Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية لعبة الهوى الفصل الحادي عشر والأخير

رواية لعبة الهوى البارت الحادي عشر والأخير بقلم زيزي محمد

رواية لعبة الهوى الفصل الحادي عشر والأخير

بعد مرور أربعة أيام، كانت أيسل تلازم شهاب بهم في المشفى، تجلس على نفس الكرسي الذي وضعته بيدها بعدما خرج من العناية المركزة، واستقرت حالته نوعًا ما، ولكنه مازال تحت تأثير المسكنات والمنومات القوية بسبب الآلام عظمه الشديدة..

ابتلعت ريقها وهي تراقب ملامحه بلهفة لم تفقدها أبدًا منذ دخوله إلى المشفى، تنتظر فقط أي إشارة منه، تشتاق لسماع صوته، كي يهدأ قلبها من لوعته، وخوفها عليه، اكتفت بنظراته لها، حينما كان يفتح عيناه لثوان ينظر لها، ويغلقها مرة أخرى، نظرة خاطفة، تبعثر بقايا ثباتها، تجعلها تنتفض كمن لدغها عقرب، تندفع نحوه وهي تبكي بدموع فرحة، ولكن لم تكتب فرحتها كاملة، فمازال تحت تأثير تلك المسكنات اللعينة، والتي تمنعه من نطقه لاسمها..

أحيانًا كان يأتيها شعورًا مزعج، يجعلها تخوض سيناريو قاسي، فتتخيل حياتها بدونه، بدونه لأبد، حينها فقط تشعر وكأن قلبها قد تحرك من مكانه، وتركها، فدقاته تتعلق بنبضات قلبه، لم تتركها أبدًا تلك التخيلات، كانت تداهما بين حين وآخر، ولكنها كانت تكتفي فقط بإمساك يده، وتقبيلها عدة ممرات، مسترجعة بعض ذكرياتهم معًا، تتمسك بها كالغريق..

عادت بجسدها مرة أخرى تستند بظهرها على ظهر الكرسي، تحاول إيجاد طريقة تريح جسدها المرهق، والذي قد هاجره النوم، ولم يزوره سوى ساعات قليلة، فقدت الكثير من الوزن، بالإضافة إلى ذلك السواد الذي احتل الجزء المحيط لعينيها، اثر جلوسها هكذا منذ دخول شهاب للمشفى..

انتبهت لصوت الباب وهو يفتح، فتأهبت، تحاول استجماع تركيزها، وقع بصرها على رقية، وهي تدخل في بطء حتى لا تصدر صوتًا..فقالت أيسل بصوت مبحوح مرهق :

- تعالي يا رقية.

هبطت رقية بجسدها وجثت على ركبتيها، وهي تقول بصوت خافت :

- الدكتور قالي أنهم هيخففوا المسكنات عن شهاب النهاردة بليل ياعني ممكن الصبح بالكتير يفوق ويقدر يقعد معانا.

- انفجرت أساريرها بفرحة عارمة، ولمعت عيونها بدموع السعادة، قائلة بصوت باكي :

- بجد يا رقية.

هزت رقية رأسها بفرحة مماثلة لسعادة أختها، وبدأت في مسح بعض الدموع المتساقطة فوق وجنة أيسل :

- اه يا حبيبتي، قولت ادخل وأفرحك..

مسكت أيسل بكف شقيقتها، تقول برضا وحمد :

- الحمد لله، أخيرًا هيصحى ويكلمنا.

نهضت رقية وهي ترمق شهاب بنظرات خاطفة، وعلى الرغم ما فعله معها، إلا أنها كانت تبكي حزنًا عليه وهو في العناية، تتمنى له الشفاء، إنسانيتها النقية جعلتها تترك ما فعله جانبًا، متمنية أن ينهض بكامل عافيته.

تنهدت بخفوت ثم قالت وهي تطبع قبلة صغيرة فوق رأس أيسل :

- أنا هخرج، لو احتاجتي حاجة قوليلي.

أومات أيسل في صمت، وبداخلها كانت تعد الدقائق بطريقة طفولية، وكأنها طفلة صغيرة تتوق لمقابلة والدها، انهمرت دموعها ولكن تلك المرة كانت سعيدة، تعبر عن اشتياقها له، بدأ لسانها في سرد الأدعية، تناجي ربها أن يستفيق شهاب بكامل صحته.
**
خرجت رقية من الغرفة وعيناها تجاهد من أجل الاستيقاظ، بحثت عن حمزة ولم تجده في الممر كاملاً، تنهدت للمرة التي لا تعلم عددها، ربما سبب تلك التنهيدات هو اضطراب مشاعرها من حين لآخر..

في تلك الفترة كانت تعاني من صراع نفسي، صراع كانت تحاول أن تتجاهله قبل حادثة شهاب، معطية لكرامتها حقها الكامل في الثأر ممن كسروا قلبها بدون رحمة!.

ولكن ماذا ستفعل وقلبها يتلوى كالمريض متألمًا، يعلم دائه ودوائه، مشاعرها تزدحم بداخلها تتصارع مع أفكارها، وهي تقف بالمنتصف لا تعرف طريق للخلاص من ذلك الضجيج المؤذي لها!.

ابتلعت ريقها، حينما تدفقت عليها ذكرياتها معه وهما في المشفى معًا، ستكون مجنونة إن استمرت بمشاعرها اتجاهه، فهي حاربت ولكنها فشلت، هل الحب لعنة لهذه الدرجة؟!، تساءلت ولم تجد سوى أن دقات قلبها تضطرب كلما اقترب منها، أو تفوه باسمها بقصد ودون قصد، فأحاسيسها كانت تتأهب في حضوره، وتضيع في غيابه.

حواسها كانت كالأسيرة له، ولتصرفاته، تراقب أدق حركاته، وأثناء تلك المدة، أيقنت بمدى هوسها به، وإن حاربت ذلك، وسمحت لعقلها بالحرية الكاملة في حسم ذلك الجدال، بحركة صغيرة منه، تتدهور كل حصونها المنيعة.

لم تذق من قبل وجع القلب، ولما ذاقته كان على يده، ولكن موقفه غريب بالنسبة لها، فهو العدو والرفيق، السند والخاذل، أفعاله طيلة الأربعة ايام، تخرج من شخص نبيل، لا يفعل أبدًا ما فعله بها من قبل، تعجبت وطال تفكيرها كلما أصر على اهتمامه بها.

ورغم أن تلك الأيام مرت بهدوء وسلام، كلاً منهما اكتفى بالصمت، حتى لا تتوهج مشاعرهم بحديث قد ينكأ جراحها، أغلقت عيناها بوهن، وجسدها المرهق يطالب بالراحة والنوم لبضع ساعات فقط.

انتبهت إلى جلوسه في آخر المقعد، كما فعل سابقًا، فهو أصر على ترك المساحة بينهما، حتى لا يضغط عليها وهي في تلك الحالة، يكفي ما تعانيه، وتشعر به الآن، ورغم سكوتها أغلب الوقت، وردودها الجافة عليه، إلا أنه كان يشعر تمامًا بما تمر به من صراعات نفسية، ولا شك أنه كان يبحث بين تصرفاتها وإجابتها القصيرة عن أي نور، يحثه على مواصلة ما بدأه قبل حادثة شهاب.

تخبطت مشاعره، ما بين الراحة والقلق، أحيانًا كان يشعر بالراحة في وجودها معه، حتى وإن كانت ليست بجانبه، مكتفيًا بأن يسرق النظر إليها في وقت نومها البسيط، حتى أنه في ذات مرة تجرأ ورفع هاتفه والتقط لها العديد من الصور، وحينما استقيظت ابتعد كالمراهق في آخر الممر، يدقق النظر بالصور، محتفظًا بقلبه لأدق تفاصيل وجهها، وهنا يكمن قلقه وخوفه من مصير قد ينذر بالفراق، في النهاية سيخرج شهاب من هنا، وستبتعد عنه، ويبدأ هو من الصفر مجددًا.

لذلك كان يحاول إغداقها باهتمامه، حتى أنه اغلق الكافية طيلة تلك الأيام ليحاوطها في كل الوقت، ولكن وبعد أن عرف بحديث الطبيب وتلك المستجدات والتي طرأت في حالة شهاب، تفاقم قلقه وزادت وتيرة أنفاسه بخوف أصبح ينهش في قلبه كالوحش .

فرك جبينه يبحث بين جنبات عقله عن أي فكرة قد يحاول بها التحدث معها، يرفع عيناه مرة وينظر إليها بضياع وشرود، ومرة أخرى يبتعد كالطفل الصغير الذي لا يجيد الاعتذار من والدته.

ترك لمشاعره حرية التصرف، وألغى عقله في تلك الحالة، فلا مجال للعقلانية أكثر من ذلك، اقترب منها بتروٍ يراقب ردود أفعالها بلهفة وترقب، وعندما لم يجد منها أي هجوم، اقترب اكثر فاكثر، حتى أصبح ملاصقًا لها، تعجب لهدوئها الساكن ذلك، وظن أنه خلفه يرقد بركان من الكره سينفجر بوجهة إن تفوه بكلمة تنم عن اعتذاره .

وفي الحقيقة هي كانت تلاحظ اقترابه منها، ولكنها كانت كالمشلولة، تريد الهروب والفرار من سيطرته عليها، ولكن قدماها لم تساعدها، بل شعرت وكأنهم أعدائها ليضعوها في ذلك المأزق وهو ملتصق بهذا الشكل المرهق لقلبها.

- رقية.

استمعت لهمسه بجانب أذنها، فثارت أحاسيسها في هياج أصبحت تكره، لأنها تدرك في نهايته، أن عشقه كالوشم الذي خالط دمها ولن يفارقه أبدًا حتى مماتها، حتى وإن كانت تظهر عكس ذلك، بالنهاية قلبها الغض اختاره من بين الرجال، ليصبح مالكه للأبد.

ارتجف جسدها رجفة صغيرة؛ بسبب لمسه يده لأصابعها والتي كانت تفركهما بارتباك، رجفة لم يدركها، ولكنها كانت قوية جدًا لها، فكادت تقسم أنها مثل الزلازل المفاجئ الذي يهاجم فجأة، محدثًا حالة من التخدر تحت تأثير اللحظة.

- رقية، أنا...

التفتت بوجهها له، ولم تدرك أنه قريب منها لهذه الدرجة، سوي وهي أمامه مباشرةً، لا فاصل بينهما، سوى بضع سنتيمرات قليلة، تكفي لخروج أنفاسهما، اهتزت ملامحها عندما غاصت ببصرها داخل عيناه، والتي كانت ترجوها بقبول اعتذاره، وبالعفو، بأي شيء في سبيل ان تعود له، أنفاسه الساخنة كانت تلفح بشرتها، فتزيد من احمرارها خجلاً، أو ربما كانت تنصهر في عشق ذلك الرجل.

أما هو فكان يجاهد مشاعره، والتي كانت تحثه بتقبيلها، مبررًا لنفسه بأنها ستكون القبلة الأخيرة، فرقية لن ترضخ هكذا لفترة أطول، دق قلبه بعنف حينما اقترب أكثر منها لاغيًا تلك المسافة وهو يغلق عيناه مستسلمًا لمشاعره والتي كانت في اندلاع غريب، وما إن لمس شفتاها برفق، فابتعدت قليلًا وهي تقول في صوت ضعيف مهزوز، ونظراتها كانت عاجزة عن الابتعاد عن نظراته الحارقة :

- أنا عاوزة انام.

وقع في حيرة، ما بين تركها، أو أن يستمر فيما يفعله، ولكن تصرفها هو من حسم تلك الحيرة، حينما وضعت رأسها على كتفه، وأغلقت عينيها بتعب، مستسلمة للنوم، وهي تعلم أن في الصباح ستواجه معركة مع جلد الذات، تهدم معها تلك اللحظات الدافئة.

انتظر حمزة دقائق عديدة يحاول فهم مشاعرها، فلم يتوقع ذلك أبدًا، لقد توقع الشراسة، والغضب، والكره، ابتسم بعذوبة حينما أدرك، أنها مازالت تحبه، أخيرًا ارتاح صدره وسكنت مشاعره، فقرر أن يتجرأ أكثر، ويجذبها داخل أحضانه، جاعلاً صدره وساده لها، ومن فرط سعادته لم يستطع النوم، بل كان بين الثانية والأخرى، يحرك يداه فوق ذراعها، ليتأكد أن ما يمر به الآن ليس حلم جميل وسينتهى كالسراب، بل هو واقع أجمل، وهي داخل أحضانه هكذا كالضائع حينما يحتضن رمال وطنه.

****
في الصباح..

استفاقت رقية على تربيتات حنونة فوق وجهها، ومن فرط إرهاق جسدها، كانت تتشبث بالنوم أكثر، فتحركت كالقط الصغير حينما يبحث عن الاحتواء داخل أحضان صاحبه، فركت وجهها بصدره في حركة لا إرادية، تستشعر دفئه وحنانه عندما ارتفعت درجة حرارتها بعدما كانت البرودة تسيطر عليها طوال الأيام السابقة.

كان حمزة يراقب بهدوء ينافي تلك الثورة التي اندلعت في صدره، شعر وكأنه يريد احتضانها أكثر، يسرق تلك اللحظات الجميلة، من ذلك الواقع المؤلم للقلب، ففعل ذلك دون تردد، وضغط أكثر بيده فوق جسدها، يضمها وكأنه يريد إدخالها داخل صدره، رفع بصره للسقف يلتقط بعض الأنفاس بعدما ارتفعت درجة حرارته وهو يحتضنها بهذا الشكل، تمنى حينها أن يمتلك قوة سحرية، يستطيع من خلالها محو ما فعله..

تنهد بعمق، ثم هبط ببصره مرة أخرى لها، وبدأ في مداعبة بشرتها بأنامله، والتي جعلتها تستفيق نصف إفاقة، فرفت جفنيها بصعوبة، فكانت الرؤية مشوشة لديها للحظات، ملامحه كانت مبهمة ولكن قلبها يعلمه ويدركه ويشعر به، فابتسمت بنعومة وتفوهت بصوت رقيق :

- حمزة، أنت هنا.

لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك، فحول بصره يمينًا وشمالاً يراقب الردهة، وما إن تأكد من خلوها، اقترب في ثوان، وقبل ثغرها قبلة صغيرة ناعمة، أصدرت صوتًا ضعيفًا وهي مازالت في حالتها المتخدرة تلك، ابتعد عنها يراقبها، مازالت ابتسامتها ترتسم ببراعة فوق ثغرها الوردي، سيجن إن استمرت في تلك الحالة، والتي كانت تزيد من وتيرة أنفاسه، ودقات قلبه كانت تتصارع في جنون.

مسد فوق ذراعها بحنو وبدأ يردد بجانب أذنها :

- فوقي يا حبيبتي، علشان تدخلي لأيسل..

بدأت الإفاقه الكاملة تأخذ طريقها نحو عقلها، وتستوعب ما يحدث، انتفضت بفزع، حينما رأته يجلس بجانبه ووجهه مقابل لوجهها، توسعت عيناها وشل لسانها تقريبًا عن التحدث، بل هربت الكلمات والأفعال منها، وبقيت هكذا كالصنم تنظر له فقط، وعقلها يدور في جنون، تتذكر ما كان يحدث قبل قليل، هل كانت تلك القبلة حقيقة!.

عند هذه النقطة، تجمدت مشاعرها، وبدأ جلد الذات في طريقه لهدم ذلك الخمول والذي كان يسيطر عليها منذ الأمس، لِمَ تحاول دفن ما فعله معها في طي النسيان، هل ستبقى نسخة مكررة من أصدقائها!.

اسئلة رفضت الخضوع لاجابتها، لن تستمر هكذا طويلاً، ربما فقدت قوتها بسبب ما مرت به، ستخفي ضعفها، وتظهر شراسة المرأة له ولغيره، لن تكون لقمة سهلة له أبدًا أو لصنف الرجال جميعهم!.

نهضت وهي تتظاهر بتجاهله، فهي أفضل طريقة للابتعاد عنه، دون أن يثير خجلها، تقدمت من باب غرفة شهاب وقبل أن تدخل
استمعت لصوته يسألها :

- مش هتفطري يا رقية!.

-لا، شكرًا.

ردت عليه بجمود دون أن تلفتت له، فقال هو بهدوء :

- أنا خلصت الاوضة اللي كلمتيني عنها لأيسل، تقدر تروح تغير فيها .

- ماشي، عن أذنك.

دخلت وأغلقت الباب خلفها، وقع بصرها على أيسل الجالسة كالأطفال تنتظر مشهد مهم في فيلم كرتوني، كانت تراقب شهاب بشغف وأمل، فابتسمت رقية لبراءتها، اقتربت منها قائلة :

- أيسل قومي غيري هدومك.

لم تبعد بصرها عن شهاب، ردت بلامبالاة :

- لا، مش هسيب شهاب.

- حمزة جابلك اوضة تغيري فيها هدومك، جنبنا هنا.

رفضت أيسل رفض قاطع وبررت :

- لا طبعًا، أنا عاوزه لما يفوق أكون أول حد يشوفه.

مالت رقية تهمس بجانب أذنها بضحك :

- طب ويرضيكي لما يفوق يشوفك وأنتي كده.

- مالي يعني!..

ردت أيسل في تعجب، فقالت رقية وهي تشير نحو وجهها :

- تحت عينك أسود، وهدومك هي هي متغيرتش، على الاقل قومي غيري هدومك، وغسلي وشك، الله يرحم ما كنتي تقابلي شهاب الا وفي كامل اناقتك.

لكزتها أيسل في يدها وهي تقول بعتاب :

- أنتي بتتريقي عليا يا رقية.

طبعت رقية قبلة فوق رأسها مردفه بصدق :

- أبدًا والله يا حبيبتي، أنا عاوزكي فعلا تكوني جميلة اول ما يشوفك، يلا اسمعي كلامي، الشنطة حطتهالك على أول الباب

نهضت أيسل في حماس، وهي تهتف :

- ماشي، بس خليكي هنا جمبه، متسبيهوش لوحده.

أومأت رقية في صمت وجلست مكان أيسل، بينما انطلقت أيسل في سعادة وكأنها عصفور يغرد من شدة فرحه، لقاء كانت تنتظره على أحر من الجمر..

****

بقيت رقية في مكانها تنظر للسقف تارة، وللأرض تارة أخرى، وكأنها تهرب من النظر إليه، لأنها تعلم أن قلبها والذي يجهل البعض مدى طيبته، أنه سيسامح شهاب عما فعله، كل ما تدركه الآن، أنها تدور في حلقات مفرغة، لا تجيد أي قرار، ولا تعلم أيهما صح، حتى تهدأ جراحها والتي مازالت تنزف ببطء.

انتبهت على صوت شهاب وهو يهتف باسمها، فظنته أنه مازال تحت المسكن، وقفت واتجهت نحوه، تقول بصوت خافت :

- أيسل هتيجي متقلقش.

- لأ أنا عاوزك أنتي..

ركزت ببصرها أكثر، فوجدته يفتح عيناه ببطء، وكأنه يخشى النظر إليها، بصره يهتز كلما تقابلت نظراتهم، طيلة تلك الأيام كان تحت تأثير المخدر والمسكنات من شدة الآلام عظمة، ولكن لم تتركه الكوابيس والأحلام البائسة بل هاجمته بشراسة، جعلته أحيانًا لو يستطع الصراخ بأعلى صوته للخروج من تلك الدوامة.

وعندما بدء يفوق تدريجيًا، ولمح ببصره أيسل الجالسة غافية مكانها، تظاهر بالنوم، رغم اشتياقه إليها، منذ أن خطى بإرادته في تلك اللعبة ونسج خيوطها، وهو لا يرى سوى نفسه وأهدافه، وكانت طموحاته تتجسد في أيسل، كونها الوحيدة التي استطاعت هدم أسوار قلبه ووحدته بعد موت والدته، عوضته عن كل شيء، فكانت لديها القدرة على اكتناف قلبه في رحم الحب، تعلق بها بشكل هيستري، وكان هو السبب الأقوى الذي دفعه لخطته تلك، وحقًا حينما كان يخبرهم بأنه لم يقصد أذيتها، هو بالفعل لم يقصد ذلك، لقد تجرأ فقط على مبادئه وخياله صور له أنها أفضل طريقة لإبعاد رقية عنه.

ولكن بعدما ارتطم جسده بالسيارة، رج قلبه بقوة، وعقله أيضًا، فرأى شريط حياته بسرعة، وحينها فقط اعترف بينه وبين نفسه، أن لعبته تلك ليست سوى لعبة حقيرة أولها وآخرها أذى.

خرج من عمق افكاره على صوت رقية وهو تسأله بهدوء يتخلله فرحة :

- شهاب، أنت كويس، فوقت بجد.

فرحتها بإفاقته، زادت من تأنيب ضميره الضعف، لِمَ اختار تلك الطريقة لإبعادها، رغم أن هناك الكثير من الحلول والتي كان باستطاعته تنفيذها، لِمَ سمح لشيطانه أن يسيطر عليه بهذا الشكل، لا يعلم!.

اغلق عيناه وفتحها بوهن، وهو يهمس بصوت مجهد يقطر الندم منه :

- رقية سامحيني.

- سامحتك.

صمتت لدقائق عديدة بعدها ولم تستطيع أن تتفوه أكثر من ذلك، فهي قد قررت العفو عنه بعدما أدركت أن روح أيسل متعلقه به، فكرت بجميع الاحتمالات، حتى أنها تخيلت عواقبها، لم تفكر بنفسها، أو بمعتقداتها، تركت كل شيء جانبًا، وقررت أن تهتدي لحل مناسب، لا يناسبها فقط، بل أختها والتي تعشق شهاب بقوة، وأثناء تفكيرها والذي كاد أن يرهق خلايا عقلها، فكرت بجدية أكثر، في رد فعل والدها، إذا علم بطلاق ابنتيه، قد يصيبه مكروه أو شيء، وتتحمل هي ذنب والدها، وعندها سيقع اللوم عليها بالتأكيد، وأن ما فعله شهاب ليس سوى رد فعل على ما فعلته معه طيلة فترة خطبته هو وأيسل.

انتبهت على حديثه وهو يقول بسعادة زحفت ببطء لملامحه :

- بجد يا رقية سامحتيني، ولا كلام وخلاص.

- سامحتك علشان أختي يا شهاب، أيسل روحها متعلقه بيك.

حاول الاعتدال بجسده، ولكنه لم يستطع، فمنعته هي قائلة بتحذير :

- خلي بالك جسمك كله متكسر تقريباً الحادثة كانت صعبة اوي.

ابتلع ريقه وهو ينظر للسقف ولم يمنع تلك الدمعة الحارقة التي فرت من عيناه تعبر عن شدة ندمه وهو يقول :

- أكيد ربنا بياخدلك حقك مني، والله كان عندي أهون أموت ولا أرجع تاني للحياة وافتكر اللي أنا عملته.

- ده كل قدر ونصيب، وبعد الشر عليك، أنا فعلاً ممكن مش اسامحك ولا فكرت تكسر قلب أختي عليك، قوم وشد حيلك كده علشان خاطرها.

أغلق عيناه وهو يخبرها بجميع ما يكنه بصدره لينهى ذلك البركان نهائيًا :

- كنت شايل همك وهمها وكمان حمزة اللي مالوش ذنب في اللي حصل.

دخل حمزة من الطرقة الصغيرة والتي تفصل الغرفة والباب الرئيسي عن بعض، متحدثًا بمزاح :

- أخيرًا قولت كلمة حق قبل ما تتكل على الله تقابل وجه كريم..

نظر لرقية قبل أن يقف بجانب شهاب من الناحية الأخرى مردفًا :

- أهو، قالك ماليش ذنب في حاجة.

رمقته بنظرة طويلة جهل هو تفسيرها والتزمت الصمت، بينما حول بصره نحو شهاب مربتًا فوق رأسه :

- حمد لله على سلامتك، قرفتنا حقيقي الايام اللي فاتت.

ابتسم شهاب وهو يقول :

- الله يسلمك يا صاحبي، معلش تعبتك معايا..

ابتسم حمزة بصفاء وهو ينظر له، ولكن شهاب قرر أن ينهى جميع مخاوفه وتلك الهواجس التي تحاول السيطرة عليه تخبره أن ما يحدث هو مجرد وهم، وسيعود لنقطة الصفر مجددًا.

- رقية سامحتني، فاضل أنت تسامحني، وتتأكد ان والله ما كنت عاوز أذيه لحد، خاني تفكيري، والشيطان سيطر عليا.

قطب حمزة ما بين حاجبيه وهو يقاطعه قائلًا :

- هي رقية سامحتك.

رفع بصره نحوها وهو يشير نحوه بعدم تصديق :

- انتي سامحتيه فعلاً..

أومأت بصمت فاتجه نحوها بسرعة البرق وجعلها تقف أمامه مشيرًا نحو نفسه :

-طب وأنا.

- أنت إيه؟!

هتفت بنبرة باردة غلفتها بالغموض، فرد حمزة سريعًا بوضوح :

- من حقي أطلب إنك تسامحيني أنا كمان.

بللت طرف شفتاها وهي تجيبه بتوتر تحاول الهرب من نظراته والتي تصر على الإمساك بها:

- سامحته علشان أيسل، هما الاتنين بيحبوا بعض، مش هيقدورا يبعدوا عن بعض.

أشار عليهما متحدثًا بتعجب :

- واحنا اللي هنقدر نبعد عن بعض يعني..

أجابت وهي تحرك رأسها بالموافقة، بينما عيناها كانت تتعلق بنظراته، كالمقدم على الانتحار، وينتظر رد فعل ليعود متمسكًا بالحياة :

- اه عادي نقدر.

كرر خلفها بتهكم :

- اه عادي!!، لا طبعًا مش عادي علشان..

- علشان إيه.

همست وهي تقاطعه وكأنهما وحدهما بالغرفة لا يوجد شهاب بها وهو ينتظر اللحظة المناسبة للتدخل، فرد حمزة بخشونة، وكأنه يخبرها من بين حروف كلماته، أنها ستكون له، ولن يحيد عن طريقها مهما فعلت.

- علشان بحبك، ومش هسيبك.

تدخل شهاب هنا بقولة الهادئ ووجهه لرقية يحاول امتصاص أي رد فعل جنوني قد يصدر منها، رغم تعجبه لهدوئها ذلك، وكأنها غير رقية التي يعرفها، هل قد أساء الظن بها لهذه الدرجة ؟!..

- رقية، رغم اللي أنا عملته في حقك، كان غلط، بس مش يمكن يكون ده قدركوا، ده الطريق اللي عرفتوا بعض به، وحبيتوا بعض كمان.

ردت هي بجمود زائف رغم اهتزاز مشاعرها :

- مفيش حب بيتولد من غلطة!.

هتف حمزة سريعًا يصر على حديث شهاب :

- بس الصح بيجي بعض الغلط، وحبك هو الحاجة الصح اللي في حياتي.

رفعت عيناها له تنظر داخل مقلتيه، تستكشف مدى صدقه، رغم أن نبرته لمست قلبها، وجعلت تلك الفراشات والتي كانت في حالة استكانة لفترة، عادت تطير وتداعب قلبها الغض في سعادة، خانتها دموعها وهي في تلك الحالة، والتي جهلت تفسيرها، هل هي ضعف، أم أن الحب قد سيطر على جميع مكنوناتها!.

اقترب حمزة منها اكثر وطبع قبلة فوق جبينها هاتفًا بهمس :

- حقك عليا، ريحي قلبي وسامحيني.

مسحت دموعها وهي تنظر له، فعاد وهو يقول بتهديد :

- أنا مش أقل من الكلب ده علشان تسامحيه هو وأنا لا، والله اروح فيه في داهية، واقسم بالله اقتله.

ضحكت من بين دموعها، بينما هتف شهاب سريعًا بمزاح يخفي خلفه الالامه :

- لا علشان خاطري سامحيه، ده عليه ايد تودى الصومال، انا اخدت منه علقه، مخدتهاش في حياتي كلها..

قطبت جبينها قائلة :

- علقه!!.

أجاب حمزة وهو يقبض فوق يدها، وجذبها خلفه :

- ده حوار هحكيلك عنه بره، يالا علشان شهاب يا حرام تعبان ومش عاوز دوشة.

- بس المفروض...

خرجا وأغلقا الباب خلفهما ثم قال :

- بقولك عيان، هو أنت مش معندكيش اخوات عيانين ولا إيه، بصي..

قاطعته أيسل حينما وقفت خلفه تقول :

- هو شهاب فاق.

كتم ذلك اللفظ البذئ بداخله، واستدار وهو يقول :

- اه ومستنيكي يا أيسل، ادخلي يلا.

- ممكن اكلم رقية لوحدنا شوية.

ود الصراخ بوجهها، كانت هذه فرصته ليغلق تلك الصفحة نهائيًا، ولكن القدر كان يعانده، امتثل لطلبها، وابتعد قليلًا عنهما..

فانتهزت أيسل فرصة ابتعاده وقالت بارتباك كان جليًا على ملامحها :

- رقية، أنا عارفه، إنك ممكن تقولي عليا حاجه، بس أنا بعمل كده مع شهاب علشان أصيلة وكده، وهو مالوش حد غيري، بس ما يبقي كويس هطلب منه الطلاق.

كانت تهتف بكل كلمة وداخلها يصرخ كاذبة، دفنت مشاعرها العاشقة له، من أجل شقيقتها، وبررت أن ما تفعله هو من واجب الأصول، ولكن في قراره نفسها تعلم بأنها لن تستطيع الابتعاد عنه، وأن في لحظة طلاقهم، ستنقطع جميع الحبال والتي كانت تتمسك بها من أجل الثبات.

-وأنتي هتقدري تبعدي عنه يا أيسل.

- اللي عمله فيكي مش حاجة قليلة..

- سيبك من اللي عمله فيا، هو خطط لكده، علشان بيحبك.

ابتلعت أيسل ريقها وهي تقول :

- فعلاً هو بيحبني، بس أنتي متستاهليش كده ابدًا منه، أنا غلطت بردوا لما كنت بروح احكيله على كلامك، المفروض مكنتش اعمل كده، بس أنا كنت بحاول انبهه، بس قلبت بالعكس وكرهتوا بعض.

هتفت رقية بعقلانية، تفاجأت لها أيسل :

- كلنا غلطانين، مفيش حد مغلطش في الحكاية دي، أنا كمان غلطت بكلامي ليكي، وكمية التوتر اللي عيشتكوا فيها، المفروض مكنش ليا دعوة، ده اختيارك في الأخر..

مسكت أيسل يد رقية وهي تقول بلهفة :

- رقية، شهاب مش وحش والله، أنا مش عارفة هو عمل كده ليه، أنا مصدومة زي زيك من اللي خططله، بس هو والله من جواه مش وحش، بالعكس كان بيحبك اوي، أنا اللي بغبائي كرهتكوا في بعض.

- خلاص اللي عدى فات ومات، سامحيه زي ما انا سامحته، شهاب فعلاً بيحبك.

هتفت رقية برزانة وسط اندهاش أيسل، ولم تكتفي بهذا القدر بل عادت وأكملت حديثها :

- ياريت لما تدخلي متتكلميش في أي حاجة عدت وفاتت، أكيد هو مش في حالة تسمح انك تعاتبيه.

احتضنتها أيسل بقوة وهو تطبع قبلات فوق وجنتها :

- أنا بحبك اوي اوي، وأنتي أحسن أخت في الدنيا كلها، هدخله أنا بقى.

دخلت أيسل بسعادة عارمة وارتياح نفسي، فابتسمت رقية وشعرت وكأنها لأول مرة تتصرف بطريقة صحيحة، وأثناء انغماسها بالتفكير، انتبهت ليد قوية تجذبها داخل غرفة مجاورة، رفعت بصرها بعدما أدركت أنه حمزة من ملمس يده والتي باتت تحفظه عن ظهر قلب...

- حمزة بتعمل إيه!.

أغلق حمزة الباب خلفه قائلًا :

- صالحتي الكل، والدنيا عندك وردي، وتيجي عندي أنا تقلب برق و رعد.

- برق ورعد إيه أنت مقتنع باللي أنت بتقوله، هو ده مكان مناسب نتكلم فيه!.

اقترب منها وهو تبتعد للخلف تحذره بيدها ونظراتها :

- بص أي حركة كده ولا كده، صدقني مش هسامحك.

ضيق عيناه وهو يتظاهر بعدم الفهم مردفًا :

- حركات إيه يابنتي، هو انتي طلعتي منهم.

شهقت بعنف وهي تقول :

- لا أنا مسمحلكش، احترم نفسك.

- احترم نفسي ازاي أكتر من كده، وانتي ماشية توزعي حب على اللي حواليكي، والغلبان مستنى أي كلمة حلوة منك.

عقدت حاجبيها ببلاهة :

- هو مين الغلبان ده.

حاوطها بيده في لمح البصر وشدد قبضته عليها، بينما كانت هي تتلوى بين يده، تدفعه بخفة بعيدًا عنها.

- أنا الغلبان في حبك، أيه يا ست أنتي الشر ده، خفي شوية عليا.

كتمت ضحكتها بصعوبة، وهتفت ببرود :

- أنت تستاهل أكتر من كده.

اقترب بوجهه منها، وثبت نظره فوق نظرها :

- بذمتك أنا استاهل، ده أنا حتى يتيم، ايه معندكيش قلب يحس باللي زي.

عقدت حاجبيها تقاوم الاستسلام له، فقالت بعناد :

- لا معنديش.

مال على وجنتها اليمنى وطبع قبلة صغيرة فوقها هامسًا بعدها :

- طب وكده.

ابتلعت ريقها وهي تجيب باهتزاز :

- لا بردوا.

-طب وكده.

هتف بها عندما كرر ما فعله على وجنتها اليسرى ولكن الفارق هنا قبلات متفرقة بطول خدَّها..

اختفت نبرتها تقريبًا وهي تجاهد بالتحدث، وتبدد عنادها وقوتها، بينما هو استمر في قبلاته، حتى وصل إلى شفتاها وقبلها قبلة طويلة، غاصا معًا في بحور العشق، بعدما استطاع حمزة أن يمحى أي أثار سلبية كانت تتشبث بعقلها، مغلقين باب الوجع والفراق نهائيًا..

استمعت لصوت جلبة في الخارج، فارتبكت وابتعدت عنه بخجل على الفور بعيدًا عنه وهربت من قبضته بقلب كاد ينتفض من مكانه، وأنفاسها اضطربت لدرجة أن صدرها كان يعلو ويهبط في وتيرة سريعة للغاية، بينما هو كان يقبض على حافة النافذة يحارب مشاعره والتي تدفقت بداخله كالكثبان، ولا شك أن الصفاء أخيرًا عرف طريقه لقلبه وعقله بعد هذا الكم من الشوائب والتي كانت تعكر صفو حياتهم.

****

بعد مرور فترة..

اعتاد شهاب على رقية أكثر، وتبدد ذلك الجفاف الذي سيطر على طبيعتهم، بعدما استطاع هدم تلك الأفكار المخطئة والظن السئ به، من خلال حديثه معها أغلب أوقات جلوسهم، فمثلاً كان قديمًا يعتقد أن ذلك الوجه المتجهم من نصيبه فقط، وأن جمود ملامحها، وحديثها اللاذع كان عرض خاص له، ولكن الآن أدرك ما قالته أيسل عن شخصية رقية، وشعر بالذنب القاتل حينما أخبرته أيسل في لحظة صفاء عن ما مرت به رقية من خلال تجارب صديقاتها..

ابتسم حينما تذكر لقبه السئ والذي أطلقه على عفت صديقتها، ولم يمنع لسانه من سيل من الشتائم الحصرية والخاصة بها...

تلك المدة التي قضاها بجوار عائلة أيسل، لها الفضل عليه في كل شيء، من تحسن حالته الجسدية والنفسية، ولن ينسى قط إصرار والد أيسل حينما قال...

" والله أبدًا أنت هتطلع من المستشفى علينا، عندنا رقية وأيسل وامهم يخدموك انت محتاج رعاية يابني، واحنا اهلك. "

ولن ينسى أيضًا مزاح حمزة والذي كان يخفي خلفه ضيقًا وغيرة وهو يقول :

"- ياعني اروح اعمل حادثة علشان تستضفوني عندكوا، أنا من حقي ادلع زي شهاب".

راحة غريبة لأول مرة يشعر بها، حقًا نهاية سعيدة أخيرًا، لقد ظن وظن حتى امتلئ عقله بالتخيلات المظلمة..

اتكئ على يده يراقب غرفة رقية، والتي تطوعت بها من أجله، هنا ما يقرب الأسبوعان، ولم يلاحظ أي علامات من الضيق منه، بل الجميع يقدم على خدمته ورعايته بحب.

رفع بصره للسماء وتمتم بالحمد، بعد انتهاء تلك الكذبة أخيرًا.

انتبه على دخول رقية وهي تحمل صينية العشاء قائلة :

- العشا يا شهاب.

وضعت الصينية أمامه، فقال هو ممازحًا :

- أنا حاسس ان حمزة هيتشل من الدلع اللي أنا فيه.

- حاسس مش متأكد!.

رن هاتفها بنغمة خصصتها له، فأشارت لشهاب قائلة من بين ضحكها :

- جه على السيرة، هروح اكلمه، وأنت خلص أكلك.

أومأ لها بصمت وبدأ في تناول عشاءه، بعدما ارتاح صدره، وتلك الابتسامة التي كانت تلازمه قديمًا عادت وتربعت على عرش فمه، أما عن عيناه فعادت لطبيعتهما الشقية.
****

دخلت رقية غرفة أيسل وهي تجيب على الهاتف :
- أيوه يا حمزة.

- أيوة يا حمزة!!، اه واأنتي هاتفضي ازاي وأنتي بتدلعي في أستاذ شهاب.

فركت رأسها بأصابع يدها وهي تحاول توضيح أن ما تفعله هو مجرد رعاية فقط لأنه مريض، والآخر لا يدرك ذلك، مُحتجًا بغضب، موضحًا أن رعايته تخصص أيسل فقط!، فقررت مضايقته، قائلة ببرود :

- معلش أصل هو عيان بقى وكده!.

هتف باعتراض :

- نعم؟!، أنتي فعلًا بتعملي كده.

ضغطت فوق الحروف وهي تخرجها من بين أسنانها :

- والله أنا بقالي أسبوعين بفهمك أن اللي بعمله ده مسموش دلع، وأنت مش قادر تفهم.

- اللي مستغربله، أنكوا مفكرتوش تعزموني أجاي اقعد معاكوا يعني مكتفين بشهاب وبس.

- معلش.

قالتها بنفاذ صبر، فاغتاظ من ردها البارد، وقرر اغاظتها مثلما تفعل :

- طيب سلام .

أغلق الاتصال فجأة، فتعجبت هي له، ومما يفعله، أين مداركه الواسعة، لقد تبخرت حينها اكتشفت جزء كبير بشخصيته، بالإضافة لغيرته العمياء، متذكرة ليالي عراكهم عندما يستمع بالصدفة لمزاحها مع شهاب، أو لو خرجت ضحكة منها وهي تخبره بمزحة قالها شهاب، ضغطت بيدها فوق رأسها تحاول التمسك بآخر بقايا الصبر لديها..

استمعت لقرع جرس الباب، فخرجت على الفور تفتح الباب، وما إن فتحته، وجدت حمزة أمامها يقف ويضع يده في جيب بنطاله، مبتسمًا باستفزاز :

- محدش عزمني، قولت اعزم نفسي واجاي، وسعي يا بيبي.

أبعدها بيده عن طريقه ودخل وسط اندهاشها من تصرفاته الصبيانية تلك، استمعت لترحيب والديها به، فأيقنت أن تلك الزيارة يكمن خلفها سبب تجهله.

****
مرت ساعتين بعد العشاء وجميعهم يلتفون بجانب بعضهم يشاهدون فيلم رعب، اشمأزت زينات من تلك المناظر الدموية، فنهضت قائلة :

- لا أنا بقرف من الدم، هدخل اتفرج على التلفزيون اللي في اوضتي على مسلسل التركي.

نهض محمد هو الآخر غير راضي عن زوقهم العام في مشاهدة الأفلام :

-خديني معاكي يا ام رقية، ايه الافلام دي، الله يرحم افلام فيندام وبروسلي كنا نقعد قدامهم ونعيد ونزيد فيهم من حلاوتهم.

مال شهاب نحو أيسل هاتفًا بمزاح :

- أبوكي قديم اوي يا أيسل.

ضغطت فوق يده تحذره :

- لا بقولك إيه حاسب واستوب ده بابا..

- طب ما تيجي توريني استوب ازاي جوه.

قالها وهو يغمز بعينيه لها، فلكزته بيدها وهي تنهره بنظراتها، صمت لدقيقة ثم قال متألمًا بصوت عالي :

- أنا حاسس أن أنا تعبت، تعالي يا أيسل ساعديني أدخل أريح جوه.

نهضت أيسل بقلق، ومدت يدها تساعده، فاتكأ عليها ودخل إلى غرفة رقية، مقررًا مشاكستها تحت قبضته في الداخل، وترويض تلك الشرسة والتي تكمن خلف رقتها..

راقب حمزة الوضع باهتمام، وما إن دخل الجميع غرفهم، رفع الوسادة والتي كان يحتجز تحتها يد رقية رغم محاولاتها في الإفلات منه..

- بجد والله لازم تروح لدكتور، نطمن عليك، تصرفاتك كلها بقت مجنونة على الآخر.

رمقها بنظرة مطولة وفي ثانية كان يقترب منها مختصرًا تلك المسافة بينهم، طابعًا قبلة فوق وجنتها هامسًا بعدها :

- أنا حاسس إن أنا زعلتك ولازم اصالحك.

جف حلقها من صدمته وجرأته فقالت برجاء :

- ابوس ايدك اقعد يا حمزة، هنروح في داهية.

هز رأسه رافضًا، وعاد يشاكسها :

- لازم اصالحك، انتي زعلانة مني.

مدت يده تبعده عنها حينما وضعتهما فوق صدره تدفعه للخلف :

- مين قالك انا لا يمكن ازعل منك.

ابتسم بخبث ثم جلس مكانه، وهو يقول ببراءة كاذبة :

- بجد، لو أنتي فعلاً كده لازم تثبتيلي.

زفرت بحنق وهي تقول بخفوت :

- واثبتلك ازاي بقى.

أشار نحو خده، هاتفًا بمكر :

- هنا واحده.

تصنعت الغباء فقالت :

- واحده ايه!.

- أنا معنديش أدني استعداد أوضح أكتر من كده، أنا اصلا هموت واشرح وباستفاضه .

- حمزة.

هدرت بعنف خافت، فتراجع هو ليقول متصنعًا التفكير :

- أو توافقي على أننا نقدم معاد الفرح، ويمين الله لو قولتي شهاب ورجله المكسوره، هولع فيه واكسرله التانيه، أنا ماليش دعوة بحد، أنا يتيم وعاوز حد ياخد باله مني.

فتحت فمها تحاول الاعتراض فقال محذرًا وهو يعاود الاقتراب بجسده منها :

- ها، اقوم.

هزت رأسها في نفي، قائلة بسرعة :

- لا لا، موافقة، اقعد بقى لو سمحت..

- ماشي، رغم ان موافقتك تحت تهديد ومش من قلبك، بس وماله.

ضيقت عيناها وهي تقول بحقد :

- مستبد.

توسعت عيناه مردفًا بصدمة زائفة :

- انتي بتشتميني.

- أنا لا طبعًا!.

اقترب منها في لحظة وطبع قبلة أخرى فوق وجنتها هامسًا :

- دي عقابك، براحتك هتزودي هزود، وأنا سيد مين يزود .

سيصيبها بذبحة صدرية ذلك المجنون، فقالت بصوت مبحوح من فرك خجلها وارتباكها :

- أنت مالك اتغيرت كده ليه، كنت عاقل قبل كده.

- اعمل إيه بحبك، تعرفي تقولي لقلبي يبطل يحبك.

هتف بها بصدق، فضحكت هي تنظر نحو قلبه بتردد :

- لو سمحت يا قلبه، اهدى شوية لغاية ما نكون في بيتنا على الأقل.

-طب أنتي قولتي كده لقلبي، أنا بقى أسال قلبك، أنت بتحبني.

اهتز بصرها في خجل وهي تجيبه :

- يعني متعرفش.

- سمعتها مرة بس في وسط دوشة كلام كتير، عاوز اسمعها تاني بس لوحدها.

بللت طرف شفتاها وتوردت وجنتاها وهي تهتف بهمس شديد تحارب به خجلها المسيطر على انفعالات جسدها :

- بحبك.

لثم شفتاها في قبلات قصيرة يهتف من بينهم :

- وأنا بموت فيكِ.

ذابت كقطعة السكر في لمساته وهمساته العاشقة لها والتي كان لها واقع مختلف، وكأنها مجراف لكل شيء بداخلها قد يعكر صفو لحظتهم الدافئة، وفي تلك الحالة لا يمنعها عقلها، بل كان يرحب ويتمتع... لقد ألهب العشق صدروهما، وللقدر أسباب، رغم أن لقاؤهم كان مدبر، ورهن لعبة، ولكن غاصت قلوبهم في حالة من الهوى والجوي، حالة لا تنم سوى أن قلوبهم ستغرق في غرام الحب دون البحث عن طوق للنجاة مستمتعين بها لأقصى درجة!.. تمت رواية مكتملة عبر مدونة كوكب الروايات.
reaction:

تعليقات