Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية اغصان الزيتون الفصل الثامن و التسعون 98 - بقلم ياسمين عادل

            رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة كوكب الروايات


 رواية اغصان الزيتون  الفصل الثامن و التسعون 98


 

“الحقيقة هي إنك ستدفع ثمن آثامك حيًا؛ ثم سنلتقي على أرض المحشر لتدفعها مرة أخرى.”

___________________________________

لقد اشتاق لجلساتهِ أمام هيئة القضاء، لمرافعاتهِ ومناظراتهِ أمام محامين الخصوم، حتى إنه اشتاق للتلاعب بخيوط القضايا بين أصابعهِ الخمسة يوجهها كما يشاء. ترك “حمزة” كأس المياة فارغًا، وتابع دراسة الملف الذي يمسكه بتدقيقٍ وتمحيص، ثم أمسك القلم ودوّن ملحوظة هامة في مذكرتهِ قبل أن يتابع من جديد. ترك القلم ونظر للفراغ وهو يتمتم بإنزعاج :

– يعني مش كفايه إيه متهم بحيازة سلاح غير مرخص، كمان اعترف وعايزني أخرجه!.. ده انا لو حاوي مش هعرف اعملها!.

رن هاتفهِ الموضوع على الطاولة موصولًا بسلك الشاحن، فـ تكاسل عن النهوض للرد أو حتى النظر لهوية المتصل، فـ تكرر الإتصال ثلاثة مرات متتالية، مما دفعه للنهوض كي يكتشف صاحب الإلحاح الشديد. كان رقم هاتف خلوي غريب، دفعه فضوله للرد عليه فأجاب :

– ألو..

كان صوت والده المعروف على الهاتف، وما أن استطاع التعرف عليه تغييرت ملامحه، قَست قليلًا وأصابها الفتور، وتبين ذلك في صوته وهو يقول :

– أيوة يا بابا.. حمدالله على سلامتك رجعت امتى؟.

وسرعان ما تغيرت تعابيره مرة أخرى وفي أقل من ثانية، بعد أن أفضى له “صلاح” بحقيقة القبض عليه، فـ بدى على صوته اللهفة وهو يسأله :

– إزاي وليـه ؟.. مش فاهم إيه اللي حصل!.. طب انت فين دلوقتي؟.. خلاص أقفل أنا مسافة السكة وأكون عندك.

نزع الهاتف من وصلت الشاحن خاصته وأسرع بالخروج من هنا ركضًا للأعلى، كل ذلك أمام عينيها وهي تراه مهرولًا بالصعود، فراقبتهُ بعيونٍ مختلسة وهي واقفة على حافة المطبخ، ثم نظرت لساعة الهاتف وهي تهمس بخفوت :

– معقول يكون حصل؟!.

************************************

لأول مرة منذ أكثر من أربعة وعشرون عامًا، يحس كأنه يطير فوق السحب، يعانق السماء من فرط سعادتهِ، يشعر وكأنه يسير على الأرض ركضًا رغم إعاقتهِ، والكون كله لا يسع بهجته وسرورهِ الآن. شرب “مصطفى” الكوب الثاني من عصير الفواكه المثلجة لتُبرد من وهج صدرهِ المتحمس، ثم تركه وعلى محياه ابتسامة عريضة وهو يهنئ نفسه وأولادهِ بالإنتصار الساحق :

– مُبارك علينا يا ولاد، جتلنا لحد عندنا مقشرة من غير ما نمد إيدنا في أي حاجه.

لمح “مصطفى” على وجه ولدهِ ذلك التعبير القَلق، كأنه لم يستمتع كثيرًا بالمجريات الجديدة، فسأله بجديةٍ :

– في إيه يا راغب؟؟.. انت مش فرحان ولا إيه!.

أحس “راغب” وكأن يدًا تطبق على أنفاسهِ، تخنقهُ وتجثم على صدرهِ :

– مش هرتاح غير لما نرجع سُلاف يا بابا، انت مشوفتش نظرات حمزة ليها امبارح كانت عاملة إزاي، زي ما يكون حبها بجد مش مجرد استغلال ولا انتقام ليسرا!.

من هنا أدرك “مصطفى” إنه أمام تحدي جديد، وتلاشت كل تعابير السعادة المبكرة عن وجهه لتظهر تجاعيدهِ من جديد؛ لكنه حاول أن يبقى صامدًا دون أن يُظهؤ حقيقة مخاوفه المقلقة :

– متقلقش يا راغب.. سُلاف عاقلة، هترجع بيت عمها ونبدأ كلنا حياة جديدة بعيد عن هنا.

شبك “مصطفى” أصابع يديهِ معًا مستكملًا :

– بس في مشوار لازم نعمله يا راغب، وإلا مش هحس بنشوة الإنتصار.. مشوار استنيته ٢٥ سنة، آن الأوان بقى عشان نقوم بيه.

*************************************

زفر “حمزة” زفيرًا حانقًا بعدما نفذ صبرهِ، رغم المحاولات الكثيفة لكبح غضبهِ وتكبيل ثورتهِ، ثم سأل بنبرة مختنقة :

– يعني إيه الكلام ده!.. أنا المحامي بتاعه ومن حقي أطلع على كل حاجه!.. أيًا كانت شخصية موكلي وصفته ومهنته قانونًا حقه يوكل حد للدفاع عنه حتى لو كان نفسه محامي!.

– وأنا مش بخبي عليك ياأستاذ حمزة، اللي عندي قولتهولك.. أبوك متهم في قضية قتل عمد وفي دليل قوي ضده، مسألة إنك تشوف الدليل أو لأ دي بتاعة النيابة مش بتاعتي، أنا جهة تنفيذ وبس.. والسيد الوالد هيتعرض ع النيابة بكرة.

نهض “حمزة” عن مكانه منفعلًا وهو يقول :

– طب انا عايز أشوفه.. دلوقتي.

نهض مأمور القسم عن مقعده وهو يقول :

– حقك طبعًا.. دلوقتي أخليهم يجيبوه من الحجز.

رنّ هاتف “حمزة” برقم يعرفه جيدًا، فـ استأذن بالإنصراف مؤقتًا وهو يقول :

– أنا هرد على المكالمة دي عقبال ما يطلع.

خرج “حمزة” بعجالةٍ وهو ينظر للأطراف من حولهِ بتوترٍ مُربك، ثم وقف في زاوية وأجاب على الفور :

– أيوة يا باشا، طمني الله يخليك إيه الحكاية بالظبط؟؟.

أصغى إليه “حمزة” بتركيزٍ، حتى وقعت مسامعه على المعلومة كاملة، فـ بُهت وجهه، وأحس جمودًا أصاب عضلات لسانه، وهكذا كان وضعه لبضعة لحظات يحاول فيهم استيعاب الجريمة الكاملة، إنه الفخ الذي نُصب بإحكامٍ مدروس ودقيق، للقبض على الفريسة دون أن تترك لها فرصة للخلاص. تنحنح “حمزة” كي يحرر صوتهِ المبحوح في صدرهِ، وسأل متلجلجًا :

– فيديو صوت وصورة؟؟.. يعني إيه ؟.. منقدرش نشكك في صحته ولا نقول إنه متفبرك.

بدأت عصبيته تطفح على سطح وجهه وحتى نبرته التي تشنجت فجأة :

– يعني إيه يعني يا باشا؟؟.. أكيد ليها حل!، إن شالله أجيب واحد من الأربعين شبيه عشان يلبسها مكانه بس نتصرف!.

فرك جبهتهِ بحِدةٍ ومازالت جهوده من الأجل الثبات الإنفعالي على أشدّها :

– طيب يا باشا، آه طبعًا منستغناش عن سيادتك، آه.. هقيّم الوضع بنفسي وأبلغك.

لمح والدهِ آتيًا من مسافة ليست بعيدة، فـ عجّل بإنهاء المكالمة والتفت يهتم به وهو يقول :

– حصل حاجه تحت؟.. حد كلمك ولا مسّك بأي تصرف؟!.

نظر “صلاح” من حوله ولم يُجب، فـ فهم “حمزة” على الفور سرّ صمته ولجأ لغرفة المأمور لكي يختلي به. فتح أمامه الباب فـ دخل وهو من خلفه، حينما كان المأمور يستعد لمغادرة المكتب ليتركه إليهم. ترقب “صلاح” لحظة اختلاءهِ بولده، ثم هبّ صائحًا غير قادر على كبح جماح غيظهِ :

– أنا اتلعب عليا يا حمزة، اتلعب عليا لعبة كبيرة أوي.

حدقت عينا “حمزة” وهو يلفت انتباهه لطبيعة المكان الذي يجتمعون فيه :

– بس يا بابا!.. أهدا انت نسيت احنا فين!.

تجول “صلاح” يمينًا ويسارًا، وقد استوطن الرعب قلبه بالكامل، ولم يستطع السيطرة على انقباضاتهِ المرتعبة وهو يهتف :

– مش فاهم إزاي ده حصل وامتى ومين اللي دبرهالي!.

– مين كان عارف غيري سبب سفرك؟.

كافة معلومات “صلاح” في هذه اللحظة كانت مشوشة للغاية، ورغم ذلك كافح ليصل إلى مشتبه فيه :

– انت وعباس، وعباس ده اللي ساعدني ووصلني بالناس اللي يعرفهم برا.

– مين كمان؟.. افتكر كويس.

ضغط “صلاح” على عقله ليتذكر أي شئ؛ لكن عقله كان غرفة مظلمة خاوية من أي معلومات :

– مفيش، محدش عرف حاجه خالص.

گإضاءة اللمبة المتوهجة، التي أضيئت فجأة في ساحة سوداء مظلمة، رآها “حمزة” أمامه، انبثقت كما لو كانت الوحيدة التي تشكك فيها، لا سيما حينما تذكر إنها عثّرت سفره ومنعته عنه بحيلتها المقصودة، إذًا هي رتبت لكل شئ للإيقاع بوالده شرّ وقيعة، وانقذته هو من براثن الغدر المستحق الذي جهزتهُ بالكامل، من أجل القضاء النهائي على بقايا “صلاح القُرشي”. لم يبدي “حمزة” شيئًا عن شكوكه، لكن “صلاح” قرأها واضحة في عينيه، فـ برزت عروقهِ ونفرت الدماء على بشرته المُحمرة :

– هـي؟؟ هي اللي خـططـت لـكـل ده!.

أخفى “حمزة” توتره وهو يسأل كأنه لم يفهم شيئًا قط :

– تقصد مين؟.

فصرخ “صلاح” في وجهه :

– مـين غـيـرهـا، العــقــربـة اللي سـيبتـهـا تـدخـل وسـطينـا!.. الـفـ ×××× اللي لسه لحد دلوقتي على ذمـتـك يا بيـه.. أهـي ضـيعت أبـوك.. ضـيعـتنـي بنت الـ ××××

وكأن الأمر تغير بالكامل، وحتى مشاعره تغيرت، حينما تغير الموضوع وانقلب ناحيتها، لم يتحمل ذلك الحديث عنها وسبّها، وتجلّت إيماءات الإعتراض على وجهه وهو يردف :

– سُلاف ملهاش علاقة باللي حصل، طول الفترة اللي فاتت مكنتش مشغولة غير بزين.

ابتسم “صلاح” هازئًا من الوضع الذي وصل إليه، بدلًا من أن ينصفه ولدهُ بدأ ينحرف عن طريقه وسلك مسلكًا آخر في نهايتهِ عدوتهم اللدودة :

– انت بتدافع عنها قدامي!.. دي الحكايات بينكم أتطورت وانا مش واخد بالي!.

أشاح “حمزة” بوجهه عنه بينما تابع “صلاح” :

– واختك اللي راحت من تحت راسها هي وصاحب عمرك الخاين!.. وامك اللي ماتت بحسرتها و…..

كالذي ضغط على الزِناد فـ انفجر السلاح بين يديه هو، حدق فيه “حمزة” بغيظٍ شديد، وارتفعت حرارتهِ مع محاولة “صلاح” لإلقاء لإتهام على شخص آخر بدلًا من تحمل مسؤولية خطئه، وتبين ذلك في نظراتهِ المتقدة :

– أمي ماتت بسببك انت، انت اللي نقلتها من المستشفى وأصريت تكمل علاج في البيت، وانت برضو اللي رفضت نصيحة الدكاترة لما قالوا ترجع الرعاية المركزة.. وكأنك قاصد تموتها بإيدك.

جحظت عينا “صلاح” عن آخرها وهو يستمع لإتهامات ولدهِ غير مصدقًا إنه انقلب عليه بهذا الشكل المرعب :

– بتقولي أنا الكلام ده!!.. كنت قولته لنفسك بدل ما اتشغلت بالبت بنت زيّان وجريت ورا حكاويها، كنت خليت بالك من أمك المشلولة.

أحس “حمزة” ببادرة ذنب بدأت تجوب في نفسه؛ لكنه دفعها بعيدًا عنه لئلا تسيطر عليه بالكامل :

– ممكن أكون اتشغلت عنها، لكن عمري ما كنت هعرف اللي هي فيه واتجاهلها بمزاجي، عمري ما كنت هختار ارميها ورا ضهري.. إنما انت عملت ده!.

لكزهُ “صلاح” في كتفهِ بقوةٍ قاصدًا التقليل منه :

– عشان كده دفنتها قبل ما أرجع، بتعاقبني يا ولـد؟؟.

ابتعد “حمزة” خطوة للوراء وهو يجيب :

– أيوة.. انت مكنتش تستحق حتى تمشي في جنازتها، ولا انا ولا انت كنا نستاهل نودعها.

لملم “حمزة” شتاتهِ قبيل أن ينهزم أمام حزنهِ، وقرر إنهاء هذه المقابلة قبل أن يعلن نقمته النهائية على والده :

– بكرة الصبح هجيلك قبل ما تتعرض ع النيابة.. يمكن تكون فكرت في الحيلة اللي هتخرج بيها المرة دي من الورطة اللي وقعت نفسك فيها.

جمد “صلاح” في مكانهِ وهو يشاهد ولده بعدما تسلل من بين يديه، بعدما كان ساقيهِ وذراعهِ، بات گالعصا التي ستضرب صاحبها على وجهه، يراه وهو ينصرف من أمامه في أشد اللحظات احتياجًا إليه، گالذي طُعن بسكين في صدره لم يكن يتوقع أبدًا مصدرها، وكان هذا هو الإنتصار الساحق الذي حققته “سُلاف” عليه، لقد سلبتهُ ولدهُ، سرقت منه عمر كامل عاش يزرع فيه، وحينما جاء وقت الحصاد حصدت هي كُل ثمارهِ، تاركه خلفها صحراء جرداء خاوية من أي شئ، هذا هو التمثيل الأوقع للوضع الذي يعيشه “صلاح” الآن.

************************************

خرج “حمزة” من المخفر يجرّ ساقيه، لا يرى أمامه أحدًا، الشرود جعلهُ تائهًا حزينًا، حتى إنه لم ينتبه بما اصطدم به، والتفت نحو الشئ الذي صدمهُ بقوةٍ آلمته هكذا ليجد ذلك العجوز الذي يدفع مقعده المتحرك يرنو إليه بغرابةٍ، فـ اعتذر منه “حمزة” بلهجة آسفة قائلًا :

– آسف يا حج مكنتش أقصد.. انت تمام؟.

نظر إليه “مصطفى” بنظرةٍ غريبة، لم يفهم “حمزة” مغزاها أبدًا :

– حصل خير يا بني، انت كويس ؟.

أومأ “حمزة” رأسه بالإيجاب و :

– آه.. تحب أوصلك لجوا؟.

– لأ تُشكر.. اتكل انت على الله.

انسحب “حمزة” من أمامه وما زال “مصطفى” يتابعه بنظراتهِ المراقبة حتى اختفى من أمامه، فـ أخفض عيناه عنه وهو يهمس بـ :

– صحيح.. جريمة الآباء يدفع تمنها الأبناء.

وتابع دفع مقعده للداخل ريثما يلحق به “راغب” من الخارج، تتوق نفسه لذلك اللقاء الذي طال انتظارهِ سنونٍ مديدة، وها قد أتى وقت المواجهة، المواجهة التي تحدث منذ أكثر من خمس وعشرون عامًـا.

ضغط “حمزة” على بوق سيارتهِ فبدأت الأبواب تنفتح أمامه، في اللحظة التي لمح فيها “سُلاف” بداخل سيارتها وتستعد للخروج، فـ أوقف سيارته وترجل منها ليسير نحوها، ثم فتح بابها وهتف بـ :

– أنزلي يا سُلاف.

تنهدت “سُلاف” بسئمٍ وهي تهبط عن سيارتها قائلة :

– الولد فوق مع دادة أم علي.. مش ده كان شرطك!.

لم يهتم كثيرًا بما تقول، ووجه بها سؤالهِ المحير والذي شغل باله طوال الطريق :

– انتي اللي عملتيها؟؟.

كانت گعادتها، قوية.. صريحة.. وصارمة :

– أيـوة إحـنا اللي وراها.. بس ده ميمنعش إن أبوك هو اللي ارتكب الجريمة كلها من الأول للآخر، وإحنا يدوب نقلنا الصورة الحقيقية قبل ما هو يزيفها.

أطرق “حمزة” رأسه لأسفل وهو يسألها :

– مبسوطة يا سُلاف؟.

لم تجيب على سؤاله، وكأنها لمست في صوته إنه يحملها ذنبهِ، بعدما أصبح بلا أحد نهائيًا، فـ رفع عيناه يرنو إليها مكررًا سؤاله :

– مبسوطة بإنجازاتك؟.

فأجابته تلك المرة بما تشعر به :

– مرتاحة.. وبقالي كتير أوي مكنتش أعرف يعني إيه معنى الراحة.

– كويس.. ودلوقتي رايحة فين؟ عايزة تشمتي فيه ؟؟.

بكل الحقد في العالم أجابت :

– عايزة أشوف قاتل أبويا وأمي لآخر مرة قبل ما يموت هو كمان.

أفسح “حمزة” الطريق أمامها، وأردف بـ :

– يبقى انا هوديكي بنفسي.

وأشار حيث سيارتهِ، فلم تتردد في الإنصياع له، غير مكترثة بأي شئ سوى الوصول للنتيجة التي تنتظرها منذ كثير من الوقت، لحظة الإحتفال بنصرها الذي لم تكن فيه سوى وسيلة، بينما هو الذي سعى لكتابة تلك النهاية المستحقة بنفسه….


reaction:

تعليقات