رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الرابع عشر 14
الأعين اتسعت بصدمة والقلوب ازدادت دقاتها، والانظار جميعها شخصت صوب ذلك الجسد الذي تمدد بلا حول أو قوة في الارض .
همس صالح بعدم فهم لما حدث منذ لحظات قصيرة؛ لحظات لم يستوعب بها ما جرى لشدة سرعته :
” أزاي ؟؟”
ابتلع محمود ريقه وجسده ما يزال يختض من أثر ما حدث منذ ثواني، يا الله كاد يُقتل للتو، بطريقتين مختلفتين، إما خنقًا بمفرش سرير صالح، أو بالرصاص من مسدس تلك ” الست القادرة ” كما اعتاد تسميتها.
ضغطت ميمو على السلاح بين أصابعها وهي تدسه مرة اخرى بين طيات حقيبتها تقول بهدوء متجاهلة صلاح الذي كان يجاورها بصدمة من سرعة ردة الفعل التي اتخذتها :
” ازاي ايه ؟؟ ”
تشدق صالح مجددًا وهو يشير لجسد عمر وافكار مجنونة تتطاير داخل عقله، من أي ثقب اسود أُلقيت تلك الفتاة عليهم، وما بال أخوه يراقبها باستمتاع وبسمة واسعة هكذا ؟؟
” هو ايه اللي ازاي ايه ؟! ده …ده ..أنتِ ازاي ضربتي الرصاصة عادي كده ؟! و… ده انتِ خرمتي دراع الراجل ”
صمت يحاول الخروج من صدمته، فمنذ ثواني كاد يشهد مقتل محمود، تلك الفكرة التي أثارت به كل خلية وجعلته يتحفر لارتكاب جريمة للمرة الأولى في حياته، واستخدام مديته بشكل جدي وليس فقط للتهديد، فكرة أنه قد يخسر في لحظة صديقه الوحيد قتلته رعبًا ..
” أنتِ قتلتيه كده عادي ؟؟ بعدين أنتِ جبتي منين السلاح ده ؟! ضربتيه بالنار أنتِ مش مستوعبة إن دي محاولة قتل وممكن نروح كلنا في داهية المرة دي ويا عالم هنقعد نثبت قد ايه أنه دفاع عن النفس ”
ابتسمت ميمو بسمة صغيرة وهي تتحرك صوب عمر تناظره من علياها بعدم اهتمام وكأنها تقيم جروحه بنظرة واحدة، ثم نظرت مجددًا لصالح تخبره كلمات ظنتها مطمأنة أو على الأقل كانت هكذا من وجهة نظرها :
” متخافش السلاح ده مترخص ”
ابتسم صالح يدعي الراحة المصطنعة وهو يمسك ذراع محمود يهلل بسعادة :
” ايه ده بجد ؟! مش تقولي كده من الاول ؟؟ الحمدلله يا رب ده طلع مترخص، كده ضمنا البراءة الحمدلله، أي ظابط هيتكلم معانا نص كلمة هنحط ترخيص السلاح في عينه، انزل يا محمود خد معايا سجدة شكر لله على الترخيص ”
ومحمود الذي لم يستوعب بعد ما حدث سجد بالفعل يشكر الله على نجاته من موتٍ وشيكٍ، وصالح يتنفس بصوتٍ عالٍ قبل أن ينظر لصلاح الذي كان يحدق في ميمو بنظرات لا يدري أمعجبة كانت أم متعجبة ؟!
” هي دي ؟؟ عاجبك اللي عملته الست المفترية دي ؟؟ دي ضربت الراجل رصاصة ولا رفلها جفن حتى ”
ابتسم صلاح يهز رأسه يجيب على سؤال أخيه، لكن صالح زاد جنونه وهو يقول :
” بتهز راسك على ايه أنت ؟؟”
” على أن اللي عملته عجبني ”
مسح صالح وجهه، ثم انحنى على قدميه قرب جسد عمر الذي ثُقبت ذراعه للتو من مسدس ميمو، نظر له جيدًا قبل أن يقول بحنق :
” اسمعي يا ست أنتِ مش معنى إن السلاح مترخص يعني ممكن ينقذك من قضية، لا يا غالية ده هيسقط عليكِ قضية كانت هتبقى إضافية لمحاولة القتل، يعني لو السلاح مكانش مترخص كنتِ هتشيلي بلوة حيازة سلاح دون ترخيص وبلوة محاولة قتل ”
صمت ينظر لها بسخرية لاذعة :
” دلوقتي بالترخيص اللي معاكِ أنتِ فلتي من تهمة حيازة سلاح واللي هي اساسا عقوبتها سجن شهر وغرامة ١٠٠ جنيه وممكن توصل لـ ٥٠٠ في اسوء الاحوال، يعني يا فرحتي بالترخيص لما يجوا يلاقوا فيه جثة وكمان فيه إصابة سابقة تثبت أننا مسكنا الراجل ونزلنا فيه تعذيب ”
مسح وجهه يتنفس بصوت مرتفع :
” وشوفي بقى هنثبت ازاي أنه دفاع عن النفس وهو في بيتنا كأننا خاطفينه، وأقل دكتور شرعي يثبت الضربات اللي أخدها قبل الرصاصة وأنه تعرض لتعذيب قبل ما تيجي حضرتك وتقتليه بالمسدس المترخص بتاعك ”
اشارت له ميمو وهي تلوي شفتيها معترضة على ذلك الحديث :
” هو مامتش دي إصابة في الدراع بس ”
” أيوة بس كان ممكن الرصاصة تصيب منطقة حيوية وتخلص عليه ”
منحته ميمو غمزة :
” متقلقش أنا مش هاوية، أنا متدربة على النشان كتير ”
قاطع صلاح كل ذلك الحديث وهو يتساءل عما يهمه في الأمر :
” هتعرف تصلح دراع الراجل ده ولا نسيبه سائح في دمه كده ونبقى قلناه رسمي ؟!”
تنفس صالح بصوت مرتفع وهو يطيل النظر في جسد عمر :
” هو أنا هفضل اخيط في الراجل ده كل شوية ؟؟ ايه مش هنخلص بقى من الحوار ده ؟! والزفت اللي اسمه سعيد ده متصلش ولا اهتم اساسا ”
ونظرات ميمو التي توحي بأن الأمر بسيط كانت شرارة جية لإشعال غضب صالح أكثر، خاصة حينما نطقت بـ :
” تقريبًا سعيد الفترة دي عنده ضغوطات كتير الله يكون في عونه، بس ده ميمنعش أن ممكن نستفاد بعمر، أو…تليفون عمر ”
نظرت لصلاح نظرة غامضة ليهز الاخير رأسه موافقًا وصالح يرمقهما بغيظ وغضب مشتعل :
” أنت بتهز راسك على ايه ؟! بتقولوا ايه انتم الاتنين ؟؟ والله الواحد بقى يحس بطاقة غباء لما يقعد معاكم ”
أمسك به محمود يميل عليه هامسًا :
” والله ما حد نافع مع اخوك غير الست دي، شايف الاتنين عاملين ازاي وبيبصوا ازاي ؟؟ ربنا ما يوقعنا تحت ايدهم، أنا بفكر اقطع علاقتي بيهم وبيك أنت قبلهم، متزعلش مني يا صاحبي بس انا بقالي فترة كده حاسس أن الصحوبية دي جاية عليا بخسارة ”
أشار صالح لمحمود وهو يوجه حديثه المحتد لشقيقه المبتسم بسمة مستفزة وكأنه بالفعل أعجبه ما فعلت تلك المرأة التي تشبهه :
” شايف عمايلك أنت والبنت اللي جايبها؟ هتخسرني صاحب عمري ”
نظر صلاح لمحمود الذي كان يعقد ذراعيه بتذمر وكأنه يؤكد لهم غضبه مما يلاقي تلك الأيام بسبب معرفته بهم، لكن صوت صلاح أخرجه من ذلك وهو يردد بجدية :
” صحيح يا محمود هتسيب صالح ؟!”
اومأ محمود بإيجاب يرفع حاجبه في ترقب، لكنه تفاجئ من إقبال صلاح عليه، يضمه بعرفان وشكر ومن ثم ربت أعلى كتفه وقال :
” سكة السلامة يا حودة، متنساش تشد الباب وراك عشان بس محدش يدخل يشوف البهدلة اللي هنا دي ”
نظر محمود بصدمة لصالح الذي قال جاذبًا إياه خلف ظهره :
” استنى أنت شوية يا حودة كده ”
نظر بعدها لأخيه وهو يقول بجدية بعيدًا عن كل المزاح :
” اظن يا صلاح احنا كلنا في اللعبة دي سواء رضينا أو رفضنا ”
جذب محمود يده من بين يد صالح وهو يقول برفض :
” لعبة ايه، أنا برة كل الحوارات دي ”
لكن صالح أصر وهو يزيد قبضته على مرفق محمود :
” حتى محمود اللي أنت سعيد اوي أنه هيمشى بقى جزء من اللعبة دي ”
” محصلش والله انا اساسا مش بعرف العب غير نط الحبل وبتشنكل في الآخر واقع على جذور رقبتي ”
ابتسم صلاح وهو يستمع حديث أخيه، ثم هز كتفه بكل هدوء :
” والمطلوب مني ؟؟ اعمل لمحمود عضوية انضمام لللعبة دي ؟؟”
وقف صالح في وجهه يتحداه بشراسة وهو يوجه نظره صوب ميمو التي كانت تتابع كل ذلك ببرود، ليست وكأنها كادت تقتل أحدهم للتو :
” لا يا حبيبي، المطلوب منك أنت والعقربة اللي معاك اننا نكون فاهمين اللي بنحصل بينكم واللي هيحصل قدام، مش نبقى زي الطرش في الزفة كده ”
ادعت ميمو الحزن من كلماته الجارحة والغير مراعية لأنها بالفعل تستمع لهم :
” اه ..كده يا لذوذ ؟؟ وانا اللي قولت عليك شاب كويس ومحترم، أنا عقربة ؟!”
نظر لها صالح بسخرية لاذعة:
” ده أقل وصف والله يا ريت بس العقربة متزعلش، يا شيخة ده أنتِ الخبث بيتربع عندك على عرش الصفات، ولا صفات ايه ؟ ده هو الخبث الصفة الوحيدة عندك ”
نعم متفاجئة الآن من مقدار وقاحة ذلك الشاب الذي تختبر لسانه للمرة الأولى، صدق صلاح حينما أخبرها أنه لا يشبه أخيه بأي شكل من الاشكال، فشتان ما بين صلاح الذي لا يُخرج كلمة من فمه إلا بعدما يفكر فيها جيدًا، وذلك الذي لا تلبث الكلمة تستقر على جوفه حتى يقذفها في وجه من أمامه .
” لا على فكرة أنت بس عشان متعرفنيش فبتقول كده، أنا كمان عندي صفة الكلمة الطيبة، حتى أسأل اخوك ”
نظر صالح لصلاح الذي هز رأسه بإيجاب وهو مبتسم بسمة واسعة يؤكد على كل كلمة تنطقها، فهو الآن يلعب دور الداعم الأول لعقربته الجميلة :
” حصل، مفيش اطيب من الكلمة اللي بتخرجها ميمو ”
صاح صالح وقد فاض كيله :
” يا عم الطبلة خف شوية، ام كلمة طيبة ضربت الراجل رصاصة وقعته على الأرض زي الجثة ”
نظر صلاح لميمو وقال بهدوء بعدما نظر للجثة أمامه :
” فداها ”
صرخ صالح بحنق :
” يووووه، أنت ايه اللي جرالك و…”
قاطعه محمود الذي هز ذراعه :
” لو مش هقاطع الخلافات العائلية دي، بس شكل كده صوتكم أزعج الاستاذ عمر وقومه من موته ”
نظر الجميع صوب عمر الذي كان يتأوه ويأن بخفوت، مسح صالح وجهه وهو يشير لمحمود بحمله :
” شيله قصادي يا محمود ارميه على الكنبة هنا لغاية ما نشوف هنشيل الرصاصة ازاي ”
تحدث محمود مقترحًا وهو يشير برأسه صوب الفراش :
” ما نحطه على السرير ”
” لا كده هيظفرلي الملاية ويبقعها مش ناقص قرف، حطه وانا هروح اشوف ايه اللي ممكن يفيدنا ”
نظر بعدها لصلاح الذي كان يضم ذراعيه لصدره يراقب ما يحدث بهدوء شديد ليس وكأنه اعتاد ذلك المشهد كثيرًا :
” وأنت يا استاذ يا عاشق يا ولهان، خد الأستاذة دي واختفوا من وشي عشان أنا حاليا اساسا مش طايق نفسي وثانية وهنفجر فيكم”
أنهى حديثه ينطلق لخارج الغرفة كالرصاصة، يشعر باحتراق في صدره، الآن ماذا ؟؟ هل يؤجل سفره للإسكندرية ويدع ذلك الرجل يختطف منه رانيا ؟؟ مهلًا يختطف منه رانيا، ومنذ متى كانت رانيا له حتى يختطفها منه أحد ؟؟
في الداخل نظرت ميمو صوب صلاح الذي قال بهدوء :
” بعتذر عن لسان اخويا هو في العادة كده، قريب هتاخدي عليه ”
ابتسمت ميمو بعدم اهتمام :
” متقلقش أنا مزعلتش منه، بس كل الفكرة اني اخدت على خاطري، يعني ضيعت رصاصة وجيت انقذته هو وصاحبه وفي الآخر يقولي عقربة ؟؟ والله عيب ”
رفع صلاح حاجبه وهو ينظر لمحمود الذي يراه لأول مرة يتصرف بجدية وعملية شديد، يهمس بصوت منخفض :
” ما هو عنده حق يا ميمو ”
ابتسمت ميمو بسمة جانبية وهي تقول :
” أيوة عنده حق، بس الفكرة في الطريقة اللي رمى بيها الكلمة في وشي”
ابتسم لها صلاح بسمة ماكرة وهو يميل قليلًا فقط يهمس لها وكأنه يصلح خطأ لم يرتكبه، لكن إن كانت جميع الأخطاء متعلقة بتلك الانثى فهو سيكون سعيدًا ليصلحها بنفسه:
” عندك حق، أنتِ مش عقربة، أنتِ اجمل عقربة، وأجمل حد يخرج سم ….”
نظرت له ميمو ثواني قبل أن تنفجر بالضحك عليه وهو اعتدل في وقفته يرمقها بهدوء بينما محمود يحدق بهما بريبة وكأن انيابًا ستنبت لهما وينقضان عليه ممتصين دمه .
_____________________
صمت عم السيارة بأكملها و أمارات الصدمة هي كل ما يمكنك أن تستشفه من نظرات تسبيح المحدقة بوجه رائد .
تلك الكلمة التي يصفها بالـ ” بسيطة ” نزلت أعلى رأسها كالصاعقة، هل طلب منها للزواج للتو ؟! بعد ثواني فقط من حديثه عن زواجه المُقدر من فتاة أخرى ؟! أيخطط للتملص بها من زفاف أُلقي فيه دون إرادة ؟!
وكان كل ما تفكر به واضحًا على ملامحها، ليتفهم رائد ما تفكر به، لكنه لم يملك ما يقوله ليبدد كل تلك الشكوك، فهو حتى لا يدرك سبب طلبه ذلك، هل هو رفضًا لزواج فُرض عليه فأحب فكرة أن ينسلخ عن عادات بالية عن طريقها؟! أم لذلك الشعور الخفي داخله بالمسؤولية _المقيدة_ صوب تلك الفتاة؛ مسؤولية لا يستطيع أن يقضيها كما يملي عليه قلبه بسبب حدود كثيرة بينهما لن تُزال سوى بورقةٍ خُطّ عليها اسمهما معًا تحت كلمة عريضة عبارة عن ( عقد زواج ) .
“أنت عايز تتجوزني أنا ؟؟”
” أيوة، موافقة ؟؟”
بالله ما هذه البساطة التي يتحدث بها كما لو أنه يتحدث معها عن أسباب الاحتباس الحراري أو أخبار الطقس لهذا اليوم ؟!
” أنت بتهزر ؟!”
أشار رائد لوجه الجاد تمام الجدية وهو يقول :
” لا والله، حتى بصي على وشي ”
اعتدلت تسبيح في جلستها تتحفز لكل كلمة تخرج منه :
” طالما مش بتهزر يبقى اتجننت ”
” لاحظي أنك النهاردة اخدتي عليا زيادة وبقيتي تغلطي فيا كتير ”
اغتاظت منه تسبيح لتلك النبرة التي يتحدث بها عن أمر كهذا، ولأول مرة أو لثاني مرة تتناسى كامل هدوئها معه وتتحدث بحنق شديد وغضب :
” رائد أنا مش بهزر، هو أنت عايز تتجوزني عشان الجوازة اللي ابوك هيدبسك فيها ؟! ما انت كده برضو بتدبس نفسك على فكرة ”
نظر لها رائد ثواني، قبل أن يستدير ويكمل قيادة السيارة ببرود شديد تاركًا إياها تجلس على جمر وأمواج افكاها تقذها من البر للبحر دون أن ترسو على إجابة لكل ما تفكر به، أفاقت من كل تلك الحيرة حول سبب حديثه معها بهذا الشكل، ثم صمته بهذه الطريقة …
لكن صوت صفير رائد الهادئ أثار انتباه آذانها، نظرت له بتعجب تحاول تبين تلك الالحان التي تصدر من بين شفتيه حتى اتسعت عينيها بقوة وهي تسمعه يردد باندماج شديد :
” وهتجـــوز .. ”
صمتت تسبيح دون فهم وهي تستدير تنظر للطريق أمامها متسعة الأعين وجوارها رائد لم يتوقف عن ترديد الأغنية وكأنه يقود السيارة وجواره تجلس زوجته متجهين صوب قاعة الزفاف .
ثواني حتى توقفت السيارة وهي ما تزال في صدمتها من تصرفاته الغبية، نظر لها رائد وهو يقول بهدوء :
” ودلوقتي بعد ما وقفنا وركنت العربية في حتة ضلة بدل الشمس اللي كان هياكل السقف نقدر نتكلم زي الناس ؟؟”
استدارت له تسبيح وهي تنظر له بتشوش حتى ابتسم لها :
” أنا لو زي ما بتقولي عايز اعمل كده عشان أفلت من الجوازة اللي ابويا هيدبسني فيها، فأنا عندي مليون حل اقدر اعمل بيهم كده، غير اني ادبس نفسي ”
ابتلعت ريقها تحاول أن تستدعي كل ذرات شجاعتها وتسأله :
” امال ليه بتعمل كده ؟؟”
نظر لها ثواني وطالت نظراته لها حتى شعرت بالخجل يحتل كامل جسدها، قبل أن يجيبها رائد ببسمة واسعة وببساطة تشابه نفس بساطته في حديثه معها، ذلك الرجل الذي كان يتوتر حينما يعطيها بعض المثلجات والتسالي الآن يمتلك لسانًا فصيحًا عند التحدث عن أمر كهذا .
وكان الرد منه كرصاصة تصيب منتصف ذلك الخافق بين جنبات يسارها :
” هما الناس بيتجوزوا ليه يا تسبيح ؟؟ ”
زاغت عينيها تحاول أن تتحدث معه كما اعتادت بهدوء :
” عشان يكملوا نص دينهم ويلاقوا سكن وشخص يقاسموه الحياة ”
هز كتفيه لأعلى وأسفل وقد اشعرته اجابتها انه يسير على الطريق الصحيح فهو إن كان بالفعل يبحث عن زوجة تكن له سكنًا فلن يجد كتسبيح سكنًا ومسكنًا وسكينة ..
” تمام أنا برضو عايز سكن زيهم، اصلي متشرد ”
حسنًا هنا ووصلت تسبيح لنهاية قدرتها على التحمل، لذا وبدون قول كلمة واحدة كانت تمسك بمقبض باب السيارة وهي تركض منها صوب شقتها لتحتمي بها بعيدًا عن نظرات رائد الذي تعالت ضحكاته بقوة عليها يردد من بينها بصعوبة :
” على فين يا تسبيح ؟؟ طب والسكن ؟!”
لكن تسبيح لم تجب أو حتى تستدير له، بل سارت بخطوات سريعة أشبه للهرولة تصعد درجات المنزل بتعجل، حتى كادت تصطدم بصالح أم أنه صلاح ؟!
” ايه يا تسبيح على مهلك وأنتِ طالعة، كنتِ هتوقعيني تكسري ضهري ”
نعم هو صالح.
هزت تسبيح رأسها ببطء تتمتم باعتذار مكتوم، تسارع صوب شقتها، بينما صالح راقبها بعدم فهم وشعر أن شيء سييء حدث لها، ليفتح فمه يود الاطمئنان عليها :
” تسبيح أنتِ كويـ ”
لكن قبل أن يكمل جملته كانت تسبيح _ التي لم تستمع لها _ تغلق الباب بقوة وبشكل جعل صالح يخشى أن يكون مكروهًا أصابها، وما كاد يصعد ليسألها عما نالها من سوء، حتى وجد السوء بنفسه يصعد درجات المنزل وهناك بسمة متسعة ترتسم على فمه بشكل جعل صالح يحك ذقنه :
” هي تسبيح كانت معاك ؟؟”
هز رائد رأسه وهناك بسمة متسعة على فمه وعيونه متعلقه بالباب وشعور غامر بالسعادة لأجل تجربته لتلك اللحظات، ينتشر في اوصاله …
ضيق صالح عيونه وهو يتساءل بحاجب مرفوع :
” هو فيه ايه بالظبط ؟؟”
ربت رائد على كتفه غامزًا :
” فيه كل حلو باذن الله، سيبك أنت وقولي رايح فين ؟؟”
تمتم صالح بهدوء رغم أن نبرة رائد اشعرته بوجود الكثير خلفها :
” رايح اجيب شوية حاجات من الصيدلية عشان الراجل اللي فوق ده ”
كان يتحدث وهو يهبط الدرج :
” بس لما ارجع هعرف سر النظرات دي ”
تجاهل رائد جملته الأخيرة يقول بجدية :
” هو فاق ؟!”
قال صالح يقفز الدرجات بسرعة كبيرة :
” لا انضرب رصاصة ”
تشنج رائد قبل أن يسرع بالصعود لا يفهم ما يقصد صالح بمعنى كلماته، ما الذي يحدث في ذلك المنزل بحق الله ؟؟ أليس مقدر لهم أن يرتاحوا يومًا ؟!
__________________________
يوم انتهى واخيرًا، يوم قضاه يصطاد السمك ويتسلق الجبال فقط لأجل ألا تحزن تلك الصغيرة ولا تغضب منه ميمو إن فشل في مهمته ..
نعم اضطر أن يكون ضمن تلك الفرق التي خيمت في أحد الأماكن النائية وكأنهم يشتاقون لحياة التقشف، قضى فترة الصباح كاملة يصطاد سمكًا ليأكله هو ونيرمينا، وها هو يعود من البحيرة يحمل كيسًا مليئًا بالسمك ليس وكأنه صياد محترف، لكن الأمر فقط يحتاج حظ وتركيز وهو لا يمتلك أكثر من التركيز .
جلس مختار على ركبتيه يجهز نارًا لشيّ الاسماك وجواره أعين نيرمينا تراقب كل حركة منه بدقة كبيرة وهي مبتسمة بسمة واسعة منتصر، فحين عاد الجميع بسمة أو اثنتين عاد مختار بغنيمة حرب.
وبعد مرور ساعة تقريبًا كان الجميع متجمع حول النيران يتضاحكون ويتناولون الاسماك، وهو لا يهتم لهم بل فقط يركز على طبق السمك الخاص به، وحينما انتهى من تنظيفه بدّله مع طبق نيرمينا يأمرها بعينه أن تأكل، ثم شرع ينظف السمك الآخر له .
في تلك اللحظة منحته نيرمينا نظرات ملتمعة بالامتنان والسعادة وقبل أن تفتح فمها لشكره، سمعت صوتًا جوارهما يهتف غامزًا :
” اوووه، ايه يا نيمو الحكاية ؟! مش كبرتي على أن حد ينضف ليكِ السمك ”
خجلت نيرمينا أن أحدهم انتبه لما حدث، و للاسف لم يكن أحدهم هو الوحيد الذي فعل، حيث انهالت عليها التعليقات السخيفة من كل حدبٍ وصوبٍ .
” الواحد مش عارف من غير الراجل اللي معاكِ ده كنتِ عيشتي ازاي ؟؟ من ساعة ما وصلنا وأنتِ مش بتعملي حاجة ”
” ما تسلفيه ليا يا نيمو يساعدني لاحسن الواحد محتاج شوية دلع بدل القرف اللي هو فيه ”
” متنساش يا وحش بقى تبقى تنفخ ليها في الرز لاحسن يلسع لسانها ”
تعالت الضحكات والجمل المتراشقة لتشعر نيرمينا بالفعل أنها بالغت في الاعتماد على مختار حتى ظهرت امام الجميع كما لو أنها مدللة سخيفة، والآن ها هي دموعها تسارعت للظهور لتؤكد تلك الفكرة التي أخذها الجميع عنها .
ابتلعت ريقها تدفع طبق السمك عنها وهي تهمس بصوت منخفض :
” أنا شبعت، هروح اغسل ايدي ”
نظر مختار لطبق طعامها الذي لم يُمس، ثم رفع عيونه للجميع الذين انشغلوا عنها بالضحك بعدما أفسدوا عليها متعة تناول طعامها وكأنهم لم يفعلوا شيئًا .
نهض ينفض ثيابه، ثم أمسك دلو المياه الباردة الذي أحضروه للشرب ودون تفاهم ألقاه كله على النيران التي أشعلها الجميع بعد ساعات من المعاناة وجمع الاخشاب، يفسد عليهم طعامهم كما فعلوا مع نيرمينا .
ومن بعدها حمل اطباق الطعام وسار الهوينة يتجاهل الشهقات والصرخات والسبات التي علت من خلفه، وقد انتقم منهم وليرى كيف سيشعلون نيران أخرى قبل ساعات حينما يأكل الجوع امعائهم، وايضًا عليهم تحمل البرودة كذلك .
بحث بعينه عن نيرمينا ليجدها تعود من طريق البحيرة راكضة بشكل اثار انتباهه .
كانت نيرمينا تنظر للخلف كل ثانية وهي تبتلع ريقها بقلق وقبل أن تتم خطوة أخرى اصطدمت في جسد مختار لتطلق صرخة عالية، تعود للخلف بفزع مما جعل مختار يشك أنها تهرب من أحدٍ؛ لذلك دون سماع تفسير منها ترك الطعام ارضًا يدفعها جانبًا وهو يسير بسرعة كبيرة صوب المكان الذي خرجت منه .
لكن نيرمينا أمسكت به وهي تحاول منعه :
” لا اصبر، رايح فين، فيه ..فيه فيه ذئب هناك ”
رفع مختار حاجبه وتشنج ساخرًا من حديثها يحاول نزع يده، لكنها لم تمنحه الفرصة وهي تقول بجدية :
” استنى ده كبير اوي، ذئب اسود ضخم وبياكل أي حد بيقرب منه، متروحش هناك، ارجوك خليك هنا ”
وإن كانت تظن أنها بتلك الكلمات ستقنعه بالتخلي عن فكرة الذهاب حيث كانت، فهي مخطئة هو ازداد اصرارًا على الأمر؛ لذلك انتزع ذراعه من يدها يركض صوب البحيرة، و نيرمنا خلفه تصرخ به أن يتوقف تمسك ذراعه وتجذبه بعيدًا:
” لا متروحش، متروحش هناك، تعالى ناكل، أنا جعانة، تعالى يا مختار ناكل ”
لكن مختار كان كالصخرة، فبدلًا أن تجذب هي ذراعه بعيدًا عن البحيرة كان هو من يجذبها خلفه وهي فقط تتعلق في ذراعه تردد برجاء :
” طب اصبر بس، أنت مينفعش تروح دلوقتي عشان فيه …”
وقبل أن تكمل حديثها توقف مختار فجأة وهو يرى ما كانت تهرب منه نيرمينا بخجل منذ دقائق.
شاب يُجالس فتاة بكل وقاحة على شاطئ البحيرة، يقترب منها بشكل فج جعل مختار يرفع حاجبه وهو ينظر لنيرمينا جواره والتي كانت قد احمرت خجلًا :
” أنا ..أنا جيت عشان اعيط، لقيتهم كده والله ”
وكأنها تنفي عن نفسها تهمة لا تمت لها بصلة، تلك الحمقاء.
رفعت نيرمينا عيونها ببطء وفضول شديد تراقب ذلك المشهد الذي لطالما أغمضت عيناها عنه في الأفلام التي تشاهدها، ومختار يُحرّك عيونه بين زوج العشاق الحمقى وبين تلك التي تفوقهم حمقًا، وحينما رأى اتساع عينيها يزداد، نظر بسرعة صوب البحيرة ليجد الشاب يقترب من الفتاة أكثر، ليستدير بقوة صوب نيرمينا يجذب القبعة الملتصقة بثيابها الشتوية يضعها أعلى وجهها، ثم سحبها بعيدًا منها وهي لا ترى الطريق .
” ايه ؟؟ فيه ايه ؟! شيل ايدك مش شايفة حاجة”
لكن مختار كان ما يزال يجذب القبعة للاسفل ويسحبها هي من ثيابها بعيدًا .
” على فكرة أنا مكنتش عايزاك تيجي وتشوفهم، أنت اللي اصريت عجبك كده !! اديك خدشت حياءك، هتحط عينك في عيني ازاي بعد اللي حصل ده ؟! ”
فجأة شعرت نيرمينا بتوقف مختار وتحرر قبعتها من أسر أنامله، لتبعدها عن عيونها وقبل أن تقول كلمة وجدت مختار ينحني من استقامته حتى يصل لطولها، ومن ثم حدق في عيونها بشكل مقصود مبتسمًا بسمة واسعة، وكأنه يجيب سؤالها عن كيف سينظر لها مجددًا .
ابتسمت نيرمينا بغباء وهي تبتعد عنه :
” أيوة تمام فهمت ”
نظرت حولها وهي تحاول صرف انتباهها عنه قبل أن تركض وهي تقول بخجل من الوقوف معه :
” هروح الحق اطباق الاكل ليطلع ذئب وياكلهم ”
ابتسم مختار عليها يلحق بها في خطوات واسعة حتى وجها تحمل طبق الطعام الخاص بها تردف بسرعة :
” يلا نروح نأكله من الكل و..”
لكنها وجدته يحمل الطبق من يدها ويعطيها الآخر والذي كان قد نظفه لأجلها، ثم جلس مكانه يتنفس براحة كبيرة يضع الطبق أمامه وشرع في تنظيفه من الأشواك وهي ما تزال تحمل طبقها وتنظر له بتردد، قبل أن تقرر الجلوس معه، فهي وإن كانت تخجل منه أو تخافه في قليل من الأحيان، إلا أنها لا تشعر بالراحة مع الجميع إن لم يكن هو من ضمن الجميع، وجودها مع مختار لطالما بعث في نفسها طمأنينه غريبة، ومنذ أصبح حارس ميمو وهي كانت تراقبه بفضول من بعيد …
بدأ مختار يأكل في صمت وهدوء وجواره نيرمينا تأكل باستمتاع وهواء الشتاء البارد والذي ازداد برودة بسبب البحيرة القريبة يداعب خصلاتها، كل ذلك جوار دندناتها الخافتة صنعت لمختار حالة عجيبة من الراحة .
لم ينظر لها كي لا تتوقف عن الغناء بخجل أو يخرجها من شرودها، وصوت نيرمينا تغني إحدى نغمات ام كلثوم بصوت شجي ..
” يا حبيبي ..يلا نعيش في عيون الليل، يلا نعيش في عيون الليل، ونقول للشمس ..تعالي تعالي ”
ابتسم مختار يمضغ طعامه وقد استشعر للمرة الأولى كم أن السمك لذيذ، لذيذ للغاية، وكأنه مذاقه جمع ما بين طعمه الاصلي ونسمات الهواء اللطيفة وصوت غناء نيرمينا الشجي، كل ذلك شعر به يتجمع في نفسه ليعطيه توليفة رائعة من المشاعر، مشاعر عديدة قادته لراحة نفسية لدرجة أنه ترك الطعام وانتبه بكل حواسه لها .
ونيرمينا تأكل وهي تدندن بمزاج صافي كما اعتادت الفعل حينما تجلس أسفل القمر في غرفتها، تطفو مع نسمات الهواء كوريقة شجرة تترك للهواء حرية اختيار مرساها.
كل ذلك وهي لا تشعر بما تفعل في ذلك الذي يجلس جوارها بكل استكانة وصوت من الماضي يتردد في أذنه بنفس النغمات ورائحة مخبوزات تقتحم أنفه .
اغمض عيونه وهو يسرح في تلك الكلمات وصوت نيرمينا تبدل بصوت والدته وهي تخبز له في الصباح المعجنات التي يفضلها .
حرّك مختار شفتيه دون صوت بنفس الكلمات وملامح الالم استوطنت وجهه، وعيونه تعلقت بالسماء، يمنح لنفسه فرصة الغوص في بحار ذكرياته الجميلة القليلة التي يحتفظ بها في صندوق داخل عقله .
___________________________
استغلت دخول رائد وانشغال صلاح معه وانطلقت هي تمارس هوايتها المفضلة الخفية التي تضع فوقها العديد والعديد من أكوام النضج المزعومة، هواية لم تتوقف يومًا عن ممارستها ولو خفية..
ابتسمت ميمو وهي تقفز أسفل زخات المطر وفي رأسها تتعالى اصوات ضحكاتها هي ونادر وأصوات صراخ مازن بهما أن يدخلا للمنزل .
” اصبر بالله عليك يا مازن هما خمس دقايق وداخلين ”
نفخ مازن يتخلى عن مكانه في مقدمة المنزل يخرج للشارع حيث يلعب إخوته بالوحل والمطر، وقبل أن تمسك يده مرفق ميمو لجذبها بعيدًا عن الأمطار، بادر نادر بامساك يده وجذبه أكثر وأخذ يتحرك به ويجبره على الحركة كمن يرقص، ومازن يرفض أن ينغمس معه في ذلك يُذّكر نفسه أنه مسؤول عنهما في غياب والديه.
” لا يا نادر، سيب ايدي، مش هسيبكم تلعبوا في المطرة وتبردوا”
لكن وأي إصرار يمتلك إن تكالب عليه هذان الشقيّان، ميمو تجره من يد ونادر من الاخرى والثلاثة يقفزون عاليًا مع اولاد حارتهم فرحين بالغيث العزيز الذي لا يزورهم سوى مرات معدودة طوال الشتاء .
كانت ميمو تبتسم وهي تقفز بسعادة وتغني تلك الأغنية الطفولية التي يرددها الاطفال في الشوارع وكأنها هي من تحفز الأمطار للهطول أكثر .
(يا مطرة مطري واخبزلك عيش طري )
كلمات اعتادت التردد في الشوارع والحارات المصرية حين سقوط الأمطار وها هي تغنيها وهي تدور وتقفز أسفل الأمطار في دعوى خفيفة للصغيرة ميمو بأخذ حريتها طالما لا أعين تراقبها .
وقد غفلت ميمو خلال ذلك عن تلك الأعين التي كانت تراقب كل حركة منها، يستند على مدخل السطح يضم ذراعيه لصدره وهو يراقبها باستمتاع شديد .
كتم صلاح ضحكة كادت تفلت من بين أسر شفتيه حينما كادت ميمو تنزلق خلال قفزها لولا أنها تمسكت بسور المنزل، ودون أن تيأس عادت للابتسام والقفز مرة أخرى مانحة إياه المزيد والمزيد من تلك المتعة الخالصة .
ابتسم أكثر وهو يراها قد تعبت من الدوران والقت جسدها ارضًا تتنفس بعنف، غير آبهة بتبلل ثيابها، تحرك صوبها ببطء وصوت أقدامه المصطدمة بالمياه هي ما أخرجها من تلك الفقاعة التي أحاطت بها نفسها .
رفعت ميمو رأسها لترى صلاح يجلس بهدوء جوارها.
ابتسمت بسمة صغيرة تحاول أن تجد كلمات تداري بها وجودها هنا في مثل تلك الأجواء غير عالمة أنه للتو شهد كامل جنونها :
” أنا بس حسيت أن الجو كاتمة في الشقة فقولت أخرج اشم هوا ”
ابتسم صلاح وقرر أن يجاريها فيما تريد :
” عندك حق، وانا برضو حسيت بنفس الكتمة فجأة فقولت اطلع اشم هوا معاكِ، بس الظاهر كده الجو قلب فجأة ”
هزت ميمو رأسها تنظر ارضًا وهي تمسح وجهها لترى من بين قطرات المطر، ثم قالت :
” عملتوا ايه في عمر ؟!”
نظر لها بطرف عينه وهو يقول وما تزال الأمطار تنهمر أعلى رأسيهما، ها هي تغلق الباب على الطفلة التي رآها تستمتع بالمطر منذ ثواني، تُخرج له امرأة ناضجة لتتولى الحديث معه :
” معرفش أنا أول ما حسيت انك مشيتي، قصدي الجو بقى كتمة، قررت اجي اشم هوا ”
حسنًا الآن بدأت ميمو تشعر بارتفاع درجة الحرارة فجأة والامطار لم تتوقف بعد، أم أن فوران الدماء في جسدها هي المتسبب في ذلك ؟!
ولم تنتظر تفسيرًا، لكنها نهضت تقول ببسمة صغيرة :
” مش يلا ننزل، تلاقي الكل استغرب اختفائنا فجأة ”
نظر لها يدرك محاولاتها للفرار منه، لكنه لم يهتم وهو يسبقها للاسفل :
” عندك حق خلينا ننزل عشان كده ممكن تتعبي ”
ابتسمت ميمو وهي تسير خلفه تردد بشرود ولا تعلم كيف خرجت تلك الكلمات منها دون تفكير، لكن الشبه بينهما استفزها بشكل حرّك قلبها وبشدة :
” تعرف إني ساعات بحسك زي مازن اوي ؟؟”
توقف صلاح في سيره يستدير محدقًا في وجهها بحب وحنان :
” افترض أن مازن ده اخوكِ، فمينفعش اغير من اللي قولتيه؟! ولا هو مش اخوكِ ولازم اغير منه ؟؟”
هزت رأسها في حركة بسيطة لا تستوعب اعترافه الصريح الاول لها :
” لا هو اخو…”
ولم تكتمل جملتها بعدما خنقتها الصدمة التي علت ملامحها، وصلاح يحدق فيها مبتسمًا، ثم اقترب منها يرسم ملامح جادة مانعًا بسمته من الارتسام على وجهه كي لا تفسد هيئته في تلك اللحظة :
” اوعي تقوليلي انك متعرفيش اللي فيها ؟!”
رفعت ميمو حاجبها وقررت اللعب معه لعبتهم المفضلة، والتي تتلخص في تلميحات متقاذفة بينهما دي ون أن تستقر على جملة صريحة :
” لا والله لسه معرفتش اللي فيها، يا ترى فيها ايه ؟!”
كانت تتحدث وهي تضم يديها لصدرها وهناك بسمة خبيثة ترتسم أعلى شفتيها، لكن فورًا تلاشت فجأة حينما فجّر صلاح قنبلته في وجهها يتخذ وضعًا مشابهًا لوقفتها وكأنه يتحداها بنفس أسلوبها :
” اني بحبك ”
تهدلت أكتاف ميمو وهي تتراجع بعيدًا عن صلاح بصدمة، هي لم تعلم أنهما تخطيا مرحلة التلميح وبدأت مرحلة الصراحة، هو حتى لم يخبرها لتأخذ حذرها .
رفعت عيونها له وهي تردد بصوت خافت يكاد يتلاشى بسبب اصوات الأمطار خلفهما :
” صلاح أنت بتهزر ؟؟ أنت اكيد مش قصدك اللي قولته”
” لا أنا قصدي، وأنتِ اكيد عارفة أنه قصدي ”
شعرت بقلبها يقفز بين جنبات صدرها، تلك الكلمات تداعب أنوثة دُفنت منذ سنوات حينما كادت تُغتال على يد حقير أعطى لنفسه حق التصرف بها، ها هي أنوثتها تنتفض من أسفل رماد الماضي تتراقص على انغام صدى كلماته سعيدة ..
استغل صلاح حالة البلاهة التي انتشرت أعلى محياها، تلك الحالة التي لن يراها كثيرًا على وجه ميمو، اقترب منها خطوات قصيرة واحتفظ بمسافة مناسبة بينهما، مقررًا الاعتراف بشكل لائق أكثر غير تلك الطريقة المباغتة التي ما تزال آثارها تطفو على ملامح ميمو :
” ميمو …”
رفعت ميمو عيونها له وهي تبدو كما لو كانت تحاول تجميع شتات نفسٍ تاهت عنها لسنوات طويلة.
ابتسم لها صلاح يقول بكل ما يمتلك من مشاعر داخله :
” يمكن معرفش اسمك الحقيقي ايه، لكن قلبي قرر أنه يسميكِ مَعشوقة، واكتفي بالاسم ده تدليل ولقب وصفة، فهل عندك الاستعداد تقبلي بالاسم ده أنتِ كمان؟؟”
وميمو تلك المسكينة كانت في حالة لم تمر بها طوال حياتها، أهذه هي الفراشات التي تفنن في وصفها كُتاب رواياتها التي كانت تبتاعها في مراهقتها حالمة بفارس يدللها كما يفعل صلاح الآن ؟؟ أهذا هو الشعور الذي يُدغدغ كما وصف الجميع ؟؟ أهكذا كان خيالها حول ابطال الروايات ؟!
نظرت لوجه صلاح الذي كان يتلهف لرؤية أي بادرة قبول أعلى وجهها، بادرة واحدة ويقسم أن يحارب الكون لأجلها إن اضطر .
لكن ميمو كانت تحاول تذكر تلك الصورة التي كانت ترسمها لكل بطل في خيالها، لكن حتى تلك الصور تلاشت وحلّ محلها وجه صلاح، والآن في تلك اللحظة فقط أدركت أنها في كل كتاب كانت تبحث عنه، كانت تتنقل بين الأسطر بلهفة تتلمس اسمه، تغمض عينيها وتشرد في ملامحه هو دون حتى أن تراه .
فتحت فمها تحاول التحدث، لكن مشاعرها الوليدة التي حُرمت منها كما حُرمت كل سعادة، منعتها حتى من الحديث .
وصلاح تفهم ما تمر به من مشاعر محيّرة، يرى عذرية مشاعرها واضحة أعلى ملامحها .
ابتسم وهو يقول ببساطة :
” ايه رأيك ننزل تحت اعملك نسكافيه اللي بتحبيه عشان يدفيكِ ؟؟”
وكم كانت ميمو شاكرة لكرمه وهي تهز راسها بلهفة كبيرة وخرج صوتها مختنقًا بمشاعر عديدة لم يميزها صلاح :
” أيوة ارجوك، هكون شاكرة ”
ابتسم لها صلاح بحنان يتحرك هو أمامها ليمنحها فرصة لملمة شتات نفسها يتعهد أمام نفسه أنه حتى وإن لم يلقى منها قبولًا فسوف يحارب لأجلها، حتى وإن اضطر لمحاربتها هي إن كانت هي جائزته في النهاية، سيفعل .
وميمو تسير خلفه لكنها لا تعي ما يحدث حولها…
دخلت خلفه للشقة وهي تستمع عدة اصوات حولها لكنها لا تفقه منهم شيئًا فقد زاحم تلك الأصوات صوت صلاح وهو يعترف لها بكلماته …
__________________
يحمل ما أبتاعه من الصيدلية وقد أخذ قراره الاخير وسينفذه ومن بعدها سيفكر هل ما نفذه صحيح أم لا .
صعد صالح درجات المبنى ولم يكد يخطو داخله حتى ارتفع صوتٌ يعرف في الخلف يناديه باسمه .
” دكتور صالح …دكتور ”
توقف ينظر للخلف ليرى هاجر تتحرك صوبه بخطوات شبه مهرولة تحمل بين يديها سترة رجالية يعرف صاحبها جيدًا وقد صدق حدسه حينما توقفت أمامه تردد بهدوء :
” السلام عليكم اولًا، دي جاكتة الدكتور محمود نسيها في المطعم ووقع منها مفاتيح وانا بشيلها فخوفت تكون مفاتيح مهمة وقولت اجيبها ليك لاني معرفش بيته”
نظر صالح للسترة بين يديها، ثم رفع عيونه ليها يقول :
” هو كده كده محمود فوق عندي، لحظة اتصلك بيه ”
وقبل أن تعترض بخجل، فهي تريد تلاشي الوجود من محمود مؤخرًا، تأثيره عليها ترفضه ولا تريده أن يتمادى، ذلك الاحساس داخلها خاطئ …
لكن قبل أن تقول كلمة سارع صالح بالاتصال وهو يقول بكلمات مقتضبة :
” تعالى أنا مستنيك تحت البيت ”
اغلق صالح المكالمة وهو يرى الخجل يزين ملامح هاجر بقوة ليتمتم في نفسه بحنق وتذمر :
” فيها ايه يعني لو كانت بنت اختك عندها شوية خجل من اللي عندك دول ؟!”
والرد جاءه سريعًا حينما انبأه عقله بكل واقعية، أنك ما كنت لتلتفت لها يومًا، فها هي هاجر لا تمتلك بعض الخجل الذي تريده، بل تمتلك كل الخجل، لكن هل سبق يوم والتفت لها أو انتبهت لها ؟؟ حتى بعدما حاول محمود _ بكل حماقة _ دفعك نحوها نبذت الفكرة ولم تتخيل نفسك تتعامل مع فتاة مثلها، ورانيا … آهٍ من رانيا التي أجبرته على التفكير بها طوال اليوم دون هوادة .
جذبته وبقوة بمشاكستها وعنادها، وضعفها في بعض الاحيان، قاسية في وقت اللزوم، وهشة في الأوقات المناسبة.
افاق صالح من شروده الذي أضحى يلازمه منذ رحيلها على صوت محمود الذي ضربه في كتفه بغيظ مكبوت :
” أنت يا بني آدم مش تقولي أن البسكوتة معاك ؟؟ عجبك منظري كده ؟؟ نازل بدم الراجل على التيشيرت، دي بقت تشوفني بالدم اكتر ما بتشوفني نضيف ”
رفع صالح وجهه لهاجر التي كانت تحدق في ثياب محمود، حرّك عينيه حتى ثبتها على ثياب محمود التي تبدو كما لو أنه خرج من جزارة للتو :
” يعني أنت يا حبيبي حتى لو البسكوتة بتاعتك مش هنا واتصلت بيك، تنزل كده ؟! ايه مفيش ناس في الشارع ؟؟”
همس له محمود وعينه لم ينزعها عن هاجر :
” يا عم أنا مالي بالناس ما يولعوا، أنا دلوقتي بتكلم عن هاجر، يعني تخيل تخاف مني دلوقتي اعمل ايه؟؟ ”
قاطعتهم هاجر التي قالت بهدوء تمد يدها بالسترة :
” حضرتك نسيت دي في المخبز ”
ابتسم محمود يلتقط منها السترة يقول بعفوية شديدة :
” من يد ما نعدمها يا نواعم ”
رمشت هاجر بقوة تحاول أن تتلاشى من أمام عينه قبل أن تتلاشى هي من الحياة بأكملها بسبب طريقته معها، ابتلعت ريقها وما كادت تتحدث بكلمة حتى استمعت لصوت رنين هاتفها، استلت الهاتف بلهفة شديدة وقد وجدت أخيرًا فرصة للهرب منهم :
” الو يا رانيا ..”
وها هي فرصتها للهرب تتطاير حينما انتزع منها صالح الهاتف بقوة كما اللصوص ودون حتى أن يراعي ما يسمى خصوصية أو يحترم صاحبة الهاتف، فهو ما اتصل بمحمود سوى ليجعله يوقف هاجر اكبر فترة ممكنه حتى يجد هو طريقة لجعلها تبوح بنتيجة مقابلة رانيا للعريس المزعوم، لكن انظروا الآن إليه، أكثر الرجال حظًا.
ابتعد بالهاتف وهو يشير لمحمود أن يعطل هاجر التي فتحت فمها بصدمة وهي لا تصدق أنها فعلها بها …مجددًا.
” هو صاحبك ده مترباش ؟؟”
وكانت تلك أكثر الكلمات الوقحة التي أخرجها فم هاجر على مر سنوات عمرها السادسة والعشرين، صالح استطاع اخراج اسوء ما فيها وبكل سهولة ويسر .
ابتسم محمود يقف أمامها ليقطع مشهد صالح عليها يردد بهدوء شديد :
” بصي يا نواعم، صاحبي ده مغفل وانا عارفة وعمره ما هيعترف بكده، بس هو هيموت على بنت اختك، ودلوقتي هيولع من وقت عرف أن فيه عريس اتقدم ليها وكان هيسافر اسكندرية مخصوص عشان يتكلم معاها، فسبيه يكلمها يمكن يحس على دمه وياخد خطوة إيجابية ”
نظرت له هاجر ثواني قبل أن تقول بجدية :
” أيوة بس ده مش صح، لو اخوات هاجر عرفوا حاجة زي دي مش بعيد تودع صاحبك ”
نظر لها محمود بعدم اهتمام، هو لن يضيع تلك الدقائق الثمينة له معها حول الحديث عن صالح ورانيا ..
لذلك تجاهل الأمر وهو يبادر ويقول مشيرًا صوب درجات المنزل الخارجية :
” اتفضلي اقعدي لغاية ما يخلص التليفون حابب اتكلم معاكِ شوية ”
” هنا ؟؟”
هز محمود كتفيه غير آبهًا لماهية المكان الذي سيجمعهم طالما أنه يفعل، هو فقط يهتم بوجودها معه وهذا يكفيه :
” لو حابة ممكن نروح كافيه أو …”
وقبل أن يتم كلماته كانت هاجر تسارع للجلوس أعلى عتبات المنزل الرخامية الباردة وهي تقول :
” لا خلينا هنا لغاية ما صاحبك يخلص التليفون وامشي ”
ضحك محمود ضحكة خافتة وهو يقترب منها ويجلس على بُعد مناسب من مكان جلوسها، ثم صمت وهو يتأملها قليلًا قبل أن يقول :
” عاملة ايه ؟!”
تعجبت سؤاله خاصة أنهم تقريبًا قضوا ساعات طويلة اليوم في مخبزها، لكنها رغم ذلك ابتسمت بلطف :
” الحمدلله بخير ”
” وانا بخير طول ما أنتِ بخير ”
ومجددًا صمتت، وأي حديث يُقال بعد جملته، محمود الذي يتفنن في تحويل أي حديث عادي لغزل، محمود الذي حين تراه لا يمكنك معرفة أنه من هذا النوع الشاعري .
خرجت من صمتها على صوت محمود الذي قال بخفوت :
” هاجر ”
نظرت له هاجر بتردد لتراه يطيل النظر لها قبل أن يتكرم ويبوح بما يكتمه :
” هو أنا لو في يوم قولتلك اني معجب بيكِ وحابب اتجوزك هتوافقي ”
شحب وجه هاجر وشعرت أنها على وشك الاغماء، أبعدت عيونها عنه وهي تنظر لكل مكان عداه، بينما محمود ابتسم بسمة لا تفسير لها، هي لم توافق، لكنها أيضًا لم ترفض وهذا وحده مؤشر جيد ليعيد طلبه.
ابتلعت هاجر ريقها وهي تحدق في أصابعها التي تفركها بقوة، ومحمود يطيل بها النظر مفكرًا، ماذا لو اعترف لها بالحقيقة كاملة وأنه ليس فقط مجرد معجب ؟؟ بل إنه قد تجاوز تلك المرحلة منذ أول مرة سمع بها صوتها الرقيق ؟؟
_______________________
” هو أنت يابني اشتغلت سكرتير لخالتي ؟! اصل كل ما ارن عليها ترد أنت، ايه اخدت التليفون وضع يد، ولا سرقته هو التاني ؟؟”
لم يهتم صالح بكل تلك الكلمات حيث كان يحرك شفتيه في سخرية صامتة يقلد كلمتها، وهي تزيد من حدة كلماتها.
تتوتر وبشدة حينما تتصل بهاجر متوقعة سماع صوت أنثوي رقيق يجيبها بـ ( اهلا يا رانيا يا قلبي ) فتجد فجأة أن من يجيبها هو صوت رجولي أجش حاد ( الو رانيا ؟!)
” خلاص خلصتي ؟!”
” والله أيوة خلصت، اتفضل ادي التليفون عايزة اتكلم مع خالتو ”
وكان الهجوم ساحقًا من صالح الذي سارع وقال :
” عايزة تحكيلها على العريس صح ؟!”
رددت رانيا الكلمة ببلاهة لا تفهم ما يرنو إليه :
” عريس ؟؟ عريس ايه ؟؟”
تحرك صالح في مكانه بخطوات حادة يجذب خصلات شعره وهو يستشعر محاولاتها للتهرب، ليس وكأنه يمتلك حتى حق التحقيق معها في أمور حياتها الشخصية .
” اهو هنبدأ نستهبل، العريس يا عروسة اللي فيه بنت دخلت تقولك أنه جه وتروحي تشوفيه، حلو صح ؟! ”
رفعت رانيا حاجبها تتعجب تذكره تلك الكلمات التي لم تدرك حتى أنها وصلت لمسامعه :
” هو ايه اللي حلو ده، أنت مالك اساسا ؟؟ واه يا صالح حلو، ومش بس حلو، لا ده قمر، واهم حاجة فيه أنه واحد ذوق والله ومحترم ”
حسنًا إن كانت تطمح لاستفزازه وإثارة رجل الكهف داخله فقد نجحت وبامتياز، فبمجرد انتهاء كلمات رانيا حتى ارتفع صراخ صالح الذي جعلها تنتفض برعب :
” والله محترم ؟! ليه وانا مش محترم ؟! ايه شيفاني ماشي أقل ادبي على خلق الله ؟؟ على فكرة أنا ابن ناس اوي ومحترم جدا، لكن انتِ اللي واحدة شلق مش بينفع معاكِ الوش المحترم فكنتِ بتستفزي الجزء اللي مش محترم جوايا ”
” ايه فيه ايه ؟؟ أنا قولت ايه عشان ده كله؟! أنا بقولك أنه عريس محترم وكويس، بعدين مين دي اللي شلق؟؟ أنت يابني مصر تتغافل عن عيوبك، ده أنت متعرفش للأدب طريق ”
لكن صالح كانت في تلك اللحظة يجمع حطب غضبه ليلقيه في بركانه ويشعله أكثر ويزيد من سخونه حممه وينفجر في النهاية في وجهها هي :
” تمام يا رانيا، أنتِ اللي جبتيه لنفسك ”
وإن كان يعتقد أنه الوحيد الذي يمكنه الغضب في هذه المكالمة فهو لم يحذر، فهي أيضًا تسطيع الصراخ والصياح مثله حيث بادرته بالقول :
” هو ايه اللي أنتِ جبتيه لنفسك ده ؟! ايه هتيجي تضربني يعني ؟؟ ما تفوق لنفسك أنت لو جيت هنا مش هتخرج عايش زيك زي العريس اللي لسه كنت بتتكلم عليه”
وكعادته حينما يكون غاضبًا لا تستقبل حواسه أي كلمات لا تهمه، بل فقط توقف عند جملتها الاولى ليجيب بإصرار وصورتها تُزف لآخر تلوح أمام عيونه :
” أيوة يا رانيا هجيلك بس مش هضربك، أنا هاجي اعيد تربيتك من الاول ”
وشهقة رانيا المرتفعة جعلته يبعد الهاتف ويسير صوب هاجر ملقيًا إياه أعلى قدمها، يتجاهل صرخاتها المترددة وتهديداتها من إخوتها الذين إن رآوه سيتخلصون منه، لكن كل تلك الكلمات كانت تتردد في أذن هاجر وليس صالح الذي صعد المنزل بغضب مخيف .
تحدثت هاجر بدون فهم :
” هو فيه ايه ؟! وايه علاقة اخواتك بصالح ؟!”
تنفست رانيا بصوت مرتفع :
” الغبي بيهددني قال ايه هيجي يربيني ”
نظر لها محمود وهو يراها تنهض معتذرة منه وقد وجدت في رانيا ملاذًا لها من نظراته، تحركت صوب السيارة تكمل الحديث مع رانيا، بينما محمود راقب مغادرتها بحنق :
” يارب كل مرة لازم يجي الزبالة اللي مصاحبه يبوظ الدنيا، الواحد يقتله ويخلص ولا يعمل ايه بس، صحوبية ايه دي يارب اللي جاية عليا بخسارة ”
_________________________________
” يعني أنتم عايزين تقولوا إن سعيد بيفكر يلعب بديله ويبيع بسعر أعلى من السعر اللي أخد بيه البضاعة بثلاث أضعاف ؟!”
كانت تلك الكلمات صادرة من رجل ذو جسد ضخم بشكل غير اعتيادي، فهو في تلك اللحظة أشبه بمصارعين السومو، يرتدي بدلة سوداء تجعلك تقف أمامها محاولًا التفكير في كم الساعات التي قضاها لإدخال جسده بها .
” أيوة يا غانم باشا، هو اللي كان قال كده في آخر مرة كنا بنتكلم فيها عن البضاعة الجديدة، حتى وقتها كان اخد قرار يدخل دكتور جديد اللعبة”
ابتسم غانم بسمة غريبة، ثم نظر لمن يجلس أمامه :
” طب والدكتور ده يبقى مين ؟!”
ابتلع الآخر ريقه وهو يقول بجدية :
” واحد كده فيه عداوة بينه وبين اخوه فحب ينتقم من اخوه عن طريقه ”
الآن اتضحت الصورة لغانم، هز رأسه يردد بهدوء شديد :
” تمام يا وسيم، وأنت خارج يبقى عدي على المساعد خد حلاوتك أنت ورجب على الاخبار دي ”
نظر وسيم ورجب لبعضهما البعض بريبة من حديث غانم والذي يمثل العدو الأول في هذا المجال لسعيد، والذي يعمل والده في السوق السوداء ويشتري بضاعة من سعيد وليس منه بسبب خلافات بينهما، غانم الذي باع للشيطان روحه منذ سنوات دون رجعة وبكامل ارادته، أشتهي الغنى وأصبح شرهًا للأموال وفي سبيلها يستعد لفعل ما لا يخطر على عقل انسان .
أبصر غانم رحيل وسيم ورجب وهو يقول بغضب واراه خلف بروده :
” حتة عيل داخل المجال من يومين عايز يضحك ويكوش على السوق ”
أنهى حديثه يخرج من درج مكتبه العديد من الصور والقاها على المكتب أمامه، ثم حدق في أحدهم بقوة قبل أن يلتقطها يضغط عليها بيده وفي عيونه نظرة مريضة :
” زمان ابوك اخد مني البنت الوحيدة اللي دخلت دماغي، ودلوقتي أنت بتحاول تاخد مني كل ما املكه، لكن ده على جثتي، وانتي يا استاذة …ميمو، قريب اوي هتكوني ليا بكل ما فيكِ ”
_______________________
الآن منزل الرجال أصبح اشبه بمسابقة تحديق وتحفز، فمنذ صعد صالح كالرصاصة وتحرك صوب غرفته بجنون وخلفه يركض محمود محاولًا معرفة ما حدث، وخروج تسبيح على صوت الصراخ والكل لا يفهم شيء، بل فقط يحدقون في بعضهم البعض محاولين معرفة ما حدث .
خرج محمود بعد دقائق من الغرفة، أو بالأحرى أُلقي خارج الغرفة وهو يسب ويلعن في صالح :
” أنت واحد غوغائي عشت غوغائي وهتموت كده يا زبالة”
رفع صلاح حاجبه بتعجب :
” إيه ده محمود أنت عارف يعني ايه غوغائي ؟؟”
عدّل محمود من وضعية سترته يتحرك صوب الرجل الذي كان قد أخرج الرصاصة منه قبل اتصال صالح به والهبوط لرؤية البسكوتة، جلس مجددًا يأخذ الاشياء التي اشتراها صالح ليضمد جروحه :
” لا بس سمعتك قبل كده بتقول عليه غوغائي، وعجبتني وحسيت أنها شتيمة ”
ابتسم صلاح بسخرية عليه :
” كنت متوقع ”
لم يهتم محمود بما قال، بل شرع يساعد ذلك الرجل الذي قُتل مرتين حتى الآن ونجى .
حين سمع صوت خلفه يهمس بخجل :
” فيه حاجة ؟! أنا سمعت صريخ من الشقة وجيت اشوف لو محتاجين حاجة ”
كانت المتحدثة تسبيح التي تتلاشى النظر لرائد، وهي تنظر صوب ميمو التي أدركت ما يحدث بينها وبين رائد لتقول :
” لا يا تسبيح متقلقيش بس هو عمر مات موتته التانية، باقيله خمس محاولات ونخلص الأرواح بتاعته ”
هزت تسبيح رأسها تحاول أن تستوعب شيء أو تفكر في شيء عدا شعورها بأنها محاطة بنظرات رائد الذي لم يكتفي أنه يحاصرها من الخلف، بل قرر أن يباغتها من الامام يقول ببسمة ماكرة :
” مساء الخير يا ست الكل، أخيرًا خرجتي من الكهف بتاعك ”
ابتلعت تسبيح ريقها وهي تشيح وجهها عنه :
” مساء النور، أنا كنت …كنت بنضف الشقة ”
شعر صلاح بوجود خطب ليسمع صوت ميمو جواره تنظر لهاتفها، ثم قالت بجدية :
” أنا لازم امشي دلوقتي، الوقت اتأخر و…”
” تمام هوصلك ”
وحتى لم يمنح لها وقت لإكمال جملتها، فما بالك بالاعتراض، هو فقط سبقها للاسفل يقول بجدية قاطعًا عليها أي طريق للاعتراض :
” أنتِ سبتي العربية عند النادي وجيتي في عربيتي، فأكيد مش هسيبك ترجعي في تاكسي دلوقتي ”
عدل من وضعية ثيابه غامزًا :
” اصل انا جنتل مان اوي، وده غلط على سمعتي ولا ايه يا مودمزيل ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة لم تستطع كتبتها أو تحكمت بها حتى، وتحركت أمامه :
” عندك حق يا لذوذ، طول عمرك جنتل مان ”
غمز لها صلاح أثناء مرورها أمامه يميل عليها هامسًا :
” خاصة لو مع حد بعيون سودة وملامح زيك بالضبط كده”
” اوووه، كنت لسه هقول نفس الشيء عنك ”
أنهت حديثها تحرك خصلات شعرها جامعة إياها في رابطة الشعر التي اخرجتها من الحقيبة، ثم تحركت للاسفل تسبقه نحو السيارة وصلاح يسير خلفها وهو يحمل سترته أعلى ذراعه يعدل من وضعية خصلاته :
” مش محتاجة تقولي، أنا بفهمك من غير ما تتكلمي ”
ضحكت ميمو ضحكة قصيرة وهي تزيد من سرعة هبوطها .
تاركين في الشقة خلفهم محمود مازال يطيب الجثة بكل مهارة غريبة على من يعرفه ويعرف كيف يتصرف عادة، وخلفه تسبيح التي شعرت بالمكان يضيق عليها لتقرر الرحيل بعدما أصبح من غير اللائق البقاء هنا، خاصة بوجود رائد يحدق بها بهذا الشكل .
” أنا …أنا هروح اشوف الاكل على النار ”
وبسرعة كبيرة تحركت صوب شقتها، لكن رائد لم يهتم وهو يركض خلفها، يوقفها أمام شقتها كالعادة .
” تسبيح استني ”
توقفت تسبيح دون أن تستدير له فاقترب هو يقول بجدية :
” على فكرة أنا كلمت بابا عنك وهو قالي اقولك تردي عليا عشان هو عايز يفرح بيا ”
استدارت له تسبيح بصدمة واعين متسعة :
” أنت بتتكلم جد؟!”
لا بالطبع هو لم يتحدث مع والده منذ اغلق الهاتف في وجهه حانقًا، لكنه مطمئن أن منال نفسها لا ترغبه ولا هو يفعل، لذا عليه أن يضمن جانبها ليحارب على جبهة واحدة .
” أيوة، وكمان حابب اعرفك أن الحاج سليمان مش صبور ابدا في المواضيع دي، فبيقولك تتوصي بيا وتردي عليا بسرعة الله يكرمك ”
رمشت تسبيح بسرعة قبل أن تقول :
” أنت كداب صح ؟؟”
” ده سؤال ولا تقرير ؟!”
استوعبت ما قالت كالعادة لتسارع وتصلح ما خرج منها :
” لا، مش قصدي والله خرجت مني غصب عني، أنا مش عارفة كل ما اقف قدامك بقول كلام غلط ليه، بس انا مش قصدي كده، قصدي يعني اقولك أنك اكيد بتهزر صح ؟!”
تنفس رائد بقوة يدعي الحنق قبل أن يرسم على فمه بسمة ويقول :
” أيوة فعلا أنا كداب، بس ده مش لأجلي ده لأجل ما تردي عليا قبل الأربعين واعرف اأسس سكن، بدل ما أنا متشرد كده، اعتبريني اخوكِ، ترضي اخوكِ يبقى متشرد كده ؟؟”
” اخويا ؟؟”
وملامح البلاهة التي انعكست في أعين تسبيح جعلته يدرك ما قال ليسارع بفزع :
” لاااا، لا مش اخوكِ اكيد مش اخوكِ، أنا قصدي في مقام اخو…لا ولا حتى دي، اعتبريني في مقام ..”
صمت يمسح وجهه قبل أن يقول وقد يأس مما يفعل أمامها :
” خلاص انسى الحوار أنا عارف اني هبهدل الدنيا، أنا همشي قبل ما اقولك اني في مقام الحاج ابوكِ”
سار للمنزل ليرى ما يفعل صالح ومحمود، لكنه عاد ونظر لها يسير بظهره :
” بس متنسيش تفكري وتردي عليا ماشي ؟؟ اعتبريني واحد مسكين مستني الفرج ”
أنهى حديثه يسارع صوب المنزل وهو يتنفس بصوت مرتفع وتسبيح تنظر له نظرات غريبة سرعان ما انقلبت لبسمة واسعة ….
_________________________
” معلش هنغير الطريق وعايزاك توصلني مكان تاني ”
كانت تلك هي الجملة الوحيدة التي نطقت بها ميمو منذ جائتها رسالة ما على هاتفها، لتنقلب ملامحها بشكل غريب، وتصمت بعدما أملته عنوان غريب في إحدى الحارات القديمة قائلة ببسمة صغيرة :
” فيه ست صديقة لوالدتي وتعبانة وكلموني اروح اقابلها ”
هز رأسه متفهمًا يتوقف بالسيارة حينما وجد أن الأزقة تضيق اكثر واكثر من أن تتسع لسيارته، وبمجرد أن توقف وقبل أن يبادر بقول كلمة واحدة وجدها تحمل الحقيبة شاكرة إياه :
” شكرًا أنا هكمل من هنا، تعبتك معايا يا حبوب ”
أنها حديثها وهي تسير في تلك الأزقة التي تحفظها عن ظهر قلب، كيف لا وهي من أودعت بها عمها بعدما خسر كل ما يملك وغادر حارتهم القديمة ؟!
أعادت خصلات شعرها للخلف، تعيد نطق ذلك اللقب على لسانها ” عمها ” ياللسخرية، أي عم ذلك وأي عائلة كانت تمتلك من بعد خسارتها الاعظم لكل لطيف في حياتها .
وعلى رائحة الرطوبة التي تفوح من جدران المنازل وصخب الباعة، غاصت ميمو في ذكريات بعيدة، ذكريات مثلت لها بداية جحيم…
” يا معتز اتقي الله دي بنت اخوك والوحيدة اللي فاضلة ليك بعد ما كل العيلة راحت في الحريق، عايز تبيعها هي كمان ؟؟ مش مكفيك بنتك، أنت ايه مش بتحس ؟!”
كانت تلك كلمات زوجة عمها والتي انتهت بصرخات وقد فاض كيلها من رأس زوجها اليابس الذي يصر على بيعها كما سبق له بيع صغيرتها، لكنها ما تلقت من زوجها سوى صفعة عنيفة اسقطتها ارضًا تحت أعين ميمو التي كانت تختبئ خلف باب غرفة ميرفت والتي احتلتها منذ طامتها :
” بنت اخويا اللي ضيع ابني وموته معاه، بنت اخويا الزبالة الشمام اللي خلى سمعتنا على كل لسان، بعدين أنا مش فاهم أنتِ زعلانة كده ليه يا ختي ؟؟ ده بنتك محاربتيش عشانها كده ”
بكت زوجته بقوة وهي تمسك وجنتها متألمة :
” عشان كنت متخلفة، كنت متخلفة ومعرفش اللي هيحصل ليها لما اوافق على جوازها في السن ده ومن واحد اكبر منها ”
” حصلها ايه يعني ؟! بنتك ماتت عشان هي كانت مريضة”
نهضت زوجته تدفعه بجنون صارخة وهي تصفعه في كل جزء من وجهه لا تميز أمامها شيء :
” مريضة ايه ؟! أنت هتكدب الكدبة وتصدقها ؟؟ فوق يا معتز بنتك ماتت لأن جوزها المصون أذاها وسابها تنزف طول الليل ومهتمش حتى يعالجها لغاية ما دمها اتصفى وماتت، بنتك اتقتلت وأنت رفضت تبلغ عشان عارف أنك لو بلغت هتتحبس بتهمة زواج قاصر”
ازدادت صرخاتها بجنون وقد أحمر وجهها وبرزت عروقها بشكل مخيف :
” بنتك كانت قاصر، وبنت اخوك كمان قاصر وبرضو مصر تعيد نفس غلطتك، يا اخي ده بدل ما تحضنها لأنها آخر من اتبقى لينا رايح ترميها زي الكلاب ولمين ؟؟ لراجل اكبر منك أنت شخصيًا ”
هاجمها زوجها مدافعًا عن نفسه بضراوة ليس وكأنه صاحب الحق في الأمر :
” بنتك كانت ضعيفة وانا وأنتِ عارفين، ما فيه بنات كتير من سنها واصغر كمان اتجوزوا بنفس الشكل وعايشين زي الفل، أنتِ نفسك متجوزك وأنتِ قد بنتك ولسه عايشة اهو ”
صمت وهو يرى شحوب زوجته وبكائها :
” أما بالنسبة لعريس بنت اخويا، فده غير الزفت اللي جوزته البت بنتك، ده واحد هيسعدها ويأكلها الشهد ويدلعها، ده مجنون بميمو، ده هيعيشها في بيت قد الحارة كلها ويكون فيه خدم تحت امرها، يا شيخة أنتِ مش عايزاها تخرج من الفقر ده وتعيش حياتها ”
هنا واكتفت ميمو، أغلقت الباب وارتكنت للجدار تضم قدمها تناجي عائلتها وهي تبكي وتنوح، هي لا تريد كل ذلك، لا تريد ذلك هي فقط تريد عائلتها التي خسرتها بأبشع الطرق .
تحركت عيناها لتستقر على الجروح التي طالتها حينما كادت تلقي نفسها في النيران، والآن تتمنى لو أنها فعلت .
وحتى تلك اللحظة ما تزال ميمو الصغيرة مسجونة في ذلك الركن، والتي تقف الآن بكل جبروت أمام المنزل هي ميمو أخرى، ميمو خُلقت من رحم العذاب ميمو استطاع جاد تشكيلها بكل حرفية، ميمو أصبحت كمعلمها وتفوقت عليه، وكان هو أول من طبقت عليه دروسه…..
رفعت يديها تطرق الباب، ثم انتظرت قليلًا قبل أن يطل أمامها وجه زوجة عمها التي أطلقت صرخة ملهوفة باسمها تميل عليها بالقبل المشتاقة :
” يا حبيبتي يا بنتي، أنا مش مصدقة عيني اني شيفاكِ، مش مصدقة ”
شعرت ميمو بتيبس في كامل اجزاء جسدها، قبل أن تبلل شفتيها وتبادل زوجة عمها العناق، وكل ما نطقت به هو كلمة واحدة فقط :
” وحشتيني ”
بكت زوجة عمها بقوة وهي تنهال عليها بالقبل :
” يا قلبي وأنتِ وحشتيني اوي، وحشتيني يا
عيوني، كده يابنتي متجيش ولا مرة نشوفك من بعد ما نقلنا ؟!”
تحركت ميمو للداخل، تنظر للمنزل المتهالك الذي يستحقه معتز، منزل أشبه بقبر، كذلك القبر الذي ألقاها فيه بدعوى أنه يساعدها لتعيش حياة كريمة، فلا هي عاشت، ولا حياتها كانت كريمة .
تحركت وزوجة عمها تسير خلفها بلهفة تقص عليها ما يحدث لهم منذ جاءوا لهذا المنزل :
” عمك بقاله شهور مصمم يشوفك، عمك بيروح مني يا ميمو وبيموت ”
نظرت لها ميمو بأعين زجاجية، ولم تتحرك بها شعرة واحدة لما نطقت به، وكل ما قالته هو :
” برضو مش عايزة تيجي تعيشي معايا يا وفاء ؟؟ ”
وضعت وفاء طرف حجابها في فمها وهي تبكي وتتحدث كزوجة ألفت العذاب وتصالحت مع القهر :
” يابنتي اجي معاكِ واسيب عمك لمين بس ؟؟ مهما عمل فيا هو جوزي وكمان مريض مقدرش اسيبه ”
هزت ميمو رأسها وقد يأست أن ترضخ زوجة عمها لطلبها الذي عادته عليها مرات عديدة، فهي الشخص الوحيد الذي تبقى لها نظيفًا من ماضيها، لكن عمها ذلك العجوز المتمدد أعلى فراش متهالك يسعل بقوة لا يهمها بمقدار شعره.
هي ذات قلب متجبر لم تسامحه حتى اليوم، لم تسامح أنها قبّلت قدمه ليتركها في الشارع حتى، سوف تشحذ لتعيش ولا يزوجها لذلك العجوز، لكنه ضربها وعاقبها حتى رضخت .
نظرت له ترى مشهدًا لها وهي تترجاه يوم الزفاف وتقبل قدمه ألا يتركها :
” والله يا عمي هشتغل خدامة ليك، والله هعمل كل حاجة تطلبها مني، بس ابوس ايدك مش عايزة اموت زي ميرفت، مش عايزة اتجوز دلوقتي ابوس رجل يا عمي ”
لكن في تلك اللحظة أنتزعها جاد بقسوة وهو يضمها بين أحضانه بعدما انتهى المأذون من عقد قران عرفي بسبب عمرها الصغير، وذلك طبعًا بعد تلقيه مبلغًا كبيرًا من جاد .
ابتسم جاد وهمس لها في أذنها بصوت مقزز :
” مبروك يا قلبي ”
هنا وازداد صراخ ميمو وهي تشعر بجاد يجذبها خارج منزل عمها بفستانها الابيض الذي أحضره لتزف به أمام جميع اهالي حارتها :
” لا، يا عمي بالله عليك، عشان ربنا، بالله عليك ما تسيبني يا عمي، مش عايزة ابقى زي ميرفت مش عايزة اموت زي ميرفت ”
ويا ليتها ماتت كميرفت، يا ليت جاد قتلها في يومها الأول كما حدث لميرفت، ما كانت عاشت كل ذلك، لحظة ألم يقتلها بالفعل جاد ؟؟ قتلها وقتل تلك الميمو الضعيفة التي كانت تتوسل الجميع وتقبل الأرجل بتذلل مخزي، والآن تقف ميمو أخرى، ميمو اقوى، تجعل الجميع هم من ينكبون على وجوههم لتوسلها …
ابتسمت وهي ترى مشهد عمها ذو الجسد الضعيف لتدرك، أنه ومهما ظن الإنسان نفسه كبيرًا، فالله أكبر منه، وإن ظن أن لا نهاية لقوته، فالله اقوى من كل متجبر …
رفع معتز رأسه بتعب وهو يرى الغرفة تدور به، لكنه فجأة لمح وجهها امامه، ميمو الصغيرة نضجت وأصبحت ذات قامة مفرودة الظهرة، ليبتسم بسمة متعبة وينطق اسمها بوجع وندم كبير يقطعه اربًا، لكن عزاؤه الوحيد أنها الآن تعيش براحة وسعادة وتمتلك من الأموال ما يمكنه شراء جارتهم بأكملها، وهل هي كذلك بالفعل ؟!
نطق معتز بأحرف واهنة اسم دفنته هي خوفًا أن يتدنس بأفواه من عاشت بينهم :
” مَقْدِس؟؟”
ابتسمت ميمو تعض شفتيها بقوة وعيونها تذرف دموع تتنافى مع بسمتها تلك، ملامح مشمئزة وبسمة ساخرة موجوعة :
” لا يا معتز، ميمو …مَقْدِس دي خلاص ماتت، وأنت بايدك اللي قتلتها.”
____________________________
مجنون …متسرع …متهور …وسييء الخلق.
هو كل ذلك، لكنه والله لن يدع لهم رانيا ليزفوها لغيره، هبط من سيارته التي صفها لتوه أمام منزل كبير.
رفع حاجبه يتأمل ذلك المنزل الفخم الذي يدعوه البعض ( فيلا)، إذن رانيا ثرية وكانت تركض خلفه لأجل هاتف احمق .
تلك البخيلة .
لم يهتم وهو يتحرك صوب باب المنزل بعد ساعتين ونصف قيادة، وبعدما اقنع محمود بصعوبة أن يحصل له على عنوان تلك المتشردة من هاجر .
نظر لساعة يده، حسنًا لم يتأخر الوقت كثيرًا على غارة مفاجأة، ماذا يفعل هنا ولماذا ولأجل من وماذا سيقول لهم ؟؟ كل تلك اسئلة لم يفكر بها وهو يطرق الباب في انتظار أن يطل عليه أحدهم وكان من حظ صالح الجيد أو السييء، أن أطل عليه الرأس الكبيرة في المنزل من بعد والده .
” أيوة اتفضل ؟؟”
ونطق صالح كلمة السر لفتح قفل الباب الذي يسجن خلفه محمد وحوشه، لم يفكر فيما يتحدث وفيما سيفعل بل نطقها بتحفز، يقف أمام محمد يضاهيه طولًا، وبطلة واثقة واعين حادة وهيئة قوية ينطق بهدوء منافي لكل ذلك :
” ده بيت رانيا صح ؟؟؟”
__________________________
نعم كما توقعت عزيزي، مستوى جديد من المتعة…..وانتبه فما يظهر امامك ما هو سوى بطانة سطحية لاخفاء الكثير …
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق