مرت السبعة الماضية في لمح البصر، أنا الآن امامك أقول أن الباقي من فترة عقوبتي شهورا بسيطة وأنا الذي ظننتها أعوامًا لن تمر أبدا.
ضحك الآخر بسخرية، ثم اعتدل في جلسته وأمسك بيد قاسم وهو يقول:
_اسمعني قاسم، لا أعلم إن كنت سأظل حيا حتى تنقضي محكوميتي أم سأموت قبلها، لست واثقا بخصوص ذلك الأمر أبدا، ولكن الشيء الوحيد الذي أثق به هو أنك مخلص لي، أعلم أنك لن تخون تلك الثقة أبدا ، لقد رأيتُ الخوف والقلق عليّ باديان في عينيك وأقدر لك ذلك وبشدة؛ لذا سأطلب منك شيئًا وأعلم أنك لن ترد طلبي هذا
أومأ قاسم موافقًا وأرهف السمع بتركيز فقال حبيب بوهن:
_ ابنتي وزوجتي. أود أن ترعاهما بعد خروجك من هنا، ابنتي الآن أصبحت شابة حتما، أود أن تصبح أخا لها وأنا أعلم أنني يمكنني الوثوق بك بخصوص ذلك جيدا. أما زوجتي..
وتنهد بتعب ثم استطرد قائلا:
_ستعاني معها قليلا، أعلم ذلك أيضا، ولكنك أكثر شخص أمين رأيته بحياتي لذلك أعرف أنك ستحسن التصرف.
ود لو سأله عما يقصده ولكنه لم يمهله الفرصة حيث أضاف:
_ وفي المقابل سأعطيك شقة فخمة أملكها في حي سان لوران اعتبرها هدية زواجك عندما تنوي الزواج، ومبلغ بسيط تبدأ به حياتك بعد الخروج من هنا.
قاطعه قاسم بحزم:
_ ولكني لا أريد مقابل إطلاقا، سأفعل كل ما بوسعي كي أرعى عائلتك وألبي متطلباتهم إن أرادوا ذلك ولكن بدون مقابل، أنا لا أنتظر مقابل المعروف الذي أسديه لأحدا أبدا.
ربت حبيب فوق ظهر كفه بامتنان وقال:
_ أنا لن أتراجع عن إهدائك الشقة، فعلى كل حال ستتزوج بعد خروجك من هنا وأنا لن أكون متواجدًا كي أهديك إياها، أما المبلغ فليكن دَينًا، عندما تستقر أمورك يمكنك سداده حينها، وأرجوك لا تناقشني أكثر.
ابتسم له قاسم بامتنان شديد ، كان قد فكر بالفعل فيما يتوجب عليه فعله والبدء به حال خروجه من السجن وكيف سيبدأ ومن أين، وفي نهاية المطاف لم يصل لحل، فجاء ذلك الرجل فجأة وأهداه مفتاحا لكل الأبواب المغلقة بمنتهى البساطة.
ربت قاسم على كفه بامتنان شديد وقال:
شكرا لك يا سيد حبيب ، لقد فعلت معي ما لم يفعله أحد. أعدك أنك لن تندم على ثقتك بي أبدا.
///////////////////////
_ عودة للحاضر _
قص قاسم عليها ما حدث يومها ولكنه استقطع الحوار الخاص بالشقة والمبلغ الذي أعطاهما حبيب له بناءً على طلب حبيب نفسه.
هزت السيدة رأسها بتريث وقالت:
_ وما المقابل؟ هل ستفعل كل ذلك معنا مقابل لاشيء ؟
تنحنح قاسم قائلا:
_ هذا يخصني أنا والسيد حبيب.
مطت شفتيها بتفكير وقالت:
_على كل حال لا مانع لدينا أنا وسارة أن تكون حلقة الوصل بيننا وبين حبيب، هذا أفضل من التواصل مع أكثم البغيض مدير أعماله.
أومأ موافقا وقال:
من الآن فصاعدا سيكون رقم هاتفي بحوزتك أنتِ وآنسة سارة، إذا احتجتما أي شيء بإمكانكما الاتصال بي دون تردد. عن اذنك.
/////////////////////
دقت عقارب الساعة مشيرة إلى انتصاف الليل..
في تلك الأثناء خرجت عنبر من المطبخ وهي تحمل بعض التسالي وضعتها على الطاولة أمام أختها التي تتحدث بكل حماس وعفوية وتقول:
_ تعرفين عنبر؟ كلما نظرتُ إلى قاسم أشعر بأنه بئر عميق مليئ بالأسرار ومحاط بالغموض من كل جانب، تشعرين بأنه رجل يصعب اختراقه!
وضحكت بشدة وهي تقول:
_ وبالرغم من ذلك لدية ذرة حنق طفولي لم يستطع التخلص منها بعد.
ابتلعت عنبر ريقها بتوتر وقالت:
_ كيف؟ ماذا تقصدين.
_ منذ قليل رأيته على الدرج قبل أن آتي إليكِ، لقد قصر شعره بطريقة ملفتة، وعندما أخبرته أنه كان أفضل سابقا احتقن وجهه وشعرتُ بداخله يتآكل من فرط الغيظ.
وأطلقت ضحكة رنانة وهي تتذكر ما حدث، غافلةً عن عنبر التي غامت عيناها بالدموع ولم تعقب.
قالت الأخرى ببساطة وهي تتناول من طبق المكسرات:
_ بالمناسبة، يبلغك سلامه الحار.
نظرت إليها عنبر بدهشة وتخضب وجهها بالحمرة وقالت:
_ حقا؟
_ أجل.
اختنقت الكلمات بحلقها ولم تعرف بما تجيبها بينما قلبها يخفق بشدة ومشاهد من ماضيهما سويا تتجسد أمامها الآن بكل حماقة، اعتصرت عينيها وهي تحاول انتزاع نفسها من تلك الحالة المزرية إلا أن أختها أبت حيث قالت:
_ عنبر، لماذا دخل قاسم السجن؟
نظرت إليها عنبر بحدة أجفلتها وقالت بصوت صارم لا يقبل النقاش:
_ ما دخلكِ أنتِ؟ لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ.
ارتفع حاجبيها بتعجب وقالت بضيق بيّن:
_ كيف لا يعنيني؟ ألست فردا من أفراد العائلة ؟
تأففت الأخري بنزق وقالت:
_بلى، ولكن ذلك الموضوع بالتحديد لا تتحدثي فيه ثانية، قاسم فعل ما فعل وقضى عقوبته وخرج، إنتهى.
نهضت من مقعدها بعصبية وكانت تلك المرة الأولى التي تراها فيها حياة بتلك الحالة، دخلت عنبر غرفتها فقررت الأخرى الانسحاب بصمت.
خرجت من شقة أختها وصعدت بضعة درجات وذلك السؤال اللعين لايزال يتردد برأسها، رفعت ناظريها للأعلى حيث شقة قاسم، ثم نفضت تلك الفكرة اللعينة عن رأسها وهمت بفتح باب شقتهم والدخول، ولكن في تلك اللحظة استمعت لخطوات شخص ما يصعد الدرج ففطنت أنه قاسم الذي عاد.
ابتسم قاسم لمّا رآها وقال بألفة:
_كيف حالكِ يا صاحبة العدسات الزرقاء.
رمشت بعينيها بغيظ وقالت:
_كنت بخير قبل رؤيتك.
فاجأه ردها لن ينكر ذلك، فلقد ظن أنها أكثر شخص ودود في تلك العائلة ولكن على ما يبدو قد خاب ظنه فقال بضيق أخفاه ببراعة:
_ آسف لكِ، الجميع هنا لديه نفس إحساسك ولكن جميعكم مجبرون على رؤية وجهي مرتين على الأقل في اليوم. عن إذنك.
استوقفته بلهفة وضيق وقالت:
_ قاسم، أنا آسفه لم أقصد ما فهمته، لقد وددتُ مشاكستك فقط، لم أكن أعلم أنك ستأخذ سخافاتي على محمل الجد أبدا.
نظر إليها مبتسما وقال:
_لا عليكِ.
رفعت كفها تمسح بها على ذراعها وقد أحست بنسمة باردة تحيطها وقالت:
_ متى أصبحت حساسًا هكذا؟
ابتسم بخفة وقال:
_ عندما أصبح الجميع غير مراعٍ.
زمت شفتيها بحزن وتنهدت بعمق، ثم سألت:
_ هل خاب ظنك بنا كعائلة؟
حاول كبح جماح ضحكته الساخرة ولكنه فشل فقهقه عاليًا وقال:
_ أكثر ما يستفزني هو وهم العائلة بداخلكم.
_ ماذا تقصد؟ أرجوك انا بالكاد أفهم الكلام المباشر فلا تمنحني كلامًا متعدد المعاني من فضلك.
ضحك قائلًا ببساطة:
_ عزيزتي حياة، لا تسألي.
إشتعلت عيناها بغضب وقالت بنفاذ صبر:
_ ولمَ؟ لمَ عليكم أن تخفوا الحقيقة عني وكأني لا زلت طفلة في العاشرة من عمري؟ قاسم بربك لقد أتممت العشرون منذ أشهر.
جحظت عيناه بصدمة مصطنعة وقال:
_ حقًا؟
_ نعم.
_ هل أنتِ متأكدة؟
_ نعم، متأكدة.
ضرب جبهته بخفة وقال ساخرًا:
_ كان عليّ أن ألاحظ ذلك بنفسي، آسف لكِ يا آخر عنقود الحدادين.
قرص وجنتها بخفة وهو يضحك على نظراتها الحانقة التي تصوبها تجاهه وقال:
_ هيا يا صغيرة، لقد تأخر الوقت.
أبعدت يده عن وجنتها وهي تقول بضيق:
_ لستُ صغيرة، ومن أبسط حقوقي أن أفهم ما الذي يخبئه عني الجميع.
_ من الجميع ؟
تساءل بفضول فقالت بعفوية:
_ أنت، أبي،أمي، عنبر وعبدالله.. الجميع هنا يعاملونني معاملة الأصم في مراسم الزفاف .
ضحك قائلا:
_ يا لدقة تشبيهاتك، اسمعيني حياة، من الأفضل لكِ أن تظلي كالأصم فعلا ولا تقلقي لقد انتهت مراسم الزفاف قبل أن تبدأ حتى، لا تقلقي لم يفتكِ شيئا.. هيا هيا لقد أكلتِ رأسي بما يكفي.
صعد الدرج وقد أسقط قناع المزاح الذي كان يجيد تثبيته ببراعة ثم دخل شقته بينما كانت هي لاتزال واقفة وهي تتمتم:
_ لا شيء يبقى مخفيًا للأبد، كل الأسرار ستنكشف يوما ما.
يتبع…
حب_في_الدقيقة_التسعين
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق